3- التفريق بين معنى الاحرف السبعة وبين المراد من المعنى ( استقراء اوجه الاختلاف):
الحقيقة أنه لا خلاف بين العلماء في معنى الأحرف السبعة، ومن يظن أن هناك خلاف في المعنى فهذا قد نشـأ من الخلط بين معنى الأحرف السبعة وبين استقراء العلماء لأوجه الاختلاف في القراءات التي يشتمل عليها هذا المعنى. و روايات الحديث قد وضحت المعنى دون لبس او تمويه، بينما جاءت برغم كثرتها مجملة، لا تكشف عن طبيعة ومقصود اوجه الاختلاف الذي كان يقع بين الصحابة في قراءة القرآن بهذه الأحرف السبعة، فكانوا يرفعون أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيز قراءة الجميع ويؤكد على وحيها من الله : " هكذا أنزلت"، على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ومن عادة الأئمة بعد سوْق معنى الاحرف السبعة بوضوح، فإنهم ينتقلون منه الى استقراء ما يشمله هذا المعنى من اختلاف الاوجه، فجميعهم يفرقون بين المعنى وبين اوجه الاختلاف، كما نجده عند ابن قتيبة ومكي ابوطالب، والداني والرازي وابن الجزري، وغيرهم. فمثلا بعد أن ساق الامام الداني المعنى فانه يعرج الى تبيان ما يشتمله من اوجه اختلاف القراءات، وكذا فعل الامام ابن الجزري، فبعد ان اتفق على المعنى كما بينه الامامان الداني ومكي ابوطالب فانه انتقل الى استقراء الاوجه السبعة فيقول: " (وَأَمَّا) الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ"
إذن الاختلاف على استقراء الاوجه والذي يوفي هذا المعنى الذي فهموه جميعا.
4- فما هو معنى الاحرف السبعة؟:
وهذا المعنى نقله ابن الجزري ( القرن الثامن) عن ابي عمرو الداني ( القرن الخامس):
(قَالَ) الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَا هُنَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهَيْنِ:
والقول في المعنى ما قال الامام أبوعمرو الداني: أن هذه الأحرف السبعة هي اوجه سبعة من اللغات والقراءات، المختلف معانيها تارة، والمختلف ألفاظها تارة مع اتفاق (أو تقارب) المعنى، ليس فيها تضاد، ولا تناف للمعنى، ولا إحالة ولا فساد، وهذا الذي قلناه هو اجماع أمة على معنى الاحرف السبعة، لا خلاف عليه.
وإن كان قد اتفق عليه أئمة القراءات كابن الجزري والداني، فإن ابي عمرو الداني قد فصله واستفاده أصلا مما قاله أستاذه مكي بن أبي طالب (القرن الرابع والخامس) (ت. 437 هـ) : "والذي نعتقده في ذلك، ونقول به، وهو الصواب إن شاء الله: أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن: هي لغات متفرقة في القرآن، ومعان في ألفاظ تسمع في القراءة، مختلفة في السمع متفقة في المعنى. ومختلفة في السمع وفي المعنى." ثم وبعد أن بين مكي ابوطالب معناه فإنه ذهب الى ما ذهب اليه ابن قتيبة في استقراء اوجه الاختلاف ويشتمله هذا المعنى، فيقول: "والذي يشتمل عليه معنى القراءات: أنها ترجع إلى سبعة أوجه:...... " إلى ان قال: "وإلى هذه الأقسام في معاني السبعة، ذهب جماعة من العلماء. وهو قول ابن قتيبة وابن شريح وغيرهما. لكننا شرحنا ذلك من قولهم."
وقد نقل شيخ الإسلام أبوالفضل الرازي الإجماع على ان الأحرف في الحديث تعني الأوجه، فقال: "فأول ذلك أُجمِع على أن الأحرف من قوله عليه الصلاة والسلام : " أنزِل القرآن على سبعة أحرف"، هي الأوجه، وليست حروف التهجي، ولا حروف المعاني." (معاني الأحرف السبعة، 275). وقال: "بعد أن تقرّر أن تعاقب اللغات لا تأثير لها في المعاني، فعلى هذا حملُ الأحرف على اللغات فقط ليس بحدٍ لها، ويذلك على ذلك أن ترافعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اختلافهم لفظا مما جمع الأمرين من المعاني واللغات، إلى أن يقوم دليل انه كان مخصوصًا للغات"" (ص. 298) أي ان اختلاف اللهجات لا ينشأ عنه اختلاف في المعنى، ولكن من الاحرف السبعة اختلاف في المعاني، فدل على ان الاحرف (الأوجُه) لا تُحصر في اوجه اللغات فقط، بل هي في اللغات والمعاني.
ومن يتتبع حديث رسول الله يُدرك أن المعنى هو أوجه من اللغات والقراءات
1- قوله صلى الله عليه وسلم: ( أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ )،
2- وفِي أَوَّلِ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُورَةً، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا يُخَالِفُ قِرَاءَتِي " الْحَدِيثَ.
3- وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: { كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ...."
4- وفي حديث أُبَيٍّ " ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا }، فدل على أنه وجه من القراءة
5- وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةِ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ" الْحَدِيثَ
فهذه نماذج من الاحاديث الدالة على انها أوجه من القراءات واللغات. يقول الإمام ابن حجر بعد سوقه هذه الأحاديث: " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ أَوِ الْقِرَاءَاتُ، أَيْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ أَوْ قِرَاءَاتٍ، وَالْأَحْرُفُ جَمْعُ حَرْفٍ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيَ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ الْوَجْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ }" (فتح الباري 2/ 88)
5- والأحرف السبعة لا تعني قِراءة كل كلِمة بسبعة طُرُق :
وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه إذا لقال صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف بحذف لفظ على ... بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه مهما كثر ذلك التعدد والتنوع في أداء اللفظ الواحد ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة. فكلمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} التي ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة ... ولم تقتصِر على سبعة. وكلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} التي ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة ..!! وكلمة {أُفٍّ} التي أوصل الرماني لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة. وكل أولئك وأشباه أولئك لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة،
قال خطيب أهل السنة، الإمام ابن قتيبة الدينوري: "وليس يوجد في كتاب الله حرف قرىء على سبعة أوجه- يصح، فيما أعلم." (تأويل مشكل القرآن، ص. 30).
ويقول الحافظ ابن حجر على شرحه لحديث الاحرف السبعة كما في صحيح البخاري : " قَوْلُهُ: ( بَابُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ) أَيْ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِ وَجْهٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَلَا جُمْلَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى سَبْعَةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّا نَجِدُ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ يُقْرَأُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ إِمَّا لَا يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَنَحْوِهِمَا." فتح الباري (2/ 84).
وبقي ان نشير إلى أن اختلاف القراءات، هو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ؛ لَكِنْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ: (يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ (وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ (وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ) و (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (وَيَطَّهَّرْنَ) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ".
6- حكم تحديد المراد والمقصود بأوجه اختلاف الاحرف السبعة يناءا على المعنى، وفائدته:
وتحديد المراد بأوجه الاختلاف واستقرائِها غير واجب على التعيين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، ولم يسأله الصحابة عنه، ولم يسأل التابعون الصحابة عنه. إذن فالمعنى معلوم انه اوجه سبعة من القراءات واللغات، اما المقصود بكل وجه من هذه الاوجه فهذا لم يحدده لهم رسول الله، وهو علم لا ينفع وجهل لا يضُر، والحكمة المستنبطة من عدم تحديد الأوجه:
7- مناقشة أهم ما ذهب إليه العلماء في تعيين الاوجه السبعة واستقرائِها:
الرأي الأصوب في هذا هو عدم التمسك بمذهب بعينه او التشاغل به، وان يكُكتفى بما كُلفنا به، وكما قال الإمام الرازي: " فأما ما أعتقده في الخبر من وراء ما ذكرته، وهو أسلم المذاهب، وهو التوصل إلى ما كُلفنا بهذه الأخبار، والإمساك عما كُفينا منها. فأما ما كُلفنا منه فهو أن نقرأ ما عُلِّمنا من القرآن، لأنه جاء بعقب خبر الترافع (إن الله يأمركم ان تقرأوا كما عُلِّمتم". مهما عرفنا ذلك وصحته، وأن يكون موافقا للمصحف، وأن لا نُنكر ما لم نعرفه من القراءة، ولا نتجادل فيها، ولا نماري في القرآن، ولا نجحد منه شيئا، على ما مضى أن: " من جحد بآية منه، فقد جحده كله"
ولكننا نعرض الاراء التي قيلت ومناقشتها من باب العلم، والاطلاع للباحث في مقارنة الاديان، مع توضيح بعض النقاط التي قد يُحتاج إليها:
أراد العلماء استقراء اوجه الاختلاف، وتحديد المقصود منه، وعلمنا أن تحديد هذه الأوجه هي مسألة اجتهادية بحته، وهذا لا يُعرف الا بالاستقراء من باب الفهم والتقريب لا من باب الأمر والالزام أو الإعتقاد، ولا يمكن الجزم بأي مذهب منها على الحقيقة. وتعيين أوجه اختلاف الاحرف السبعة مقدور عليه بالاستقراء، وأي عالم بالقراءات يستطيعه، لكن يقينا سيحدث تفاوت بينهم في تعيين المراد من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، والتفاوت طبيعي ومنطقي، ونتاج حتمي لانهم يتفاوتون في درجة العلم والاحاطة والقدرة على الاستنباط، والاستدلال بما صح او قد لا يصح، اضافة الى انهم وان اتفقوا جميعا على المراد بالاحرف السبعة واحسنوا استقراءها، فإنهم سيختلفون في التقسيم، ومحال على احد منهم أن يجزم ان هذا مراد الله بالتقسيم.
فإن كان الأمر كذلك، فما فائدته إذن؟ يمكن القول انه يفيد من باب التقسيم الأكاديمي لطالب العلم وتقريب الأمر للأذهان، فيُوسع مداركه واستيعابه لفهم ما انبنى على الاحرف السبعة من اختلاف القراءات، وحصرها وتقسيمها، كما ييسر على غير العالم الوقوف على تنوع الأوجه التي جاء بها الوحي من وجهة نظر القراء وأهل العلم، وبالتالي فمكانه الحقيقي هو الأروقة الاكاديمية. لكن أن يُجعل الاستقراء في ذاته غاية ، او اعتقادا فهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، والأمة في غنى عنه، كما بينا. ثم أنه يجب توضيح أن الحكم على اي مذهب بانه صواب أو الاصوب، اي انه كذلك من بين ما قيل، لا أنه كذلك على الحقيقة، وبالتالي فلا ينبني عليه شيء ولا عقيدة إلا اللهم التيسير على طالب العلم.
ولأجل ذلك كثر الاختلاف في هذا الباب حتى عدهم السيوطي إلى أربعين قولا، سرد الإمام أبو حاتم بن حبان خمسة وثلاثين منها، ولكن لا يشغلنا هذه الكثرة، فمعظم هذه الأقوال لا قيمة له من حيث الدليل والنظر، والناظر في تلك الأقوال يقطع بأن أكثرها متداخل، أو لا يؤبه به عند النظر والتمحيص. ولذا تجد أن الإمام القرطبي في مقدمات تفسيره اقتصر على خمسة منها لخصها الحافظ ابن كثير في كتاب فضائل القرآن بآخر تفسيره، ثم جاء من بعدهم أقوال علماء التجويد والقراءات، واقتصر الإمام النويري في كتابه ( الكوكب الدري شرح طيبة النشر في القراءات العشر) من كل تلك الأقوال على مذهب الإمامين أبي الفضل الرازي، وأبی الخیر محمد بن الجزري لما قاله في هذين المذهبين إنهما أقوى المذاهب واصوبها ، ولما لصاحبيهما من درایات واسعة بأصول القراءات ورواياتها وطرقها وأوجهها، وعلوم الرسم والفواصل القرآنية . ولا تزال اجتهادات العلماء في تحديد المراد بالأحرف السبعة دائرة في نطاق لغة القرآن والحديث وواقع الأمة.
القول الأول: أن هذا الحديث من المشكل المتشابه الذي لا يُعلم معناه، و هذا القول منسوب إلى ابن سعدان النحوي في القرن الثالث الهجري. لأن الحرف مشترك لفظي، يصدق على معانٍ كثيرة، كأن يكون معنى الحرف في اللغة: هو الكلمة والمعنى، وحرف الهجاء، والادة مثل (في وعلى)، والجهة،
وهذا مردود من أوجه:
القول الثاني: أن حقيقة العدد غير مرادةٍ، وانما اارادوا معنى التيسير، ذلك لأن لفظ السبعة يطلق في لسان العرب ويراد به الكثرة في الآحاد، كما يطلق لفظ السبعين ويراد به الكثرة في العشرات، ولفظ السبعمائة ويراد به الكثرة في المئات. وهو مذهب القاضي عياض ونحى هذا المنحى القاسمي، والرافعي.
ويردُّ هذا القول:
القول الثالث: أن المقصود سبعة أوجه من المعاني والأحكام، وهي: الحلال والحرام، والأمر والزجر، والمحكم والمتشابه، والأمثال. واستدلوا لذلك بِما روي عن ابن مسعود عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحدٍ، وعلى حرفٍ واحدٍ، ونزل القرآن من سبعة أبوابٍ، وعلى سبعة أحرف: زاجرٌ وآمرٌ، وحلالٌ وحرامٌ، ومحكمٌ ومتشابهٌ، وأمثال، فأحلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمرتُم به، وانتهوا عمَّا نُهيتهم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بِمحكمه، وآمنوا بِمتشابِهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا."
ويُناقش هذا القول بأن:
القول الرابع: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من أفصح لغات العرب، متفرقة في سور القرآن، أي لا تجتمع هذه اللغات في الكلمة الواحدة، فأكثره بلغة قريش ومنه بلغة هذيل أو ثقيف أو هوازن أو كنانة أو تميم أو اليمن، فهو يشمل في مجموعه اللغات السبع. وقال البعض هي خمس لغات لسعد وثقيف وكنانة وهذيل وقربش، ولغتان لسائر ألسنة العرب -
القول الخامس: أن المراد سبع أوجه من اللغات، في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلمَّ، وتعالَ، وأقبلْ، وإليَّ، ونحوي، وقصدي، وقُرْبي. كقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ" ونسبه ابن عبد البر لأكثر أهل العلم (18)، وهو قول سفيان بن عيينة وابن جرير الطبري والطحاوي. ويدل لِهذا القول حديث أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عليه السلام - قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ مِيكَائِيلُ - عليه السلام -: اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، قَالَ: كُلٌّ شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَاعْجَلْ.( رواه أحمد 5/41، فيه زيد بن جدعان سيء الحفظ كما قال الهيثمي(7/151)، وبقية رجال السند رجال الصحيح.)، قال السيوطي: إسناده جيد.(20) وكذلك ما رواه أبو داود عن أُبي - رضي الله عنه - ،(ليس منها إلا شاف كاف إن قلت : سميعاً عليماً. عزيزاً حكيماً، مالم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب) أبوداود، كتاب الصلاة باب إنزال القرآن على سبعة أحرف رقم1477،1478، وقد وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن ابي هريرة عن النبي، ومن كلام ابن مسعود نحو ذلك، وعند أحمد من حديث أبي هريرة (أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليماً حكيماً، غفوراً رحيماً)(المسند2/332، صحح إسناده أحمد شاكر16/167). وعنده عن عمر (أن القرآن كله صواب مالم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة)( رواه أحمد 4/30.)، وفي الطبري بسنده عن ابي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزل القران على سبعة أحرف عليم حكيم، غفور رحيم" (الطبري: 43)
ويجاب عن هذا القول بأن:
القول السادس: أن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التي يقع بِها التغاير والاختلاف في القراءات القرآنية، أو في لغات العرب، ولا يخرج عن أوجه سبعة، نحو الاختلاف في إعراب الكلمة، أو تغير صورتِها بالزيادة أو النقصان، أو اختلاف لغات العرب من الفتح والإمالة والإظهار والإدغام، ونحو ذلك. وهو قول أبي حاتم السجستاني وأحسن وأبدع فيهم الرازي و ابن الجزري وابن قُتيْبة - رحِمهم الله - وهو أصح ما قيل في هذا الباب لأنه اعتمد على توفية المعنى الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث والروايات، وقام على الاستقراء التام للروايات والقراءات متواترها وصحيحها وشاذها ... وإليه ذهب جُلُّ العُلماء.
ويُرد على هذا القول:
8- القول الراجح فيما ذهب إليه العلماء في تعيين الاوجه السبعة واستقرائِها:
الراجح مما سبق هو القول الخامس والسادس، وإن كان القول السادس هو أصح ما قيل في هذا الباب لأنه اعتمد على توفية المعنى الصحيح للاحرف السبعة الذي دلت عليه الأحاديث والروايات (انها سبعة اوجه من اللهجات والقراءات)، وقام على الاستقراء التام للروايات والقراءات متواترها وصحيحها وشاذها. ... مع أنه وجب أن نذكر بما قلناه من أن الحكم على اي مذهب بانه صواب أو الاصوب، اي انه كذلك من بين ما قيل، لا أنه كذلك على الحقيقة، وبالتالي فلا ينبني عليه شيء ولا عقيدة إلا اللهم التيسير على طالب العلم.
وإلى هذا القول السادس ذهب جُلُّ العُلماء. وننقُل أقوال الرازي (ت. 454 هـ) و ابن الجزري (ت. 833 هـ)وابن قُتيْبة (ت. 276 هـ) - رحِمهم الله بنص ما ذكرهُ ابن الجزري في كِتابِهِ "النشر في القِراءات العشر":
يقول ابن الجزري : "ولا زلت استشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك:
.
فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، وأما نحو اختلاف الإظهار، الإدغام، والروم، والاشمام، والتفخيم، والترقيق،والمد، والقصر، والإمالة، والفتح، والتحقيق، والتسهيل، والإبدال، والنقل مما يعبر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً ولئن فُرض فيكون من الوجه الأول.
ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازي(371 - 454 هـ ) حاول ما ذكرته فقال إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه :
ثم وقفت على كلام ابن قتيبة(213 - 276 هـ) وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر فقال :
وقد تدبرت وجوه الاختلاف في القراءات فوجدتها سبعة :
9- والاحرف السبعة ليست هي القراءات السبعة:
أن العلماء اتفقوا على أن ليس المراد بهذه الأحرف السبعة هؤلاء القراء السبعة المشتهرين، التي اعتمدها ابن مجاهد (ت 324 هـ) وجمعها وهي قراءات سبع لقراء سبعة، لانهم لم يكونوا قد ولدوا وقت أن قال النبى صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ولصحة قراءات غيرهم من القراء الثلاثة المكملين للعشرة. وهذا قول واه لا يقع فيه أحد من أهل العلم، وانما قد ينتشر بين العامة، وسببه اتحاد العدد بين الأحرف السبعة والقراءات السبعة والواقع أن الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع لأنها تشملها وتشمل غيرها، وممن ينسب إليهم هذا القول الخليل بن أحمد الفراهيدى (ت 170 هـ)، يقول الدكتور محمد الحبش: " وأحب هنا أن أوضح رأي العلامة الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدى، فهو بلا ريب إمام العربية وحجة النحاة، ولاشك أن انفراده بالرأى هنا لم ينتج من قلة إحاطة أو تدبر، ومثله لا يقول الرأى بلا استبصار، وانفراد مثله برأي لا يلزم منه وصف الرأي بالشذوذ أو الوهن. وغير غائب عن البال أن الخليل بن أحمد الفراهيدى الذي توفي عام 170 هـ لم يدرك عصر تسبيع القراءات، حيث لم تشتهر عبارة القراءات السبع إلا أيام ابن مجاهد، وهو الذي توفي عام 324 هـ.. ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءاً من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لم يتيسر من يجمعها بعد ـ أي في زمن الخليل ـ وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف " وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زماناً ومكاناً، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل وهو أمر لا يجهله أحد."
10- الاحرف السبعة توقيفية:
1- (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
2- ضرورة وجوب تلقيها بالمشافهة والتلقين
3- أنها توقيفية بالوحي لا مدخل فيها لبشر، هكذا أنزلت، هكذا أقرأني جبريل، وفي حديث أبو جهيم " تلقيتها من رسول الله"، أنزل القرآن على سبعة أحرف.
11- علاقة الأحرف بالقراءات:
اختلف العلماء في علاقة الأحرف السبعة بالقراءات المتواترة والشاذة على أقوال:
الأول: إن القراءات السبع والثلاث المكملة للعشر وغيرها من القراءات الثابتة، كلها ليست إلا حرفا واحدا من الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن، ذهب إليه: ابن جرير الطبري وابن عبد البر وابي شامة وابن تيمية ونسبه القاضي عياض إلى أئمة السلف والعلماء.
الثاني: إن القراءات الثابتة سواء في ذلك العشر وغيرها هي بمجموعها الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن، بل يرى بعضهم أن الأحرف السبعة مستمرة النقل بالتواتر. ذهب إليه: طوائف من أهل الكلام والقراء. ودليلهم: أن الصحابة ومن بعدهم ما كانوا ليدعوا وحيا أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم , وأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا مخطئين , كيف وهم معصومين من الإجماع على ذلك. ويجاب عليهم:
ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة. قال مكي رحمه الله: "إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن". (الإبانة عن معاني القراءات (ص: 32)) وقال أبو حيان رحمه الله: " أن هذه القراءة الآن غير خارجة عن الأحرف السبعة". (البرهان في علوم القرآن (1/ 226))
.
وأما التفصيل في ذلك بالأدلة فسيأتي في القراءات بعد الانتهاء من محاضرات التدوين وجمع القرآن الكريم.
الخلاصة:
والحمدلله رب العالمين.
الحقيقة أنه لا خلاف بين العلماء في معنى الأحرف السبعة، ومن يظن أن هناك خلاف في المعنى فهذا قد نشـأ من الخلط بين معنى الأحرف السبعة وبين استقراء العلماء لأوجه الاختلاف في القراءات التي يشتمل عليها هذا المعنى. و روايات الحديث قد وضحت المعنى دون لبس او تمويه، بينما جاءت برغم كثرتها مجملة، لا تكشف عن طبيعة ومقصود اوجه الاختلاف الذي كان يقع بين الصحابة في قراءة القرآن بهذه الأحرف السبعة، فكانوا يرفعون أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيز قراءة الجميع ويؤكد على وحيها من الله : " هكذا أنزلت"، على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف.
ومن عادة الأئمة بعد سوْق معنى الاحرف السبعة بوضوح، فإنهم ينتقلون منه الى استقراء ما يشمله هذا المعنى من اختلاف الاوجه، فجميعهم يفرقون بين المعنى وبين اوجه الاختلاف، كما نجده عند ابن قتيبة ومكي ابوطالب، والداني والرازي وابن الجزري، وغيرهم. فمثلا بعد أن ساق الامام الداني المعنى فانه يعرج الى تبيان ما يشتمله من اوجه اختلاف القراءات، وكذا فعل الامام ابن الجزري، فبعد ان اتفق على المعنى كما بينه الامامان الداني ومكي ابوطالب فانه انتقل الى استقراء الاوجه السبعة فيقول: " (وَأَمَّا) الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ مَعَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الْحَرْفُ الْوَاحِدُ يُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ"
إذن الاختلاف على استقراء الاوجه والذي يوفي هذا المعنى الذي فهموه جميعا.
4- فما هو معنى الاحرف السبعة؟:
وهذا المعنى نقله ابن الجزري ( القرن الثامن) عن ابي عمرو الداني ( القرن الخامس):
(قَالَ) الْحَافِظُ أَبُو عَمْرٍو الدَّانِيُّ: مَعْنَى الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَا هُنَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ ; لِأَنَّ الْأَحْرُفَ جَمْعُ حَرْفٍ فِي الْقَلِيلِ، كَفَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، وَالْحَرْفُ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَجْهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ الْآيَةَ، فَالْمُرَادُ بِالْحَرْفِ هُنَا الْوَجْهُ، أَيْ: عَلَى النِّعْمَةِ وَالْخَيْرِ وَإِجَابَةِ السُّؤَالِ وَالْعَافِيَةِ، فَإِذَا اسْتَقَامَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ اطْمَأَنَّ وَعَبَدَ اللَّهَ، وَإِذَا تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِ وَامْتَحَنَهُ بِالشِّدَّةِ وَالضُّرِّ تَرَكَ الْعِبَادَةَ وَكَفَرَ، فَهَذَا عَبَدَ اللَّهَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ ; فَلِهَذَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْأَوْجُهَ الْمُخْتَلِفَةَ مِنَ الْقِرَاءَاتِ وَالْمُتَغَايِرَةَ مِنَ اللُّغَاتِ أَحْرُفًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا وَجْهٌ. يقول ابن الجزري: (الْأَوَّلَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ: سَبْعَةُ أَوْجُهٍ وَأَنْحَاءٍ.)
- وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْقِرَاءَاتِ أَحْرُفًا عَلَى طَرِيقِ السَّعَةِ كَعَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَسْمِيَتِهِمُ الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا هُوَ مِنْهُ وَمَا قَارَبَهُ وَجَاوَرَهُ وَكَانَ كَسَبَبٍ مِنْهُ وَتَعَلَّقَ بِهِ ضَرْبًا مِنَ التَّعَلُّقِ، كَتَسْمِيَتِهِمُ الْجُمْلَةَ بِاسْمِ الْبَعْضِ مِنْهَا ; فَلِذَلِكَ سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِرَاءَةَ حَرْفًا، وَإِنْ كَانَ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مِنْهَا حَرْفًا قَدْ غَيَّرَ نَظْمَهُ، أَوْ كُسِرَ، أَوْ قُلِبَ إِلَى غَيْرِهِ، أَوْ أُمِيلَ أَوْ زِيدَ، أَوْ نُقِصَ مِنْهُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَسَمَّى الْقِرَاءَةَ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْفُ فِيهَا حَرْفًا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ وَاعْتِمَادًا عَلَى اسْتِعْمَالِهَا. ثم يقول ابن الجزري: ( وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: عَلَى قِرَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ وَكَذَا قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِيهَا أَحْرُفًا لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقْرَأَنِيهَا)
والقول في المعنى ما قال الامام أبوعمرو الداني: أن هذه الأحرف السبعة هي اوجه سبعة من اللغات والقراءات، المختلف معانيها تارة، والمختلف ألفاظها تارة مع اتفاق (أو تقارب) المعنى، ليس فيها تضاد، ولا تناف للمعنى، ولا إحالة ولا فساد، وهذا الذي قلناه هو اجماع أمة على معنى الاحرف السبعة، لا خلاف عليه.
وإن كان قد اتفق عليه أئمة القراءات كابن الجزري والداني، فإن ابي عمرو الداني قد فصله واستفاده أصلا مما قاله أستاذه مكي بن أبي طالب (القرن الرابع والخامس) (ت. 437 هـ) : "والذي نعتقده في ذلك، ونقول به، وهو الصواب إن شاء الله: أن الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن: هي لغات متفرقة في القرآن، ومعان في ألفاظ تسمع في القراءة، مختلفة في السمع متفقة في المعنى. ومختلفة في السمع وفي المعنى." ثم وبعد أن بين مكي ابوطالب معناه فإنه ذهب الى ما ذهب اليه ابن قتيبة في استقراء اوجه الاختلاف ويشتمله هذا المعنى، فيقول: "والذي يشتمل عليه معنى القراءات: أنها ترجع إلى سبعة أوجه:...... " إلى ان قال: "وإلى هذه الأقسام في معاني السبعة، ذهب جماعة من العلماء. وهو قول ابن قتيبة وابن شريح وغيرهما. لكننا شرحنا ذلك من قولهم."
وقد نقل شيخ الإسلام أبوالفضل الرازي الإجماع على ان الأحرف في الحديث تعني الأوجه، فقال: "فأول ذلك أُجمِع على أن الأحرف من قوله عليه الصلاة والسلام : " أنزِل القرآن على سبعة أحرف"، هي الأوجه، وليست حروف التهجي، ولا حروف المعاني." (معاني الأحرف السبعة، 275). وقال: "بعد أن تقرّر أن تعاقب اللغات لا تأثير لها في المعاني، فعلى هذا حملُ الأحرف على اللغات فقط ليس بحدٍ لها، ويذلك على ذلك أن ترافعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند اختلافهم لفظا مما جمع الأمرين من المعاني واللغات، إلى أن يقوم دليل انه كان مخصوصًا للغات"" (ص. 298) أي ان اختلاف اللهجات لا ينشأ عنه اختلاف في المعنى، ولكن من الاحرف السبعة اختلاف في المعاني، فدل على ان الاحرف (الأوجُه) لا تُحصر في اوجه اللغات فقط، بل هي في اللغات والمعاني.
ومن يتتبع حديث رسول الله يُدرك أن المعنى هو أوجه من اللغات والقراءات
1- قوله صلى الله عليه وسلم: ( أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ )،
2- وفِي أَوَّلِ حَدِيثِ النَّسَائِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ " أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سُورَةً، فَبَيْنَمَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ سَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَؤُهَا يُخَالِفُ قِرَاءَتِي " الْحَدِيثَ.
3- وَلِمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: { كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ فَدَخَلَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَقَرَأَ قِرَاءَةً أَنْكَرْتُهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ آخَرُ فَقَرَأَ قِرَاءَةً سِوَى قِرَاءَةِ صَاحِبِهِ...."
4- وفي حديث أُبَيٍّ " ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تُقْرِئَ أُمَّتَكَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا }، فدل على أنه وجه من القراءة
5- وَلِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةِ أُمِّيِّينَ، مِنْهُمُ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ" الْحَدِيثَ
فهذه نماذج من الاحاديث الدالة على انها أوجه من القراءات واللغات. يقول الإمام ابن حجر بعد سوقه هذه الأحاديث: " وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تُقَوِّي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْرُفِ اللُّغَاتُ أَوِ الْقِرَاءَاتُ، أَيْ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ لُغَاتٍ أَوْ قِرَاءَاتٍ، وَالْأَحْرُفُ جَمْعُ حَرْفٍ مِثْلَ فَلْسٍ وَأَفْلُسٍ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ لِأَنَّ أَحَدَ مَعَانِيَ الْحَرْفِ فِي اللُّغَةِ الْوَجْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ }" (فتح الباري 2/ 88)
5- والأحرف السبعة لا تعني قِراءة كل كلِمة بسبعة طُرُق :
وليس المراد أن كل كلمة من القرآن تقرأ على سبعة أوجه إذا لقال صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف بحذف لفظ على ... بل المراد ما علمت من أن هذا القرآن أنزل على هذا الشرط وهذه التوسعة بحيث لا تتجاوز وجوه الاختلاف سبعة أوجه مهما كثر ذلك التعدد والتنوع في أداء اللفظ الواحد ومهما تعددت القراءات وطرقها في الكلمة الواحدة. فكلمة {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} التي ورد أنها تقرأ بطرق تبلغ السبعة أو العشرة ... ولم تقتصِر على سبعة. وكلمة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} التي ورد أنها تقرأ باثنتين وعشرين قراءة ..!! وكلمة {أُفٍّ} التي أوصل الرماني لغاتها إلى سبع وثلاثين لغة. وكل أولئك وأشباه أولئك لا يخرج التغاير فيه على كثرته عن وجوه سبعة،
قال خطيب أهل السنة، الإمام ابن قتيبة الدينوري: "وليس يوجد في كتاب الله حرف قرىء على سبعة أوجه- يصح، فيما أعلم." (تأويل مشكل القرآن، ص. 30).
ويقول الحافظ ابن حجر على شرحه لحديث الاحرف السبعة كما في صحيح البخاري : " قَوْلُهُ: ( بَابُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ ) أَيْ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِكُلِ وَجْهٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ كَلِمَةٍ وَلَا جُمْلَةٍ مِنْهُ تُقْرَأُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ غَايَةَ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ عَدَدُ الْقِرَاءَاتِ فِي الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَى سَبْعَةٍ، فَإِنْ قِيلَ فَإِنَّا نَجِدُ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ يُقْرَأُ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ، فَالْجَوَابُ أَنَّ غَالِبَ ذَلِكَ إِمَّا لَا يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاخْتِلَافِ فِي كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ كَمَا فِي الْمَدِّ وَالْإِمَالَةِ وَنَحْوِهِمَا." فتح الباري (2/ 84).
وبقي ان نشير إلى أن اختلاف القراءات، هو من اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، يقول شيخ الاسلام ابن تيمية: " وَلَا نِزَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْحُرُوفَ السَّبْعَةَ الَّتِي أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَنَاقُضَ الْمَعْنَى وَتَضَادَّهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهَا مُتَّفِقًا أَوْ مُتَقَارِبًا كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ أَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَتَعَالَ. وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى أَحَدِهِمَا لَيْسَ هُوَ مَعْنَى الْآخَرِ؛ لَكِنْ كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَقٌّ وَهَذَا اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ وَتَغَايُرٍ لَا اخْتِلَافُ تَضَادٍّ وَتَنَاقُضٍ، وَمِنْ الْقِرَاءَاتِ مَا يَكُونُ الْمَعْنَى فِيهَا مُتَّفِقًا مِنْ وَجْهٍ مُتَبَايِنًا مِنْ وَجْهٍ كَقَوْلِهِ: (يَخْدَعُونَ وَيُخَادِعُونَ (وَيَكْذِبُونَ وَيُكَذِّبُونَ (وَلَمَسْتُمْ وَلَامَسْتُمْ) و (حَتَّى يَطْهُرْنَ) (وَيَطَّهَّرْنَ) وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الَّتِي يَتَغَايَرُ فِيهَا الْمَعْنَى كُلُّهَا حَقٌّ وَكُلُّ قِرَاءَةٍ مِنْهَا مَعَ الْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ مَعَ الْآيَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا كُلِّهَا وَاتِّبَاعُ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ الْمَعْنَى عِلْمًا وَعَمَلًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ مُوجِبِ إحْدَاهُمَا لِأَجْلِ الْأُخْرَى ظَنًّا أَنَّ ذَلِكَ تَعَارُضٌ بَلْ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ كَفَرَ بِحَرْفِ مِنْهُ فَقَدْ كَفَرَ بِهِ كُلِّهِ".
6- حكم تحديد المراد والمقصود بأوجه اختلاف الاحرف السبعة يناءا على المعنى، وفائدته:
وتحديد المراد بأوجه الاختلاف واستقرائِها غير واجب على التعيين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، ولم يسأله الصحابة عنه، ولم يسأل التابعون الصحابة عنه. إذن فالمعنى معلوم انه اوجه سبعة من القراءات واللغات، اما المقصود بكل وجه من هذه الاوجه فهذا لم يحدده لهم رسول الله، وهو علم لا ينفع وجهل لا يضُر، والحكمة المستنبطة من عدم تحديد الأوجه:
1- أننا لم نكلف احصاء هذه الاوجه وحَدِّها بل كُلِّفنا باتباع الوحي كما اقْرِءنا به، يقول الإمام أبو الفضل الرازي: "وإنما لم يحدها عليه الصلاة والسلام بحد محدود جلي لانهم لم يكلفوا من الخبر الا ان لا يتنازعوا في شيء من حروف اختلاف القراءة ورد به أثر، وكان كذلك أوسع على الأمة".
2- ومنها : أنه لو صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد؛ لفهم الناس وجوب التزام هذه الأحرف السبعة، كل منها بلغته ؛ من أول القرآن إلى آخره، وهذا أمر غير لازم، بل يقرأ المسلم من جملة الأحرف السبعة ما يطوع به لسانه، ولو كان بالاختيار من عدة أحرف. وهذا ما حصل فإن الأحرف السبعة نزلت اللتيسير وليس لمزيد من التقييد ولا للتعسير (معنى الاحرف السبعة، من تعليق حسن ضياء الدين عتر في الحاشية، ص. 316)
3- ومنها : أن العرب كانوا يتعصبون كل لقبيلته ولغتها وأحسابها وأمجادها، مما ساعد على تفرقهم بل واقتتالهم، وحال دون توحدهم قبل الإسلام. وإن تحديد النبي للقبائل التي نزل القرآن بلغاتها يثير فيهم حمية وافتخارة لدى البعض على الآخر الذين لم ترد أسماء قبائلهم في لغات الأحرف السبعة وفي هذا التحديد أيضا إحراج لهم أن يقرؤوا القرآن بلغة غيرهم. وقد نزل القرآن ليهديهم؛ وليصهرهم جميعا في كيان أمة واحدة . فجاءت الحكمة الإلهية العظيمة؛ بعدم تحديد لغات الأحرف السبعة ؛ عاملا مهما في تحقيق وحدتهم تحت راية القرآن العظيم . والله أعلم. (معنى الاحرف السبعة، من تعليق حسن ضياء الدين عتر في الحاشية، ص. 316)
2- ومنها : أنه لو صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد؛ لفهم الناس وجوب التزام هذه الأحرف السبعة، كل منها بلغته ؛ من أول القرآن إلى آخره، وهذا أمر غير لازم، بل يقرأ المسلم من جملة الأحرف السبعة ما يطوع به لسانه، ولو كان بالاختيار من عدة أحرف. وهذا ما حصل فإن الأحرف السبعة نزلت اللتيسير وليس لمزيد من التقييد ولا للتعسير (معنى الاحرف السبعة، من تعليق حسن ضياء الدين عتر في الحاشية، ص. 316)
3- ومنها : أن العرب كانوا يتعصبون كل لقبيلته ولغتها وأحسابها وأمجادها، مما ساعد على تفرقهم بل واقتتالهم، وحال دون توحدهم قبل الإسلام. وإن تحديد النبي للقبائل التي نزل القرآن بلغاتها يثير فيهم حمية وافتخارة لدى البعض على الآخر الذين لم ترد أسماء قبائلهم في لغات الأحرف السبعة وفي هذا التحديد أيضا إحراج لهم أن يقرؤوا القرآن بلغة غيرهم. وقد نزل القرآن ليهديهم؛ وليصهرهم جميعا في كيان أمة واحدة . فجاءت الحكمة الإلهية العظيمة؛ بعدم تحديد لغات الأحرف السبعة ؛ عاملا مهما في تحقيق وحدتهم تحت راية القرآن العظيم . والله أعلم. (معنى الاحرف السبعة، من تعليق حسن ضياء الدين عتر في الحاشية، ص. 316)
7- مناقشة أهم ما ذهب إليه العلماء في تعيين الاوجه السبعة واستقرائِها:
الرأي الأصوب في هذا هو عدم التمسك بمذهب بعينه او التشاغل به، وان يكُكتفى بما كُلفنا به، وكما قال الإمام الرازي: " فأما ما أعتقده في الخبر من وراء ما ذكرته، وهو أسلم المذاهب، وهو التوصل إلى ما كُلفنا بهذه الأخبار، والإمساك عما كُفينا منها. فأما ما كُلفنا منه فهو أن نقرأ ما عُلِّمنا من القرآن، لأنه جاء بعقب خبر الترافع (إن الله يأمركم ان تقرأوا كما عُلِّمتم". مهما عرفنا ذلك وصحته، وأن يكون موافقا للمصحف، وأن لا نُنكر ما لم نعرفه من القراءة، ولا نتجادل فيها، ولا نماري في القرآن، ولا نجحد منه شيئا، على ما مضى أن: " من جحد بآية منه، فقد جحده كله"
ولكننا نعرض الاراء التي قيلت ومناقشتها من باب العلم، والاطلاع للباحث في مقارنة الاديان، مع توضيح بعض النقاط التي قد يُحتاج إليها:
أراد العلماء استقراء اوجه الاختلاف، وتحديد المقصود منه، وعلمنا أن تحديد هذه الأوجه هي مسألة اجتهادية بحته، وهذا لا يُعرف الا بالاستقراء من باب الفهم والتقريب لا من باب الأمر والالزام أو الإعتقاد، ولا يمكن الجزم بأي مذهب منها على الحقيقة. وتعيين أوجه اختلاف الاحرف السبعة مقدور عليه بالاستقراء، وأي عالم بالقراءات يستطيعه، لكن يقينا سيحدث تفاوت بينهم في تعيين المراد من الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن، والتفاوت طبيعي ومنطقي، ونتاج حتمي لانهم يتفاوتون في درجة العلم والاحاطة والقدرة على الاستنباط، والاستدلال بما صح او قد لا يصح، اضافة الى انهم وان اتفقوا جميعا على المراد بالاحرف السبعة واحسنوا استقراءها، فإنهم سيختلفون في التقسيم، ومحال على احد منهم أن يجزم ان هذا مراد الله بالتقسيم.
فإن كان الأمر كذلك، فما فائدته إذن؟ يمكن القول انه يفيد من باب التقسيم الأكاديمي لطالب العلم وتقريب الأمر للأذهان، فيُوسع مداركه واستيعابه لفهم ما انبنى على الاحرف السبعة من اختلاف القراءات، وحصرها وتقسيمها، كما ييسر على غير العالم الوقوف على تنوع الأوجه التي جاء بها الوحي من وجهة نظر القراء وأهل العلم، وبالتالي فمكانه الحقيقي هو الأروقة الاكاديمية. لكن أن يُجعل الاستقراء في ذاته غاية ، او اعتقادا فهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، والأمة في غنى عنه، كما بينا. ثم أنه يجب توضيح أن الحكم على اي مذهب بانه صواب أو الاصوب، اي انه كذلك من بين ما قيل، لا أنه كذلك على الحقيقة، وبالتالي فلا ينبني عليه شيء ولا عقيدة إلا اللهم التيسير على طالب العلم.
ولأجل ذلك كثر الاختلاف في هذا الباب حتى عدهم السيوطي إلى أربعين قولا، سرد الإمام أبو حاتم بن حبان خمسة وثلاثين منها، ولكن لا يشغلنا هذه الكثرة، فمعظم هذه الأقوال لا قيمة له من حيث الدليل والنظر، والناظر في تلك الأقوال يقطع بأن أكثرها متداخل، أو لا يؤبه به عند النظر والتمحيص. ولذا تجد أن الإمام القرطبي في مقدمات تفسيره اقتصر على خمسة منها لخصها الحافظ ابن كثير في كتاب فضائل القرآن بآخر تفسيره، ثم جاء من بعدهم أقوال علماء التجويد والقراءات، واقتصر الإمام النويري في كتابه ( الكوكب الدري شرح طيبة النشر في القراءات العشر) من كل تلك الأقوال على مذهب الإمامين أبي الفضل الرازي، وأبی الخیر محمد بن الجزري لما قاله في هذين المذهبين إنهما أقوى المذاهب واصوبها ، ولما لصاحبيهما من درایات واسعة بأصول القراءات ورواياتها وطرقها وأوجهها، وعلوم الرسم والفواصل القرآنية . ولا تزال اجتهادات العلماء في تحديد المراد بالأحرف السبعة دائرة في نطاق لغة القرآن والحديث وواقع الأمة.
القول الأول: أن هذا الحديث من المشكل المتشابه الذي لا يُعلم معناه، و هذا القول منسوب إلى ابن سعدان النحوي في القرن الثالث الهجري. لأن الحرف مشترك لفظي، يصدق على معانٍ كثيرة، كأن يكون معنى الحرف في اللغة: هو الكلمة والمعنى، وحرف الهجاء، والادة مثل (في وعلى)، والجهة،
وهذا مردود من أوجه:
- المعنى معلوم واستقراء اوجه الاختلاف مقدور عليه، فنفرق بين معنى الشيء وبين استقراء الحاصل منه (تعدد الزواج)
- والنص في الحديث على أن الحكمة من إنزال الأحرف السبعة هي التيسير على الأمة، فكيف يتحقق التيسير إن كان المعنى مجهولا؟!
- بل إن القرائن والادلة النقلية قد بينت المراد منه ومعناه، لأن المشترك اللفظي يترجح أحد معانيه حسب السياق بقرينة لفظية أو حالية، فلا يصح مثلا أن يكون معنى الحرف هنا هو الكلمة، لأن القرآن مؤلف من كلمات كثيرة، وليس من سبع فقط، ولا يصح أن يكون معناه: المعنى، لأن معاني القرآن كثيرة جدًّا تفوق الحصر، ولا يصح أن يكون المراد منه حرف الهجاء، لأن القرآن مشتمل على جميع حروف الهجاء، لا على سبعة منها فقط، فتعيَّن أن المراد بالحرف هنا هو الجهة، وهذا أصل معناه في اللغة وبهذا المعنى جاء في القرآن، فقال تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ" وبذلك يبطل القول بإشكال معنى الحديث، ويُفهم: سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ: سَبْعَةُ أَوْجُهٍ وَأَنْحَاءٍ، وان هذه الاوجه من القراءات، كما جاء في الحديث عن عمر: " سَمِعْتُ هذا يَقْرَأُ بسُورَةِ الفُرْقانِ علَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيها" أي على قراءات لم تُقرئنيها.
- كما يُرَدُّ كذلك بِما ثبت في نص الحديث من أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أُمِر أن يقرئ أمته بِهذه الأحرف، وأنه قد فعل، وأمر أمته أن تقرأ القرآن بِها، وقد فعلت، فقرأ الصحابة - رضي الله عنهم - على هذه الأحرف، فهي معلومة لدى الكثير منهم، فلا يعقل أن يكون الحديث مع كل ذلك من المتشابه الذي لا يُدرى معناه.
القول الثاني: أن حقيقة العدد غير مرادةٍ، وانما اارادوا معنى التيسير، ذلك لأن لفظ السبعة يطلق في لسان العرب ويراد به الكثرة في الآحاد، كما يطلق لفظ السبعين ويراد به الكثرة في العشرات، ولفظ السبعمائة ويراد به الكثرة في المئات. وهو مذهب القاضي عياض ونحى هذا المنحى القاسمي، والرافعي.
ويردُّ هذا القول:
- أن الأحاديث الواردة في هذا الأمر صريحة في إرادة حصر العدد في السبعة، ففيها استزادة الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - من جبريل الأحرف حرفًا حرفًا، وهذا قرينة على أن المرادَ العددُ الآحادُ الواقعُ بين الستة والثمانية.
- أن هذا القول بُني على باطل، وهو أنه رُخص للصحابة أن يقرأوا القرآن بالمعنى، دون تحديد للأوجه التي يقرأون بها، ونُسِب هذا القول للقاضي عياض، في شرحه على مسلم، ونقول ان عياض ما قال به بل قال نقلاً عن المازري :(وقول من قال المراد خواتيم الآي فيجعل مكان (غفور رحيم) (سميع بصير) فاسد أيضاً ؛ للإجماع على منع تغيير القرآن للناس).
القول الثالث: أن المقصود سبعة أوجه من المعاني والأحكام، وهي: الحلال والحرام، والأمر والزجر، والمحكم والمتشابه، والأمثال. واستدلوا لذلك بِما روي عن ابن مسعود عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحدٍ، وعلى حرفٍ واحدٍ، ونزل القرآن من سبعة أبوابٍ، وعلى سبعة أحرف: زاجرٌ وآمرٌ، وحلالٌ وحرامٌ، ومحكمٌ ومتشابهٌ، وأمثال، فأحلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، وافعلوا ما أُمرتُم به، وانتهوا عمَّا نُهيتهم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بِمحكمه، وآمنوا بِمتشابِهه، وقولوا: آمنا به كل من عند ربنا."
ويُناقش هذا القول بأن:
- هذا الحديث قد انتقده العلماء، ولم يسلموا بصحته، وأجمعوا على ضعفه، قال الحافظ ابن حجر: " وقد صحح الحديث المذكور ابن حبان والحاكم، وفي تصحيحه نظرٌ؛ لانقطاعه بين أبي سلمة وابن مسعود، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلاً، وقال: هذا مرسل جيدٌ.(9)
- بل وكونه حلال وحرام وزاجر وآمرـ فهذا يخالف ما رواه الإمام مسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عقب حديث ابن عباس، قال ابن شهاب: بلغني أن تلك الأحرف السبعة إنَّما هي في الأمر الذي يكون واحدًا لا يختلف في حلال ولا حرام. مما يوضح أن قوله زاجرٌ وآمرٌ الخ ليس تفسيرًا للأحرف السبعة كما قال ابن حجر.
- بل إن تحريم الحلال وتحليل الحرام لا يُسمى أحرفا.
- كما أن سياق الأحاديث يأبى حمل المراد بالأحرف السبعة على هذه الوجوه، بل هي ظاهرةٌ في أن المراد أن الكلمة الواحدة تُقرأ على وجهين وثلاثة وأربعة إلى سبعة، تَهوينًا وتيسيرًا.
- كما أن الشيء الواحد لا يكون حلالاً وحرامًا في آن واحد، من المستحيل ان يكون نفس الشيء حلال وحرام، هذا من التناقض الضروري الذي تأباه العقول، ولذلك ذهب أبو علي الأهوازي وغيره إلى أن قوله: زاجرٌ وآمرٌ… استئناف كلام آخر، أي هو زاجرٌ، أي القرآن، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة، ويؤيد ذلك ما جاء في بعض روايات الحديث: زاجرًا وآمرًا… بالنصب، أي: نزل على هذه الصفة. ولذلك ذهب أبو علي الأهوازي وغيره إلى أن قوله: زاجرٌ وآمرٌ… استئناف كلام آخر، أي هو زاجرٌ، أي القرآن، ولم يرد به تفسير الأحرف السبعة.
- بل وعلى فرض صحته، فهناك إحتمال أورده أبو شامة (القرن الهجري السابع)، فقال: يحتمل أن يكون التفسير المذكور للأبواب، لا للأحرف، أي: هي سبعة أبواب من أبواب الكلام وأقسامه، وقد بينها ابو عمرو الداني (القرن الهجري الثالث والرابع وعاصر ابن حزم)، فقال: "فأما قوله في هذا الخبر: كان الكتاب الأول «2» نزل من باب واحد ونزل القرآن من سبعة أبواب، فمعناه: أن الكتاب الأول نزل خاليا من الحدود والأحكام والحلال والحرام، كزبور داود الذي هو تذكير ومواعظ، وإنجيل عيسى الذي هو تمجيد ومحامد وحضّ على الصّفح والإعراض دون غير ذلك من الأحكام والشرائع." وعلى هذا أكثر العلماء وبالله التوفيق.
- أن هذا حمل الإمام محمد بن جرير الطبري أن يستشهد بقول النبي لعمر بن الخطاب:(يا عمر ، إن القرآن كله صواب ما لم تجعل رحمة عذاباً ، أو عذاباً رحمة)، فأجاز القراءة بالمعنى.
القول الرابع: إن المراد بالأحرف السبعة سبع لغات من أفصح لغات العرب، متفرقة في سور القرآن، أي لا تجتمع هذه اللغات في الكلمة الواحدة، فأكثره بلغة قريش ومنه بلغة هذيل أو ثقيف أو هوازن أو كنانة أو تميم أو اليمن، فهو يشمل في مجموعه اللغات السبع. وقال البعض هي خمس لغات لسعد وثقيف وكنانة وهذيل وقربش، ولغتان لسائر ألسنة العرب -
- ذهب إلى هذا القول ابوعبيد وابن عطية وأبي شامة والباقلاني وصححه البيهقي. ويرى الباقلاني أن معنى قول عثمان رضي الله عنه إنه نزل بلسان قريش أي معظمه ، أو جميعه بلغة قريش، قال الله تعالى: " بلسان عربي مبين" (الشعراء: ۱۹۰)، ولم يقل بلسان قرشي، وقال تعالى: " وكذلك أنزلناه قرءانا عربيا وصرفنا فيه" (طه: ۱۱۳}، واسم العرب يتناول جميع القبائل تناولا واحدا حجازها ويمنها، كما أن لغات غیر قریش موجودة في صحيح القراءات.
- أنه لو كانت هذه اللغات مفرقة في القرآن الكريم، لَما حصل خلاف بين القراء في شيء من القرآن؛ لأن كل موضع سيكون مقروءًا بوجه واحد، ولَما حصلت المناكرة بين الصحابة عند سماع بعضهم قراءة بعضٍ في نفس القراءة.
- الأمر الآخر انهما احتجا لهذا بأثرين مرويان عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال أبو عبيد: " عن سعيد بن عروبة عن قتادة عمن سمع ابن عباس يقول: نزل القرآن بلغة الكعبيين، كعب قريش وكعب خزاعة، قيل له: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة. وقال أبو عبيد: ويروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبعة لغات منها خمسٌ بلغة العجز من هوازن". لكن لا تقوم بهما حجة؛ لضعف إسناد كلّ منهما، فأولهما رواه قتادة عن مجهول لم يعينه فهو منقطع، والآخر من رواية الكلبي وهو كذاب.
- كما أن اختلاف عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم في القراءة، وهما قرشيان، ولغتهما واحدة، قد دلَّ على أن اختلافهما لم يكن في اللغات.(16)
- ويرد هذا القول أيضًا أن نزول القرآن على سبعة أحرف إنَّما كان تيسيرًا على المكلفين، بنص الحديث، فلو فرض أن القرآن مؤلف من عدة لغات، كل جزء من لغة، لَما أمكن أهل كل لغة أن يقرؤوا منه إلا جزءًا واحدًا، وهو النازل بلغتهم.(17)
- كما أن يرد عليهم ما رُوي عن عمر بن الخطاب وهو قوله لابن مسعود: " إن القرآن أُنزل بلغة قريش فأقرئ الناس بلغة قريش ولا تقرئهم بلغة هذيل" وما ثبت في صحيح البخاري عن عثمان وهو قوله لكتاب المصحف، "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم" (2). فهذا الأثران صحيحان في أن القرآن، ليست فيه إلا لغة واحدة ولسان واحد، وهو لغة قريش ولسانهم. وفي قول عمر نهي لابن مسعود عن أن يُقرئ أحدًا بلغة هذيل، وهي واحدة من القبائل الرئيسية التي ذكر أبو عبيد وغيره أن القرآن أُنزل بها.
- بل إن أبا عبيد نفسه ألَّف كتابًا جمع فيه عددًا كبيرًا من مفردات القرآن نسبها إلى مختلف لغات العرب، ولا نجدها منحصرة فيما ذكروه من اللغات السبعة او الخمسة.
- وقد روى ابوشامة عن الحسن علي بن إسماعيل بن الحسن القطان يقول: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم يقول: سمعت أبي (ابن قتيبة الدينوري) يقول: وهذا القول عظيم من قائله، لأنه غير جائز أن يكون في القرآن لغة تخالف قريش لقوله تعالى: {وَمََا أَرْسَلْنََا مِنْ رَسُولٍ إِلََّا بِلِسََانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4] إلا أن يكون القائل لهذا أراد ما وافق من هذه اللغات لغة قريش. ( المرشد الوجيز، ص. 89)
القول الخامس: أن المراد سبع أوجه من اللغات، في الكلمة الواحدة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني، كقول القائل: هلمَّ، وتعالَ، وأقبلْ، وإليَّ، ونحوي، وقصدي، وقُرْبي. كقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ" ونسبه ابن عبد البر لأكثر أهل العلم (18)، وهو قول سفيان بن عيينة وابن جرير الطبري والطحاوي. ويدل لِهذا القول حديث أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ جِبْرِيلَ - عليه السلام - قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اقْرَأِ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ. قَالَ مِيكَائِيلُ - عليه السلام -: اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ، قَالَ: اقْرَأْهُ عَلَى حَرْفَيْنِ. قَالَ مِيكَائِيلُ: اسْتَزِدْهُ، فَاسْتَزَادَهُ حَتَّى بَلَغَ سَبْعَةَ أَحْرُفٍ، قَالَ: كُلٌّ شَافٍ كَافٍ، مَا لَمْ تَخْتِمْ آيَةَ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ، أَوْ آيَةَ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ، نَحْوَ قَوْلِكَ تَعَالَ وَأَقْبِلْ وَهَلُمَّ وَاذْهَبْ وَأَسْرِعْ وَاعْجَلْ.( رواه أحمد 5/41، فيه زيد بن جدعان سيء الحفظ كما قال الهيثمي(7/151)، وبقية رجال السند رجال الصحيح.)، قال السيوطي: إسناده جيد.(20) وكذلك ما رواه أبو داود عن أُبي - رضي الله عنه - ،(ليس منها إلا شاف كاف إن قلت : سميعاً عليماً. عزيزاً حكيماً، مالم تخلط آية عذاب برحمة أو رحمة بعذاب) أبوداود، كتاب الصلاة باب إنزال القرآن على سبعة أحرف رقم1477،1478، وقد وقد روى ثابت بن قاسم نحوا من هذا عن ابي هريرة عن النبي، ومن كلام ابن مسعود نحو ذلك، وعند أحمد من حديث أبي هريرة (أنزل القرآن على سبعة أحرف، عليماً حكيماً، غفوراً رحيماً)(المسند2/332، صحح إسناده أحمد شاكر16/167). وعنده عن عمر (أن القرآن كله صواب مالم تجعل مغفرة عذاباً أو عذاباً مغفرة)( رواه أحمد 4/30.)، وفي الطبري بسنده عن ابي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزل القران على سبعة أحرف عليم حكيم، غفور رحيم" (الطبري: 43)
ويجاب عن هذا القول بأن:
- لم يكن مراد ابن مسعود رضي الله عنه الحصر، وإنما مراده تقريب الأمر إلى الأذهان، بذكر نوع واحد من أنواع الاختلاف الموجودة في الأحرف السبعة، وأراد ان يبين لهم ببساطة أنه لا يوجد بينهم تناقض أو تضاد في المعاني.
- ويردُّ هذا القول أيضًا بأن الحكمة من تنْزيل القرآن على سبعة أحرف هي التيسير على المكلفين، لاختلاف ألسنتهم، ولم يكن أكثر اختلاف العرب في استعمال الألفاظ المترادفة، بل أكثر اختلافهم إنَّما كان في اللهجات، من فكٍّ وإدغامٍ، وفتح وإمالة، وهمزٍ وتخفيفٍ، ونحو ذلك، ولا شك أن المشقة عليهم في هذه الأبواب أعظم من المشقة في استعمال هلمَّ مكان تعالَ أو أقبلْ.
- وأما قولهم سميعا عليما او عزيزا حكيما، فليس من الاختلاف الذي مرده الى الانوثة او الذكورة او العروبة والعجمة او كونه تميميا او قرشيا. وإن كان هذا الخلاف يجوز بين ان يكون كلاهما قرشيان كما في حال عمر وهشام. كما أنه يتنافى مع القراءات الثابتة المتواترة، والواقع ان المصاحف العثمانية مجردة من هذا التفاوت، واجمعوا على انه منسوخ او متروك، وأنه وإن كان قرىء به فهو راجع الى الرواية عن رسول الله لا الى الاختراع والتشهي، من باب التيسير على الأمة في بادىء الأمر، من باب الاختلاف في التدبر او العلم او الثقاقات، وقد سبق مناقشته في المحاضرة التاسعة من هنا.
- كما أنه على قول ابن جرير لا يُدرى كيف يتخرَّج وجود الأوجه المتعددة من القراءات في المصاحف العثمانية، وكلها مثبتة فيها، سواء برسم واحدٍ، أو برسمين.
القول السادس: أن المراد بالأحرف السبعة الأوجه التي يقع بِها التغاير والاختلاف في القراءات القرآنية، أو في لغات العرب، ولا يخرج عن أوجه سبعة، نحو الاختلاف في إعراب الكلمة، أو تغير صورتِها بالزيادة أو النقصان، أو اختلاف لغات العرب من الفتح والإمالة والإظهار والإدغام، ونحو ذلك. وهو قول أبي حاتم السجستاني وأحسن وأبدع فيهم الرازي و ابن الجزري وابن قُتيْبة - رحِمهم الله - وهو أصح ما قيل في هذا الباب لأنه اعتمد على توفية المعنى الصحيح الذي دلت عليه الأحاديث والروايات، وقام على الاستقراء التام للروايات والقراءات متواترها وصحيحها وشاذها ... وإليه ذهب جُلُّ العُلماء.
ويُرد على هذا القول:
- قد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الأحرف أنها كلها كافٍ شافٍ فبأيها قرأوا فقد أصابوا، وكان طلبه من ربه هذه الرخصة لأجل طوائف من الأمة هي أكثر من غيرها احتياجًا إليها، العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قط، وفي رواية: والخادم. فكيف يختار هؤلاء وجها او نوعا من الاوجه التي استنبطها الجزري، والرازي، وابن قتيبة وكيف يقرأون به القرآن؟ وما هو وجه الرخصة لهم فيها؟ وكيف يكون التيسير عليهم بها؟ كما أن جميع هذه الأوجه التي ذكروها لا يتسنى إدراكها أو استنباطها إلا بعد بحث وتعمق واستقراء، مع خبرة بأوجه الخط والكتابة، وهذا شأن خاص بخواص العلماء المحققين، فما بال من نزلت الرخصة من أجلهم وتعددت الأوجه للتيسير عليهم. وهذا الاعتراض له وجاهته فيما يخص ابن قتيبة والجزري، لكن كيف يٌُمرر على تقسيم الرازي؟، وهو نفسه قد قال عن تقسيم ابن قتيبة: " وانه قد تنطع فيما تمحل للأحرف السبعة من الوجوه، وذلك لأنه ركب طريقا فيما خرجه لها من الوجوه يعسر ارتيامها على النحارير من الكتاب المستنبطين غوامض ما في الخطوط فكيف على الأمي الذي لا يعرف الكتابة بحال؟".
- كما انهم لم يتفق استنباطهم فيما بينهم حول هذه الاوجه السبعة، وقد وقع بين كل قائل بهذا، التغاير واختلفوا في حصرها اختلافًا كبيرًا.كما ان محاولة ابن قتيبة والجزري والرازي حصر أنواع التغاير والاختلاف في سبعة فيها كثير من التكلف والتعسف، فإذا نظرنا الى استقراء كل واحد من الثلاثة، سنجد انهم اتفقوا جميعا في نوعين، بينما اختلفت اوجه استقرائهم لباقي الانواع وان شملتها، لكن يمكن أن نخرج من مجموع أقوال الثلاثة بعشرة أنواع لا سبعة، يمكن أن يقع بها التغاير والاختلاف بين كلّ كلمتين متغايرتين مختلفتين، وهل باستطاعتنا أن نجزم بأن أحدًا غيرهم لن يخرج بعد البحث والاستقراء بأنواع أخرى تزيد العدة؟؟، بل اذا اردنا ان نقسم الاختلاف والتغاير بين القراءات فيمكن تقسيمها إلى ثلاثة او خمسة ابواب لا سبعة. ويُجاب عن هذا الاعتراض من وجوه: أولها: فهذا ابن الجزري يقسمه من حيث المعنى الى قسمين وليس ثلاثة أو سبعة كما توهم المعترض، يقول ابن الجزري: "(وَأَمَّا) عَلَى كَمْ مَعْنًى تَشْتَمِلُ هَذِهِ الْأَحْرُفُ السَّبْعَةُ، فَإِنَّ مَعَانِيَهَا مِنْ حَيْثُ وُقُوعِهَا وَتَكْرَارِهَا شَاذًّا وَصَحِيحًا لَا تَكَادُ تَنْضَبِطُ مِنْ حَيْثُ التَّعْدَادُ، بَلْ يَرْجِعُ ذَلِكَ كُلُّهُ إِلَى مَعْنَيَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَاتَّفَقَ مَعْنَاهُ (وَالثَّانِي) مَا اخْتَلَفَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ، وَبَقِيَ مَا اتَّحَدَ لَفْظُهُ وَمَعْنَاهُ مِمَّا يَتَنَوَّعُ صِفَةُ النُّطْقِ بِهِ كَالْمَدَّاتِ وَتَخْفِيفِ الْهَمَزَاتِ وَالْإِظْهَارِ وَالْإِدْغَامِ وَالرَّوْمِ وَالْإِشْمَامِ وَتَرْقِيقِ الرَّاءَاتِ وَتَفْخِيمِ اللَّامَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَبِّرُ عَنْهُ الْقُرَّاءُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا عِنْدَنَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ، أَوِ الْمَعْنَى"، وكذلك فعل شيخ الإسلام ابو الفضل الرازي، فيقول: " فأما اختلافهم في معنى الأحرف بعد التقرر بأنها بمعنى الأوجه: فمنهم من ذهب إلى أنها سبعة أوجه من اختلاف المعاني فقط دون تغاير الألفاظ. ومنهم من عكس ذلك فجعلها اختلاف تغاير الالفاظ دون المعاني، ومنهم من جمع فيها بالأمرين معا، فقال: معناها هو اختلاف الألفاظ باتفاق المعاني واختلافها" ثم قال: "فهذه جملة ما ذهبوا إليه، ولا يجوز أن يكون القصد بها خارجا عن هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأن مقيد ذلك نُطق سائر الأمم عربا وعجما غير خارج منها، إذ لم يبق من ممكن النطق الا ضرب واحد، وهو اتفاق الالفاظ باتفاق المعاني، ولا فائدة من ذلك إلا ان يكون على جهة التأكيد، بالتكرير، وذلك على الندرة" (معاني الاحرف السبعة، ص. 279) .ثانيا: لم يلتفت المعترض الى تفريق الائمة الاعلام بين معنى الاحرف السبعة، وبين المقصود من اوجه الاختلاف، فلم يُنصف في قراءته لما كتبه الأئمة كابن الجزري، وابن قتيبة، فابن الجزري قد بين معنى الاحرف السبعة صراحة فذكر ما قاله الامام ابن عمرو الداني فقال: "مَعْنَى الْأَحْرُفِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَا هُنَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَعْنِيَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ اللُّغَاتِ ...(قَالَ) وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْقِرَاءَاتِ أَحْرُفًا عَلَى طَرِيقِ السَّعَةِ"(النشر في القراءات العشر، 1/ 23)، ثم استشهد ابن الجزري لصحة ما قاله الامام ابي عمرو الداني في معنى الاحرف السبعةـ، فقال: "(قُلْتُ) : وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مُحْتَمَلٌ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سَبْعَةُ أَحْرُفٍ أَيْ: سَبْعَةُ أَوْجُهٍ وَأَنْحَاءٍ. وَالثَّانِي مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا فِي قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْحَدِيثِ: سَمِعْتُ هِشَامًا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَيْ: عَلَى قِرَاءَاتٍ كَثِيرَةٍ"، ثم بعد تبيان المعنى، انتقل الى المقصود من معناه مما يشتمله اوجه الاختلاف السبعة، فقال: "(وَأَمَّا) الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ السَّبْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ " ثم بين ما استقرأه من اوجه الاختلاف بين القراءات، فقال: " وَلَا زِلْتُ أَسْتَشْكِلُ هَذَا الْحَدِيثَ وَأُفَكِّرُ فِيهِ وَأُمْعِنُ النَّظَرَ مِنْ نَيِّفٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيَّ بِمَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَوَابًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنِّي تَتَبَّعْتُ الْقِرَاءَاتِ صَحِيحَهَا وَشَاذَّهَا وَضَعِيفَهَا وَمُنْكَرَهَا، فَإِذَا هُوَ يَرْجِعُ اخْتِلَافُهَا إِلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ مِنَ الِاخْتِلَافِ لَا يَخْرُجُ عَنْهَا" (النشر في القراءات العشر، 1/ 26) . وكذلك فعل ابن قتيبة كما سيأتي. ثالثا: أن تقسيم أوجه الاختلاف بين القراءات، مبني على الاستقراء والتتبع، بتتبع الجزئيات التي قام عليها المعنى فيما دلت عليه النصوص والقراءات متواترها وصحيحها وشاذها، ثم يأتي الفكر فيما بعد في استنباط تفسير وضوابط وقواعد، ولم يقل احد بضرورة الاتفاق في الاستنباط أو المسميات، ولا في العدد، لتفاوت الاحاطة بالادلة واستيعابها من شخص لآخر، وهذا أمر مسلم عند أهل العلوم العقلية والنقلية.
- كما أن ابن قتيبة والجزري لم يذكرا اختلاف اللهجات ضمن تلك الأنواع السبعة، مع أن معظم أوجه الاختلاف في أحرف القرآن هو من اختلاف اللهجات، بل هو السبب الرئيسي في نزول القرآن على سبعة أحرف، وكان الرازي أكثرهم دقةً في العبارة فقد سرد جميع الأوجه السبعة التي ذكرها ابن قُتيْبة وابن الجزري في ستة أوجُه وخص الوجه السابِع باختِلاف اللهجات. وهذا الاعتراض له وجاهته فيما يخص تقسيم ابن قتيبة ولكن ننوه على أن معنى الاحرف السبعة عند ابن قتيبة يشمل اللغات فقال: "سبعة أوجه من اللغات متفرّقة في القرآن، يدلّك على ذلك، قول رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فاقرؤوا كيف شئتم» ."، ثم بعد أن قرر المعنى، فإنه عرج بعد ذلك في تدبر انواع الاختلاف في القراءات فقال: "وقد تدبّرت وجوه الخلاف في القراءات فوجدتها سبعة أوجه". ولعله أراد من تقسيمه أنه يجعل اختلاف اللهجات منوزع على بعض الاوجه السبعة التي اختارها، وخاصة الأول والخامس. ثانيا: إن ابن الجزري قد جعل اختلاف اللهجات (الاصول)، في القسم الاول، وبين ذلك فقال: " فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ لَا يَخْرُجُ الِاخْتِلَافُ عَنْهَا، وَأَمَّا نَحْوُ اخْتِلَافِ الْإِظْهَارِ، وَالْإِدْغَامِ، وَالرَّوْمِ، وَالْإِشْمَامِ، وَالتَّفْخِيمِ، وَالتَّرْقِيقِ، وَالْمَدِّ، وَالْقَصْرِ، وَالْإِمَالَةِ، وَالْفَتْحِ، وَالتَّحْقِيقِ، وَالتَّسْهِيلِ، وَالْإِبْدَالِ، وَالنَّقْلِ مِمَّا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْأُصُولِ، فَهَذَا لَيْسَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَتَنَوَّعُ فِيهِ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى ; لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ فِي أَدَائِهِ لَا تُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا وَاحِدًا، وَلَئِنْ فُرِضَ فَيَكُونُ مِنَ الْأَوَّلِ". وهو القسم السابع الذي عبر عنه الرازي بقوله: "(السَّابِعُ) اخْتِلَافُ اللُّغَاتِ مِنْ فَتْحٍ وَإِمَالَةٍ وَتَرْقِيقٍ وَتَفْخِيمٍ وَتَحْقِيقٍ وَتَسْهِيلٍ وَإِدْغَامٍ وَإِظْهَارٍ"، وكقاعدة فإن كل تقسيم لا يتغير فيه المعنى فهو في اللغات يقول الرازي: " فأما من ذهب بالأحرف السبعة إلى تغاير الألفاظ دون المعاني، فهو أولها بمجرد اللغات" (معاني الاحرف السبعة، ص. 291). ثالثا: فإن كان استقراء ابن قتيبة والجزري ناقصا لا يستوعب كل الاوجه، فإنه يبقى الرجحان إلى التأويل والتقسيم المنسوب إلى الرازي رحمه الله وقد جمع كل الأوجه من المعاني واللغات.
8- القول الراجح فيما ذهب إليه العلماء في تعيين الاوجه السبعة واستقرائِها:
الراجح مما سبق هو القول الخامس والسادس، وإن كان القول السادس هو أصح ما قيل في هذا الباب لأنه اعتمد على توفية المعنى الصحيح للاحرف السبعة الذي دلت عليه الأحاديث والروايات (انها سبعة اوجه من اللهجات والقراءات)، وقام على الاستقراء التام للروايات والقراءات متواترها وصحيحها وشاذها. ... مع أنه وجب أن نذكر بما قلناه من أن الحكم على اي مذهب بانه صواب أو الاصوب، اي انه كذلك من بين ما قيل، لا أنه كذلك على الحقيقة، وبالتالي فلا ينبني عليه شيء ولا عقيدة إلا اللهم التيسير على طالب العلم.
وإلى هذا القول السادس ذهب جُلُّ العُلماء. وننقُل أقوال الرازي (ت. 454 هـ) و ابن الجزري (ت. 833 هـ)وابن قُتيْبة (ت. 276 هـ) - رحِمهم الله بنص ما ذكرهُ ابن الجزري في كِتابِهِ "النشر في القِراءات العشر":
يقول ابن الجزري : "ولا زلت استشكل هذا الحديث وأفكر فيه وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله علي بما يمكن أن يكون صواباً إن شاء الله وذلك أني تتبعت القراءات صحيحها وشاذها وضعيفها ومنكرها فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها وذلك:
.
1- إما في الحركات بلا تغيير في المعنى والصورة: نحو (البخل) بأربعة (ويحسب) بوجهين .
2- أو بتغير في المعنى فقط نحو (فتلقى آدم من ربه كلمات). و (ادّكر بعد أمة، وأمَّةٍ ) .
3- وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلوا، وتتلوا )..و (ننحيك ببدنك لتكون لمن خلفك- وننجيك ببدنك)
4- أو عكس ذلك ( وإما في الحروف (بتغير الصورة لا المعنى) نحو (بصطة وبسطة، والصراط والسراط)
5- أو بتغيرهما ( وإما في الحروف (بتغير الصورة و المعنى) نحو (أشد منكم ومنهم، ويأتل ويتأل، و فامضوا إلى ذكر الله)
6- وأما في التقديم والتأخير نحو (فيقتلون ويقتلون، وجاءت سكرت الحق بالموت) .
7- أو في الزيادة والنقصان نحو (وأوصى ووصى، والذكر والأنثى)
2- أو بتغير في المعنى فقط نحو (فتلقى آدم من ربه كلمات). و (ادّكر بعد أمة، وأمَّةٍ ) .
3- وإما في الحروف بتغير المعنى لا الصورة نحو (تبلوا، وتتلوا )..و (ننحيك ببدنك لتكون لمن خلفك- وننجيك ببدنك)
4- أو عكس ذلك ( وإما في الحروف (بتغير الصورة لا المعنى) نحو (بصطة وبسطة، والصراط والسراط)
5- أو بتغيرهما ( وإما في الحروف (بتغير الصورة و المعنى) نحو (أشد منكم ومنهم، ويأتل ويتأل، و فامضوا إلى ذكر الله)
6- وأما في التقديم والتأخير نحو (فيقتلون ويقتلون، وجاءت سكرت الحق بالموت) .
7- أو في الزيادة والنقصان نحو (وأوصى ووصى، والذكر والأنثى)
فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، وأما نحو اختلاف الإظهار، الإدغام، والروم، والاشمام، والتفخيم، والترقيق،والمد، والقصر، والإمالة، والفتح، والتحقيق، والتسهيل، والإبدال، والنقل مما يعبر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظاً واحداً ولئن فُرض فيكون من الوجه الأول.
ثم رأيت الإمام الكبير أبا الفضل الرازي(371 - 454 هـ ) حاول ما ذكرته فقال إن الكلام لا يخرج اختلافه عن سبعة أوجه :
(الأول) اختلاف الأسماء من الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث والمبالغة وغيرها ..مِثالُه : {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} قرئ هكذا: {لِأَمَانَاتِهِمْ} جمعا وقرئ {لأِمَانَتِهِم} بالإفراد
(الثاني) اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضي والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به .. ومِثالُه : {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ هكذا بنصب لفظ {رَبَّنَا} على أنه منادى وبلفظ {بَاعِدْ} فعل أمر وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء وقرئ هكذا: {رَبَّنَا بَاعِدْ} برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعد فعلا ماضيا مضعف العين جملته خبر.
(الثالث) وجوه الإعراب ... مِثالُه : {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قرئ بفتح الراء وضمها فالفتح على أن لا ناهية فالفعل مجزوم بعدها والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أن لا نافية فالفعل مرفوع بعدها.
(الرابع) الزيادة والنقص ...مِثالُه : وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضا والذكر والأنثى بنقص كلمة ما خلق.
(الخامس) التقديم والتأخير ... {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.
(السادس) القلب والإبدال في كلمة بأخرى وفي حرف بآخر ... مِثالُه : {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي وقرئ {نُنْشِزُهَا} بالراء وكذلك قوله سبحانه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} بالحاء وقرئ وطلع بالعين.
(السابع) اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك ... {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} تقرأ بالفتح والإمالة في أتى ولفظ موسى .
(الثاني) اختلاف تصريف الأفعال وما يسند إليه من نحو الماضي والمضارع والأمر والإسناد إلى المذكر والمؤنث والمتكلم والمخاطب والفاعل والمفعول به .. ومِثالُه : {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} قرئ هكذا بنصب لفظ {رَبَّنَا} على أنه منادى وبلفظ {بَاعِدْ} فعل أمر وبعبارة أنسب بالمقام فعل دعاء وقرئ هكذا: {رَبَّنَا بَاعِدْ} برفع رب على أنه مبتدأ وبلفظ بعد فعلا ماضيا مضعف العين جملته خبر.
(الثالث) وجوه الإعراب ... مِثالُه : {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قرئ بفتح الراء وضمها فالفتح على أن لا ناهية فالفعل مجزوم بعدها والفتحة الملحوظة في الراء هي فتحة إدغام المثلين. أما الضم فعلى أن لا نافية فالفعل مرفوع بعدها.
(الرابع) الزيادة والنقص ...مِثالُه : وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} قرئ بهذا اللفظ. وقرئ أيضا والذكر والأنثى بنقص كلمة ما خلق.
(الخامس) التقديم والتأخير ... {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} وقرئ: وجاءت سكرة الحق بالموت.
(السادس) القلب والإبدال في كلمة بأخرى وفي حرف بآخر ... مِثالُه : {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} بالزاي وقرئ {نُنْشِزُهَا} بالراء وكذلك قوله سبحانه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} بالحاء وقرئ وطلع بالعين.
(السابع) اختلاف اللغات من فتح وإمالة وترقيق وتفخيم وتحقيق وتسهيل وإدغام وإظهار ونحو ذلك ... {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} تقرأ بالفتح والإمالة في أتى ولفظ موسى .
ثم وقفت على كلام ابن قتيبة(213 - 276 هـ) وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر فقال :
وقد تدبرت وجوه الاختلاف في القراءات فوجدتها سبعة :
(الأول) في الإعراب بما لا يزيل صورتها في الخط ولا يغير معناها نحو (هؤلاء بناتي هن أطهرُ لكم. وأطهرَ وهل يجازَى إلا الكفورُ، ونجازِي إلا الكفورَ، والبخل والبخل وميَسرة وميُسرة) .
(والثاني) الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو (ربنا باعِد، وربُّنا باعد، وإذ تلقونه، وتلقونه، وبعد أمة وبعد أمه)
(والثالث) الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو (وانظر إلى العظام كيف ننشرها وننشزها، وإذا فزع عن قلوبهم وفزَّع)
(والرابع) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها ومعناها نحو (طلع نضيد) في موضع (وطلح منضود) في آخر .
(والخامس) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو (إلا ذقية واحدة وصيحة واحدة، وكالعهن المنفوش وكالصوف)
(والسادس) أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو: (وجاءت سكرة الحق بالموت، في: سكرة الموت بالحق) .
(والسابع) أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو (وما عملت أيديهم وعملته، وإن الله هو الغني الحميد، وهذا أخي له تسع تسعون نعجة أنثى) .
ثم قال ابن قتيبة : وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .
(والثاني) الاختلاف في إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغير معناها ولا يزيلها عن صورتها نحو (ربنا باعِد، وربُّنا باعد، وإذ تلقونه، وتلقونه، وبعد أمة وبعد أمه)
(والثالث) الاختلاف في حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها ولا يزيل صورتها نحو (وانظر إلى العظام كيف ننشرها وننشزها، وإذا فزع عن قلوبهم وفزَّع)
(والرابع) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها ومعناها نحو (طلع نضيد) في موضع (وطلح منضود) في آخر .
(والخامس) أن يكون الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتاب ولا يغير معناها نحو (إلا ذقية واحدة وصيحة واحدة، وكالعهن المنفوش وكالصوف)
(والسادس) أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو: (وجاءت سكرة الحق بالموت، في: سكرة الموت بالحق) .
(والسابع) أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان نحو (وما عملت أيديهم وعملته، وإن الله هو الغني الحميد، وهذا أخي له تسع تسعون نعجة أنثى) .
ثم قال ابن قتيبة : وكل هذه الحروف كلام الله تعالى نزل به الروح الأمين على رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى .
9- والاحرف السبعة ليست هي القراءات السبعة:
أن العلماء اتفقوا على أن ليس المراد بهذه الأحرف السبعة هؤلاء القراء السبعة المشتهرين، التي اعتمدها ابن مجاهد (ت 324 هـ) وجمعها وهي قراءات سبع لقراء سبعة، لانهم لم يكونوا قد ولدوا وقت أن قال النبى صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف " ولصحة قراءات غيرهم من القراء الثلاثة المكملين للعشرة. وهذا قول واه لا يقع فيه أحد من أهل العلم، وانما قد ينتشر بين العامة، وسببه اتحاد العدد بين الأحرف السبعة والقراءات السبعة والواقع أن الأحرف السبعة أعم من القراءات السبع لأنها تشملها وتشمل غيرها، وممن ينسب إليهم هذا القول الخليل بن أحمد الفراهيدى (ت 170 هـ)، يقول الدكتور محمد الحبش: " وأحب هنا أن أوضح رأي العلامة الجليل الخليل بن أحمد الفراهيدى، فهو بلا ريب إمام العربية وحجة النحاة، ولاشك أن انفراده بالرأى هنا لم ينتج من قلة إحاطة أو تدبر، ومثله لا يقول الرأى بلا استبصار، وانفراد مثله برأي لا يلزم منه وصف الرأي بالشذوذ أو الوهن. وغير غائب عن البال أن الخليل بن أحمد الفراهيدى الذي توفي عام 170 هـ لم يدرك عصر تسبيع القراءات، حيث لم تشتهر عبارة القراءات السبع إلا أيام ابن مجاهد، وهو الذي توفي عام 324 هـ.. ولم يكن الخليل بن أحمد يعني بالطبع هذه القراءات السبع التي تظاهر العلماء على اعتمادها وإقرارها بدءاً من القرن الرابع الهجري، ولكنه كان يريد أن ثمة سبع قراءات قرأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وتلقاها عنه أصحابه، ومن بعدهم أئمة السلف، وهي تنتمي إلى أمهات قواعدية لم يتيسر من يجمعها بعد ـ أي في زمن الخليل ـ وأنها لدى جمعها وضبطها ترتد إلى سبعة مناهج، وفق حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف " وهذا الفهم لرأي الخليل هو اللائق بمكانته ومنزلته العلمية، وهو المتصور في ثقافته ومعارفه زماناً ومكاناً، وبه تدرك أنه لم يكن يجهل أن عصر الأئمة متأخر عن عصر التنزيل وهو أمر لا يجهله أحد."
10- الاحرف السبعة توقيفية:
1- (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)
2- ضرورة وجوب تلقيها بالمشافهة والتلقين
3- أنها توقيفية بالوحي لا مدخل فيها لبشر، هكذا أنزلت، هكذا أقرأني جبريل، وفي حديث أبو جهيم " تلقيتها من رسول الله"، أنزل القرآن على سبعة أحرف.
11- علاقة الأحرف بالقراءات:
اختلف العلماء في علاقة الأحرف السبعة بالقراءات المتواترة والشاذة على أقوال:
الأول: إن القراءات السبع والثلاث المكملة للعشر وغيرها من القراءات الثابتة، كلها ليست إلا حرفا واحدا من الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن، ذهب إليه: ابن جرير الطبري وابن عبد البر وابي شامة وابن تيمية ونسبه القاضي عياض إلى أئمة السلف والعلماء.
الثاني: إن القراءات الثابتة سواء في ذلك العشر وغيرها هي بمجموعها الأحرف السبعة التي أنزل عليها القرآن، بل يرى بعضهم أن الأحرف السبعة مستمرة النقل بالتواتر. ذهب إليه: طوائف من أهل الكلام والقراء. ودليلهم: أن الصحابة ومن بعدهم ما كانوا ليدعوا وحيا أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم , وأنهم لو فعلوا ذلك لكانوا مخطئين , كيف وهم معصومين من الإجماع على ذلك. ويجاب عليهم:
- بأن عثمان رضي الله عنها وضع حد للاختلاف في القرآن بكتابة مصحفه, فمن المحتمل أن يكون ذلك قد أدى إلى ترك بعض ما يقرأ به في الأحرف السبعة مما لم يكن يحتمل خط المصحف القراءة به.
- أنهم لم يؤمروا باستيعاب جميع الأحرف في تلاوتهم, فاختاروا فيما خيروا فيه ما يؤدي جمع الشمل ورأب الصدع والقضاء على الفتنة. (الأحرف السبعة ومنزلة القراءات منها، ص354-355)
ويميل جمهور العلماء إلى أن المصاحف العثمانية اشتملت على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة. قال مكي رحمه الله: "إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن". (الإبانة عن معاني القراءات (ص: 32)) وقال أبو حيان رحمه الله: " أن هذه القراءة الآن غير خارجة عن الأحرف السبعة". (البرهان في علوم القرآن (1/ 226))
.
وأما التفصيل في ذلك بالأدلة فسيأتي في القراءات بعد الانتهاء من محاضرات التدوين وجمع القرآن الكريم.
الخلاصة:
- أن الأحرف السبعة المنزلة من الله تعالى هي مصدر القراءات المقطوع بصحتها، لا مصدر لها سواها .
- أن معنى الأحرف السبعة معلوم لعلماء الأمة ولا خلاف بينهم في هذا.
- أن الخلاف بين العلماء قائم في توجيه المقصود من الاوجه السبعة واختلاف القراءات.
- أن القراءات المقطوع بصحتها هي من الأحرف السبعة. وبالجملة فالحكم الاجتهادي العام أن القراءات المقطوع بصحتها جميعا أخص من الأحرف، والأحرف أعم منها، والنسبة بين الحرف والقراءات هي العموم والخصوص المطلق. (الأحرف السبعة و منزلة القراءات منها(ص:358))
والحمدلله رب العالمين.