أولا: أهمية الوحي:

الوحي هو اساس الدين كله فبثبوت الوحي يثبت مصدرية القران ويثبت صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتثبت الشريعة كلها، وتسقط بالتبعية كل الشبهات عن الوحي والنبوة. يعني اذا ثبت الوحي ثبتت النبوة، واذا انتفى الوحي انتفت النبوة. وللحديث عن الوحي مستويان، الاول وهو الذي يختص بدورتنا هذه هي التأصيل والإفهام، والمستوى الثاني أكثر تخصصا وعمقا وهي التعرف على مدارس الاسشراق واقامة الحجج في مناظرة المستشرقين وأذيالهم.

اهم شيء في الوحي هو معرفتك واحاطتك بكل جوانبه اسلاميا، حتى تستطيع استخراج المغالطات من افواه المستشرقين والتنصيريين. وهذه أهم نقطة في المناظرات، إنك بالسليقة اذا ما سمعت مستشرق او قس او نصراني يُلقي بشبهة عن الوحي، إن اول شيء عينك تلقطه هو مكمن المغالطة، تقول له استوب، توقف، هذه النقطة التي بنيت عليها شبهتك لا نقول بها اصلا، اين دليلك عليها؟. وهنا تنتهي المناظرة قبل ان تبدأ بالانقطاع، ينقطع المحاور عند عجزه عن الإتيان بالدليل.



ثانيا: معنى الوحي في اللغة:

يقول ابن منظور في لسان العرب 6/ 1786- 4787: " الوَحْيُ الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك"، وأَصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خَفاء ولذلك صار الإِلهام يسمى وَحْياً قال الأَزهري وكذلك الإِشارةُ والإِيماءُ يسمى وَحْياً والكتابة تسمى وحياً. والعرب تقول: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ، ووَحَى وَحْياً وأَوْحَى، وأوحى يعني أومأ، وأَوْحى إِليه أَلْهَمَه، ولذلك صار الإلهام يسمى وحياً، والإلهام الذي يقع في النفس، وهو أخفى من الإيماء. والوَحْيُ المكتوب والكِتاب، والوحي هو إعلام في خفاء.

أمثلة من المعنى اللغوي للوحي في كتاب الله: ورد لفظ الوحي ومشتقاته في القرآن (78) مرة. وكثير من معاني الوحي اللغوي نجده في القران الكريم، لأن القرآن نزل بلغة العرب، فمثلا الوحي بمعنى الالهام، والالهام اما ان يكون الهاما غريزيا، او الهاما فطريا.

- فالوحي بالإلهام الفطري للإنسان، كالوحي إلى الانبياء وغير الانبياء، كوحي الله لأم موسى "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ"، ومثاله كذلك كالوحي الى الحواريين: " وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي". وقد قال تعالى "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيَاً"، فهذا الوحي يكون للنبي وغير النبي من المحدَّثين، وهذا من وحي الالهام، و دليله قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمتي أحدٌ فعمر منهم"، ومثلهم "رؤيا المؤمن ".
- والوحي بالإلهام الغريزي للحيوان، كالوحي إلى النحل "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا".
- والوحي بمعنى الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء والايحاء ، كإيحاء زكريا لقومه . قال تعالى { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا } (مريم : 11) .
وقد يكون الوحي للجماد وكل مخلوقات الله، ويأتي بمعنى الأمر: " وَأَوْحَى في كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا".
- وقد يكون الوحي من الله لملائكته : " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ".
- وقد يكون الوحي باعلام في خفاء: مثل وحي الشياطين من الانس والجن، في سرعة وخفاء، وسوسة او ايحاء في قلوب اولياءه قال تعالى: " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا" ومثل قوله تعالى عن وسوسة الشيطان "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ ليُوْحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون".



ثالثا: الوحي في الشرع وكيفيته:

الوحي في الشرع هو إعلام الله الخفي السريع لمن اصطفاه من عباده بما يريد أن يبلغه إليهم من شرع أو كتاب او هداية، بواسطة أو غير واسطة، والوحي هو احد طرق كلام الله للبشر، فما هي الطرق الاخرى؟ بين الله تعالى ثلاث طرق لكلامه للبشر بقوله في سورة الشورى : " وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ" (الشورى : 51) . ففرق سبحانه بين الوحي العام وبين وحي التكليم من وراء حجاب، وبين وحي الرسالة والنبوة، كما فرق الله مرة اخرى بين وحي التشريع والنبوة وبين التكليم في قوله تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده .. إلى قوله تعالى " وكلم الله موسى تكليما "

إذن فيكون عندنا ثلاثة أوجه من كلام الله للبشر (التكليم):

1- الوحي المجرد او وحي الالهام
2- التكليم من وراء حجاب
3- وحي الرسالة والنبوة (التشريع والناموس).

1- الوحي المجرد او وحي الالهام: ويكون هذا الوحي في حق الانبياء وغير الانبياء، ويكون بالإلقاء في القلب والالهام يقظة أو مناماً، والنفْث في الروع، وقد يكون بواسطة الملائكة او صالحي الانس والجن او هداية الله، والصالحين والمؤمنين، وغيرهم. والذي عليه السلف والائمة ان الله جعل للحوادث اسبابا وحكمة وهذه الحوادث قد تحدث باسباب من الملائكة اومن صالحي الانس والجن، فالاعتقادات الصحيحة والارادات المحمودة قد تحصل بسبب الملائكة وصالحي الانس، والاعتقادات والارادات الفاسدة تحصل بسبب شياطين الانس والجن.
.




2- كلام الله من وراء حجاب: وهذا مما اختُص به بعض انبياء الله، مثل موسى عليه السلام، قال تعالى: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني" ولِذا سُمي كليم الله، وهو قوله تعالى " وكلم الله موسى تكليما "، وقد عُلم بالإضطرار من دين الله بل من دين أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى أنه أعظم من خطابه وإيحائه لسائر الأنبياء والمرسلين، فيقول تعالى: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله" وقوله تعالى: "إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي، وممن كلمه الله كذلك من وراء حجاب، تكليم الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء على ما هو ثابت في السنة .

3- وحي النبوة والرسالة: كَمَا كَلَّمَ الرُّسُلَ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، وكما كلمنا عن طريق الرسل، كما قال الله تعالى " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس" سورة الحج 75، وهذا وحي التشريع، ولا يكون الا للانبياء والرسل، ومثاله نزول جبريل عليه السلام بالوحي من الله على الأنبياء والرسل. والقرآن كله نزل بهذه الطريقة تكلم الله به ، وسمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل ، وبلغه جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم . قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } (الشعراء : 192- 194) . وقال تعالى : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } (النحل : 102) ، " يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ"



رابعا: فما هو الفارق اذن بين وحي الإلهام للنبي ولغير النبي؟

عرفنا في النوع الاول من الوحي " الوحي المجرد/ الإلهام"، أنه يكون للنبي وغير النبي، فما هو الفارق اذن بين الوحي للنبي والوحي لغير النبي؟،

نقول أن الوحي للنبي:
1- يكون من الله.ولا يكون من الشيطان
2- ويكون معصوما فيما يبلغ به عن الله، فينسخ الله ما يُلقي الشيطان فلا يقول النبي الا حقا.
3- ويكون النبي على يقينٍ منه فلا يُحتاج معه غيره.

بعكس غير النبي، فإن الوحي للمُحدّثين والاولياء والصالحين وعامة الناس:
1- قد يكون من الله (رؤيا المؤمن) وقد يكون من الشيطان او حديث النفس.
2- ليس بمعصوم بل يقع له الصواب والخطأ
3- ولا يكون على يقين من صحته فيكون محتاجا أبدا إلى أن يزن ما يستشعره بالميزان النبوي المعصوم.

والفلاسفة والمتصوفة ضلوا في هذا الباب، فاعتبروا الإيحاءات الشيطانية والوساوس النفسانية وحيا، بل بلغ من بعضهم الجرأة، قوله، قال رسول الله ثم يقول حديثا عرفه في منامه، فينسب ما يره في المنام للرسول!، وهذا مصداق قول الله فيهم " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم" فتجد الصوفي تارة يدعي أحدهم المهدية أو القطبية ويقول أنا القطب الغوث، وانا المهدي المنتظر، ويأتي بما يخالف دين الله ويضرب يعضه بعضا، و منهم من يجعل نفسه فوق الانبياء والمرسلين، فكل هؤلاء ضلوا من باب الوسوسة والنزغ، ومرض القلوب، واعتبروا كل خاطر عندهم حديث الله، فيملي لهم الشيطان وما يزيدهم الشيطان الا غرورا، ولم يفرقوا بغرورهم بين باب النبوة خصيصة الانبياء وبين الالهام وحديث النفس التي يختص بها كل البشر ويجب ان تكون تبعا لله وللرسول.


وبالمرة ما الفرق بين النبي والرسول؟
هل النبي غير مرسل والرسول مرسل؟ ، الجواب لا ، بل كلاهما مرسلان من الله، قال تعالى: "{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ}"، فكلاهما مرسلان، انما النبي يرسل الى المؤمنين من قومه ممن عرفوا نبوته ويؤمنون به، فيخبرهم بامر الله ونهيه وخبره، ولذا حالهم كحال العلماء، وولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء"، بينما الرسول يرسله الله الى المخالفين والمكذبين من قومه، ولا بُدّ أن يكذّب الرسلَ قومٌ؛ قال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون}، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}، وقال تعالى: " حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ".

وليس من شروط الرسول أن يأتي بشرع جديدـ فسيدنا داود وسليمان كانا رسولين وعلى شريعة موسى (نقول مجازا كانوا يهودا، والا فهم ماعرفوا هذا الاسم " اليهودية" بل هو اسم لاحق اصطلحه اليهود لانفسهم ومات موسى عليه السلام ولا يعلم ان دينه صار اسمه اليهودية). وسيدنا يوسف كان نبيا ورسولا، ودليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ في شَكّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً}، طيب سيدنا يوسف كان على دين من؟ يوسف كان على ملة إبراهيم، لان اليهودية جاءت من بعد يوسف عليه السلام.



خامسا: الاحوال التي ياتي بها الملك (جبريل عليه السلام) على النبي:

في النوع الثالث من انواع التكليم، وهو الذي ينصرف اليه العقل والعرف اليوم بقولنا " وحي" وهو وحي الرسالة والنبوة ، فإن جبريل عليه السلام ياتي التبي - لتبليغ الوحي- على ثلاثة احوال :
.


وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحالتين الأخيرتين في إجابته للحارث بن هشام لما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال . وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول » متفق عليه . ومعنى فصم : أي أقلع وانكشف


سادسا: وَقْعُ الوحي على الرسول

وكانت تحصل مع النبي صلى الله عليه وسلم بنزول الوحي عليه أحوال ، يراها ويسمعها ويشعر بها من حوله من أصحابه رضي الله عنهم ، وفي بعضها معاناة شديدة مثل وقع الجرس إذا صلصل في أذن سامعه، وذلك أشد أنواعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((أحيانا يأتيني مثل صَلْصَلَة الجرس -وهو أَشَدُّهُ عليّ _ فَيَفْصِمُ عني وقد وَعَيْتُ عنه ما قال)) .

ومن احواله عند مجيء الوحي:

1- سماع صوت عند الوحي: فربما سمع الحاضرون صوتًا عند وجه الرسول كأنه دوي النحل، لكنهم لا يفقهون كلاماً، فجاء في الحديث عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي سُمع عند وجهه كدوي النحل" ، فهذا باعتبار سمع الصحابة له، وأما هو في مقامه صلى الله عليه وسلم فيسمعه كصلصلة الجرس، وإنه يسمع ويعي ما يوحى إليه، دون لبس ولا خفاء، ومن غير شك ولا ارتياب، فيجد ما أوحي به إليه حاضراً في ذاكرته، كأنما كتب في قلبه.

2. أن يفيض جبينه وجبهته الشريفة بالعَرَق: حتى في اليوم الشديد البرد . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ-اي ينقطع- وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ - اي يسيل- عَرَقًا " . رواه البخاري، وعنها كذلك: " حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ -كاللؤلؤ- مِنَ الْعَرَقِ فِى الْيَوْمِ الشَّاتِ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ . رواه مسلم. وهذا فيه دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العادة وهو كثرة العرق في شدة البرد ، فإنه يشعر بوجود أمر طارئ زائد على الطباع البشرية، من ثقل ما يُلقيه عليه الملاك من القول.

3- أنه يثقل وزنه صلى الله عليه وسلم جدّاً: فيظهر اثر ذلك على دابته، حتى إن البعير الذي يكون عليه يكاد يبرك إن جاءه الوحي وهو عليها، فجاء في الحديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : " إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ -ناقته- فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا - أي باطن عنقها-" . بل وحتى خشي زيد بن ثابت على فخذه أن ترضَّ والنبي يوحى اليه، وقد كانت فخذه رضي الله عنه تحت فخذ النبي صلى الله عليه وسلم فجاء في الحديث عن زيد بْنَ ثابتٍ قال : " ... فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي " . رواه البخاري.

4. وكان تصيبه شدة . فعن عائشة رضي الله عنها، وهي تتحدث عن وحي الله على نبيها ببراءتها من حادثة الافك، فقالت : فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ - أي شدة الكرب ، وشدة الحمَّى- عِنْدَ الْوَحْيِ . رواه مسلم .

5. احمرار الوجه وتغير لونه من الغطِّ والعصر: وكان يتغير وجهه صلى الله عليه وسلم فيتربَّد ثم يحمرُّ . فجاء في الحديث عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " كَانَ نبي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوحي كُرِبَ لِذَلِكَ وَتَرَبَّدَ - تغير لونه كلون الغبرة مع الحمرة- وَجْهُهُ " . وقد وصف الصحابي الجليل يعلى بن أمية وجه النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه بقوله " فَإِذَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ ( أَيْنَ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْ الْعُمْرَةِ آنِفًا ) ، كما رواه رواه البخاري ومسلم . والغط اي العصر كما جاء في الحديث في صحيح البخاري، عن بدء الوحي حيث قال: " فأخذني ـ جبريل ـ فغطني، أي ضمني وعصرني: حتى بلغ مني الجهد ".

6- أن ينكس رأسه ، ويغطيه بثوب: فعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : " كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْىُ نَكَسَ رَأْسَهُ وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُءُوسَهُمْ فَلَمَّا أُتْلِىَ عَنْهُ - أي ارتفع عنه الوحى- رَفَعَ رَأْسَهُ ) . رواه مسلم . وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : " ... وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَرَفْنَا ذَلِكَ فِيهِ فَتَنَحَّى مُنْتَبِذًا خَلْفَنَا قَالَ فَجَعَلَ يُغَطِّي رَأْسَهُ بِثَوْبِهِ وَيَشْتَدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى عَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَأَتَانَا فَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) . رواه أحمد ( 7 / 426 ، 427 )

7- أو ان يحرك لسانه قراءة بالوحي والتعجل به: كان صلى الله عليه وسلم يحرِّك لسانه بسرعة وشدة ليحفظ عن جبريل حتى نهاه الله عن ذلك وطمأنه أنه سيجمع القرآن له في صدره . عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ) قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ شَفَتَيْهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ )، قَالَ : جَمْعُهُ لَه فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ -أي إذا فرغ جبريل من قراءته- فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) قَالَ : فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ . رواه البخاري ( 5 ) ومسلم ( 448 ) .

8. وكان يُسمع تردد انفاسه في أنفه: كغطيط البَكر ، وهو الفتي من الإبل . فجاء في الحديث عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال : " وددت أنى قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي فقال عمر : تعال ، أيسرك أن تنظر إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد أنزل الله عليه الوحي ؟ قلت : نعم ، فرفع طرف الثوب ، فنظرت إليه له غطيط ، وأحسبه قال : كغطيط البَكر . رواه البخارى ( 1789 ) ومسلم ( 1180 ) .


يتضح من هذه الأنواع أن الوحي حَدَثٌ مفاجئ يطرأ على النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يتوقعه أو يتطلع إليه، وانه مع ذلك واعٍ به متحكم فيه شاعر به، فيحرك به لسانه ثم يمنع ان يحركه فلا يحركه، ويغطي بيديه وجهه بثوبه، فهو في تحكم كامل، لا فيه نوم او سقوط، و لم يثبت قط أنه كان يحنق عند فمه ، ولا أنه يتمدد على الأرض عندما يأتيه الوحي ، ولا أنه كان يعض على شفتيه ، ولا أنه يغلق عينيه، فكلها دعاوى مغرضة باطلة روج لها بعض المستشرقين مغالطين لنسبة الصرع الى النبي صلى الله عليه وسلم، بل ومع التفصيل فيما سبق، فانه يضحد الشبهة بالكلية أنه كما يظهر من الروايات يشترك في سماعه ورؤيته من حوله من الصحابة، وسيأتي تفصيل ذلك في حينه.



سابعا: هل الوحي امر داخلي من نفس الرسول ام خارجي عنه؟

يعني هل الوحي شيء يأتي به النبي من داخله وتلقاء نفسه، يؤلفه او يزيفه او قناعة شخصية او يكذب به، نتيجة ذكاء او عبقرية، او ينقله من مصدر آخر؟، أم هو امر خارجي لا يتحكم فيه؟ الجواب: أن الوحي أمر خارجي عنه صلى الله عليه وسلم، يمعنى انه لا تحكم له فيه،

وما أهمية معرفة ذلك؟ خلافاً لما تشبث به كثير من المستشرقين بأنه أمر داخلي، حتى يتوصلوا إلى التشكيك في ظاهرة الوحي والنبوة التي هي أخص مزايا الرسول صلى الله عليه وسلم. وهم في هذا يرون أن محمداً بعبقريته الفذة، وفطرته السليمة، كان المصدر الوحيد للقرآن، أو أنه جاء به من عند نفسه، بطريق الإلهام، أو من تأثير البيئة التي نشأ فيها، او أنه القاه اليه احد غيره، او أنه كان على علم بالاديان عقائد اليهود والنصارى، فهو ليس وحياً إلهياً من عند الله؛

وما الدليل على أنه أمر خارج عنه؟

والدليل:

1- مادلت عليه الروايات: إنه أثناء نزول الوحي عليه كان يأتيه فجأة وهو بين اصحابه، و تعتريه أعراض إلزامية كاحمرار الوجه، وتتابع الأنفاس، وثقل في الجسم، وتفصد العرق في اليوم الشديد البرد. ومع كل ذلك ما كان يستطيع أن يدفع ذلك عن نفسه، مما يؤكد أن الوحي أمر خارجي؛

2- الادلة البدهية: لو كان محمد هو مؤلف القرآن بما فيه من مبادئ وأفكار لماذا كان ذلك بعد (40) سنة من عمره، أكان يسكت طوال الأربعين السنة الأولى من حياته عن الدعوة ثم ينشط فجأة بعد الأربعين؟! ولو كان الوحي من عند محمد ومن ابتكاره لجعله يوافق هواه، ولو كان من إنشائه، فلماذا لم يضمنه أحاديثه؟ ولماذا لم يسرد فيه قصة حياته؟ وكيف يمكن أن يكون القرآن من عنده وهو يخالف رأيه في بعض المواقف، بل يعاتبه ويلومه على أفعاله وبعض تصرفاته؟ ثم إن القرآن لا يعكس شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في أفراحه وأحزانه، فقد توفي عمه وزوجه في عام واحد فحزن عليهما شديداً، ومع ذلك لم توجد في القرآن أي إشارة إلى ذلك. في بعض المواقف كان القرآن يخالف رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان يأتيه عتاب ولوم على أفعاله، فقد عاتبه القرآن على موقفه من عبد الله بن أم مكتوم الرجل الأعمى بقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى}. وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من المواقف الشديدة التي كان يحتاج فيها إلى القرآن لحسمها، مثل ما حلّ به عندما رماه المنافقون في أهل بيته، فلم يستطع أن يفعل شيئاً مدَّة شهر حتى جاءه الوحي ببراءتها وقطع ألسنة الخائضين بالإفك، فلو كان القرآن من عنده لقطع بالبراءة من أول وهلة. يضاف إلى ذلك هبوط الوحي لأول مرة على الرسول وأثره في شخصيته، وكيفية التوفيق بين انقطاع الوحي ثلاث سنين، وشوق الرسول إليه،

3- أسلوب القرآن البليغ المعجز المغاير لأسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صدر عنه من أقوال غير القرآن، فالحديث يختلف عن القرآن من جهة أسلوبه، وكل من يفهم العربية يدرك الفرق الشاسع بين الأسلوبين، فلو كان القرآن من عنده لما اختلف الأسلوبان، وبذلك بطل هذا الزعم.

4- التواطؤ الكوني: ما تضمنه القرآن من إشارات علمية دقيقة، ونبوءات غيبية، وأخبار القرون الماضية، وأمور التشريع، وغير ذلك من العلوم والمعارف التي يزخر بها القرآن، كل ذلك ينفي بشريته، فمن أين لمحمد الحقائق العلمية؟ ومن أين له أخبار الأولين؟ ومن أين له النبوءات الغيبية؟ فمهما بلغ الإنسان من العبقرية لا يستطيع كشف حجب الغيب، فدل على أن القرآن من عند الله الذي أحاط بكل شيء علماً.

5- التواطؤ الغيبي وبشارات الانبياء قبله.

6- وسر بقاء القرآن محفوظاً منذ جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، لم يثبت في تاريخ البشرية أن ظل كتاب كما هو، دون زيادة ولا نقصان، أو تحريف أو تبديل، فإذا قدر محمد عليه السلام على الحفاظ عليه طوال حياته، فما الذي حال دون ضياع جزء منه بعد وفاته، كما حرّفت وبدّلت كتب أهل الكتاب، وما سبقها من كتب الله المنَزلة؟!



ثامنا: ما هي علامات صدق النبوة ؟

1- صدق النبي (المرسل) في ذاته، قبل النبوة وبعد النبوة، صدقه في ذاته، وصدقه في اخلاقه، وهذا من موجبات العقول.

2- تصديق النبي للانبياء قبله: فدين الله واحد وإن اختلفت الشرائع، فإن آية كلّ نبيّ هي آية لجميع الأنبياء، لأن ما أتى به الأول من الآيات، فهو دليلٌ على نبوّته، ونبوّة من يُبشّر به من بعده، وما أتى به الثاني فهو دليلٌ على نبوّته ونبوة من يُصدّقه ممّن تقدّمه من الانبياء. وهذا الشرط يُمكن به اسقاط نبوة النبي الكاذب في أي دين كما عند النصارى.

3- صدق وتحقق النبوات والمعجزات، النبوة هي أصل المعجزة، فلا نبوة بلا معجزات، والمعجزات قد يُعلم بها ثبوت الصانع (اثبات الخالق) وصدق الرسول معاً. إذن فآيات الأنبياء هي أدلة وبراهين على صدقهم، والدليل يستلزم المدلول عليه، وكما أن الحادث دليل على المحدِث؛ ويمتنع وجود حادث بلا محدِث، فكذلك المعجزة دليل على صدق النبوة، ويمتنع وجود المعجزة (الدليل) مع غياب صدق النبوة (المدلول). كما ان من معجزات النبي وخواص الانبياء: الإخبار عن الغيب، والإنباء به.

4- حقيقة الدعوى: حقيقة دعوى النبي هي التوحيد: دعوة الناس إلى عبادة الله وحده، وخلع عبادة ما سواه، مع إثبات الصفات والتوحيد والقدر، وتفصيل الشرائع، والأمر والنهي والإباحة، وبيان ما يُحبّه الله وما يكرهه، والإيمان باليوم الآخر، والجنة والنار، والثواب والعقاب. وكل ما سيق مدار المعرفة به على الرسل، فإن لم يبينه النبي او الرسول، فكيف يثبت صدق النبوة، وعلاما بُعِث إذن؟!