6- لغة القرآن الكريم:
وسأطيل النفس في هذا المبحث، فهو مهم بل عليه عمدة كل شيء يأتي بعدهـ في اللغة واعجاز اللغة واثر الاعجاز اللغوي ثم في النقل الشفهي لكتاب الله ثم تدوينه منذ لحظة وحيه على رسول الله، وانتم حملة الشعلة وحملة الرسالة، في الذب عن دين الله، وسيعترضكم في هذا الطريق اقوال المستشرقين امثال جولدزهاير وبلاشير وكرون وغيرهم، وكان لبلاشير على وجه الخصوص اراء خاصة عدائية تجاه القرآن الكريم نابعة عن عصبية عمياء تجاه الاسلام طالت الوحي واللغة والكتابة والتدوين، وحاول ان يُطعم الكثير من كتاباته بالافتراءات التي لاقت صدى بين بعض المسلمين وتبناه المستغربين امثال محمد اركون وغيرهم من دعاة العلمانية،
أولًا: بلسانٍ عربي مبين:
أكد الله تعالى في اكثر من عشر آياتٍ عربية هذا القرآن، "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، وقال ايضًا: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا " وقال تعالى: ""وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا "، وقال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " وقال تعالى: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" وقال تعالى: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا"، وقال ايضا: "وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا".
ثانيا: عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية:
وهذا التأكيد القرآني لحكمة، إذن فالقرآن ليس فيه من غير لغة العرب شيء، وأهل العلم يُجمعون على أن القرآن ليس فيه جمل ولا تراكيب أعجمية، وإن وُجِد فيه أعلام أعجمية في اصلها. ومن ثم أجمع العلماء على عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية، سواءا في الصلاة وفي غير الصلاة، ولا تسمى ترجمة معاني القرآن قرآنا، وانما هي ترجمة للمعنى translation of the meaning ، وكذلك التفسير في العربية لا يُسمى قرآنا، لأن إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وليس في معناه فقط. وهذا فارقٌ مهم نفرق به بين طرفي الوحي: القرآن والسنة، فيصح نقل الحديث عن رسول الله بالمعنى لا بنفس اللفظ، وإن كان نقل اللفظ أولى، بينما القرآن الكريم يُنقل بلفظه وحرفه وأدائه وكيفية نُطقه ومخارجه. والترجمة معلوم انها تُفقِد اللفظ كثيرًا من معانيه في اللغة، فتكون النتيجة أن كثيرًا من الإعجاز يختفي عند ترجمة المعاني للغة الأخرى، ونُدرك بوضوح قصور أي لغة عن الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربيّة، وإلا فقل لي مثلا كيف تترجم قول الله: " واتّخذ اللهُ إبراهيم خليلا"، او كيف تترجم قول الله :" وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".
ثالثا: واللسان العربي هنا هو لسان قريش:
واللسان العربي الذي نزل به القرآن على محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو لسان قريش، فقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان قومه، وقومه هم قريش، يقول تعالى: "وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ". وقد كان لكل قبيلة أو مدينة لهجة تميزت بها، لكن التباين بين تلك اللهجات لم يكن يحول بينهم وبين التواصل والتفاهم، وقد كانت قريشُ مركز العرب، وفيه يلتقي فحول شعراء العرب واشتهرت يتعليق معلقاتهم على استار الكعبة، فجمعت قريشُ فصاحة العرب، وقد وردت نصوص صحيحة تؤكد أن القرآن الكريم نزل بلغة (اي لهجة) قريش خاصة، وهم قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسكان مكة وما حولها. منها ما رواه البخاري أن عثمان بن عفان قال لكتّاب المصاحف: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم» (2). ومنها رسالة عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود حين بلغه أنه يعلّم الناس القرآن في الكوفة بلغة هذيل وهي: «أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل».
رابعا: فصاحة العربية اجتمعت لقريش:
كانت قريشُ كما قلنا مركز العرب، وأبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتها، فلم تتأثر فصاحتها بمخالطة الاعاجم، وكانت قريش كذلك قبلة الحج، يحج العرب ويفدون إلى مكة بالآلاف كل عام قبل الاسلام، وكانت مكة كذلك هي ملتقى طرق العرب في رحلاتهم بين الشمال والجنوب، صيفا وشتاءا، فيسر هذا التلاقح بين كل العرب أن يستحسن لسان قريش من اللهجات أفصحها، وان تهجر مستبشع اللغات والألفاظ، ولذا مع مرور الزمن صارت قريش مضرب الفصاحة بين العرب بل كانت قبلة فحول شعراء العرب واهل الخطابة والفصاحة والبيان، . فاللغة في ألسنتهم سهلة لينة طيعة، والشعر عندهم أمره عجيب، فكانوا يجتمعون كل عامٍ بسوق عكاظ في مكة واشتهرت بتعليق معلقاتهم على استار الكعبة، وأهم شيء ميزهم هو المعارضة: وهي قولهم الشعر في كل الظروف؛ في الفرح والحزن، في الحرب والسلم، حتى قبل الموت والسيوف على الرقاب يقولون الشعر، يقول الواحد منهم بيتًا، تجد الآخر يرد عليه فورًا ببيت على نفس الوزن ونفس القافية، وفي نفس المعنى.
خامسا: تحدي فصاحتهم بالقرآن:
فتخيل حين تجمع قريشُ فصاحة العرب، وتفتخر بهذا بين العرب كلهم، ويقرون ويذعنون لفصاحة قريش، وماذا بعد هذه الفصاحة من فصاحة؟ لقد وصلوا - في ظنهم المنتهى- ثم يأتي القرآن الكريم لينسف هذه الفصاحة نسفا، بأعلى درجات البلاغة وأصفى صور الفصاحة، فيُعجز البلغاء ويُبهر الفصحاء، ثم يتحداهم في اشرف مالديهم بين العرب وهي المعارضة، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبدًا، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدةً مع تحدي القرآن لهم بتأليف قرآن مثله أو عشر سور أو حتى سورة واحدة، فلم يستطيعوا وما حاولوا، فهو وإن كان بلغة العرب فإنه كلام رب العالمين، وهو معجزة خاتم النبيين، وهو مع ذلك ميسّر لأن يُعبد بهِ الله ويُذكر في العالمين، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ". وإذا سحق القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته وسحر بيانه فصاحة قريش، إذن بالتبعية فقد ضرب فصاحة العرب كلهم في نجدها ويمنها وشمالها وجنوبها. التحدي بالقرآن:
وحار القوم في إجابة هذا التحدي، كيف يأتون بكلام مثل هذا الكلام كله؟ ربما قد حاولوا، ولكنهم عجزوا، وقالوا: (إِن هَذَا إِلاَّ إِفكٌ افتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيهِ قَومٌ آخَرُونَ)، فتجاوز لهم عن بعض ما طولبوا به، ولم يشأ أن يفلتوا بما أعذروا أنفسهم به، فلئن كان حديثاً مفترى (فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ, مِّثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ, وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، وما أجداهم أن يستعينوا بمَن شاءوا ومَن استطاعوا في أن يأتوا بالعشر المفتريات، فأرخى لهم إمعاناً في التحدي الساخر بقدرتهم، فتجاوز عن العشر إلى واحدة مع العون أيضاً فقال: (قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِّثلِهِ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، ولئن تقاصرت قدرتكم أن تأتوا بسورة مماثلة لسورة على التحديد (فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِّن مِّثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، فربما كانت مماثلته على التقريب أيسر عليكم، وهذا ما أشارت إليه آية البقرة باستخدام لفظ (مِن مِّثلِهِ). ومضت القرون، وورث اللٌّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزاً، وأقل طمعاً في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم
سادسا: أهمية الاعجاز اللغوي في القران:
اللغة العربيّة ولغة القرآن بالنسبة لكثير من أبناء هذا الجيل أصبحت طلاسم، لا تقلل اخي الكريم من قدر هذا الاعجاز اللغوي، فكل الدنيا تطمح ان تكون بليغة في لغتها، بل بدون اللغة تسقط كل العلوم، اللغة هي التواصل، منذ مولدك ألف باء تفاعلك مع العالم كله وتكوين مدخلاتك العقلية والفطرية هي اللغة، وفصاحة اللغة سحر، وإن من البيانِ لسحرا، لذا كانت الخطابة أحد أوجه قوة المنطق، بل ولا نقول الخطابة المجردة، بل من يمتلك ناصية الخطابة مع قوة الحجة والبرهان دانت له الدنيا، القلوب تتحرك باللغة، العقول تُذعن بمنطق اللسان، فما بالك بمن جمع مع الحجةِ البيان؟، هذه ضربة مؤلمة لكبرياء قريش بين العرب، بل تهديد صريح لمكانتهم التي وصلوا اليها بسبب اللغة، ولذا تحسروا لماذا لا ينزل هذا القرآن على عظماء اللغة والبلاغة في قريش، لماذا يختار محمدًا ويستأثره بهذا الوحي؟، لماذا لا تتعاون معنا يا محمد وتضع يدك في يدنا خدمة لقبيلتك قريش فنتقوى بهذا البيان الذي معك بين العرب. يقول تعالى لنبيه: " وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ" انزلنا اليك ومعك الان حُكم عربي، وسيبدئون التفاوض معك، فاذا اتبعت ميولهم واهواءهم فلن ينصرك الله ولن يقيك احد من الله، ولذا ما كان منهم الا ان اتهموه بانه ساحر وكاهن وشاعر وان احد يمليه، لانه ما عهدوا عليه وليس له - صلى الله عليه وسلم- ولا لغيره ان يأتي بهذا وحده، بل يتحداهم الله ان ليس واحدا بل اجتمعوا جميعا انسكم وجنكم وآتوا بمثله!
احبتنا في الله، كيف تشعر بإعجاز لغة القرآن؟ تشعر به عندما تحاول أن تفكر في قضية وتكتب أو تقول شيئا مختصر فيها ولكن مليئ بالمعاني والمشاعر وتحتار وتضيع في مخزونك اللغوي البسيط وأنت تبحث عن كلمة يمكنك أن تحمِّلها معانيك ومشاعرك الكبيرة فتذكر القرآن الذي تم اختيار كلماته من بين اثني عشر مليون كلمة بكل إتقان. فتشعر بالضعف والنقص والعجز ويخالط قلبك حلاوةُ القرآن وتعلقك بهذا الكمال المستحيل بشريا.
اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إبَّان احتلال بريطانيا لمصر أراد أن يضرب الأزهر والمدارس الدينية، فماذا فعل؟ لم يغلقها حتى لا يثير الناس، ولكنه أنشأ مدارس علمانية بجوار الأزهر تكون الإنجليزية هي لغتها الأساسية، ثمَّ فتح لخريجي هذه المدارس فرص عمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، ومن ثَمَّ توجه الناس لإدخال أبنائهم مدارس اللغات بحثًا عن فرص عمل أفضل، وزهد الناس في الأزهر، وزهدوا في اللغة، ثمَّ زهدوا بعد ذلك في الشرع. إنَّ اليهود عندما أرادوا أن ينشئوا دولتهم على أرض فلسطين، وجمعوا شتاتهم من بقاع الأرض، ماذا فعلوا؟ لقد علموا أبناءهم اللغة العِبرِية إلى درجة الإتقان قبل أن يأتوا بهم إلى أرض فلسطين، ثمَّ أنشئوا الجامعة العبرية أول نزولهم الأرض فلسطين، ودَرَّسوا مناهجهم باللغة العبرية كلغة أولى وليست ثانية، وهم بذلك حققوا أكثر من هدف: 1. زرعوا العز في قلوب اليهود للغتهم ومن ثَمَّ لدينهم. 2. حدث التواصل بين اليهود الذين جاءوا من بلاد شتَّى.
سابعا: القرآن الكريم يحفظ لسان العرب:
القرآن الكريم: كتاب الله الخاتَم، ختم الله به كتبه، وأنزله على نبيه الخاتَم، فختم بنبيه الأنبياء، بدين عام، عالمي، شامل خالد، خُتم به الأديان. والقران هو حجة الرسول وآيته الكبرى، وهو عماد لسان العرب، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها.
أين لغة موسى والمسيح عليهما السلام اليوم؟، لماذا ضاعت؟، ضاعت لغة موسى والمسيح وبقيت لغة محمد صلى الله عليه وسلم.. ضيعوا كتاب الله فضيع لسانهم.. وحفظنا كتاب الله فحفظ لنا لساننا العربي المبين، ولو بُعِث قرشي وتحدث اليوم بعربيته الفصحى لفهمه كل من يقرأ كتاب الله من عامة المسلمين. فلا تترك لمسيحي بابا لا يرى فيه الحق، قل لهُ ضاعت لغة المسيح وبقيت لغة محمد صلى الله عليْهِ وسلّم .. ضاعت كُتُب المسيح وبقيت كتب النبي محمد .. يستطيع أمثالك - المسيحي الذي ربما لا تُتقن العربية - اليوم قراءته بلسان عربي .. بينما لو جمعوا لاتينيي ويونانيي اهل الارض ..لن يستطيعوا فهم لغة كتابك المندثرة !! عرفت الفارق بين من يخافون الله ويُقدسون كلامه فيحفظونه في الصدور وبين من تركوا التربة تأكل وتشرب على مخطوطاتهم والان يتوسلون الأرض والسماء؟!
ولولا القرآن الكريم ودقة الضبط في روايته وتلقيه ضمن حدود القراءات، لأصبحت العربية أثراً بعد عين، ولصار جمع العرب على لغة واحدة أشبه بجمع شعوب القارة الأفريقية اليوم على لغةٍ واحدة.
ثامنا: خصائص لغة القران:
1- تفرد نظمه مع حسن تأليفه: لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة، بل جاء كتاباً عربياً جارياً على مألوف العرب من هذه الناحية، فمن حروفهم تألَّفت كلماته، ومن كلماتهم تألَّفت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في الصياغة جاء تأليفه،
ولكن انظر الى اعجاز بيانه مثلا حين يقول تعالى: " (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فقد اشتملت هذه الآية على النداء في قولها أيها، والتنبيه، والأمر، والنهي، والتخصيص، والعموم، والإعذار، من غير ركاكةٍ في ألفاظ القرآن الكريم ولا تنافر، فلا يشعر القارئ للآيات بالعُسر، ولا يشعر السامع بالثقل. وكما قال الله تعالى: "وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ"، وانظر إلى ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين، وهما: القصاص والحياة، ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، فإنَّ الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل اقتُصَّ منه دعاه ذلك إلى أن يرتدع عن قتل صاحبه، فكأنه أحيا نفسه وغيره، فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضاً، فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة. وقارن بين هذا وبين قول العرب: " القتل أنفى للقتل"
4-اعجازه ونفرده في نظمه وأسلوبه: قلنا أن القران لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، ومع ذلك فقد جاء نظم القرآن مغايرًا لما عرفه العرب من الشعر والنثر، والنظم هو القالب او الطريقة التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، فللقرآن أسلوب خاص به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك، يزعُمُ أن الله أرسله، قلتُ: فما يقول الناس، قال : يقولون شاعر، كاهن، ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون). وانظر الى الفصاحة في ثلاثة اساليب لنفس الشخص: قران وحديث قدسي واقوال النبي، لو أنك تقرأ لكاتب مُعين بشكل مُستمر فسوف تميز إسلوب كتابته لو وقعت عيناك على كلامه بدون ان تعرف أنه هو الكاتب، هل يوجد إنسان يستطيع صياغة كلامه بثلاثة أساليب أدبية وكل أسلوب يتميز عن الآخر ؟
2- الجزالة: اي قول لفظه قوي متين، و ذو بيان وبلاغة مع قوة الحجة، غير متكلف يُستفاد من قليله الكثير، مع عذوبة في الفم، ولذاذة في السمع، يسهل على من يتدبره تصوره بقوة. واذا شئت التعريف بالنفي حتى تستوعب المعنى، نقول ان القول غير الجزل: هو قول متكلف، يُستفاد من كثيره القليل، أو يكون مضطرب الحجة، أو لا يُستفاد منه بمرة، يقع على السمع ناشفا جافا، او يكون عامي ركيك، او عنجهي البداوة، او قد تميز الاذن نشازه وعدم بلاغته أو قلتها مقارنة بغيره. وإن شئت ان تقيس جزالة القول: ان تجد ألفاظه أشبه بالفاظ العلماء والادباء والفصحاء، يصدر من متعلم متبحر.
3-المرونة والمطاوعة في التأويل ( ذو وجوه) مرونة تجعله واسع الدلالة، فظاهره القريب هداية للناس، لكن باطنه العميق يُشبع نهم الفلاسفة ويُعجز العلماء.وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد.
4- اطراده في اعجاز لغته: ما هو اهم شرط في الاعجاز او الاية او البرهان على النبوة والرسالة؟ أن يكون الدليلُ مُطردا، اي في كل وقت وحين يدل على مدلوله، يعني فلق البحر لموسى يدل على مدلول النبوة ان موسى نبي، انه في كل وقت وحين يثبت بالدليل مدلوله او يثبت بالاية والمعجزة النبوة، اذا ظهر اليوم فهو دليل نبوة واذا ظهر بعد مئة عام فهو دليل نبوة، انما الشيء الذي لا يطرد يعني ممكن يظهر مع النبوة وممكن يظهر مع غير النبوة فهذا لا يصلح دليلا على النبوة، يعني ما ينقع ييجي واحد يقبول انا نبي ودليلي طلوع الشمس، والشمس تطلع كل يوم سواءا كان هناك نبي او لم يكن، فهذا لا يصلح دليلا على النبوة، بل لا يصلح اصلا دليلا على صدق أحد، ولا كذبه؛ وهذا مهم لك كمبحر في مقارنة الاديان، لانك ستلتقي بالبهائي الذي يزعم ان علامة نبوة نبيه خسوف القمر، وخسوف القمر يحدث مع النبوة وغير النبوة فهو اذن ليس بدليل مطرد، فيدل على بطلان دعواه.
5- تيسير لغته للذكر: طابع الشفاهية او المشافهة: يُناسب الثقافة الصوتية السماعية، بل والفطرة، لان اللغة في اصلها بالتلقي والمشافهة، بتلقى الطفل فيسمع فيتكلم دون الحاجة لان يتعلم القراءة والكتابة، وهذا ما يُميز القرآن الكريم، حيث تميز بسهولة تلقيه وسهولة حفظه والقائه وروايته بديهة دون واسطة او كتاب، مع موسيقاه في الاذن وقابليته الانشاد، مما يُناسب سرعة حفظه وانتشاره وعالميته، وللمقارنة فهناك نص لا يمكن الاحتفاظ به الا مكتوبا فمنذ خرج من لسان صاحبه فتجده يدخل بوابة الكتابة، بينما لفظ مذ يخرج يدخل بوابة التلقي والمشافهة، ولذا فالقرآن الكريم منذ نزل نزل بخاصية الفطرة التي تضمن بقاؤه في الصدور وهي خاصية التلقي: السماع والعرض، بالتلقي من جبريل والسماع من النبي وعرض النبي على جبريل عليه السلام، ثم تلقي الصحابة من النبي والسماع عن النبي والعرض عليه، ثم التلقي عن الصحابة والسماع منهم والعرض عليهم، وظل هذا الى يومنا هذا لا ينتقل القرآن الا بالتلقي من صدور الحفاظ والسَّماع منهم والعرض عليهم . ومن اجمل الامثلة على هذا ان تنظر الى المسلم غير العربي وهو يحفظ القران عن ظهر قلب ويجيد فهمه وهو لا يعرف من العربية أي شي،
6- التدوين الفوري للوحي: جذبت وأسرت لغةُ القرآن لُباب الفصحاء والكتاب: فلحق بالنبي مثقفوا العربية وفصحاؤها في مكة وصاروا كتاب الوحي في مكة مثل أبي بكر وفيما بعد عمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص وعامر بن فهيرة ومعيقيب ابن ابي فاطمة وحذيفة بن اليمان وحنظلة بن الربيع وغيرهم، وهناك عامل اخر مع لغة القرآن جعل الكتابة حتمية، وهو طول وكبر حجم القرآن الكريم، فاذا اجتمع هذا الحجم مع الألفة الفطرية، فإنها تجعل كتابته نتاجا حتميا منذ لحظة نزوله، فكون النص يكسب الفؤاد والسمع واللسان بهذه الخواص الشفهية الفطرية، فإنه يدفع نزعة داخلية في الانسان الى حفظه وكتابته وتدوينه، وأمر ثالث فلم ينتظر الوحي ان تصحو هذه النزعة في النفوس في بيئة أمية لا ينتشر فيها الكتابة والقلم، فبدا بتأصيلها منذ لحظة وحيه بربط الشفاهية بالكتابة، يقول تعالى " اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان مالم يعلم"، فهذه هي اول سورة واول آية نزلت في القرآن الكريم، بل واول تكليف نزل في الاسلام، أول كلمة، وأول أمر، وأول تكليف قبل أي تكليف أقرا، وربك الاكرم، كرم الله على هذه الامة " الذي علم بالقلم" فربط القراءة بالعلم بالقلم، فمنذ لحظة الوحي صار هذا التكليف هو اولا، والى اخر يوم في حياته صلى الله عليه وسلم، فكتبه كُتاب الوحي ودونوه بالقلم، منذ كان النبي في مكة يكتب له الصحابي الملقب بالكاتب وقد كان احد القلائل الكتبة في مكة وهو الصحابي حنظلة بن الربيع كاتب النبي وحامل ختم النبي، وابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، فبدا تدوين الوحي منذ لحظاته الاولى، وكان الكتبةُ يراجعونه على النبي صلى الله عليه وسلم ويصحح لهم ما فيه من سقط. وهكذا يُرسي الوحيَ مع المشافهة دعامة العلم والقلم، فيأمر النبيُ كل اسير في يد المسلمين ان يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ويأمر زيد بن ثابت ان يتعلم قراءة المكتوب السرياني والعبري بل وقيل الحبشي كذلك، فانتقل الصحابة من أميين لا يقرأون ولا يكتبون الى كتاب ومتعلمين يكتبون بالقلم فصار بين يدي النبي اكثر من 40 كاتب للوحي يكتب ما يمليه النبي فاجتمع مع الاقراء والشفاهية، التدوين الفوري. ولماذا كان هذا معجزا؟ لانه لم يتأتى لامة من الامم ولدين من الاديان يُنسب كتابها للوحي أن تجمع الخصيصتين معا من أول يوم وهما: " المشافهة والسماع مع الحفظ في الصدور" و " الكتابة والتدوين مع الحفظ في السطور". وهنا نشير الى ان المكتوب وحده لن يحفظ اللغة، لعجز المكتوب باستمرار على تمثيل المنطوق، تمثيلا صحيحا، ولذا فالامم التي بقيت لها الكتب وفقدت الشفاهة، فقدت معها لغتها الاصلية، و كيف لها ان تعرف معاني الكلمات التي تتغير بتغير النطق مع كونها لها نفس الرسم؟ وسيأتي تفصيل ذلك في بيان كيف ان حفظ القران نصا شفهيا حقظ لنا لغتنا العربية كما هي بينما اختفت من الوجود لغة موسى والمسيح عليهما السلام.
وأما الروايات التي أوردها ابن فارس وغيره واستدل بها بلاشير على أن العرب لا علم لهم بالكتابة ، إنما تنسحب على الأعراب لا على العرب ، مثل سؤال أحدهم : ( أتهمز إسرائيل؟ قال إني إذن لرجل سوء.قالوا وإنما قال ذلك لأنه لا يعرف من الهمز إلا الضغط والعصر.وقيل لآخر أتجر فلسطين ؟ قال إني إذن لقوي. وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سئل أن ينشده قصيدة على الدال ، فقال وما الدال؟
ثامنا: اليس في القرآن كلمات أعجمية؟
1- وهنا يرد السؤال: إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي، فكيف يوجد فيه كلمات اعجمية فكلمة قسطاس رومية، وآمين حبشية، وسجيل فارسية. فنقول هذا السؤال لا ينم عن فهم المعنى، فقولا واحدا: ليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها البتة، لا يوجد يقينا اي تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، فكل ما في القرآن من الكلمات كانت تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه.
2- إنما الخلاف في المعرب اي (الذي صار لسانا عربيا فصيحا وكان في الاصل منطوق في غير لسان العرب)، هل هو موجود في القرآن؟، فهنا يستقيم السؤال، ونقول ان في القرآن الكريم حولي 60 كلمة حصرها العلماء وقيل أن اصلها لم يكن عربيا لكن عُرِّبت، يعني هم يتحدثون عن 60 كلمة من بين سبعة وسبعين الف واربعمئة وتسعة وثلاثين كلمة " 77439 "، ومع ذلك فمعظم هذه الكلمات هي على خلاف إن كانت عربية فصيحة ابا عن جد، ومشتركة بين اللغات السامية، أو انها دخلت العربية وعربها العرب بلسانهم.
3- ويأتي السؤال: هل هذه الستين على افتراض ان جميعها او بعضها في اصله لم يكن عربيا، فهل هي بلسان عربي مبين ام ليست بلسان عربي؟ الجواب: طبعا بلسان عربي مبين، أي نطق به لسان العرب، ودار على ألسنتهم؛ فعربوه بالسنتهم، وأصبح من لغتهم وصار عربياً، صقلها العرب بألسنتهم وخضعت لأوزان اللغة العربية، واخضعتها العربية لقواعد اللغة، فصارت تُنطق بلسان عربي وإنْ كانت في الاصل من لغات أخرى، إذن فالمراد بأن القرآن نزل بلسان عربي أي لم يَأْتِ بكلام جديد لم تعرفه العرب، وتتداوله السنتهم، فقبل أنْ ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي، فلا يُقال انه فيه من غير لغة العرب شيء، بل هي يقينا الان لغة عربية وان كانت في الاصل معربة من لغات اخرى، فأهل العلم يُجمعون على أن القرآن ليس فيه جمل ولا تراكيب بل ولا كلمات أعجمية، كما أنهم يُجمعون على وجود الأعلام الأعجمية فيه معربة بلسان العرب ونطقهم: كاسم مريم، موسى، اسحق، اسماعيل ... الخ. بل انه كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
وسأطيل النفس في هذا المبحث، فهو مهم بل عليه عمدة كل شيء يأتي بعدهـ في اللغة واعجاز اللغة واثر الاعجاز اللغوي ثم في النقل الشفهي لكتاب الله ثم تدوينه منذ لحظة وحيه على رسول الله، وانتم حملة الشعلة وحملة الرسالة، في الذب عن دين الله، وسيعترضكم في هذا الطريق اقوال المستشرقين امثال جولدزهاير وبلاشير وكرون وغيرهم، وكان لبلاشير على وجه الخصوص اراء خاصة عدائية تجاه القرآن الكريم نابعة عن عصبية عمياء تجاه الاسلام طالت الوحي واللغة والكتابة والتدوين، وحاول ان يُطعم الكثير من كتاباته بالافتراءات التي لاقت صدى بين بعض المسلمين وتبناه المستغربين امثال محمد اركون وغيرهم من دعاة العلمانية،
أولًا: بلسانٍ عربي مبين:
أكد الله تعالى في اكثر من عشر آياتٍ عربية هذا القرآن، "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ" وقال تعالى: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، وقال ايضًا: "إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا " وقال تعالى: ""وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا "، وقال تعالى: "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ " وقال تعالى: "قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ" وقال تعالى: "كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ" وقال تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا"، وقال ايضا: "وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا".
ثانيا: عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية:
وهذا التأكيد القرآني لحكمة، إذن فالقرآن ليس فيه من غير لغة العرب شيء، وأهل العلم يُجمعون على أن القرآن ليس فيه جمل ولا تراكيب أعجمية، وإن وُجِد فيه أعلام أعجمية في اصلها. ومن ثم أجمع العلماء على عدم جواز قراءة القرآن بغير العربية، سواءا في الصلاة وفي غير الصلاة، ولا تسمى ترجمة معاني القرآن قرآنا، وانما هي ترجمة للمعنى translation of the meaning ، وكذلك التفسير في العربية لا يُسمى قرآنا، لأن إعجاز القرآن في لفظه ومعناه، وليس في معناه فقط. وهذا فارقٌ مهم نفرق به بين طرفي الوحي: القرآن والسنة، فيصح نقل الحديث عن رسول الله بالمعنى لا بنفس اللفظ، وإن كان نقل اللفظ أولى، بينما القرآن الكريم يُنقل بلفظه وحرفه وأدائه وكيفية نُطقه ومخارجه. والترجمة معلوم انها تُفقِد اللفظ كثيرًا من معانيه في اللغة، فتكون النتيجة أن كثيرًا من الإعجاز يختفي عند ترجمة المعاني للغة الأخرى، ونُدرك بوضوح قصور أي لغة عن الوصول إلى ما وصلت إليه اللغة العربيّة، وإلا فقل لي مثلا كيف تترجم قول الله: " واتّخذ اللهُ إبراهيم خليلا"، او كيف تترجم قول الله :" وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ المَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ".
ثالثا: واللسان العربي هنا هو لسان قريش:
واللسان العربي الذي نزل به القرآن على محمدٍ صلى الله عليه وسلم هو لسان قريش، فقد بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بلسان قومه، وقومه هم قريش، يقول تعالى: "وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ". وقد كان لكل قبيلة أو مدينة لهجة تميزت بها، لكن التباين بين تلك اللهجات لم يكن يحول بينهم وبين التواصل والتفاهم، وقد كانت قريشُ مركز العرب، وفيه يلتقي فحول شعراء العرب واشتهرت يتعليق معلقاتهم على استار الكعبة، فجمعت قريشُ فصاحة العرب، وقد وردت نصوص صحيحة تؤكد أن القرآن الكريم نزل بلغة (اي لهجة) قريش خاصة، وهم قوم النبي صلى الله عليه وسلم، وسكان مكة وما حولها. منها ما رواه البخاري أن عثمان بن عفان قال لكتّاب المصاحف: «إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في عربية من عربية القرآن، فاكتبوها بلسان قريش، فإن القرآن أنزل بلسانهم» (2). ومنها رسالة عمر بن الخطاب إلى عبد الله بن مسعود حين بلغه أنه يعلّم الناس القرآن في الكوفة بلغة هذيل وهي: «أما بعد، فإن الله تعالى أنزل القرآن بلغة قريش، فإذا أتاك كتابي هذا فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل».
رابعا: فصاحة العربية اجتمعت لقريش:
كانت قريشُ كما قلنا مركز العرب، وأبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتها، فلم تتأثر فصاحتها بمخالطة الاعاجم، وكانت قريش كذلك قبلة الحج، يحج العرب ويفدون إلى مكة بالآلاف كل عام قبل الاسلام، وكانت مكة كذلك هي ملتقى طرق العرب في رحلاتهم بين الشمال والجنوب، صيفا وشتاءا، فيسر هذا التلاقح بين كل العرب أن يستحسن لسان قريش من اللهجات أفصحها، وان تهجر مستبشع اللغات والألفاظ، ولذا مع مرور الزمن صارت قريش مضرب الفصاحة بين العرب بل كانت قبلة فحول شعراء العرب واهل الخطابة والفصاحة والبيان، . فاللغة في ألسنتهم سهلة لينة طيعة، والشعر عندهم أمره عجيب، فكانوا يجتمعون كل عامٍ بسوق عكاظ في مكة واشتهرت بتعليق معلقاتهم على استار الكعبة، وأهم شيء ميزهم هو المعارضة: وهي قولهم الشعر في كل الظروف؛ في الفرح والحزن، في الحرب والسلم، حتى قبل الموت والسيوف على الرقاب يقولون الشعر، يقول الواحد منهم بيتًا، تجد الآخر يرد عليه فورًا ببيت على نفس الوزن ونفس القافية، وفي نفس المعنى.
خامسا: تحدي فصاحتهم بالقرآن:
فتخيل حين تجمع قريشُ فصاحة العرب، وتفتخر بهذا بين العرب كلهم، ويقرون ويذعنون لفصاحة قريش، وماذا بعد هذه الفصاحة من فصاحة؟ لقد وصلوا - في ظنهم المنتهى- ثم يأتي القرآن الكريم لينسف هذه الفصاحة نسفا، بأعلى درجات البلاغة وأصفى صور الفصاحة، فيُعجز البلغاء ويُبهر الفصحاء، ثم يتحداهم في اشرف مالديهم بين العرب وهي المعارضة، ولم يعارضوا القرآن بمثله أبدًا، لم يجتمع شعراؤهم وأدباؤهم وحكماؤهم ليؤلفوا آية واحدةً مع تحدي القرآن لهم بتأليف قرآن مثله أو عشر سور أو حتى سورة واحدة، فلم يستطيعوا وما حاولوا، فهو وإن كان بلغة العرب فإنه كلام رب العالمين، وهو معجزة خاتم النبيين، وهو مع ذلك ميسّر لأن يُعبد بهِ الله ويُذكر في العالمين، قال الله تعالى:" وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ". وإذا سحق القرآن الكريم بفصاحته وبلاغته وسحر بيانه فصاحة قريش، إذن بالتبعية فقد ضرب فصاحة العرب كلهم في نجدها ويمنها وشمالها وجنوبها. التحدي بالقرآن:
وحار القوم في إجابة هذا التحدي، كيف يأتون بكلام مثل هذا الكلام كله؟ ربما قد حاولوا، ولكنهم عجزوا، وقالوا: (إِن هَذَا إِلاَّ إِفكٌ افتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيهِ قَومٌ آخَرُونَ)، فتجاوز لهم عن بعض ما طولبوا به، ولم يشأ أن يفلتوا بما أعذروا أنفسهم به، فلئن كان حديثاً مفترى (فَأتُوا بِعَشرِ سُوَرٍ, مِّثلِهِ مُفتَرَيَاتٍ, وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، وما أجداهم أن يستعينوا بمَن شاءوا ومَن استطاعوا في أن يأتوا بالعشر المفتريات، فأرخى لهم إمعاناً في التحدي الساخر بقدرتهم، فتجاوز عن العشر إلى واحدة مع العون أيضاً فقال: (قُل فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِّثلِهِ وَادعُوا مَنِ استَطَعتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، ولئن تقاصرت قدرتكم أن تأتوا بسورة مماثلة لسورة على التحديد (فَأتُوا بِسُورَةٍ, مِّن مِّثلِهِ وَادعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، فربما كانت مماثلته على التقريب أيسر عليكم، وهذا ما أشارت إليه آية البقرة باستخدام لفظ (مِن مِّثلِهِ). ومضت القرون، وورث اللٌّغة عن أهلها الوارثون، وكلما تطاول الزمان بين عصر المبعث والعصور التالية له، كان أهلها أشد عجزاً، وأقل طمعاً في هذا المطلب العزيز، لانحراف ألسنتهم وفساد سلائقهم
سادسا: أهمية الاعجاز اللغوي في القران:
اللغة العربيّة ولغة القرآن بالنسبة لكثير من أبناء هذا الجيل أصبحت طلاسم، لا تقلل اخي الكريم من قدر هذا الاعجاز اللغوي، فكل الدنيا تطمح ان تكون بليغة في لغتها، بل بدون اللغة تسقط كل العلوم، اللغة هي التواصل، منذ مولدك ألف باء تفاعلك مع العالم كله وتكوين مدخلاتك العقلية والفطرية هي اللغة، وفصاحة اللغة سحر، وإن من البيانِ لسحرا، لذا كانت الخطابة أحد أوجه قوة المنطق، بل ولا نقول الخطابة المجردة، بل من يمتلك ناصية الخطابة مع قوة الحجة والبرهان دانت له الدنيا، القلوب تتحرك باللغة، العقول تُذعن بمنطق اللسان، فما بالك بمن جمع مع الحجةِ البيان؟، هذه ضربة مؤلمة لكبرياء قريش بين العرب، بل تهديد صريح لمكانتهم التي وصلوا اليها بسبب اللغة، ولذا تحسروا لماذا لا ينزل هذا القرآن على عظماء اللغة والبلاغة في قريش، لماذا يختار محمدًا ويستأثره بهذا الوحي؟، لماذا لا تتعاون معنا يا محمد وتضع يدك في يدنا خدمة لقبيلتك قريش فنتقوى بهذا البيان الذي معك بين العرب. يقول تعالى لنبيه: " وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ" انزلنا اليك ومعك الان حُكم عربي، وسيبدئون التفاوض معك، فاذا اتبعت ميولهم واهواءهم فلن ينصرك الله ولن يقيك احد من الله، ولذا ما كان منهم الا ان اتهموه بانه ساحر وكاهن وشاعر وان احد يمليه، لانه ما عهدوا عليه وليس له - صلى الله عليه وسلم- ولا لغيره ان يأتي بهذا وحده، بل يتحداهم الله ان ليس واحدا بل اجتمعوا جميعا انسكم وجنكم وآتوا بمثله!
احبتنا في الله، كيف تشعر بإعجاز لغة القرآن؟ تشعر به عندما تحاول أن تفكر في قضية وتكتب أو تقول شيئا مختصر فيها ولكن مليئ بالمعاني والمشاعر وتحتار وتضيع في مخزونك اللغوي البسيط وأنت تبحث عن كلمة يمكنك أن تحمِّلها معانيك ومشاعرك الكبيرة فتذكر القرآن الذي تم اختيار كلماته من بين اثني عشر مليون كلمة بكل إتقان. فتشعر بالضعف والنقص والعجز ويخالط قلبك حلاوةُ القرآن وتعلقك بهذا الكمال المستحيل بشريا.
اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر إبَّان احتلال بريطانيا لمصر أراد أن يضرب الأزهر والمدارس الدينية، فماذا فعل؟ لم يغلقها حتى لا يثير الناس، ولكنه أنشأ مدارس علمانية بجوار الأزهر تكون الإنجليزية هي لغتها الأساسية، ثمَّ فتح لخريجي هذه المدارس فرص عمل في البلد بأجور أعلى من فرص العمل المتاحة لأبناء الأزهر والمدارس الدينية، ومن ثَمَّ توجه الناس لإدخال أبنائهم مدارس اللغات بحثًا عن فرص عمل أفضل، وزهد الناس في الأزهر، وزهدوا في اللغة، ثمَّ زهدوا بعد ذلك في الشرع. إنَّ اليهود عندما أرادوا أن ينشئوا دولتهم على أرض فلسطين، وجمعوا شتاتهم من بقاع الأرض، ماذا فعلوا؟ لقد علموا أبناءهم اللغة العِبرِية إلى درجة الإتقان قبل أن يأتوا بهم إلى أرض فلسطين، ثمَّ أنشئوا الجامعة العبرية أول نزولهم الأرض فلسطين، ودَرَّسوا مناهجهم باللغة العبرية كلغة أولى وليست ثانية، وهم بذلك حققوا أكثر من هدف: 1. زرعوا العز في قلوب اليهود للغتهم ومن ثَمَّ لدينهم. 2. حدث التواصل بين اليهود الذين جاءوا من بلاد شتَّى.
سابعا: القرآن الكريم يحفظ لسان العرب:
القرآن الكريم: كتاب الله الخاتَم، ختم الله به كتبه، وأنزله على نبيه الخاتَم، فختم بنبيه الأنبياء، بدين عام، عالمي، شامل خالد، خُتم به الأديان. والقران هو حجة الرسول وآيته الكبرى، وهو عماد لسان العرب، تدين له اللغة في بقائها وسلامتها.
أين لغة موسى والمسيح عليهما السلام اليوم؟، لماذا ضاعت؟، ضاعت لغة موسى والمسيح وبقيت لغة محمد صلى الله عليه وسلم.. ضيعوا كتاب الله فضيع لسانهم.. وحفظنا كتاب الله فحفظ لنا لساننا العربي المبين، ولو بُعِث قرشي وتحدث اليوم بعربيته الفصحى لفهمه كل من يقرأ كتاب الله من عامة المسلمين. فلا تترك لمسيحي بابا لا يرى فيه الحق، قل لهُ ضاعت لغة المسيح وبقيت لغة محمد صلى الله عليْهِ وسلّم .. ضاعت كُتُب المسيح وبقيت كتب النبي محمد .. يستطيع أمثالك - المسيحي الذي ربما لا تُتقن العربية - اليوم قراءته بلسان عربي .. بينما لو جمعوا لاتينيي ويونانيي اهل الارض ..لن يستطيعوا فهم لغة كتابك المندثرة !! عرفت الفارق بين من يخافون الله ويُقدسون كلامه فيحفظونه في الصدور وبين من تركوا التربة تأكل وتشرب على مخطوطاتهم والان يتوسلون الأرض والسماء؟!
ولولا القرآن الكريم ودقة الضبط في روايته وتلقيه ضمن حدود القراءات، لأصبحت العربية أثراً بعد عين، ولصار جمع العرب على لغة واحدة أشبه بجمع شعوب القارة الأفريقية اليوم على لغةٍ واحدة.
ثامنا: خصائص لغة القران:
1- تفرد نظمه مع حسن تأليفه: لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، من حيث ذوات المفردات والجمل وقوانينها العامة، بل جاء كتاباً عربياً جارياً على مألوف العرب من هذه الناحية، فمن حروفهم تألَّفت كلماته، ومن كلماتهم تألَّفت تراكيبه، وعلى قواعدهم العامة في الصياغة جاء تأليفه،
ولكن انظر الى اعجاز بيانه مثلا حين يقول تعالى: " (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، فقد اشتملت هذه الآية على النداء في قولها أيها، والتنبيه، والأمر، والنهي، والتخصيص، والعموم، والإعذار، من غير ركاكةٍ في ألفاظ القرآن الكريم ولا تنافر، فلا يشعر القارئ للآيات بالعُسر، ولا يشعر السامع بالثقل. وكما قال الله تعالى: "وَلَكُم فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ"، وانظر إلى ما فيه من المطابقة بين معنيين متقابلين، وهما: القصاص والحياة، ومن البلاغة حيث أتى بلفظ يسير متضمن لمعنى كثير، فإنَّ الإنسان إذا علم أنه إذا قَتل اقتُصَّ منه دعاه ذلك إلى أن يرتدع عن قتل صاحبه، فكأنه أحيا نفسه وغيره، فيرتفع بالقصاص كثير من قتل الناس بعضهم بعضاً، فيكون القصاص حياة لهم مع ما في القصاص من زيادة الحياة الطيبة في الآخرة. وقارن بين هذا وبين قول العرب: " القتل أنفى للقتل"
4-اعجازه ونفرده في نظمه وأسلوبه: قلنا أن القران لم يخرج عن معهود العرب في لغتهم العربية، ومع ذلك فقد جاء نظم القرآن مغايرًا لما عرفه العرب من الشعر والنثر، والنظم هو القالب او الطريقة التي انفرد بها في تأليف كلامه واختيار ألفاظه، فللقرآن أسلوب خاص به مغاير لأساليب العرب في الكتابة والخطابة والتأليف، وكان العرب الفصحاء يدركون هذا التمايز في الأسلوب القرآني عن غيره من الأساليب، روى مسلم في صحيحه (أن أُنَيساً أخا أبي ذر قال لأبي ذر: لقيتُ رجلاً بمكة على دينك، يزعُمُ أن الله أرسله، قلتُ: فما يقول الناس، قال : يقولون شاعر، كاهن، ساحر ـ وكان أنيس أحد الشعراء ـ قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون). وانظر الى الفصاحة في ثلاثة اساليب لنفس الشخص: قران وحديث قدسي واقوال النبي، لو أنك تقرأ لكاتب مُعين بشكل مُستمر فسوف تميز إسلوب كتابته لو وقعت عيناك على كلامه بدون ان تعرف أنه هو الكاتب، هل يوجد إنسان يستطيع صياغة كلامه بثلاثة أساليب أدبية وكل أسلوب يتميز عن الآخر ؟
2- الجزالة: اي قول لفظه قوي متين، و ذو بيان وبلاغة مع قوة الحجة، غير متكلف يُستفاد من قليله الكثير، مع عذوبة في الفم، ولذاذة في السمع، يسهل على من يتدبره تصوره بقوة. واذا شئت التعريف بالنفي حتى تستوعب المعنى، نقول ان القول غير الجزل: هو قول متكلف، يُستفاد من كثيره القليل، أو يكون مضطرب الحجة، أو لا يُستفاد منه بمرة، يقع على السمع ناشفا جافا، او يكون عامي ركيك، او عنجهي البداوة، او قد تميز الاذن نشازه وعدم بلاغته أو قلتها مقارنة بغيره. وإن شئت ان تقيس جزالة القول: ان تجد ألفاظه أشبه بالفاظ العلماء والادباء والفصحاء، يصدر من متعلم متبحر.
3-المرونة والمطاوعة في التأويل ( ذو وجوه) مرونة تجعله واسع الدلالة، فظاهره القريب هداية للناس، لكن باطنه العميق يُشبع نهم الفلاسفة ويُعجز العلماء.وهذه المرونة من أسباب خلود القرآن فإن الأساليب العربية طوال أربعة عشر قرناً قد عراها كثير من التغير والتلوين اللفظي والذهني، ومع ذلك فإن القرآن بقي خالداً بأسلوبه المتميّز وبخصائصه الفريدة يتجدّد مع العصور، وقد أثبتت العلوم الحديثة المتطورة كثيراً من حقائقه التي كانت مخفيّة عن السابقين، وفي علم الله ما يكون من بعد.
4- اطراده في اعجاز لغته: ما هو اهم شرط في الاعجاز او الاية او البرهان على النبوة والرسالة؟ أن يكون الدليلُ مُطردا، اي في كل وقت وحين يدل على مدلوله، يعني فلق البحر لموسى يدل على مدلول النبوة ان موسى نبي، انه في كل وقت وحين يثبت بالدليل مدلوله او يثبت بالاية والمعجزة النبوة، اذا ظهر اليوم فهو دليل نبوة واذا ظهر بعد مئة عام فهو دليل نبوة، انما الشيء الذي لا يطرد يعني ممكن يظهر مع النبوة وممكن يظهر مع غير النبوة فهذا لا يصلح دليلا على النبوة، يعني ما ينقع ييجي واحد يقبول انا نبي ودليلي طلوع الشمس، والشمس تطلع كل يوم سواءا كان هناك نبي او لم يكن، فهذا لا يصلح دليلا على النبوة، بل لا يصلح اصلا دليلا على صدق أحد، ولا كذبه؛ وهذا مهم لك كمبحر في مقارنة الاديان، لانك ستلتقي بالبهائي الذي يزعم ان علامة نبوة نبيه خسوف القمر، وخسوف القمر يحدث مع النبوة وغير النبوة فهو اذن ليس بدليل مطرد، فيدل على بطلان دعواه.
5- تيسير لغته للذكر: طابع الشفاهية او المشافهة: يُناسب الثقافة الصوتية السماعية، بل والفطرة، لان اللغة في اصلها بالتلقي والمشافهة، بتلقى الطفل فيسمع فيتكلم دون الحاجة لان يتعلم القراءة والكتابة، وهذا ما يُميز القرآن الكريم، حيث تميز بسهولة تلقيه وسهولة حفظه والقائه وروايته بديهة دون واسطة او كتاب، مع موسيقاه في الاذن وقابليته الانشاد، مما يُناسب سرعة حفظه وانتشاره وعالميته، وللمقارنة فهناك نص لا يمكن الاحتفاظ به الا مكتوبا فمنذ خرج من لسان صاحبه فتجده يدخل بوابة الكتابة، بينما لفظ مذ يخرج يدخل بوابة التلقي والمشافهة، ولذا فالقرآن الكريم منذ نزل نزل بخاصية الفطرة التي تضمن بقاؤه في الصدور وهي خاصية التلقي: السماع والعرض، بالتلقي من جبريل والسماع من النبي وعرض النبي على جبريل عليه السلام، ثم تلقي الصحابة من النبي والسماع عن النبي والعرض عليه، ثم التلقي عن الصحابة والسماع منهم والعرض عليهم، وظل هذا الى يومنا هذا لا ينتقل القرآن الا بالتلقي من صدور الحفاظ والسَّماع منهم والعرض عليهم . ومن اجمل الامثلة على هذا ان تنظر الى المسلم غير العربي وهو يحفظ القران عن ظهر قلب ويجيد فهمه وهو لا يعرف من العربية أي شي،
6- التدوين الفوري للوحي: جذبت وأسرت لغةُ القرآن لُباب الفصحاء والكتاب: فلحق بالنبي مثقفوا العربية وفصحاؤها في مكة وصاروا كتاب الوحي في مكة مثل أبي بكر وفيما بعد عمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص وعامر بن فهيرة ومعيقيب ابن ابي فاطمة وحذيفة بن اليمان وحنظلة بن الربيع وغيرهم، وهناك عامل اخر مع لغة القرآن جعل الكتابة حتمية، وهو طول وكبر حجم القرآن الكريم، فاذا اجتمع هذا الحجم مع الألفة الفطرية، فإنها تجعل كتابته نتاجا حتميا منذ لحظة نزوله، فكون النص يكسب الفؤاد والسمع واللسان بهذه الخواص الشفهية الفطرية، فإنه يدفع نزعة داخلية في الانسان الى حفظه وكتابته وتدوينه، وأمر ثالث فلم ينتظر الوحي ان تصحو هذه النزعة في النفوس في بيئة أمية لا ينتشر فيها الكتابة والقلم، فبدا بتأصيلها منذ لحظة وحيه بربط الشفاهية بالكتابة، يقول تعالى " اقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم، علم الانسان مالم يعلم"، فهذه هي اول سورة واول آية نزلت في القرآن الكريم، بل واول تكليف نزل في الاسلام، أول كلمة، وأول أمر، وأول تكليف قبل أي تكليف أقرا، وربك الاكرم، كرم الله على هذه الامة " الذي علم بالقلم" فربط القراءة بالعلم بالقلم، فمنذ لحظة الوحي صار هذا التكليف هو اولا، والى اخر يوم في حياته صلى الله عليه وسلم، فكتبه كُتاب الوحي ودونوه بالقلم، منذ كان النبي في مكة يكتب له الصحابي الملقب بالكاتب وقد كان احد القلائل الكتبة في مكة وهو الصحابي حنظلة بن الربيع كاتب النبي وحامل ختم النبي، وابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، فبدا تدوين الوحي منذ لحظاته الاولى، وكان الكتبةُ يراجعونه على النبي صلى الله عليه وسلم ويصحح لهم ما فيه من سقط. وهكذا يُرسي الوحيَ مع المشافهة دعامة العلم والقلم، فيأمر النبيُ كل اسير في يد المسلمين ان يعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، ويأمر زيد بن ثابت ان يتعلم قراءة المكتوب السرياني والعبري بل وقيل الحبشي كذلك، فانتقل الصحابة من أميين لا يقرأون ولا يكتبون الى كتاب ومتعلمين يكتبون بالقلم فصار بين يدي النبي اكثر من 40 كاتب للوحي يكتب ما يمليه النبي فاجتمع مع الاقراء والشفاهية، التدوين الفوري. ولماذا كان هذا معجزا؟ لانه لم يتأتى لامة من الامم ولدين من الاديان يُنسب كتابها للوحي أن تجمع الخصيصتين معا من أول يوم وهما: " المشافهة والسماع مع الحفظ في الصدور" و " الكتابة والتدوين مع الحفظ في السطور". وهنا نشير الى ان المكتوب وحده لن يحفظ اللغة، لعجز المكتوب باستمرار على تمثيل المنطوق، تمثيلا صحيحا، ولذا فالامم التي بقيت لها الكتب وفقدت الشفاهة، فقدت معها لغتها الاصلية، و كيف لها ان تعرف معاني الكلمات التي تتغير بتغير النطق مع كونها لها نفس الرسم؟ وسيأتي تفصيل ذلك في بيان كيف ان حفظ القران نصا شفهيا حقظ لنا لغتنا العربية كما هي بينما اختفت من الوجود لغة موسى والمسيح عليهما السلام.
وأما الروايات التي أوردها ابن فارس وغيره واستدل بها بلاشير على أن العرب لا علم لهم بالكتابة ، إنما تنسحب على الأعراب لا على العرب ، مثل سؤال أحدهم : ( أتهمز إسرائيل؟ قال إني إذن لرجل سوء.قالوا وإنما قال ذلك لأنه لا يعرف من الهمز إلا الضغط والعصر.وقيل لآخر أتجر فلسطين ؟ قال إني إذن لقوي. وحكى الأخفش عن أعرابي فصيح أنه سئل أن ينشده قصيدة على الدال ، فقال وما الدال؟
ثامنا: اليس في القرآن كلمات أعجمية؟
1- وهنا يرد السؤال: إنْ كان القرآن نزل بلسان عربي، فكيف يوجد فيه كلمات اعجمية فكلمة قسطاس رومية، وآمين حبشية، وسجيل فارسية. فنقول هذا السؤال لا ينم عن فهم المعنى، فقولا واحدا: ليس في القرآن كلمة أعجمية باقية على عجمتها البتة، لا يوجد يقينا اي تراكيب أعجمية، أو كلمات باقية على عجمتها، فكل ما في القرآن من الكلمات كانت تنطق به العرب وتفهمه وهو جار على سنن كلامها لا خلاف في ذلك نعلمه.
2- إنما الخلاف في المعرب اي (الذي صار لسانا عربيا فصيحا وكان في الاصل منطوق في غير لسان العرب)، هل هو موجود في القرآن؟، فهنا يستقيم السؤال، ونقول ان في القرآن الكريم حولي 60 كلمة حصرها العلماء وقيل أن اصلها لم يكن عربيا لكن عُرِّبت، يعني هم يتحدثون عن 60 كلمة من بين سبعة وسبعين الف واربعمئة وتسعة وثلاثين كلمة " 77439 "، ومع ذلك فمعظم هذه الكلمات هي على خلاف إن كانت عربية فصيحة ابا عن جد، ومشتركة بين اللغات السامية، أو انها دخلت العربية وعربها العرب بلسانهم.
3- ويأتي السؤال: هل هذه الستين على افتراض ان جميعها او بعضها في اصله لم يكن عربيا، فهل هي بلسان عربي مبين ام ليست بلسان عربي؟ الجواب: طبعا بلسان عربي مبين، أي نطق به لسان العرب، ودار على ألسنتهم؛ فعربوه بالسنتهم، وأصبح من لغتهم وصار عربياً، صقلها العرب بألسنتهم وخضعت لأوزان اللغة العربية، واخضعتها العربية لقواعد اللغة، فصارت تُنطق بلسان عربي وإنْ كانت في الاصل من لغات أخرى، إذن فالمراد بأن القرآن نزل بلسان عربي أي لم يَأْتِ بكلام جديد لم تعرفه العرب، وتتداوله السنتهم، فقبل أنْ ينزل القرآن كانت هذه الكلمات شائعة في اللسان العربي، فلا يُقال انه فيه من غير لغة العرب شيء، بل هي يقينا الان لغة عربية وان كانت في الاصل معربة من لغات اخرى، فأهل العلم يُجمعون على أن القرآن ليس فيه جمل ولا تراكيب بل ولا كلمات أعجمية، كما أنهم يُجمعون على وجود الأعلام الأعجمية فيه معربة بلسان العرب ونطقهم: كاسم مريم، موسى، اسحق، اسماعيل ... الخ. بل انه كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض مخالطة لسائر الألسنة في أسفارهم فعلقت من لغاتهم ألفاظا غيرت بعضها بالنقص من حروفها واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح ووقع بها البيان وعلى هذا الحد نزل بها القرآن.
تعليق