أولا: الأحرف السبعة
1- معنى الحرف:
أي في اللغة والاصطلاح وسياق الكلام:
* والحرف في الأصل، هو الطرف و الجانب والناحية، كحرف السيف والجبل والنهر أي جانبه، وحرف الشيء أي طرفه وحده وناحيته، والجمع أحرف و حروف، ويقال فلان على حرف من أمره، أي على ناحية منه كأنه ينتظر ويتوقع، فإن رأى من ناحية ما يحب وإلا مال إلى غيرها.
* وقد ورد لفظ (حرف) مرة واحدة في القرآن في آية: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" الحج:۱۱ ، أي إذا لم ير ما يحب انقلب على وجهه، قيل هو أن يعبد الله على ناحية وطريقة واحدة كأن يعبده في السراء دون الضراء، فإن أصابته فتنة أي اختبار أنقلب على وجهه، أي رجع عن دينه.
* والحرف في اللغة، هو واحد حروف التهجي، كحرف الألف والباء والجيم وحروف المعجم كلها تذكر وتؤنث. وقد ورد لفط (حرف) في الحديث الشريف في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (صحيح أخرجه الترمذلي والحاكم في المستدرك انظر صحيح الجامع (414)۔). والحروف من حيث الخط رسوم لها أشكال وهيئات، وكل حرف منها له صورة في الخط يعرف بها اصطلاحا متفقا عليه لا تتغير تلك الصورة في المرسم إلا الهمزة فلها صور مختلفة، والحروف من حيث اللفظ لها أصوات محمولة في الهواء مدركة بطريق الأذنين بالقوة والسماع
* والحرف في العربية، هو الأداة التي تسمى الرابطة لأنها تربط الأسم بالاسم والفعل بالفعل كإلى وعلى وفي و غيرها.
* وحرف عن الشيء، أي عدل عنه إلى غيره، وفي الآية: " والا متحرفا لقتال" بالأنفال، أي لضرورة القتال والموقف عدل عن أسلوب إلى آخر، كالخداع والاستدراج، والقر يعقبه الكر، ونحو ذلك.
* وتحريف الشيء، أي تغييره، وتحريف الكلم عن مواضعه أي تغيير الكلمة عن معناها وتغيير الحرف عن معناه، كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشياء ونقل صاحب معجم لسان العرب، عن أبي هريرة قوله: (آمنت بحرف القلوب) أي مقلبها ومحركها ومغيرها، وهو الله تعالى وفي الآية : " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" بالأنعام، وفي الآية: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " بالرعد .
* والحرف في الكلمة، طرف لأولها وطرف الآخرها، وطرف كل شيء حرفه من أوله ومن آخره، والكلام جيء به لتفهم المعاني التي في نفس المتكلم، وهذا الكلام الذي جيء به للإفهام مبني من الحروف، وهي
* و كل كلام يقرا على الوجه من القرآن يسمى حرفا، كمن يقول هذا في حرف ابن مسعود، أي في قراءة ابن مسعود، وأما في الحديث (إن القرآن نزل على سبعة أحرف) فليس المراد أن يكون في الحرف الواحد منه سبعة أوجه، بل في بعض الكلمات منه وجه واحد وفي البعض وجهان، إلى ... وفي البعض سبعة أوجه نحو مالك يوم الدين . و جبرئیل و میکائيل وكذا المعاني المتعددة السارية في أي قراءة ورواية، كما سيأتي.
2- بيان نزول القرآن على سبعة أحرُف ..
1- قال رسول الله صلى الله عليْهِ وسلم: " أنزل القرآن على سبعه أحرف" وهو متفق عليه، وهذا لفظ البخارى. وفى لفظ مسلم عن أبيّ أن النبى صلى الله عليْهِ وسلم كان عند أضاه بنى غفار، فأتاه جبريل -عليه السلام - فقال :" إن الله يأمرك أن تُقرىء أمتك القرآن على حرف، فقال : أسأل الله معافاته ومعونته، وان أمتى لاتُطيق ذلك، ثم أتاه الثانيه على حرفين , فقال له مثل ذلك , ثم أتاه التالتة متل ذلك , فقال له مثل ذلك, ثم أتاه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرىء امتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا"
2- روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حروف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام. وأخرج ابن جرير الطبري عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة". وفي الحديث عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال: " نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ"، وقال أيضا: " إني سمعت إلى القرأة فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما عُلِّمتم واياكم والتنطع، فإنما هو كقول احدكم هلم وتعال"، فهو هنا يُبين ان القراءات تتفق في المعاني وتترادف لا تتضاد. وأبين ما ذُكر في ذلك حديث حديث ابي بكرة قال: جاء جبريل الى رسول الله فقال اقرأ على حرف، فقال ميكال استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأ فكل كافٍ شاف، إلا ان تخلط آية رحمة بأية عذاب، او آية عذاب بأية رحمة، نحو هلم وتعال واقبل، واذهب وأسرع وعجل".
3- وروى الترمذي عن أبي بن كعب أيضا قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المروة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام". قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ: فمن قرأ بحرف منها فهو كما قرأ وفي لفظ حذيفة : "يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط" قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف". وقد جاء في الرواية الذي ذكرها النيسابوري في تفسيره: "انه قد وسع لي ان اقرىء كل قوم بلغتهم" وجاء فيما رواه الطبري باسناده إلى ابي العالية وهو تابعي فحديثه مرسل، قال: "قرأ على النبي من كل خمس رجلًا، فاختلفوا في اللغة، فرضي قراءاتهم كلهم، فكان بنوا تميم أعرب القوم". وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري: "وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم ففعلوا , حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا" فنفهم ان نصه ولفظه ولغته بلسان قريش، ولكن وسع رسول الله أن يقرأ كل قوم بلغته.
4- وروى البخاري ومسلم أيضا واللفظ للبخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم ثم لببته بردائه أو بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر": اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه". و روى الطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد بن ثابت وأقرأنيها أبي بن كعب فاختلفت قراءتهم فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي إلى جنبه فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل.
5- و روى الحاكم وابن حبان بسندهما عن ابن مسعود قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: أقرأها. فإذا هو يقرؤها حروفا ما أقرؤها. فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فتغير وجهه وقال: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف" ثم أسر إلى عليٍّ شيئا. فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال: فانطلقنا وكل رجل يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه اهـ.
ملاحظة: سور : ((الحواميم، الحاميم، ذوات حم، آل حم)) : هي سبع سور متتاليات في القرآن هي: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف، ونزلت متسلسلة بمكة (مكيّة). سبب التسمية ان جميعها تبدأ بـ (حم).
وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود أيضا أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها. قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلاكما محسن فاقرأ" قال شعبة أحد رواة هذا الحديث: أكبر علمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكوا". و أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا". اهـ. أي فلا تشكوا ولا تجادلوا.
6- وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب (سورة النحل)، قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي: "يا أُبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه: أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي. وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم". اهـ.
ونرى كيف ان الصحابة استغربوا هذا الأمر من تعدد وجوه القراءة في بدايته، واشتد تحرجهم وتأثمهم، حتتى علموا مصدرها وانها بتعليم من النبي وانها من عند الله، فأذعنوا لها وانتفعوا بها علما وعملا. ومعنى قول أبي بن كعب رضي الله عنه فسقط في نفسي من التكذيب الخ أن الشيطان ألقى إليه من وساوس التكذيب ما شوش عليه حاله حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن القراءتين وصوبهما على ما بينهما من اختلاف وكانتا في سورة واحدة هي سورة النحل على ما رواه الطبري. وكأن الذي مر بخاطره وقتئذ أن هذا الاختلاف في القراءة ينافي أنه من عند الله. لكن هذه الوساوس قد دفعها بإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا كما في الحديث الشريف فانتهت وتلاشت ولا يكون لها أثر باق ولا عمل دائم، فكان هذا الخاطر يشير إلى ما سقط في نفس أبي من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان". رواه مسلم اهـ.
أضف إلى ما ذكرنا أن خصومة أبي بن كعب في أمر إختلاف القراءة على هذا النحو إنما كانت من قبل أن يعلم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فهو وقتئذ كان معذورا بدليل أنه لما علم بذلك وأطمأنت إليه نفسه عمل بما علم وكان مرجعا مهما من مراجع القرآن على اختلاف رواياته وكان من رواة هذا العلم للناس كما تلاحظه في الحديثين المسندين إليه. فهم أنكروا قبل التعلم ثم حذروا من الانكار بعد التعلم كما جاء في الحديث عن ابن مسعود: " فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه. فإنه من جحد بحرف منه فقد جحده كله"، وفي كلا الحالين كان قائدهم هو الحرص الشديد علىص يانة القرآن الكريم، فلا تدخل فيه قراءة غير مروية، ولا يُكفر بقراءة علموها في جملتهم انها من عند الله كما سُمِعت.
وهذه الاحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، رواها أربعٌ وعشرون صحابياً ونص على تواتره الإمام الكبير أبوعبيد القاسم بن سلام، فهو قطعي الثبوت لتواتره، لا مطعن ولا شك فيه، وقد رواه عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وعبدالرحمن بن عوف وأبي بن كعب وابن مسعود و معاذ بن جبل وأبوهريرة وابن عباس وأبوسعيد الخدري وحذيفة بن اليمان وابو بكرة وعمرو بن العاص و زيد بن أرقم و أنس بن مالك وسمرة بن جندب وعمر بن أبى سلمة وأبو جهيم وأبو طلحة الأنصارى وأم أيوب الأنصارية، وسليمان بن صرد، وابن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبادة بن الصامت، وروى أبو يعلى الموصلى أن عثمان قال يوما على المنبر: أذكر بأن رجلا سمع النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن القرآن نزل . . ."الحديث، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أنه قاله، فقال عثمان : وأنا أشهد معكم .
2- الحِكم والاصول المستفادة من احاديث الأحرف السبعة:
1- الأصل الأول: أن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة هي التخفيف والتيسير على الأمة:
كما قال: " هوت على أمتي"، وثال: " وُسِّع لي" وفيما روى الترمذي عن أبي بن كعب قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المروة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام". قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" قال الترمذي: حسن صحيح.
كالتخفيف من جهلة اللغة واللهجة:خصوصا الأمة العربية لأنها هي التي شوفهت بالقرآن على اختلاف قبائلها وكثرتهم، ونعلم أن رسيول الله قد أرسِل للناس كافة و لِكُل العرب, ولم يكُن بِعثتُهُ لِقُريْش وحدها، ولِذا فقد كانت لُغَة العرب الذين نزل القرآن بِها تُخاطِبُ قبائل كثيرة وكان بين هذه القبائِلِ اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات على رغم أنها كانت تجمعها العروبة ويوحد بينها اللسان العربي العام. فلو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد في مبتدأ تنزيله، لشق ذلك عليها كما يشق على القاهري منا أن يتكلم بلهجة الأسيوطي مثلا وإن جمع بيننا اللسان المصري العام وألفت بيننا الوطنية المصرية في القطر الواحد. وهكذا كان الحال مُعسِر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها انتقالا فوريا دون تدرج، بل صعب الانتقال من حرْف الى آخر ولو بالتعليم والعلاج.
وقد جاء في الرواية الذي ذكرها النيسابوري في تفسيره: "انه قد وسع لي ان اقرىء كل قوم بلغتهم" قال ابن قتيبة: " من تيسير الله تعالى أن امر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يُقرى كل أمه بلغتهم ...
- فالهذلى يقرأ: "عتى حين "(المؤمنون :25 ).
- والأسدى " تـِعْلمون " , وتِعْلم وألم أعهِد (يس: 60)
- والتميمى يُهمِز.
- والقُرشى لا يُهمِز.
- والآخر يقرأ "قيل لهم " (البقرة :11)، "وغيض الماء" (هود: 44) بِاشمام الكسر .. و "مالك لاتأمنا" (يوسف : 11) باشمام الضم .
وتظهر أهمية هذا التخفيف: أنه ولو استطاع الشاب و المُتعلِّم مِنهم أن يُجيد لِسان قُريْش، فماذا عن الشيخ والمرأة ومن لم يقرا كِتاباً قط وعسُر عليِهِم أمرُهُم بالتِزام حرْف و وجِه واحِد ؟!! .. فلو كلفوا العدول عن لغتهم والإنتقال عن ألسنتهم لكان هذا مِن التكليف بما لا يُستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع ؟!!..
أما التخفيف في اسماء الله الحسنى بعضها بدل بعض في الموضوع الواحد: "سميعا عليما"و " عزيزا حكيما"، وهذا ليس من باب اختلاف اللغات ولا من باب الدخول في الاحرف السبعة، وانما هو تيسير للامة من نوع آخر في بادىء الأمر، من باب الاختلاف في التدبر او العلم او الثقاقات، وقد جُردت المصاحف العثمانية من هذا التيسير والاختلاف، ولم تنقل او تروى في الروايات والقراءات ، فدل على ان الظاهر انه في حقيقته لا يدخل ضمن الاحرف السبعة كما ذهب الى ذلك الباقلاني. ولم يثبت قط اي رواية بهذا، وبالتالي يُفهم ان المراد في تصحيح من يقرأ ان لا يقال اخطأت لانها كلها صفات صحيحة عن الله، وإنما يرشده الى الصواب فيقول هي كذا دون التخطيء والاختلاف، وقد جاء في الرواية عن ابن مسعود " ليس الخطأ ان يقول عليم حكيم او غفور رحيم، وانما الخطأ أ، يجعل فيه ما ليس منه كأن يختم آية رحمة بآية عذاب" فكان ابن مسعود هنا لا يتحدث عن الاحرف السبعة وانما عن منهح التخطيء في ارشاد القراء، ثم نرده إلى ما نعلمه وثبت وصح. قال البيهقي: أما الأخبار التي وردت في إجازة قراءة «غفور رحيم» بدل «عليم حكيم»، فلأن جميع ذلك مما نزل به الوحي، فإذا قرأ ذلك في غير موضعه فكأنه قرأ آية من سورة، وآية من سورة أخرى، فلا يأثم بقراءتها كذلك ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، ولا آية رحمة بآية عذاب."
وأما قول عائشة رضي الله عنها " كنا نقرأ في الحرف الاول حافظوا على الصوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فهذا وإن سمي حرف وقراءة وكانت من قبيل التخفيف، فهي ليست داخلة كذلك من باب اختلاف اللغات، وإن كانت داخلة في الاحرف السبعة وتحديدا من الحرف الاول، وقد امكن للمصاحف العثمانية ان تمنع هذا، بالالتزام بتجريد المصاحف فلا يُكتب فيها إلا القرآن، والالتزام بما ألزم به رسول الله أمته في العرضة الاخيرة، وبما كتبه كتبة الوحي، ونقله أبا بكر في الصحف، ونقله عثمان وصحابة رسول الله من الصحف إلى المصاحف، بل مجمع على ان دخول اي من هذا في القرآن كفر. فهذا القراءات اليوم ولو كان جزءا منها من الوحي، إلا انه من التفسير لا انه قرآنا، وكان كل يكتب في مصحفه ما يشاء من قرآن وتفسير سمعه من النبي، أما القرآنية فلا تثبت القرآنية إلا بالتواتر، ولذا اصطُلِح على تسميته بالقراءات التفسيرية، والقراءات التفسيرية تشمل كل ما كان وحيا كما يظهر في هذا المثال بنص السيدة عائشة رضي الله عنها على انه كان مما يقرأ في الحرف الاول، و غيره مما كان تفسيرا ولم يثبُت انه قراءة، وكان الخلط في هذا واقع وكثير كما في الرواية عن ابن الزبير كما جاء في تفسير القرطبي: " وقرأ ابن الزبير : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " . قال أبو بكر الأنباري : وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن ; يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال : سمعت عثمان بن عفان يقرأ " ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " . فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن ; إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين ، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا ". والمصاحف كانت قبل الجمع العثماني لا تحوي القران الكريم وحده، بل كانت تحوي معه التفسير وغير ذلك، ولما كثُر الخلط، أمروا بتجريد المصاحف، وما يؤكد انه ما كان هناك خلاف على كتابة التفسير في المصاحف، فإن الصحابة لم يفهموا قول عائشة وحفصة على أنه قرآن، ولا استغربوا ان تكتبه في المصحف، كما جاء في الرواية عن أبي سلمة قال : أخبرني عمرو بن نافع ، مولى عمر بن الخطاب قال : « مكتوب في مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) ، فلقيت أبي بن كعب ، أو زيد بن ثابت ، فقلت : يا أبا المنذر ، قالت كذا وكذا ، فقال : هو كما قالت ، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا".ولمزيد من التفصيل يُرجى الاطلاع على الفارق بين معنى " المصحف قبل الجمع العثماني وبعده"
2- وأن هذا كان إجابة لمقصد نبيها صلى الله عليه وسلم ..
فجاء في الحديث: " ان ربى أرسل إليّ أن اقرءوا القرآن على حرف , فرددت عليه أن هوَّن على أمتى . ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف ". و روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا ا هـ.
3- والتيسير هذا لا يكون برأي الصحابي بل بالوحي بتنزيل الله:
كما يُفهم من قول : "أنزِل القرآن على سبعة أحرف"، وفي أمر الله لنبيه: " أقرأ القرآن على سبعة أحرف"، وفي الحديث في قراءة عمر وهشام، في سورة الفرقان، حيث قال رسول الله: " اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، وفي رواية " هكذا أقرأني جبريل". ولذا فلا يُقبل قراءة برأي الصحابي ومن دونهم وبهذا القيد.
4- وأنها يجب ان تكون بتعليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
ويُفهم هذا من قول الصحابي: "أقرأني رسول الله"، و " اقرأنيها رسول الله".
5- وانها - على اختلافها- صارت متعالمة بين الصحابة يقرؤونها بالتعليم كما عُلموها:
كما تعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم، وكما تعلمها بعضهم من بعض، فيقول ابن مسعود رضي الله عنه: " فاقرأوا كما علمتم"، ويقول جبريل عليه السلام: " فمن قرأ منهم فليقرأ كما عُلِّم". وقال علي رضي الله عنه: " فليقرأ كل انسان منكم كما عُلِّم"، فصار على هذا الصحابة فتعلم ابوهريرة وابن عباس القرآن على أُبَيّ وعلى زيد، فقرأوا كما عُلِّموا.
6- وأن النبي صلى الله عليه وسلم وزع الاحرف على الصحابة:
ولم يمنعهم أن يقرأ الواحد بأكثر من قراءة او حرف، طالما استزاد وعُلِّمها.
7- وأن الحرف الأسبق من غيره هو لسان النبي:
وهو لسان قريش، وله الصدارة، والسبق، ويُفهم ان الاحرف تأخرت نزولها فنزلت فيما بعد نزوله بالحرف الاول، ويدُل على ذلك من حديث عائشة قولها: " كنا نقرأ في الحرف الأول"، وكذلك يُستفاد من ظهور الخلاف حين ظهر في المدينة بين الصحابة، ولم يظهر خلاف الاحرف الا في المدينة، فلم يكن ظاهرا في مكة، ولم يسمعها عمر الا في المدينة بعد الهجرة حين اختلف مع هشام، وكذلك حدو الخلاف في المسجد ولم يكن في مكة مسجد، وكذا قول عثمان: " فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم".
8- وان النبي أجاز قراءة القرآن كله على حرف واحد:
بدليل السبق في النزول باللسان القرشي الذي ذكرناه حين كان في مكة ولم يكن معه غيره، ويدل عليه قول رسول الله " فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا"، وقوله: " وكل شاف كاف" وقوله: " اقرأ على حرف"
9- وان جحود ما ثبت وصح منها مراء وكفر:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن القرآن انزل على سبعة أحرف، مراء في القرآن كفر، وكررها ثلاثا".
10- والحرف من السبعة قد يسمى كل موضع فيه حرف وهو في نفس السورة وفي مواضع عديدة من نفس الحرف:
يعني استخدامك لكلمة حرف قد يراد به الجمع " الاحرف السبعة"، وقد يراد بها قراءة موضع واحد فقط مثل قول عمر : " فإذا هو -يعني هشاما- يقرؤها -أي سورة الفرقان- على حروف كثيرة" مع ان كل هذه الحروف التي قرأ بها هشام في سورة الفرقان هي من حرف واحد من الاحرف السبعة. وهو بهذا المعنى إذا اضيفت الحروف بالجمع لفلان بعينه، فإنها تعني مواضع القراءات مثل حروف زيد، وحروف نافع، واذا اضيف بالمفرد الى قارىء واحد، فهو بمعنى القراءة مثل قولنا " حرف زيد" أو " حرف عمر" أي قراءة زيد وقراءة عمر. فهنا نعهد اطلاق الحروف والقراءة على قراءة الشخص الواحد، من بين افراد كثيرين، وكما يُطلق الحرف والقراءة على الحرف الواحد من الاحرف السبعة.
11- ولا غضاضة في ان يترادف لفظ الحرف والقراءة:
فقد جمع عثمان الناس على حرف واحد، فيراد به على قراءة واحدة، ومثل قولك حرف زيد اي قراءة زيد، وكانك تقول حرف زيد يتكون من حروف متعددة، ونقول في قراءة زيد او في حرف زيد جاء التابوه بالهاء وليس بالتاء. والوجه يُسمى قراءة وحرفا، وهذا لا يعني ان المصحف العثماني لا يسع الا حرفا واحدا من الاحرف السبعة، بل هو متضمن لما يحتمله الرسم من الاحرف السبعة.
12-والاحرف والقراءات تعني اللغات:
كما جاء في قول ابن عباس: "نزل القرآن على سبع لغات"، فيجوز ان تقول القراءات واللغات والأحرف.
13-وأن الاحرف تصح في الشيء الواحد ولا تتناقض او تتضارب:
فلا تختلف في حلال او حرام كما في قولنا هلم وتعالى واقبل.
14- وأن هذه القراءات والاحرف صارت متعلمة متقنة بين التابعين من الصحابة:
وقد قال ابن مسعود" إني استمعت الى القرأة فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما علمتم واياكم والتنطع". ونجد مصحف ابن مسعود ينتشر ويحفظ ويُتعلم في الكوفة، ومصحف ابي موسى الاشعري في البصرة، ومصحف المقداد في حمص، وهكذا.
15- وأن الحروف ضبطت في المصاحف على لسان قريش:
ونحن نتكلم في حدود ما يضبط لان هناك ما لا يمكن ضبطه الا بالمشافهة كالترقيق والتفخيم والاشمام
أي في اللغة والاصطلاح وسياق الكلام:
* والحرف في الأصل، هو الطرف و الجانب والناحية، كحرف السيف والجبل والنهر أي جانبه، وحرف الشيء أي طرفه وحده وناحيته، والجمع أحرف و حروف، ويقال فلان على حرف من أمره، أي على ناحية منه كأنه ينتظر ويتوقع، فإن رأى من ناحية ما يحب وإلا مال إلى غيرها.
* وقد ورد لفظ (حرف) مرة واحدة في القرآن في آية: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ" الحج:۱۱ ، أي إذا لم ير ما يحب انقلب على وجهه، قيل هو أن يعبد الله على ناحية وطريقة واحدة كأن يعبده في السراء دون الضراء، فإن أصابته فتنة أي اختبار أنقلب على وجهه، أي رجع عن دينه.
* والحرف في اللغة، هو واحد حروف التهجي، كحرف الألف والباء والجيم وحروف المعجم كلها تذكر وتؤنث. وقد ورد لفط (حرف) في الحديث الشريف في مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنه، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف" (صحيح أخرجه الترمذلي والحاكم في المستدرك انظر صحيح الجامع (414)۔). والحروف من حيث الخط رسوم لها أشكال وهيئات، وكل حرف منها له صورة في الخط يعرف بها اصطلاحا متفقا عليه لا تتغير تلك الصورة في المرسم إلا الهمزة فلها صور مختلفة، والحروف من حيث اللفظ لها أصوات محمولة في الهواء مدركة بطريق الأذنين بالقوة والسماع
* والحرف في العربية، هو الأداة التي تسمى الرابطة لأنها تربط الأسم بالاسم والفعل بالفعل كإلى وعلى وفي و غيرها.
* وحرف عن الشيء، أي عدل عنه إلى غيره، وفي الآية: " والا متحرفا لقتال" بالأنفال، أي لضرورة القتال والموقف عدل عن أسلوب إلى آخر، كالخداع والاستدراج، والقر يعقبه الكر، ونحو ذلك.
* وتحريف الشيء، أي تغييره، وتحريف الكلم عن مواضعه أي تغيير الكلمة عن معناها وتغيير الحرف عن معناه، كما كانت اليهود تغير معاني التوراة بالأشياء ونقل صاحب معجم لسان العرب، عن أبي هريرة قوله: (آمنت بحرف القلوب) أي مقلبها ومحركها ومغيرها، وهو الله تعالى وفي الآية : " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" بالأنعام، وفي الآية: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " بالرعد .
* والحرف في الكلمة، طرف لأولها وطرف الآخرها، وطرف كل شيء حرفه من أوله ومن آخره، والكلام جيء به لتفهم المعاني التي في نفس المتكلم، وهذا الكلام الذي جيء به للإفهام مبني من الحروف، وهي
* و كل كلام يقرا على الوجه من القرآن يسمى حرفا، كمن يقول هذا في حرف ابن مسعود، أي في قراءة ابن مسعود، وأما في الحديث (إن القرآن نزل على سبعة أحرف) فليس المراد أن يكون في الحرف الواحد منه سبعة أوجه، بل في بعض الكلمات منه وجه واحد وفي البعض وجهان، إلى ... وفي البعض سبعة أوجه نحو مالك يوم الدين . و جبرئیل و میکائيل وكذا المعاني المتعددة السارية في أي قراءة ورواية، كما سيأتي.
2- بيان نزول القرآن على سبعة أحرُف ..
1- قال رسول الله صلى الله عليْهِ وسلم: " أنزل القرآن على سبعه أحرف" وهو متفق عليه، وهذا لفظ البخارى. وفى لفظ مسلم عن أبيّ أن النبى صلى الله عليْهِ وسلم كان عند أضاه بنى غفار، فأتاه جبريل -عليه السلام - فقال :" إن الله يأمرك أن تُقرىء أمتك القرآن على حرف، فقال : أسأل الله معافاته ومعونته، وان أمتى لاتُطيق ذلك، ثم أتاه الثانيه على حرفين , فقال له مثل ذلك , ثم أتاه التالتة متل ذلك , فقال له مثل ذلك, ثم أتاه الرابعة فقال : إن الله يأمرك أن تقرىء امتك القرآن على سبعة أحرف ، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا"
2- روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقرأني جبريل على حروف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف" زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام. وأخرج ابن جرير الطبري عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ولا حرج ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب ولا ذكر عذاب برحمة". وفي الحديث عن ابْنِ مَسْعُودٍ قال: " نَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ أَحَدِكُمْ: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَأَقْبِلْ"، وقال أيضا: " إني سمعت إلى القرأة فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما عُلِّمتم واياكم والتنطع، فإنما هو كقول احدكم هلم وتعال"، فهو هنا يُبين ان القراءات تتفق في المعاني وتترادف لا تتضاد. وأبين ما ذُكر في ذلك حديث حديث ابي بكرة قال: جاء جبريل الى رسول الله فقال اقرأ على حرف، فقال ميكال استزده، حتى بلغ سبعة أحرف، فقال: اقرأ فكل كافٍ شاف، إلا ان تخلط آية رحمة بأية عذاب، او آية عذاب بأية رحمة، نحو هلم وتعال واقبل، واذهب وأسرع وعجل".
3- وروى الترمذي عن أبي بن كعب أيضا قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المروة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام". قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" قال الترمذي: حسن صحيح. وفي لفظ: فمن قرأ بحرف منها فهو كما قرأ وفي لفظ حذيفة : "يا جبريل إني أرسلت إلى أمة أمية فيهم الرجل والمرأة والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابا قط" قال: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف". وقد جاء في الرواية الذي ذكرها النيسابوري في تفسيره: "انه قد وسع لي ان اقرىء كل قوم بلغتهم" وجاء فيما رواه الطبري باسناده إلى ابي العالية وهو تابعي فحديثه مرسل، قال: "قرأ على النبي من كل خمس رجلًا، فاختلفوا في اللغة، فرضي قراءاتهم كلهم، فكان بنوا تميم أعرب القوم". وجاء في الحديث الذي أخرجه البخاري: "وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم ففعلوا , حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا" فنفهم ان نصه ولفظه ولغته بلسان قريش، ولكن وسع رسول الله أن يقرأ كل قوم بلغته.
4- وروى البخاري ومسلم أيضا واللفظ للبخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: سمعت هشام ابن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكدت أساوره في الصلاة فانتظرته حتى سلم ثم لببته بردائه أو بردائي فقلت: من أقرأك هذه السورة؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت له: كذبت فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها وأنت أقرأتني سورة الفرقان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر": اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه". و روى الطبري والطبراني عن زيد بن أرقم قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أقرأني ابن مسعود سورة أقرأنيها زيد بن ثابت وأقرأنيها أبي بن كعب فاختلفت قراءتهم فبقراءة أيهم آخذ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي إلى جنبه فقال علي: ليقرأ كل إنسان منكم كما علم فإنه حسن جميل.
5- و روى الحاكم وابن حبان بسندهما عن ابن مسعود قال أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم فرحت إلى المسجد فقلت لرجل: أقرأها. فإذا هو يقرؤها حروفا ما أقرؤها. فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فتغير وجهه وقال: "إنما أهلك من قبلكم الاختلاف" ثم أسر إلى عليٍّ شيئا. فقال علي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما علم. قال: فانطلقنا وكل رجل يقرأ حروفا لا يقرؤها صاحبه اهـ.
ملاحظة: سور : ((الحواميم، الحاميم، ذوات حم، آل حم)) : هي سبع سور متتاليات في القرآن هي: غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، والأحقاف، ونزلت متسلسلة بمكة (مكيّة). سبب التسمية ان جميعها تبدأ بـ (حم).
وأخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود أيضا أنه سمع رجلا يقرأ آية سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها. قال: فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كلاكما محسن فاقرأ" قال شعبة أحد رواة هذا الحديث: أكبر علمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فإن من كان قبلكم اختلفوا فأهلكوا". و أخرج الإمام أحمد بسنده عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أن رجلا قرأ آية من القرآن فقال له عمرو: إنما هي كذا وكذا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فأي ذلك قرأتم أصبتم فلا تماروا". اهـ. أي فلا تشكوا ولا تجادلوا.
6- وروى مسلم بسنده عن أبي بن كعب (سورة النحل)، قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلي فقرأ قراءة أنكرتها عليه ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرآ فحسن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضت عرقا وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقا فقال لي: "يا أُبي أرسل إلي أن أقرأ القرآن على حرف فرددت إليه أن هون على أمتي فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين فرددت إليه: أن هون على أمتي فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف ولك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي. وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم". اهـ.
ونرى كيف ان الصحابة استغربوا هذا الأمر من تعدد وجوه القراءة في بدايته، واشتد تحرجهم وتأثمهم، حتتى علموا مصدرها وانها بتعليم من النبي وانها من عند الله، فأذعنوا لها وانتفعوا بها علما وعملا. ومعنى قول أبي بن كعب رضي الله عنه فسقط في نفسي من التكذيب الخ أن الشيطان ألقى إليه من وساوس التكذيب ما شوش عليه حاله حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد حسن القراءتين وصوبهما على ما بينهما من اختلاف وكانتا في سورة واحدة هي سورة النحل على ما رواه الطبري. وكأن الذي مر بخاطره وقتئذ أن هذا الاختلاف في القراءة ينافي أنه من عند الله. لكن هذه الوساوس قد دفعها بإرشاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا كما في الحديث الشريف فانتهت وتلاشت ولا يكون لها أثر باق ولا عمل دائم، فكان هذا الخاطر يشير إلى ما سقط في نفس أبي من قبيل ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم حين سألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به. قال: "أوقد وجدتموه؟ " قالوا: نعم. قال: "ذلك صريح الإيمان". رواه مسلم اهـ.
أضف إلى ما ذكرنا أن خصومة أبي بن كعب في أمر إختلاف القراءة على هذا النحو إنما كانت من قبل أن يعلم أن القرآن أنزل على سبعة أحرف فهو وقتئذ كان معذورا بدليل أنه لما علم بذلك وأطمأنت إليه نفسه عمل بما علم وكان مرجعا مهما من مراجع القرآن على اختلاف رواياته وكان من رواة هذا العلم للناس كما تلاحظه في الحديثين المسندين إليه. فهم أنكروا قبل التعلم ثم حذروا من الانكار بعد التعلم كما جاء في الحديث عن ابن مسعود: " فمن قرأ على قراءتي فلا يدعها رغبة عنها، ومن قرأ على شيء من هذه الحروف فلا يدعنه رغبة عنه. فإنه من جحد بحرف منه فقد جحده كله"، وفي كلا الحالين كان قائدهم هو الحرص الشديد علىص يانة القرآن الكريم، فلا تدخل فيه قراءة غير مروية، ولا يُكفر بقراءة علموها في جملتهم انها من عند الله كما سُمِعت.
وهذه الاحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم، رواها أربعٌ وعشرون صحابياً ونص على تواتره الإمام الكبير أبوعبيد القاسم بن سلام، فهو قطعي الثبوت لتواتره، لا مطعن ولا شك فيه، وقد رواه عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم وعبدالرحمن بن عوف وأبي بن كعب وابن مسعود و معاذ بن جبل وأبوهريرة وابن عباس وأبوسعيد الخدري وحذيفة بن اليمان وابو بكرة وعمرو بن العاص و زيد بن أرقم و أنس بن مالك وسمرة بن جندب وعمر بن أبى سلمة وأبو جهيم وأبو طلحة الأنصارى وأم أيوب الأنصارية، وسليمان بن صرد، وابن عمر، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعبادة بن الصامت، وروى أبو يعلى الموصلى أن عثمان قال يوما على المنبر: أذكر بأن رجلا سمع النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن القرآن نزل . . ."الحديث، فقاموا حتى لم يحصوا فشهدوا أنه قاله، فقال عثمان : وأنا أشهد معكم .
2- الحِكم والاصول المستفادة من احاديث الأحرف السبعة:
1- الأصل الأول: أن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة هي التخفيف والتيسير على الأمة:
كما قال: " هوت على أمتي"، وثال: " وُسِّع لي" وفيما روى الترمذي عن أبي بن كعب قال: لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عند أحجار المروة قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: "إني بعثت إلى أمة أميين فيهم الشيخ الفاني والعجوز الكبيرة والغلام". قال: فمرهم فليقرؤوا القرآن على سبعة أحرف" قال الترمذي: حسن صحيح.
كالتخفيف من جهلة اللغة واللهجة:خصوصا الأمة العربية لأنها هي التي شوفهت بالقرآن على اختلاف قبائلها وكثرتهم، ونعلم أن رسيول الله قد أرسِل للناس كافة و لِكُل العرب, ولم يكُن بِعثتُهُ لِقُريْش وحدها، ولِذا فقد كانت لُغَة العرب الذين نزل القرآن بِها تُخاطِبُ قبائل كثيرة وكان بين هذه القبائِلِ اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات على رغم أنها كانت تجمعها العروبة ويوحد بينها اللسان العربي العام. فلو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرف واحد في مبتدأ تنزيله، لشق ذلك عليها كما يشق على القاهري منا أن يتكلم بلهجة الأسيوطي مثلا وإن جمع بيننا اللسان المصري العام وألفت بيننا الوطنية المصرية في القطر الواحد. وهكذا كان الحال مُعسِر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها انتقالا فوريا دون تدرج، بل صعب الانتقال من حرْف الى آخر ولو بالتعليم والعلاج.
وقد جاء في الرواية الذي ذكرها النيسابوري في تفسيره: "انه قد وسع لي ان اقرىء كل قوم بلغتهم" قال ابن قتيبة: " من تيسير الله تعالى أن امر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يُقرى كل أمه بلغتهم ...
- فالهذلى يقرأ: "عتى حين "(المؤمنون :25 ).
- والأسدى " تـِعْلمون " , وتِعْلم وألم أعهِد (يس: 60)
- والتميمى يُهمِز.
- والقُرشى لا يُهمِز.
- والآخر يقرأ "قيل لهم " (البقرة :11)، "وغيض الماء" (هود: 44) بِاشمام الكسر .. و "مالك لاتأمنا" (يوسف : 11) باشمام الضم .
وتظهر أهمية هذا التخفيف: أنه ولو استطاع الشاب و المُتعلِّم مِنهم أن يُجيد لِسان قُريْش، فماذا عن الشيخ والمرأة ومن لم يقرا كِتاباً قط وعسُر عليِهِم أمرُهُم بالتِزام حرْف و وجِه واحِد ؟!! .. فلو كلفوا العدول عن لغتهم والإنتقال عن ألسنتهم لكان هذا مِن التكليف بما لا يُستطاع، وما عسى أن يتكلف المتكلف وتأبى الطباع ؟!!..
أما التخفيف في اسماء الله الحسنى بعضها بدل بعض في الموضوع الواحد: "سميعا عليما"و " عزيزا حكيما"، وهذا ليس من باب اختلاف اللغات ولا من باب الدخول في الاحرف السبعة، وانما هو تيسير للامة من نوع آخر في بادىء الأمر، من باب الاختلاف في التدبر او العلم او الثقاقات، وقد جُردت المصاحف العثمانية من هذا التيسير والاختلاف، ولم تنقل او تروى في الروايات والقراءات ، فدل على ان الظاهر انه في حقيقته لا يدخل ضمن الاحرف السبعة كما ذهب الى ذلك الباقلاني. ولم يثبت قط اي رواية بهذا، وبالتالي يُفهم ان المراد في تصحيح من يقرأ ان لا يقال اخطأت لانها كلها صفات صحيحة عن الله، وإنما يرشده الى الصواب فيقول هي كذا دون التخطيء والاختلاف، وقد جاء في الرواية عن ابن مسعود " ليس الخطأ ان يقول عليم حكيم او غفور رحيم، وانما الخطأ أ، يجعل فيه ما ليس منه كأن يختم آية رحمة بآية عذاب" فكان ابن مسعود هنا لا يتحدث عن الاحرف السبعة وانما عن منهح التخطيء في ارشاد القراء، ثم نرده إلى ما نعلمه وثبت وصح. قال البيهقي: أما الأخبار التي وردت في إجازة قراءة «غفور رحيم» بدل «عليم حكيم»، فلأن جميع ذلك مما نزل به الوحي، فإذا قرأ ذلك في غير موضعه فكأنه قرأ آية من سورة، وآية من سورة أخرى، فلا يأثم بقراءتها كذلك ما لم يختم آية عذاب بآية رحمة، ولا آية رحمة بآية عذاب."
وأما قول عائشة رضي الله عنها " كنا نقرأ في الحرف الاول حافظوا على الصوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فهذا وإن سمي حرف وقراءة وكانت من قبيل التخفيف، فهي ليست داخلة كذلك من باب اختلاف اللغات، وإن كانت داخلة في الاحرف السبعة وتحديدا من الحرف الاول، وقد امكن للمصاحف العثمانية ان تمنع هذا، بالالتزام بتجريد المصاحف فلا يُكتب فيها إلا القرآن، والالتزام بما ألزم به رسول الله أمته في العرضة الاخيرة، وبما كتبه كتبة الوحي، ونقله أبا بكر في الصحف، ونقله عثمان وصحابة رسول الله من الصحف إلى المصاحف، بل مجمع على ان دخول اي من هذا في القرآن كفر. فهذا القراءات اليوم ولو كان جزءا منها من الوحي، إلا انه من التفسير لا انه قرآنا، وكان كل يكتب في مصحفه ما يشاء من قرآن وتفسير سمعه من النبي، أما القرآنية فلا تثبت القرآنية إلا بالتواتر، ولذا اصطُلِح على تسميته بالقراءات التفسيرية، والقراءات التفسيرية تشمل كل ما كان وحيا كما يظهر في هذا المثال بنص السيدة عائشة رضي الله عنها على انه كان مما يقرأ في الحرف الاول، و غيره مما كان تفسيرا ولم يثبُت انه قراءة، وكان الخلط في هذا واقع وكثير كما في الرواية عن ابن الزبير كما جاء في تفسير القرطبي: " وقرأ ابن الزبير : " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " . قال أبو بكر الأنباري : وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير ، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن ; يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال : سمعت عثمان بن عفان يقرأ " ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم " . فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن ; إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين ، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا ". والمصاحف كانت قبل الجمع العثماني لا تحوي القران الكريم وحده، بل كانت تحوي معه التفسير وغير ذلك، ولما كثُر الخلط، أمروا بتجريد المصاحف، وما يؤكد انه ما كان هناك خلاف على كتابة التفسير في المصاحف، فإن الصحابة لم يفهموا قول عائشة وحفصة على أنه قرآن، ولا استغربوا ان تكتبه في المصحف، كما جاء في الرواية عن أبي سلمة قال : أخبرني عمرو بن نافع ، مولى عمر بن الخطاب قال : « مكتوب في مصحف حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر ) ، فلقيت أبي بن كعب ، أو زيد بن ثابت ، فقلت : يا أبا المنذر ، قالت كذا وكذا ، فقال : هو كما قالت ، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا ونواضحنا".ولمزيد من التفصيل يُرجى الاطلاع على الفارق بين معنى " المصحف قبل الجمع العثماني وبعده"
2- وأن هذا كان إجابة لمقصد نبيها صلى الله عليه وسلم ..
فجاء في الحديث: " ان ربى أرسل إليّ أن اقرءوا القرآن على حرف , فرددت عليه أن هوَّن على أمتى . ولم يزل يردد حتى بلغ سبعة أحرف ". و روى مسلم بسنده عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار. قال: فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف. فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" . ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرفين فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال: "أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك" ثم جاءه الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف. فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا ا هـ.
3- والتيسير هذا لا يكون برأي الصحابي بل بالوحي بتنزيل الله:
كما يُفهم من قول : "أنزِل القرآن على سبعة أحرف"، وفي أمر الله لنبيه: " أقرأ القرآن على سبعة أحرف"، وفي الحديث في قراءة عمر وهشام، في سورة الفرقان، حيث قال رسول الله: " اقرأ يا هشام فقرأ هذه القراءة... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، وفي رواية " هكذا أقرأني جبريل". ولذا فلا يُقبل قراءة برأي الصحابي ومن دونهم وبهذا القيد.
4- وأنها يجب ان تكون بتعليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم:
ويُفهم هذا من قول الصحابي: "أقرأني رسول الله"، و " اقرأنيها رسول الله".
5- وانها - على اختلافها- صارت متعالمة بين الصحابة يقرؤونها بالتعليم كما عُلموها:
كما تعلموها من النبي صلى الله عليه وسلم، وكما تعلمها بعضهم من بعض، فيقول ابن مسعود رضي الله عنه: " فاقرأوا كما علمتم"، ويقول جبريل عليه السلام: " فمن قرأ منهم فليقرأ كما عُلِّم". وقال علي رضي الله عنه: " فليقرأ كل انسان منكم كما عُلِّم"، فصار على هذا الصحابة فتعلم ابوهريرة وابن عباس القرآن على أُبَيّ وعلى زيد، فقرأوا كما عُلِّموا.
6- وأن النبي صلى الله عليه وسلم وزع الاحرف على الصحابة:
ولم يمنعهم أن يقرأ الواحد بأكثر من قراءة او حرف، طالما استزاد وعُلِّمها.
7- وأن الحرف الأسبق من غيره هو لسان النبي:
وهو لسان قريش، وله الصدارة، والسبق، ويُفهم ان الاحرف تأخرت نزولها فنزلت فيما بعد نزوله بالحرف الاول، ويدُل على ذلك من حديث عائشة قولها: " كنا نقرأ في الحرف الأول"، وكذلك يُستفاد من ظهور الخلاف حين ظهر في المدينة بين الصحابة، ولم يظهر خلاف الاحرف الا في المدينة، فلم يكن ظاهرا في مكة، ولم يسمعها عمر الا في المدينة بعد الهجرة حين اختلف مع هشام، وكذلك حدو الخلاف في المسجد ولم يكن في مكة مسجد، وكذا قول عثمان: " فاكتبوه بلسان قريش فانه انما نزل بلسانهم".
8- وان النبي أجاز قراءة القرآن كله على حرف واحد:
بدليل السبق في النزول باللسان القرشي الذي ذكرناه حين كان في مكة ولم يكن معه غيره، ويدل عليه قول رسول الله " فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا"، وقوله: " وكل شاف كاف" وقوله: " اقرأ على حرف"
9- وان جحود ما ثبت وصح منها مراء وكفر:
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن القرآن انزل على سبعة أحرف، مراء في القرآن كفر، وكررها ثلاثا".
10- والحرف من السبعة قد يسمى كل موضع فيه حرف وهو في نفس السورة وفي مواضع عديدة من نفس الحرف:
يعني استخدامك لكلمة حرف قد يراد به الجمع " الاحرف السبعة"، وقد يراد بها قراءة موضع واحد فقط مثل قول عمر : " فإذا هو -يعني هشاما- يقرؤها -أي سورة الفرقان- على حروف كثيرة" مع ان كل هذه الحروف التي قرأ بها هشام في سورة الفرقان هي من حرف واحد من الاحرف السبعة. وهو بهذا المعنى إذا اضيفت الحروف بالجمع لفلان بعينه، فإنها تعني مواضع القراءات مثل حروف زيد، وحروف نافع، واذا اضيف بالمفرد الى قارىء واحد، فهو بمعنى القراءة مثل قولنا " حرف زيد" أو " حرف عمر" أي قراءة زيد وقراءة عمر. فهنا نعهد اطلاق الحروف والقراءة على قراءة الشخص الواحد، من بين افراد كثيرين، وكما يُطلق الحرف والقراءة على الحرف الواحد من الاحرف السبعة.
11- ولا غضاضة في ان يترادف لفظ الحرف والقراءة:
فقد جمع عثمان الناس على حرف واحد، فيراد به على قراءة واحدة، ومثل قولك حرف زيد اي قراءة زيد، وكانك تقول حرف زيد يتكون من حروف متعددة، ونقول في قراءة زيد او في حرف زيد جاء التابوه بالهاء وليس بالتاء. والوجه يُسمى قراءة وحرفا، وهذا لا يعني ان المصحف العثماني لا يسع الا حرفا واحدا من الاحرف السبعة، بل هو متضمن لما يحتمله الرسم من الاحرف السبعة.
12-والاحرف والقراءات تعني اللغات:
كما جاء في قول ابن عباس: "نزل القرآن على سبع لغات"، فيجوز ان تقول القراءات واللغات والأحرف.
13-وأن الاحرف تصح في الشيء الواحد ولا تتناقض او تتضارب:
فلا تختلف في حلال او حرام كما في قولنا هلم وتعالى واقبل.
14- وأن هذه القراءات والاحرف صارت متعلمة متقنة بين التابعين من الصحابة:
وقد قال ابن مسعود" إني استمعت الى القرأة فوجدتهم متقاربين، فاقرأوا كما علمتم واياكم والتنطع". ونجد مصحف ابن مسعود ينتشر ويحفظ ويُتعلم في الكوفة، ومصحف ابي موسى الاشعري في البصرة، ومصحف المقداد في حمص، وهكذا.
15- وأن الحروف ضبطت في المصاحف على لسان قريش:
ونحن نتكلم في حدود ما يضبط لان هناك ما لا يمكن ضبطه الا بالمشافهة كالترقيق والتفخيم والاشمام