بسم الله الرحمن الرحيم
يتشبث النصارى الحاقدون على الاسلام برواية واهية ضعيفة موضوعة و هي رواية الغرانيق لمحاولة الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم
و استشهدوا ببعض الرواياتالضعيفة التي وردت في تفسير قوله تعالى في سورة الحج :
(( و ما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم اياته و الله عليم حكيم ))
و للرد على هذه الفرية نقول :
اولا : ان هذه الرواية ضعيفة بشهادة الحفاظ و المحققين من اهل العلم
قال الامام ابن كثير في تفسيره :
((قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي قريشقد أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم .)) انتهى كلام بن كثير
قال الامام القرطبي رحمه الله في تفسيره :
(( الثالثة : الأحاديث المروية في نزول هذه الآية ، وليس منها شيء يصح . وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم : حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء ، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته ؟ وكانوا يقولون أيضا : ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط ؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر ، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد ، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان.... وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ، ولا عمدا ، ولا سهوا ، وغلطا : اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة ؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . قال أبو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل يجوز ذكره ؛ إلا ما رواه شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب ، الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة . . . وذكر القصة . ولم يسنده عن شعبة إلاأمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير . وإنما يعرف عنالكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله . والذي منه في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ ( والنجم ) بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ؛ هذا توهينه من طريق النقل .
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح . وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة ؛ منها الغث والسمين . والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته ؛ كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات ، محاكيا نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشاعوها . ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله ، وتحققهم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه ؛ فيكون ما روي من حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة ، وقد قال الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيالآية .
قلت : وهذا التأويل ، أحسن ما قيل في هذا . وقد قال سليمان بن حرب : إن ( في ) بمعنى عنده ؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كقوله - عز وجل - : ولبثت فيناأي عندنا . وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية ، عن أبيه ، عن علماء الشرق ، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي ، وقال قبله : إن هذه الآية نص في غرضنا ، دليل على صحة مذهبنا ، أصل في براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ينسب إليه أنه قاله ؛ وذلك أن الله تعالى قال :وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيتهأي في تلاوته . فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله ، وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي . تقول : ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا ؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم به . ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال : وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده في النظر ؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوب على هذا المرمى ، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها ، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعال لما يريد . ))
و قال الامام الشوكاني رحمه الله في فتح القدير :
((ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين[ الحاقة : 44 - 46 ][ ص: 970 ] وقوله : وما ينطق عن الهوى[ النجم : 3 ] وقوله :ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم[ الإسراء : 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون .
قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإسناد متصل .
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة .
قال القاضي عياضفي الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا
قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح))
و نقرا في تفسير البحر المحيط لاثير الدين الاندلسي رحمه الله :
(( وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلهما ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالا وجوابا وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتابا . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه . والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال الله تعالى آمرا لنبيه : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) وقال تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل) الآية وقال تعالى : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى : ( كذلك لنثبت به فؤادك) وقال تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى) وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة . ))
و نقل الامام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب تفسير القران قول القاضي عياض رحمه الله :
(( قال الكرماني : سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم ، أو وقع ذلك منهم بلا قصد ، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم قلت : والاحتمالات الثلاثة فيها نظر ، والأول منهالعياض ، .... ، قال : وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صحة له عقلا ولا نقلا ، انتهى .))
وقال البيضاوي في تفسيره لسورة الحج
((إِلَّا إِذا تَمَنَّى زور في نفسه ما يهواه. أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما
قال عليه الصلاة والسلام «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» .
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإِرشاد إلى ما يزيحه. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس. حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت. وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة وَالنَّجْمِ فأخذ يقرؤها فلما بلغ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمَّا سجد في آخرها، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية.
وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإِيمان عن المتزلزل فيه، وقيل تمنى قرأ كقوله:
تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلِه ... تَمني دَاودَ الزبُورَ عَلَى رسلِ
وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعاً صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد رد أيضاً بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ لأنه أيضاً يحتمله، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم))
قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير
((قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.
قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟
تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: #وهذا #لا #يصحّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات «2» ، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «3» .
قال: وفي معنى «تمنّى» قولان «4» أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ... وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ... تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُبطله ويُذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال مقاتل: يُحْكِمُها من الباطل. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: أَلْقَى الشَّيْطانُ، والفتنة ها هنا بمعنى البلية والمحنة. والمرضُ: الشك والنفاق. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: الجافية عن الإِيمان. ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة.))
و قال ابو السعود في تفسيره لسورة الحج
((المنامِ {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه {أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} في تشهِّيه ما يُوجب اشتغاله بالدنيا كماقال صلى الله عليه وسلم وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سعين مَرَّة {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شئون الحقِّ وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لزيادة التقرير والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بكلِّ ما مِن شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العباد من قول وفصل عمداً أو خطأ {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعلُ والإظهار ههنا أيضا لما كر مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي قيل حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ وقيل تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبْقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتنم به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ #وهو #مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزل فيه وقيل سورة الحج (53 55) تمنَّى بمعنى قرأ كقوله [تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلة تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنَّه أيضاً يحتملُه وفي الآيةِ دِلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم))
وقال ابن حزم رحمه الله في الفصل في الملل و النحل الجزء الرابع ، الكلام في موسى عليه السلام و امه :
(( وَأما الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وأنهن الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى فكذب بحت مَوْضُوع لِأَنَّهُ لم يَصح قطّ من طَرِيق النَّقْل وَلَا معنى للاشتغال بِهِ إِذْ وضع الْكَذِب لَا يعجز عَنهُ أحد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان الْآيَة فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن الْأَمَانِي الْوَاقِعَة فِي النَّفس لَا معنى لَهَا وَقد تمنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِسْلَام عَمه أبي طَالب وَلم يرد الله عز وَجل كَون ذَلِك فَهَذِهِ الْأَمَانِي الَّتِي ذكرهَا الله عز وَجل لَا سواهَا وحاشا لله أَن يتَمَنَّى نَبِي مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة دون مزِيد تكلّف وَلَا يحل خلاف الظَّاهِر إِلَّا بِظَاهِر آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ))
قال البقاعي في تفسيره لسورة الحج :
((إلا إذا تمنى} أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان في أمنيته} أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم))
قال ابن عادل في تفسيره اللباب في علوم الكتاب لسورة الحج
((قال ابن الخطيب: وأما أهل التحقيق فقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول: أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] ، وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [يونس: 15] ، وقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله: تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقوله:
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74] وكلمة «لَوْلاَ» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل، وقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] ، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وأما السنة: فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال: رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق وروي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها: أنه - عليه السلام - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى.
وخامسها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة.))
نقرا في التفسير الكبير للأمام الرازي
((هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 - 46] ، وثانيها : قوله : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) [ يونس : 15 ] . وثالثها : قوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلا لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم . ورابعها : قوله تعالى : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ) [ الإسراء : 73 ] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل . وخامسها : قوله : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) [ الإسراء : 74 ] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل . وسادسها : قوله : ( كذلك لنثبت به فؤادك ) [ الفرقان : 32 ] . وسابعها : قوله : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] . وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا . وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم ، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة حديث الغرانيق . وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان . وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة [ ص: 45 ] آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم . وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ؟ ورابعها : قوله : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى . وخامسها : وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه ، فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ))
ويقول الرازي ايضا :
(( (فهذه الوجوه المذكورة في قوله : " تلك الغرانيق العلا " قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة . وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمني القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ، ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :
أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء . قالوا : إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم ، وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضا [ ص: 48 ] خروج عن الدين ، وبيانه ما تقدم . وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها . وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملا فيلقي الشيطان في جملته ما لم يرده ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته . ورابعها : معنى الآية إذا تمنى ، إذا أراد فعلا مقربا إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك ، وهو كقوله تعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] وكقوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ) [ الأعراف : 200 ] ومن الناس من قال : لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى : ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ) ، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه ، فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة
المسألة الثالثة : يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم ، فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان ، بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم ))
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير و التنوير لسورة الحج
((وَمَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّةِ النَّبِيءِ وَالرَّسُولِ إِلْقَاءُ مَا يُضَادُّهَا، كَمَنْ يَمْكُرُ فَيُلْقِي السمّ فِي الدّسم، فَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ: أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُلْقِيَ فِي قُلُوبِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مَطَاعِنَ يَبُثُّونَهَا فِي قَوْمِهِمْ، وَيُرَوِّجُ الشُّبُهَاتِ بِإِلْقَاءِ الشُّكُوكِ الَّتِي تَصْرِفُ نَظَرَ الْعَقْلِ عَنْ تَذَكُّرِ الْبُرْهَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ الْإِرْشَادَ وَيُكَرِّرُ الْهَدْيَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ، وَيَفْضَحُ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَسُوءَ فِعْلِهِِِِِ بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الْأَعْرَاف: 27] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . فَاللَّهُ بِهَدْيِهِ وَبَيَانِهِ يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، أَيْ يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ اللَّهِ الْوَاضِحِ، وَيَزِيدُ آيَاتِ دَعْوَةِ رُسُلِهِ بَيَانًا، وَذَلِكَ هُوَ إِحْكَامُ آيَاتِهِ، أَيْ تَحْقِيقُهَا وَتَثْبِيتُ مَدْلُولِهَا وَتَوْضِيحُهَا بِمَا لَا شُبْهَةَ بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي آلِ عِمْرَانَ.....وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءِ إِذَا تَمَنَّى هَدْيَ قَوْمِهِ أَوْ حَرَصَ عَلَى ذَلِك فلقي مِنْهُم الْعِنَادَ، وَتَمَنَّى حُصُولَ هُدَاهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ خَاطِرَ الْيَأْسِ مَنْ هُدَاهُمْ عَسَى أَنْ يُقْصِرَ النَّبِيءَِِِِِِ مِنْ حِرْصِهِ أَوْ أَنْ يُضْجِرَهُ، وَهِيَ خَوَاطِرُ تَلُوحُ فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ تَعْتَرِضُهَا فَلَا يَلْبَثُ ذَلِكَ الْخَاطِرُ أَنْ يَنْقَشِعَ وَيَرْسَخَ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الدَّأْبِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الرُّشْدِ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُلَوِّحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: 35] .......بِمَا تَلَقَّيْتَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِظَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الْمُسْتَقِلِّ بِدَلَالَتِهِ وَالْمُسْتَغْنَى بِنَهْلِهِ عَنْ عُلَالَتِهِ، وَالسَّالِمِ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى ضَمِيمَةِ الْقَصَصِ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا أَلْصَقَهُ بِهَا الْمُلْصِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ فِي عُلُومِ السُّنَّةِ، وَتَلَقَّاهُ مِنْهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حُبًّا فِي غَرَائِبِ النَّوَادِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى تَجَاوَزُوا بِهَذَا الْإِلْصَاقِ إِلَى إِفْسَادِ مَعَانِي سُورَةِ النَّجْمِ، فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكِ وَأَقْرَبُهَا رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي نَادٍ... وَهِيَ قِصَّةٌ يَجِدُهَا السَّامِعُ ضِغْثًا عَلَى إِبَّالَةٍ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهَا النِّحْرِيرُ بَالَهُ. وَمَا رُوِيَتْ
إِلَّا بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ وَمُنْتَهَاهَا إِلَى ذِكْرِ قِصَّةٍ، وَلَيْسَ فِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا سَمَاعُ صَحَابِيٍّ لِشَيْءٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَدُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدٌ مَطْعُونٌ. عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ كَانَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ تُعَارِضُ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أَصْلَ عصمَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْتِبَاسَ عَلَيْهِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَيَكْفِي تَكْذِيبًا لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3] وَفِي مَعْرِفَةِ الْملك. فَلَو رووها الثِّقَاتُ لَوَجَبَ رَفْضُهَا وَتَأْوِيلُهَا فَكَيْفَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ. وَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 23] فَيَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَدْحُهَا بِأَنَّهَا «الْغَرَانِيقُ العلى وَأَن شفاعتهن لَتُرْتَجَى» . وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَلَامٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَاكُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ كُلَّهَا حَتَّى خَاتِمَتِهَا فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: 62] لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَدُوا حِينَ سَجَدَ الْمُسْلِمُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا السُّورَةَ كُلَّهَا وَمَا بَيْنَ آيَةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] وَبَيْنَ آخِرِ السُّورَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي إِبْطَالِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَزْيِيفٌ كَثِيرٌ لِعَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا مِنْ أَجْلِ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَتِهِمْ))
قال القاسمي رحمه الله في تفسيره :
((وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شرعته أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي بما يصدّ عنها، ويصرف المدعوّين عن إجابتها فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويمحقه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم الإلقاءات الشيطانية، وطريق نسخها من وجه وحيه. حَكِيمٌ يحكم آياته بحكمته. ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما. ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة، .... والضمير للقرآن أو لله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق الحق والاستقامة، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية. ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه، لو احتاجت إلى نظير. ولكنها بيّنة بنفسها، غنية عن التطويل في التأويل، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل. ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك، ثم نتبعه بنقد المحققين، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة.))
قال السمين الحلبي في تفسيره الدر المصون
((وقوله تعالى: {إِذَا تمنى} : إنما أُفْرِد الضميرُ، وإن تقدَّمه شيئان معطوفٌ أحدُهما على الآخر بالواو؛ لأنَّ في الكلام حذفاً تقديرُه: وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إلاَّ إذا تمنَّى ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنَّى كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . والحذفُ: إمَّا من الأول أو من الثاني.
والضميرُ في» أُمْنِيَّتِه «فيه قولان، أحدُهما: وهو الذين ينبغي أن يكونَ أنه ضميرُ الشيطان. والثاني: أنه ضميرُ الرسولِ، ورَوَوْا في ذلك تفاسيرَ اللهُ أعلم بصحتها ))
قال الثعالبي رحمه الله في تفسيره لسورة الحج :
(( ((وقوله سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ... } الآية.
قلت: قال القاضي أبو الفضل عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ " أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة «والنجم» وقال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [النجم:19، 20] قال: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العُلَىٰ، وإنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَىٰ ". قال عياض: اعلم (أكرمك اللّه) أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ (رحمه اللّه تعالى) حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه؛ وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ، قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ؛ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره ـــ في علمي ـــ مُصَنِّفٌ مشهور؛ بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السَّبَبَ ولا غيره.
قال * ع *: وحدثني أَبي (رحمه اللّه تعالى) أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته ـــ أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أُسْمِعَهُ الكُفَّارُ عند قول النبي صلى الله عليه وسلم:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [النجم:19، 20].
وقَرَّبَ صوته من صوتِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعادنا اللّه من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى بن عقبة في «مغازيه» نحوَ هذا، وقال: إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: { تَمَنَّىٰ } أي: تلا ومنه قوله تعالى:{ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [البقرة:78]. أي: تلاوة، { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي: يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ: وقال ابن عباس: { إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال: { أُمْنِيَّتِهِ }: قراءته انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى))
قال النيسابوري في تفسيره غرائب القران ، سورة الحج :
((واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [الحاقة: 44 - 46] وقوله{ وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وقوله{ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن } [الإسراء: 74] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وقد صنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضاً إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وايضاً إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجداً قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضاً منع الشيطان من اصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وايضاً لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع، ولناقض قوله{ بلغ ما أنزل إليك } [المائدة: 67] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان: الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [الآية: 78] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان: أحدهما أنه يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله " تلك الغرانيق العلى ". وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها.))
قال ابو حيان الاندلسي في تفسيره البحر المحيط لسورة الحج :
(( وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فَمَنْ قَبْلَهُمَا وَمَنْ بَعْدَهُمَا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمَعْصُومِ صَلَوَاتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ وَفِي تَقْرِيرِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا وَهِيَ قِصَّةٌ سُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ جَامِعُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ رُوَاتَهَا مَطْعُونٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي التَّصَانِيفِ الحديثة شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ وَلِذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنْ نَقْلِ هَذَا وَهُمْ يَتْلُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ «2» وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «3» الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «4» الْآيَةَ فَالتَّثْبِيتُ وَاقِعٌ وَالْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةٌ. وَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «5» وَقَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «6» وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَشْهَدُ بِعِصْمَتِهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَطْرُقُ إِلَى تَجْوِيزِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرِيعَةِ فَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ، وَاسْتِحَالَةُ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ. ))
قال الخازن في تفسيره لسورة الحج :
((((فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقه وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً قال الله تعالى:{ وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وقال تعالى:{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [فصلت: 42] فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وأخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرآ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافراً ")))
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره اضواء البيان لسورة الحج :
(( قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلِ
فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي الْبَيْتَيْنِ قَرَأَ وَتَلَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَكَوْنُ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَمَنَّى فِي الْآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَمَنِّيهِ إِسْلَامَ أُمَّتِهِ وَطَاعَتَهُمْ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ، وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ فَعَلَى أَنْ تَمَنَّى بِمَعْنَى: أَحَبَّ إِيمَانَ امته وَعَلَّقَ أَمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ أَلْقَى يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ، وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حَتَّى لَا يَتِمَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الرَّسُولِ مَا تَمَنَّى.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِلْقَاءِ فِي أُمْنِيَّتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ وَشُبَهَهُ لِيَصُدَّ بِهَا عَمَّا تَمَنَّاهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَصَارَ الْإِلْقَاءُ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهَا بِالصَّدِّ عَنْ تَمَامِهَا وَالْحَيْلُولَةِ دُونَ ذَلِكَ.
وَعَلَى أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، فَفِي مَفْعُولِ أَلْقَى تَقْدِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ النَّبِيِّ الشُّبَهَ وَالْوَسَاوِسَ لِيَصُدَّ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَيَتْلُوهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا لِيَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا التَّقْدِيرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ قَالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى رَجَعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ أَسْلَمُوا، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ: بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، يَعْنُونَ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، الَّذِي لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِ سِيَاقِ آيَاتِ «النَّجْمِ» الَّتِي تَخَلَّلَهَا إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ الْمَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً وَاضِحَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْإِلْقَاءِ الْمَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعَالَى، فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [53 \ 23] وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ هَذَا السَّبَّ الْعَظِيمَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَهَا بِخَيْرٍ الْمَزْعُومِ، إِلَّا وَغَضِبُوا، وَلَمْ يَسْجُدُوا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْكَلَامِ الْأَخِيرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِخْوَانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ الْآيَةَ [34 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [14 \ 22] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، فَأَيُّ سُلْطَانٍ لَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] وَقَوْلُهُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [26 \ 221 - 222] ، وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ.
مَسْأَلَةٌ.
اعْلَمْ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا، وَدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بُطْلَانِهَا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصَارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا.
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرَى مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَكَّ رَاوِيهِ فِي الْوَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [69 \ 44] وَقَوْلِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآيَةَ [53 \ 3] ، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [17 \ 74] فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْبَزَّارِ أَنَّهَا لَا تُرْوَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، وَعَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَذَكَرَ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ وَأَبْطَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقِرَاءَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ النَّجْمِ وَسُجُودُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي:
إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثَابِتَةٌ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ كُلُّهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، فَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا، وَأَقْرَبُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتَاتٌ، فَلَمَّا قَرَأَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 20] قَالَ الشَّيْطَانُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى. . . الْخَ فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَرِئٌ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِحْلَتِنَا إِيضَاحًا وَافِيًا، وَاخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَفِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» .وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ شَرْعًا، وَمَنْ أَثْبَتَهَا نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الْكُفْرِ لِلشَّيْطَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَلَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْغَرَانِيقُ: الطَّيْرُ الْبِيضُ الْمَعْرُوفَةُ وَاحِدُهَا: غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وَفِرْدَوْسٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ كَالطَّيْرِ الْبِيضِ، فَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لِعَابِدِيهَا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَكْفَرَهُمْ! وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَفْعُولَ الْإِلْقَاءِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ:
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ; لِأَنَّ النَّسْخَ هُنَا هُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَهَذَا كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، لَيْسَ مِمَّا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ وَالْوَسَاوِسُ الْمَانِعَةُ مِنْ تَصْدِيقِهَا وَقَبُولِهَا، كَإِلْقَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ امْتِحَانُ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ قَالَ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 2 \ 53] ثُمَّ قَالَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [22 \ 54] فَقَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الْأَشْقِيَاءُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، وَيُكَذِّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ ; كَمَا يَزْعُمُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي إِلْقَائِهِ: فَهَذَا الِامْتِحَانُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا زَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.
وَمَعْنَى يُحْكِمُ آيَاتِهِ: يُتْقِنُهَا بِالْإِحْكَامِ، فَيُظْهِرُ أَنَّهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْطَانِ صَدَّ النَّاسِ عَنْهَا بِإِلْقَائِهِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطَانَ فَيَلْقَى فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، فِتْنَةً لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْبِذَلِكَ الِامْتِحَانِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا كَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [74 \ 31] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 143] وَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيْ: لِأَنَّهَا فِتْنَةٌ، كَمَا قَالَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 62 - 64] ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.))
و اضع لكم ما ذكره الامام الالباني رحمه الله في مقدمة كتابه نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق مبينا ضعف القصة بجميع طرقها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفى نبينا على سائر البشر وعصمه من الشيطان أن يوحي إليه بشر فقال تعالى مخاطبا إبليس اللعين : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] بل جعل تعالى له السلطة على شيطانه القرين فكيف من كان عنه من المبعدين ؟ . كما أشار إلى ذلك قول رسوله الكريم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " ( 1 ) وصلى الله على محمد الذي مكنه الله تعالى من إبليس حتى كاد أن يخنقه وهم أن يربطه بسارية من سواري مسجد المدينة ( 2 ) وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
وبعد فقد كتب إلى بتاريخ 14 / 7 / 1952 م بعض الأستاذة من الإخوان الأعزة من الباكستان حيث أوفد إليها لغاية علمية يسألني عن رأيي في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين هما : ابن كثير الدمشقي وابن حجر المصري فقد أنكره الأول وقواه الآخر . وطلب مني أن لا أضن بالجواب عليه فلبثت بعض الأشهر أترقب فرصة أستطيع فيها إجابة طلبه . ثم لقيني أحد الأحبة عقب صلاة عيد الأضحى لهذه السنة 1371 ه فسألني أيضا عن حديث الغرانيق فأجبته بأنه لا يصح بل هو باطل موضوع فذكر لي أن أحد الشباب ممن في قلوبهم مرض احتج به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وحاشاه يتكلم بما يرضي المشركين جذبا لهم إليه لأنه بزعمه الباطل لم يكن نبيا صادقا وإنما كان يتظاهر بذلك ترؤسا عليهم كما يهرف بذلك بعض الملاحدة قديما وحديثا فحملني ذلك على أن اغتنم فرصة العيد المذكور فشرعت متوكلا على الله الغفور في جمع طرق تلك القصة من كتب التفسير والحديث وبينت عللها متنا وسندا ثم ذكرت قول الحافظ ابن حجر في تقويتها وتعقبته بما يبين وهي ما ذهب إليه ثم عقبت على ذلك بذكر بعض البحوث والنقول عن بعض الأئمة الفحول ذوي التحقيق في الفروع والأصول تؤيد ما ذهبنا إليه من نكارة القصة وبطلانها ووجوب رفضها وعدم قبولها تصديقا لقوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) [ الفتح : 9 ] ))
و رسالة الامام الالباني هذه قيمة جدا فقد اورد جميع الروايات الذاكرة لقصة الغرانيق و اظهر علل ضعفها سندا و متنا في كل رواية على حدة و فيها ما يمكن للطالب في علم الحديث و التفسير ان يستفيد منه
و الاروع منه ما خصصه في رسالته هذه في الرد على مسالة تصحيح ابن حجر رحمه الله لاصل القصة
واستنادا على هذا اضربت عن ذكر اسباب تضعيف روايات الغرانيق واكتفيت بتضعيف اهل العلم لها و من اراد ان يعرف سبب ضعف كل رواية على حدة فليراجع رسالة الامام الالباني رحمه الله و ليقراها.
رابط كتاب الامام الالباني رحمه الله: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق
http://islamport.com/d/1/alb/1/84/681.html#
و كما قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق ان الرواية لا يصح منها طريقا واحدا و ان مراسيلها كلها لا تصح الى الراوي الا مرسل ابي العالية و مرسل ابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و مرسل سعيد بن جبير و قتادة و كلهم من طبقة واحد توفو في نفس الفترة تقريبا فلا يبعد ان يكونوا كلهم اخذوا الرواية من مصدر واحد مجهول او عن جمع مجهول فلا يمكن اذا الجزم بصحة الرواية
قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق :
((إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة لألفيناها كلها مرسلة حاشا حديث ابن عباس ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل فيبقى النظر في هذه المراسيل وهي كما علمت سبعة صح إسناد أربعة منها وهي مرسل سعيد بن جبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي العالية ( رقم 1 - 3 ) ومرسل قتادة رقم ( 5 ) وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين لأنهم من طبقة واحدة : فوفاة سعيد بن جبير سنة ( 95 ) وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة ( 94 ) وأبي العالية - واسمه رفيع مصغرا - سنة ( 90 ) وقتادة سنة بضع عشرة ومائة والأول كوفي والثاني مدني والأخيران بصريان فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه واحدا لا غير وهومجهول وجائز أن يكون جمعا ولكنهم ضعفاء جميعا فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقبول حديثهم هذا لا سيما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمس المقام الكريم فلا جرم تتابع العلماء على إنكارها بل التنديد ببطلانها ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا وإن كنت لم أقف على من صرح بذلك كما ذكرت آنفا .))
و اما من تشبث بهذه المراسيل من الطاعنين فهو ملزم باخذ مرسل عروة بن الزبير رحمه الله اذ و ان كان مرسلا ضعيفا الا ان مرسله اقل ضعفا اذ ان عروة و ان كان في نفس طبقة الاربعة السابقين الا انه امام في المغازي و السير و قد تكلم رحمه الله في رسالته الى عبد الملك بن مروان عن بدء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة و الهجرة الى الحبشة ورجوع بعض المهاجرين الى الحبشة و لم يذكر قصة الغرانيق ابدا مما يوهن القصة و يزيد في ضعفها اذ ان عدم ذكره للقصة مع امامته في المغازي و احتجاجهم علينا بالمرسل كفيل برد القصة واثبات وهن من يحتج بمثلها
نقرا من تفسير الطبري رحمه الله لسورة الانفال :
((16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء, فكتب إليه عروة: " سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وسأخبرك به, ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, أن الله أعطاه النبوة, فنعم النبيُّ ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة, وأحيانَا على ملته, وأماتنا عليها, وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنـزل عليه, لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه, (57) وكادوا يسمعون له، (58) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال, أنكر ذلك ناسٌ, واشتدّوا عليه, (59) وكرهوا ما قال, وأغروا به من أطاعهم, فانصفق عنه عامة الناس فتركوه, (60) إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث, ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم, فكانت فتنةً شديدة الزلزال (61) , فافتتن من افتتن, وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له " النجاشي"، لا يُظلم أحد بأرضه, (62) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [صلاح] ، (63) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها, ومساكن لتِجَارهم (64) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا، (65) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة, وخاف عليهم الفتن. (66) ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. (67) ثم إنه فشا الإسلام فيها, ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. (68) فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (69) وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم, تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (70) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها, (71) وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير, وفشا بالمدينة الإسلام, وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش , تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم, (72) فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم, فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها= وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، (73) رؤوس الذين أسلموا, فوافوه بالحج, فبايعوه بالعقبة, وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا, (74) وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة, وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو, وهي التي أنـزل الله فيها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ))
صححها الشيخ احمد شاكر رحمه الله في تحقيقه لتفسير الطبري رحمه الله وقال :
(((75) الأثر : 16083 - " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، وقد سلف شرح هذا الإسناد : 15719 ، 15821 ، وغيرهما إسناد صحيح .
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره ، وفي تاريخه ، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم : 15719 ، 15821 أما في تاريخه ، فقد رواه مفرقًا في مواضع ، هذه هي 2 : 220 ، 221 ، 240 ، 241 ، 245 ، 267 - 269 ثم 3 : 117 ، 125 ، 132 ، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا ، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الخبر نفسه ، مفرق في موضعين من التاريخ 2 : 220 ، 221 كما أشرت إليه في ص : 443 تعليق : 1 ثم 2 : 240 ، 241.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4 : 61 ، 62 . ))
و كما قلت سابقا فاننا لا نستشهد بالمراسيل و لكننا نلزم من اراد ان يحتج بها علينا بمرسل عروة رحمه الله . و اما سبب عدم احتجاجنا بمرسل عروة رحمه الله( كغيرها من المراسيل) رغم ان بعض اهل العلم قواه فهو ما ذكره الشيخ عبد الله الجديع في كتابه تحرير علوم الحديث الجزء الثاني الباب الثاني الحديث المردود الفصل الأول ألقاب الحديث الضعيف بسبب عدم الاتصال المبحث الرابع: مسائل في الانقطاع والإرسال المسألة الثانية: المفاضلة بين المراسيل :
((ومما قواه طائفة من الأئمة من المراسيل: مراسيل عروة بن الزبير، وذلك من أجل أنه قال: " إني لأسمع الحديث فأستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به حدثه عمن لا أثق به " (1).
قال ابن عبد البر: " كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير، وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ " (2).
قلت: لا ريب أن هذا النص عن عروة يفيد شدة تحريه واحتياطه، لكن العلم بتحري التابعي وحده لا يكفي للاحتجاج بمرسله دون عاضد؛ لجواز أن يكون حمله عن غير ثقة عند غيره، وحسن الظن بالمتروك ذكره من الإسناد لا يكفي لصحة النقل ما لم يشهد له شاهد. ))
كما ذكرنا سابقا فانه لم يصح شيء من المراسيل - المتضمنة لقصة الغرانيق - الى رواتها غير اربعة و هو ما اسند الى قتادة و ابي العالية و سعيد بن جبير و ابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، و قد رددنا على قول من قال بان هذه المراسيل تعضد بعضها البعض بما نقلناه عن الامام الالباني رحمه الله من كون الاربعة من طبقة واحدة فلا يستبعد نقلهم عن بعضهم البعض و كذلك مخالفة متن روايتهم للحديث الصحيح و ما صح عن عروة بن الزبير رحمه الله في رسالته الى عبد الملك بن مروان و لكن علاوة على كل هذا اضيف علة اخرى و هي : ان اهل العلم تكلموا في مراسيل بعض من هؤلاء .
فاما مرسل ابي العالية رحمه الله :
نقرا من جامع التحصيل للعلائي الباب الرابع((وحكى ابن عبد البر عن الجماعة تصحيح مرسلات محمد بن سيرين كمراسيل النخعي وان مراسيل عطاء والحسن البصري لا يحتج بها لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد وكذلك مراسيل ابي قلابة وأبي العالية
قلت تقدم عن ابن سيرين أنه ضعف مراسيل الحسين وأبي العالية وقال كانا يصدقان كل من حدثهما رواه عنه ابن عون ))
و نقرا من نفس المصدر الباب الثاني
((ومنها أن بعض المراسيل رويت من وجوه متعددة مرسلة والتابعون فيها متباينون فيظن أن مخارجها مختلفة وإن كلا منها يعتضد بالآخر ثم عند التفتيش يكون مخرجها واحدا ويرجع كلها إلى مرسل واحد ومثال هذا حديث القهقهة المتقدم ذكره روي مرسلا من طريق الحسن البصري وأبي العالية وإبراهيم النخعي والزهري بأسانيد متعددة وعند التحقيق مدار الجميع على أبي العالية
قال عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه هشام بن حسان من حفصه فحدث به الحسن البصري بأرسله الحسن وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سليمان ابن أرقم يختلف إلى الحسن وإلى الزهري فسمعه من الحسن فذاكر به الزهري فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن مهدي وحدثنا شريك عن أبي هاشم قال أنا حدثت به إبراهيم يعني النخعي عن أبي العالية فأرسله إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال البيهقي فإذا سمع السامع هذا الحديث يجده قد أرسله الحسن وإبراهيم النخعي والزهري وأبو العالية فيظنه متعدد الأسانيد وإذا كشف عنه ظهر مداره على أبي العالية
قلت ومرسلات أبي العالية ضعيفة روى ابن عدي عن ابن سيرين قال كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم الحسن وأبو العالية وسمى آخر))
و نقرا ما نقله ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي عن الامام الترمذي في الجزد الاول :
((روى حماد عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم، وذكر الحسن وأبا العالية ورجلا آخر.
وروى جرير عن رجل عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال: لا تحدثنا عن الحسن، ولا عن أبي العالية فانهما لا يباليان عمن أخذا الحديث. ))
وقول ابن سيرين هنا عام في كل مراسيل ابي العالية و لا يخصص بحديث القهقهة فقط كما ذهب اليه بعض النوكى من النصارى و الا لما قرنه بمرسل الحسن و على هذا اعتمد العلائي رحم الله في توهين مرسل ابي العالية عند السلف
و اما مرسل قتادة رحمه الله :
نقرا من كتاب المراسيل لابن ابي حاتم رحمه الله :
((- بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسَانِيدِ الْمُرْسَلَةِ أنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِهَا الْحُجَّةُ
1 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الَْقَطَّانُ لَا يَرَى إرْسَالَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا وَيَقُولُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حُفَّّّاظٌ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الشَّيْءَ عَلَّقُوهُ ))
و اما مرسل سعيد بن جبير رحمه الله :
نقرا من كتاب الكفاية للخطيب باب الكلام في ارسال الحديث:
((خْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ , قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: " مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ بِكَثِيرٍ , كَانَ عَطَاءٌ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَمُرْسَلَاتُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَحَبُّ إِلَيَّ , قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ شُعْبَةُ يُضَعِّفُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيٍّ , قَالَ يَحْيَى: إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَلِيٍّ , قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَوَّلَ مَا طَلَبْتُ فِي الْحَدِيثِ وَقَعَ فِي يَدِي كِتَابٌ فِيهِ مُرْسَلَاتٌ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ , فَجَعَلْتُ لَا أَشْتَهِيهَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ , وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سُفْيَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: وَكُلٌّ ضَعِيفٌ , قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ شِبْهُ لَا شَيْءٍ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ إِنْسَانٌ صَاحَ بِهِ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: سَعِيدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مُرْسَلَاتُ طَاوُسٍ؟ قَالَ: مَا أَقْرَبَهُمَا وَسَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: " مُرْسَلَاتُ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدِي شِبْهُ لَا شَيْءٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَالتَّيْمِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ ابْنِ عُيَيْنَةَ شِبْهُ الرِّيحِ , ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: إِي وَاللَّهِ وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؟ قَالَ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ , ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَصَحُّ حَدِيثًا مِنْ مَالِكٍ " قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ سُقُوطُ فَرْضِ الْعَمَلِ بِالْمَرَاسِيلِ , وَأَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ , وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِعَيْنِ رَاوِيهِ , وَيَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِعَدَالَتِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِهِ , وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ , فَوَجَبَ لِذَلِكَ كَوْنُهُ غَيْرَ مَقْبُولٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَدْلَ لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ أَرْسَلَ عَنْهُ , فَلَمْ يُعَدِّلْهُ , لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ , إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ , فَكَذَلِكَ حَالُهُ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمْسَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَعْدِيلِهِ ,لِأَنَّهُ مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذِكْرِهِ غَيْرُ مُعَدِّلٍ لَهُ , فَوَجَبَ أَلَّا يُقْبَلَ الْخَبَرُ عَنْهُ ))
اقول : قول الامام يحيى بن سعيد بان مرسلات سعيد بن جبير احب اليه من مرسلات عطاء ليس فيه دليل على احتجاج يحيى بن سعيد القطان رحمه الله بمرسل سعيد بن جبير اذ ان قوله يندرج تحت باب التفاوت بين الضعيف و الاضعف و دليل ذلك انه صرح بان رواية مالك عن سعيد بن المسيب احب اليه من رواية سفيان عن ابراهيم النخعي و كلتاهما ضعيفة ثم ختم كل هذا بالتصريح بان مراسيل مالك هي اصح المراسيل و على هذا مشى الخطيب رحمه الله اذ صرح ان هذه الجملة من يحيى تعني سقوط العمل بالمرسل .
ملاحظة :
وجدت سندا للقصة يصل الى ابن عباس رضي الله عنه لم يذكره الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق، و هذا السند لا يخلو من ضعف كما سنبين و لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه
نقرا من تفسير السمرقندي بحر العلوم سورة الحج :
(( قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدّثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد قال: حدّثنا أبو عاصم، عن عمار بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ثم قال: تلك الغرانيق العلى، وإن الشفاعة منها ترتجى، فقال المشركون: قد ذكر آلهتنا في أحسن الذكر فنزلت الآية))
التحقيق :
الرواية ضعيفة لعلة : جعفر بن زيد الطيالسي مجهول و لا ترجمة له .
و الغريب ان الراوي عنه هو ابراهيم بن محمد و هو ابراهيم بن محمد بن عمارة بن حمزة .
نقرا من طبقات المحدثين باصبهان و الواردين عليها لابي الشيخ الاصبهاني الجزء الرابع الطبقة التاسعة :
((631 - إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَارَةَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ وَمَنْ عُنِيَ بِالْمُسْنَدِ وَالشُّيُوخِ، لَمْ يُرَ بَعْدَ ابْنِ مُظَاهِرٍ مِثْلُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. ))
و هو نفسه ابراهيم بن محمد الذي روى عن ابي بكر المقري محمد بن علي بن الحسن المجهول رواية الغرانيق كما اخرجها الضياء المقدسي في كتابه الاحاديث المختارة نقلا عن ابن مردويه :
((247 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَبَّازُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ مُحَمَّدَ بْنَ رَجَاءِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَهُمْ أبنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أبنا أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ المقرىء الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّيَالِسِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} تِلْكَ الغرانيق العلى وَشَفَاعَتهنَّ ترتجا فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ اقْرَأْ عَلَيَّ مَا جِئْتُكَ بِهِ قَالَ فَقَرَأَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَة الْأُخْرَى} تِلْكَ الغرانيق العلى وَشَفَاعَتهنَّ ترتجا فَقَالَ مَا أَتَيْتُكَ بِهَذَا هَذَا عَنِ الشَّيْطَانِ أَوْ قَالَ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ آتِكَ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} إِلَى آخِرِ الآيَةِ ))
و هذا يفتح احتمالية كون جعفر بن زيد الطيالسي هو نفسه جعفر بن محمد بن جعفر ابي عثمان الطيالسي !!!! و هذا يضعنا بين خيارين :
الاول : ان جعفر بن زيد ليس هو جعفر بن محمد بن ابي عثمان الطيالسي و هذا يعني ان السند ضعيف لجهالة جعفر بن زيد
الثاني: ان جعفر بن زيد هو نفسه جعفر بن محمد بن ابي عثمان الطيالسي و هذا يعني ان السند وقع فيه اضطارب من ناحيتين :
فعلى الاحتمال الاول السند ضعيف بجهالة جعفر بن زيد الطيالسي اذ لا ترجمة له
و على الاحتمال الثاني السند ايضا ضعيف بجهالة ابو بكر المقري اذ ليس فيه جرح و لا تعديل فقد ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد و لم يذكر له جرحا و لا تعديلا .
نقرا من تاريخ بغداد للخطيب ذكر من اسمه محمد ، حرف العين :
(([1294 - محمد بن علي بن الحسن أبو حرب المقرئ]
حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو بن أبي مذعور.
روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحيى العطشي.
(875) -[4: 116] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بن أحمد بْنُ يَحْيَى الْعَطَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَرْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سمعت حُمَيْدًا ذَكَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَالَ: " سَلامٌ عَلَيْكُمْ " قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ لَنَا الْعَطَشِيُّ: تُوُفِّي أَبُو حَرْبٍ هَذَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلاثِ مِائَةٍ. ))
و هذا ما قاله الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق لنسف شبهة الغرانيق :
((قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال "التهذيب" إلا من دون ابن عرعرة، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي، وقد أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" فقال "3/ 68–69": "محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء، حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو، وابن أبي مذعور. روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي" ثم ساق له حديثًا واحدًا وقع فيه مكنًا بـ "أبي حرب"، فلا أدري أهي كنية أخرى له، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال: "توفي سنة ثلاثمائة"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهول الحال، وهو علة هذا الإسناد الموصول، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء، الحافظ الثقة، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة "381" إحدى وثمانين وثلاثمائة، ووقع في "التذكرة: 3/ 172" "ومائتين" وهو خطأ.
فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الاطلاع على إسناد ابن مردويه "أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل" ))
اضف الى هذا ان الرواية رويت مرسلة عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في مصادر اخرى و من نفس طريق عثمان بن الاسود :
1. نقرا من تفسير الطبري رحمه الله سورة الحج :
(( حدثنا ابن بشار, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبير, قال: لما نـزلت هذه الآية: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: تلك الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لترتجى. فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المشركون: أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه, فأنـزل الله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ . حدثنا ابن المثنى, قال: ثنى عبد الصمد, قال: ثنا شعبة, قال: ثنا أبو بشر, عن سعيد بن جُبير قال: لما نـزلت: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ثم ذكر نحوه.))
2. نقرا من اسباب النزول للواحدي سورة الحج :
(((1) - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَهْلٌ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... ))
قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق :
((قلت: هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل، ويقوي ذلك، أعني كون إسناده مُعَلًا أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في "أسباب النزول": ص 233" من طريق سهل العسكري قال: أخبرني يحيى "قلت: هو القطان" عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى" ففرح بذلك المشركون، وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إعرض علّي كلام الله، فلما عرض عليه، قال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52] .فرجع الحديث إلى أنه -عن عثمان بن الأسود عن سعيد- مرسل، وهو الصحيح، لموافقته رواية عثمان هذه، رواية أبي بشر عن سعيد. ))
و الثابت عن ابن عباس رضي الله عنه هو سجود المسلمين و المشركين في اخر النجم و لم يذكر شيئا عن قصة الغرانيق
نقرا من صحيح البخاري كتاب تفسير القران 4581 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس تابعه إبراهيم بن طهمان عن أيوب ولم يذكر ابن علية ابن عباس
وقد وافق الطبراني رحمه الله البخاري في اخراجه للرواية مختصرة في معجمه الكبير باب العين
11866 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْجُدِّيُّ، ح، وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مِهْرَانَ السَّمَّاكُ، قَالَا: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَجَدَ وَهُوَ بِمَكَّةَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» ، وَقَالَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَجَدَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ مَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ»
وقد وافق ما قاله ابن عباس رضي الله عنه هنا ايضا ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه و هو شاهد عيان
نقرا من صحيح البخاري ابواب سجود القران باب سجدة النجم :
1070 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ القَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا "، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا
وقد ضعف الرواية محقق كتاب تفسير السمرقندي
ملاحظة 2 :
ذكر البعض ان شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله اثبت رواية الغرانيق و هذا غير صحيح فشيخ الاسلام رحمه الله لم يثبت و لم ينفي الواقعة و انما نقل اراء من اثبت و من نفى و حجة كل منهما .
و لتوضيح هذه النقطة ساقوم بنقل ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الحادثة و نقله لاراء الفريقين في كتابه منهاج السنة و في مجموع الفتاوى ثم اشير الى الجزئية التي تثبت انه -رحمه الله - مجرد ناقل .
نقرا من منهاج السنة النبوية الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع فصل كلام ابن المطهر بعد المقدمة وجوب اتباع مذهب الإمامية لوجوه الرد على قوله عن الإمامية إنهم يقولون إن الله قادر على جميع المقدورات التعليق على قوله وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو التعليق على قوله إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير
(( [وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ طَعَنَ فِي نُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا قَدَحَ فِي الثِّقَةِ بِهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الَّتِي تِيبَ مِنْهَا، وَلَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى تَأْوِيلِ النُّصُوصِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّحْرِيفِ لَهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالتَّوْرَاةُ فِيهَا قِطْعَةٌ مِنْ هَذَا، وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدَحُوا فِي نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِتَوْبَتِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْدَحُونَ فِيهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانُوا يُؤْذُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَمُوسَى قَدْ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَتَابَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُدِحَ فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا.
وَمَا جَرَى فِي سُورَةِ " النَّجْمِ " مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ وَأَبْطَلَهُ ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُكَذِّبُ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُجَوِّزًا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُ: إِمَّا قَبْلَ النُّبُوةِ وَإِمَّا بَعْدَهَا، لِظَنِّهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ خَطَأً فِي التَّبْلِيغِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ فِي التَّبْلِيغِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْعِصْمَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي التَّبْلِيغِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ هَذَا فَلَمْ يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَفَرَ بِرُجُوعِهِ عَنْ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، وَلَكِنْ رَوَى أَنَّهُمْ نَفَرُوا لَمَّا رَجَعَ إِلَى ذَمِّ آلِهَتِهِمْ بَعْدَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُ مَدَحَهَا، فَكَانَ رُجُوعُهُمْ لِدَوَامِهِ عَلَى ذَمِّهَا، لَا لِأَنَّهُ قَالَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَاهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا لَمْ يُنَفِّرْ فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُنَفِّرَ ))
و من نفس المصدر الفصل الأول من منهاج الكرامة عرض عام لرأي الإمامية وأهل السنة في الإمامة استمرار مناقشة مزاعم ابن المطهر فصل الرد على قول الرافضي إنهم يقولون إن الأنبياء غير معصومين:
(( وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ (2) ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ (3) بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَطَأِ.
وَتَنَازَعُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبَيِّنُهُ لَهُ بِحَيْثُ لَا يُقِرُّهُ عَلَى الْخَطَأِ. كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ (5) لَتُرْتَجَى؛ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ إِذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (6) يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 53] (7) ))
و نقرا من مجموع الفتاوى الجزء 21 كتاب الطهارة باب نواقض الوضوء:
(( وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ} وَهَذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا قَالَ: فَرَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا} . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فَقَالَ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ قَدْ تُرْتَجَى فَسَجَدُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذَلِكَ أَشْفَقَ وَحَزِنَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا عَرَضَ لَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ. فَلَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ لَا يَصِحُّ لَهُ وُضُوءٌ وَلَا سُجُودٌ إلَّا بَعْدَ عِقْدِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا سَجَدُوا لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ تَابَعُوهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّمَنِّي إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا جَرَى هَذَا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ ذَلِكَ فَرَجَعَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ هَذَا السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ وَقَدْ قَالَ: سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. ))
و هذا الاقتباس الاخير يدل صراحة على ان شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله لم يصحح القصة اذ نقل قول ابن بطال رحمه الله ثم اتبعه ب" و ما ذكر من التمني اذا كان صحيحا " و هذه عبارة تدل على عدم جزمه بصحة الرواية بل انها تشير الى توقفه فلا هو صححها و لا هو انكرها انما توقف في ثبوتها من عدمه .
و نقرا من مجموع الفتاوى الجزء 10 فصل علم السلوك باب ثبوت العصمة للأنبياء يحصل بها مقصود الرسالة:
(( وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ: قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامَهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ بِغَيْرِهَا. وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ. ))
لاحظوا كيف نقل شيخ الاسلام بن تيمية حجج الفريقين و اكتفى بالرد على هذه الشبهة على فرض صحة القصة و هذا يؤيد ما قلناه سابقا ان موقفه من هذه القصة ليس التاكيد او النفي بل هو الوقف .
ملاحظة 3:
ان ما قاله بعض الاحناف و المالكية من الاحتجاج بالمرسل اطلاقا دون قيد انما يكون فيما يتعلق بعلم الفروع من الاحكام لا فيما يتعلق بعلم الاصول من العقائد فعلى مذهبهما تكون رواية الغرانيق ساقطة ايضا .
نقرا من دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله الجزء الاول فصل في المراسيل :
(( كل حديث أرسله واحد من التابعين أو الأتباع، فرواه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرْ من حمله عنه، فهو على ضربين:(أحدهما) : أن يكون الذي أرسله من كبار التابعين الذين إذا ذكروا من سمعوا منه ذكروا قوما عدولا يوثق بخبرهم. فهذا إذا أرسل حديثا نظر في مرسله، فإن انضم إليه ما يؤكده من مرسل غيره، أو قول واحد من الصحابة، أو إليه ذهب عوامّ من أهل العلم- فإنّا نقبل مرسله في الأحكام ))
و نقرا من ما قاله الامدي في كتابه الاحكام في اصول الاحكام الجزء الثاني القاعدة الثانية في بيان الدليل الشرعي و احكامه :
(( وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِرْسَالُ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِذَا حَدَّثْتَنِي فَأَسْنِدْ، فَقَالَ: إِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ: (أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَدْلَ الثِّقَةَ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، مُظْهِرًا لِلْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ أَوْ ظَانٌّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ظَانًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ، لَمَا اسْتَجَازَ فِي دِينِهِ النَّقْلَ الْجَازِمَ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيلَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَالِمًا وَلَا ظَانًّا بِصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ (1) . فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ، وَدَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَهُوَ أَنَّ غَايَةَ مَا ذَكَرَ مَصِيرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَى الْإِرْسَالِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْكُلِّ.))
وقال محقق الكتاب عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على الهامش رقم 3 :
(( (3) أَقُولُ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرْسَلَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لِكُلِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَحْثِ، وَالْمُنَاظَرَةُ دُونَ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ النِّزَاعُ هُنَا فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ هُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ))
و نقرا من نصب الراية للامام الزيلعي رحمه الله الجزء الاول :
(( ، وَفِي "مُسْند" الشَّافِعِي نَفسه مَرَاسِيل كَثِيرَة، بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ الَّذِي هُوَ الْمَعْرُوف بَين السّلف، وَفِي "موطأ مَالك"، نَحْو ثَلَاثمِائَة حَدِيث مُرْسل، وَهَذَا الْقدر أَكثر من نصف مسانيد "الْمُوَطَّأ" وَمَا فِي أَحْكَام الْمَرَاسِيل للصلاح العلائي من البحوث فِي الْإِرْسَال، جُزْء يسير، مِمَّا لأهل الشان من الْأَخْذ وَالرَّدّ فِي ذَلِك، وَفِيمَا علقناه عَلَى شُرُوط الْأَئِمَّة الْخَمْسَة، وَجه التَّوْفِيق بَين قَول الْفُقَهَاء بتصحيح الْمُرْسل، وَقَول متأخري أهل الرِّوَايَة بتضعيفه، مَعَ نوع من الْبسط فِي الِاحْتِجَاج بالمرسل، بل البُخَارِيّ نَفسه ترَاهُ يسْتَدلّ فِي كتبه بالمراسيل، وَكَذَا مُسلم فِي الْمُقدمَة، وجزء الدّباغ، وَلَا يتَحَمَّل هَذَا الْموضع لبسط الْمقَال فِي ذَلِك بِأَكْثَرَ من هَذَا. وَمن شُرُوط قبُول الْأَخْبَار عِنْد الْحَنَفِيَّة مُسندَة، كَانَت، أَو مُرْسلَة، أَن لَا تشذ عَن الْأُصُول المجتمعة عِنْدهم، وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء بالغوا فِي استقصاء موارد النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة، وأقضية الصَّحَابَة، إِلَى أَن أرجعوا النَّظَائِر الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، والمتلقاة بِالْقبُولِ إِلَى أصل تتفرع هِيَ مِنْهُ، وَقَاعِدَة تندرج تِلْكَ النَّظَائِر تحتهَا، وَهَكَذَا فعلوا فِي النَّظَائِر الْأُخْرَى، إِلَى أَن أَتموا الفحص والاستقراء، فاجتمعت عِنْدهم أصُول - مَوضِع بَيَانهَا، كتب الْقَوَاعِد والفروق - يعرضون عَلَيْهَا أَخْبَار الْآحَاد، فَإِذا ندت الْأَخْبَار عَن تِلْكَ الْأُصُول، وشذت، يعدونها مناهضة لما هُوَ أَقْوَى ثبوتاً مِنْهَا، وَهُوَ الأَصْل المؤصل من تتبع موارد الشَّرْع الْجَارِي مجْرى خبر الكافة، والطَّحَاوِي كثير المراعاة لهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي كتبه، ويظن من لَا خبْرَة عِنْده أَن ذَلِك تَرْجِيح مِنْهُ لبَعض الرِّوَايَات عَلَى بَعْضهَا بِالْقِيَاسِ))
ملاحظة 4: هناك من كان من المائين الاولى من السلف ممن رفض الاحتجاج بالمرسل وهذا يرد على ما قاله الطبري و ابو داود رحمهما الله من ان المرسل كان يعمل به حتى اتى الشافعي رحمه الله .
1. ابن سيرين رحمه الله
نقرا من مقدمة صحيح مسلم رحمه الله :
(( حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ " حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: لَقِيتُ طَاوُسًا فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ: «إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا، فَخُذْ عَنْهُ»))
2. سفيان بن عيينة رحمه الله
نقرا من الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي باب ذكر ما احتج به من ذهب الى قبول المراسيل
(( أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَمَذَانِيُّ، ثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، ثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: " حَمَلَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَوْمًا عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَصَعِدَ فَوْقَ غُرْفَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: تُرِيدُ أَنْ يَتَفَرَّقُوا عَنْكَ حَدِّثْهُمْ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ , فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا , يَأْمُرُنِي أَنْ أَصْعَدَ فَوْقَ الْبَيْتِ بِغَيْرِ دَرَجَةٍ " قَالَ صَالِحٌ: يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ بِلَا إِسْنَادٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَأَنَّ الْإِسْنَادَ دَرَجُ الْمُتُونِ , بِهِ يُوصَلُ إِلَيْهَا "))
3. عبد الله بن المبارك رحمه الله .
نقرا من نفس المصدر السابق :
(( أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الدِّينَوَرِيُّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمُزَكِّي، ثنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ , قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْمُقْرِئَ , يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَعْدَانَ , يَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ أَمْرَ دِينِهِ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَرْتَقِي السَّطْحَ بِلَا سُلَّمٍ» ))
4. علي بن المديني رحمه الله
نقرا من نفس المصدر السابق :
(( أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، ثنا أَبُو عِيسَى أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، ثنا جَدِّي , قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ إِسْنَادِ حَدِيثٍ سَقَطَ عَلَيَّ , فَقَالَ تَدْرِي مَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ؟ قَالَ: «الْإِسْنَادُ مِثْلُ الدَّرَجِ وَمِثْلُ الْمَرَاقِي , فَإِذَا زَلَّتْ رِجْلُكَ عَنِ الْمَرْقَاةِ سَقَطْتَ , وَالرَّأْي مِثْلُ الْمَرْجِ»))
وقد رد العلائي رحمه الله على دعوى الاجماع الذي ذكره الطبري رحمه الله و اقره ابن عبد البر رحمه الله
نقرا من جامع التحصيل للعلائي رحمه الله الباب الثالث :
(( وأما الإجماع فقد ادعاه جماعة منهم حتى قال محمد بن جرير الطبري لم يزل الناس على العمل بالمرسل وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده يشير إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه قالوا أما عصر الصحابة فلا ريب في شيوع الإرسال منهم وإن لم يحصل نكير البتة على أحد ممن أرسل من الصحابة رضي الله عنهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
هذا وصلى الله على سيدنا محمد و على اله وصحبه وسلم ....وأما التابعون فإرسالهم للأحاديث التي لا تدخل تحت الحصر مشهور شائع بينهم كابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومن يطول الكلام بذكرهم ولم يكن روايتهم لها إلا للعمل بها وإلا فلو كانت لغوا لا تفيد شيئا ولا يحتج بها لأنكرها عليهم العلماء وبينوا أن إرسالهم الحديث يقتضي التوهين له وعدم الاحتجاج به فما أنكر ذلك عليهم نظراؤهم ولا من فوقهم وإنما أنكره من جاء من بعدهم
قالوا ولا يعترض على هذا بأنه يلزم منه أن يكون الخلاف في ذلك مردودا قادحا في المخالف لكونه خارقا للإجماع وذلك باطل لأن الخلاف في المرسل مقبول مسموع من قائله لا نجيب عنه بأن الخلاف المردود المقتضي للقدح إنما هو خرق الإجماع القطعي أما الإجماع الاستدلالي أو الظني فلا يقدح في خارقه وهو هنا بهذه المثابة لأنه إجماع سكوتي
والجواب عن ذلك كله إن دعوى الإجماع في ذلك باطل قطعا إلا في عصر الصحابة زمن النبوة وبعدها بيسير حين لم يخالط الصحابة غيرهم وذلك لا يرد على من لم يحتج بالمرسل وكذلك إرسال صغار الصحابة لما تقدم إن مثل هذا مقبول على الراجح المشهور الذي عليه جمهورالعلماء وإنه لم يخالف... وأما بعدما كثر التابعون وانتشرت رواياتهم بين الصحابة المتأخرين وغيرهم فلا يمكن دعوى إجماع سكوتي على قبول المرسل فضلا عن غيره وقد تقدم قصة ابن عباس مع بشير بن كعب وعدم قبوله المراسيل مطلقا وإلا فيمن يعرف وهي ثابتة في صحيح مسلم من الوجهين المتقدم ذكرهما وكذلك قول ابن عباس أيضا كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات وقول ابن سيرين لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم
قلت لأن المتدعة كذبت أحاديث كثير تشيد بها بدعتها قال ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه قاتلهم الله أي علم أفسدوا رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا
قال الإمام الشافعي رحمه الله كان ابن سيرين وعروة بن الزبير وطاووس وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلو الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب وقد تقدم إنكار الزهري على إسحاق بن أبي فروة إرسال الحديث وقوله قاتلك الله يا ابن أبي فروة تحدثنا بأحاديث ليست له خطم ولا أزمة يعني الأسانيد والزهري ممن كان يرسل الحديث فدل قوله هذا على أن إرساله الحديث لم يكن ليعمل به ربما كان للمذاكرة ونحوها أو رأى أبن أبي فروة ربما يرسل عن غير ثقة فأنكر عليه ذلك
فإن قيل فكيف أرسل الزهري عن سليمان بن أرقم وغيره حتى ضعف جماعة من الأئمة مراسيله مطلقا
قلنا يحتمل أنه لم يطلع على ضعف سليمان بن أرقم وأحسن الظن به وكذلك قال الشافعي فيه رآه الزهري يعني سليمان ابن أرقم من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه وإما لغير ذلك
والحاصل أن إنكار أهل ذلك العصر للإرسال وردهم للمرسل موجود في صور كثيرة فلا إجماع حينئذ ولا يمكن طرد اتفاق الصدر الأول من الصحابة بعد ذلك لما أشار إليه ابن عباس وابن سيرين وغيرهما من الفرق بينهم وبين من بعدهم لوجود الأهواء والكذب بعد الصدر الأول ثم إن هذا القول من ادعاء الاتفاق معارض بما نقله مسلم في مقدمة صحيحه عن غيره مقررا لكلامه المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة وقول محمد بن جرير لم يزل العمل بالإرسال وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده مردود بقول من رده قبل المائتين كالأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وبالله التوفيق))
ثانيا : مخالفة روايات الغرانيق للرواية الصحيحة الثابتة في الصحيحين متنا :
في صحيح البخاري كتاب تفسير القران
4581 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس تابعه إبراهيم بن طهمان عن أيوب ولم يذكر ابن علية ابن عباس
وفي صحيح مسلم كتاب المساجد و مواضع الصلاة
4582 حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من ترابفسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهوأمية بن خلف
الاختلافات بين رواية الغرانيق و بين الرواية الصحيحة في صحيح البخاري رحمه الله
1. ان سجود المشركين في الصحيحين كان في اخر سورة النجم بينما في رواية الغرانيق كان سجودهم في بداياتها بعد قوله تعالى ((و مناة الثالثة الاخرى))
2. سبب سجود المشركين في الصحيحين هو وقع الايات في سورة النجم عليهم و ما سمعوه من قوة البيان و بلاغة الكلام
بينما في رواية الغرانيق ان سبب السجود هو مدح النبي صلى الله عليه وسلم لالهتهم و العياذ بالله و حاشاه بابي هو و امي
3. ان الرواية في الصحيحين لا تذكر ان النبي عليه الصلاة و السلام ذكر الغرانيق اصلا في قراءته و لا انه طلب الشفاعة منها بعكس رواية الغرانيق الضعيفة
يتبع
يتشبث النصارى الحاقدون على الاسلام برواية واهية ضعيفة موضوعة و هي رواية الغرانيق لمحاولة الطعن على النبي صلى الله عليه وسلم
و استشهدوا ببعض الرواياتالضعيفة التي وردت في تفسير قوله تعالى في سورة الحج :
(( و ما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبي الا اذا تمنى القى الشيطان في امنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم اياته و الله عليم حكيم ))
و للرد على هذه الفرية نقول :
اولا : ان هذه الرواية ضعيفة بشهادة الحفاظ و المحققين من اهل العلم
قال الامام ابن كثير في تفسيره :
((قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ، ظنا منهم أن مشركي قريشقد أسلموا . ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح ، والله أعلم .)) انتهى كلام بن كثير
قال الامام القرطبي رحمه الله في تفسيره :
(( الثالثة : الأحاديث المروية في نزول هذه الآية ، وليس منها شيء يصح . وكان مما تموه به الكفار على عوامهم قولهم : حق الأنبياء ألا يعجزوا عن شيء ، فلم لا يأتينا محمد بالعذاب وقد بالغنا في عداوته ؟ وكانوا يقولون أيضا : ينبغي ألا يجري عليهم سهو وغلط ؛ فبين الرب سبحانه أنهم بشر ، والآتي بالعذاب هو الله تعالى على ما يريد ، ويجوز على البشر السهو والنسيان والغلط إلى أن يحكم الله آياته وينسخ حيل الشيطان.... وقال القاضي عياض في كتاب الشفا بعد أن ذكر الدليل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ، ولا عمدا ، ولا سهوا ، وغلطا : اعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين :
أحدهما : في توهين أصله ، والثاني على تسليمه .
أما المأخذ الأول فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة ؛ وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم . قال أبو بكر البزار : وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد متصل يجوز ذكره ؛ إلا ما رواه شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فيما أحسب ، الشك في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بمكة . . . وذكر القصة . ولم يسنده عن شعبة إلاأمية بن خالد ، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير . وإنما يعرف عنالكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ؛ فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا ، وفيه من الضعف ما نبه عليه مع وقوع الشك فيه الذي ذكرناه ، الذي لا يوثق به ولا حقيقة معه . وأما حديث الكلبي فما لا تجوز الرواية عنه ، ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه ؛ كما أشار إليه البزار رحمه الله . والذي منه في الصحيح : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ ( والنجم ) بمكة فسجد وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ؛ هذا توهينه من طريق النقل .
وأما المأخذ الثاني فهو مبني على تسليم الحديث لو صح . وقد أعاذنا الله من صحته ، ولكن على كل حال فقد أجاب أئمة المسلمين عنه بأجوبة ؛ منها الغث والسمين . والذي يظهر ويترجح في تأويله على تسليمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كما أمره ربه يرتل القرآن ترتيلا ، ويفصل الآي تفصيلا في قراءته ؛ كما رواه الثقات عنه ، فيمكن ترصد الشيطان لتلك السكنات ودسه فيها ما اختلقه من تلك الكلمات ، محاكيا نغمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسمعه من دنا إليه من الكفار ، فظنوها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأشاعوها . ولم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظ السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله ، وتحققهم من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم الأوثان وعيبها ما عرف منه ؛ فيكون ما روي من حزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الإشاعة والشبهة وسبب هذه الفتنة ، وقد قال الله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيالآية .
قلت : وهذا التأويل ، أحسن ما قيل في هذا . وقد قال سليمان بن حرب : إن ( في ) بمعنى عنده ؛ أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ كقوله - عز وجل - : ولبثت فيناأي عندنا . وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية ، عن أبيه ، عن علماء الشرق ، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي ، وقال قبله : إن هذه الآية نص في غرضنا ، دليل على صحة مذهبنا ، أصل في براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ينسب إليه أنه قاله ؛ وذلك أن الله تعالى قال :وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيتهأي في تلاوته . فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله ، وسيرته في أنبيائه إذا قالوا عن الله تعالى قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه كما يفعل سائر المعاصي . تقول : ألقيت في دار كذا وألقيت في الكيس كذا ؛ فهذا نص في الشيطان أنه زاد في الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم به . ثم ذكر معنى كلام عياض إلى أن قال : وما هدي لهذا إلا الطبري لجلالة قدره ، وصفاء فكره ، وسعة باعه في العلم ، وشدة ساعده في النظر ؛ وكأنه أشار إلى هذا الغرض ، وصوب على هذا المرمى ، وقرطس بعدما ذكر في ذلك روايات كثيرة كلها باطل لا أصل لها ، ولو شاء ربك لما رواها أحد ولا سطرها ، ولكنه فعال لما يريد . ))
و قال الامام الشوكاني رحمه الله في فتح القدير :
((ولم يصح شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه، قال الله : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين[ الحاقة : 44 - 46 ][ ص: 970 ] وقوله : وما ينطق عن الهوى[ النجم : 3 ] وقوله :ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم[ الإسراء : 74 ] فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون .
قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بإسناد متصل .
وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم .
وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة .
قال القاضي عياضفي الشفاء : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا
قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح))
و نقرا في تفسير البحر المحيط لاثير الدين الاندلسي رحمه الله :
(( وذكر المفسرون في كتبهم ابن عطية والزمخشري فمن قبلهما ومن بعدهما ما لا يجوز وقوعه من آحاد المؤمنين منسوبا إلى المعصوم صلوات الله عليه ، وأطالوا في ذلك وفي تقريره سؤالا وجوابا وهي قصة سئل عنها الإمام محمد بن إسحاق جامع السيرة النبوية ، فقال : هذا من وضع الزنادقة ، وصنف في ذلك كتابا . وقال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، وقال ما معناه : إن رواتها مطعون عليهم وليس في الصحاح ولا في التصانيف الحديثية شيء مما ذكروه فوجب اطراحه ولذلك نزهت كتابي عن ذكره فيه . والعجب من نقل هذا وهم يتلون في كتاب الله تعالى ( والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وقال الله تعالى آمرا لنبيه : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) وقال تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل) الآية وقال تعالى : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم) الآية فالتثبيت واقع والمقاربة منفية . وقال تعالى : ( كذلك لنثبت به فؤادك) وقال تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى) وهذه نصوص تشهد بعصمته ، وأما من جهة المعقول فلا يمكن ذلك لأن تجويزه يطرق إلى تجويزه في جميع الأحكام والشريعة فلا يؤمن فيها التبديل والتغيير ، واستحالة ذلك معلومة . ))
و نقل الامام ابن حجر رحمه الله في فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب تفسير القران قول القاضي عياض رحمه الله :
(( قال الكرماني : سجد المشركون مع المسلمين لأنها أول سجدة نزلت فأرادوا معارضة المسلمين بالسجود لمعبودهم ، أو وقع ذلك منهم بلا قصد ، أو خافوا في ذلك المجلس من مخالفتهم قلت : والاحتمالات الثلاثة فيها نظر ، والأول منهالعياض ، .... ، قال : وما قيل من أن ذلك بسبب إلقاء الشيطان في أثناء قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا صحة له عقلا ولا نقلا ، انتهى .))
وقال البيضاوي في تفسيره لسورة الحج
((إِلَّا إِذا تَمَنَّى زور في نفسه ما يهواه. أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما
قال عليه الصلاة والسلام «وإنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» .
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه والإِرشاد إلى ما يزيحه. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ ثم يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في أمر الآخرة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس. حَكِيمٌ فيما يفعله بهم، قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت. وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة وَالنَّجْمِ فأخذ يقرؤها فلما بلغ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهواً إلى أن قال: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى، ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لمَّا سجد في آخرها، بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد، ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتم لذلك فعزاه الله بهذه الآية.
وهو مردود عند المحققين وإن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإِيمان عن المتزلزل فيه، وقيل تمنى قرأ كقوله:
تَمَنَّى كِتَابَ الله أَوَّلَ لَيْلِه ... تَمني دَاودَ الزبُورَ عَلَى رسلِ
وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن تكلم بذلك رافعاً صوته بحيث ظن السامعون أنه من قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد رد أيضاً بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ لأنه أيضاً يحتمله، والآية تدل على جواز السهو على الأنبياء وتطرق الوسوسة إليهم))
قال ابن الجوزي رحمه الله في زاد المسير
((قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ الآية.
قال المفسرون: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه سورة النجم قرأها حتى بلغ قوله: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى فألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإِن شفاعتهن لترتجى فلما سمعت قريش بذلك فرحوا، فأتاه جبريل، فقال: ماذا صنعتَ؟
تلوتَ على الناس ما لم آتِكَ به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حزناً شديداً، فنزلت هذه الآية تطييباً لقلبه، وإِعلاماً له أن الأنبياء قد جرى لهم مثل هذا. قال العلماء المحققون: #وهذا #لا #يصحّ، لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم معصوم عن مثل هذا، ولو صح، كان المعنى أن بعض شياطين الإِنس قال تلك الكلمات «2» ، فإنهم كانوا إِذا تلا لغطوا، كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «3» .
قال: وفي معنى «تمنّى» قولان «4» أحدهما: تلا، قاله الأكثرون، وأنشدوا:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ ... وآخرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال آخر:
تمنَّى كتابَ الله آخرَ ليلِه ... تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
والثاني: أنه من الأمنية، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم تمنى يوماً أن لا يأتيه من الله شيء ينفر عنه به قومُه، فألقى الشيطان على لسانه لِما كان قد تمناه، قاله محمد بن كعب القرظي.
قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي: يُبطله ويُذهبه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ قال مقاتل: يُحْكِمُها من الباطل. قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اللام متعلقة بقوله: أَلْقَى الشَّيْطانُ، والفتنة ها هنا بمعنى البلية والمحنة. والمرضُ: الشك والنفاق. وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ يعني: الجافية عن الإِيمان. ثم أعلمه أنهم ظالمون وأنهم في شقاق دائم، والشقاق: غاية العداوة.))
و قال ابو السعود في تفسيره لسورة الحج
((المنامِ {إِلاَّ إِذَا تمنى} أي هيَّأ في نفسِه ما يهواه {أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ} في تشهِّيه ما يُوجب اشتغاله بالدنيا كماقال صلى الله عليه وسلم وإنَّه ليُغانُ على قَلبي فأستغفرُ الله في اليَّومِ سعين مَرَّة {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان} فيُبطله ويذهبُ به بعصمتِه عن الرُّكونِ إليه وإرشادِه إلى ما يُزيحه {ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته} أي يُثبت آياتِه الدَّاعية إلى الاستغراق في شئون الحقِّ وصيغةُ المضارعِ في الفعلينِ للدِّلالةِ على الاستمرار التَّجدُّدي وإظهارُ الجلالةِ في موقعِ الإضمار لزيادة التقرير والإيذانِ بأنَّ الأُلوهيَّةَ من موجباتِ أحكامِ آياتِه الباهرةِ {والله عَلِيمٌ} مبالِغٌ في العلمِ بكلِّ ما مِن شأنِه أنْ يُعلم ومن جُملتِه ما صدرَ عن العباد من قول وفصل عمداً أو خطأ {حَكِيمٌ} في كلِّ ما يفعلُ والإظهار ههنا أيضا لما كر مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي قيل حدَّث نفسَه بزوال المسكنةِ فنزلتْ وقيل تمنَّى لحرصِه على إيمان قومِه أنْ ينزل عليه ما يُقرِّبهم إليه واستمرَّ به ذلك حتَّى كان في ناديهم فنزلتْ عليه سورةُ النَّجم فأخذَ يقرؤها فلمَّا بلغَ ومناةَ الثَّالثةَ الأُخرى وسوسَ إليه الشَّيطانُ حتَّى سبق لسانُه سهواً إلى أنْ قال تلكَ الغرانيقُ العُلا وإنَّ شفاعتهنَّ لتُرتجى ففرح به المشركون حتَّى شايعُوه بالسُّجودِ لمَّا سجدَ في آخرِها بحيث لم يبْقَ في المسجد مؤمنٌ ولا مشركٌ إلاَّ سجد ثم نبَّهه جَبريل عليه السلام فاغتنم به فعزَّاه الله عزَّ وجلَّ بهذه الآيةِ #وهو #مردودٌ عند المحقِّقين ولئن صحَّ فابتلاءٌ يتميَّز به الثَّابتُ على الإيمانِ عن المتزلزل فيه وقيل سورة الحج (53 55) تمنَّى بمعنى قرأ كقوله [تمنَّى كتابَ الله أولَ ليلة تمنِّيَ داودَ الزَّبورَ على رسلِ وأمنيَّتُه قراءتُه وإلقاءُ الشَّيطانِ فيها أنْ يتكلَّم بذلك رافعاً صوتَه بحيثُ ظنَّ السَّامعون أنَّه من قراءة النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وقد رُدَّ بأنه أيضاً يخلُّ بالوثوقِ بالقُرآنِ ولا يندفعُ بقولِه تعالى فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنَّه أيضاً يحتملُه وفي الآيةِ دِلالةٌ على جوازِ السَّهو من الأنبياءِ عليهم السلام وتطرق الوسوسةِ إليهم))
وقال ابن حزم رحمه الله في الفصل في الملل و النحل الجزء الرابع ، الكلام في موسى عليه السلام و امه :
(( وَأما الحَدِيث الَّذِي فِيهِ وأنهن الغرانيق العلى وَإِن شَفَاعَتهَا لترتجى فكذب بحت مَوْضُوع لِأَنَّهُ لم يَصح قطّ من طَرِيق النَّقْل وَلَا معنى للاشتغال بِهِ إِذْ وضع الْكَذِب لَا يعجز عَنهُ أحد وَأما قَوْله تَعَالَى {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى} ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته فَينْسَخ الله مَا يلقى الشَّيْطَان الْآيَة فَلَا حجَّة لَهُم فِيهَا لِأَن الْأَمَانِي الْوَاقِعَة فِي النَّفس لَا معنى لَهَا وَقد تمنى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِسْلَام عَمه أبي طَالب وَلم يرد الله عز وَجل كَون ذَلِك فَهَذِهِ الْأَمَانِي الَّتِي ذكرهَا الله عز وَجل لَا سواهَا وحاشا لله أَن يتَمَنَّى نَبِي مَعْصِيّة وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق وَهَذَا الَّذِي قُلْنَا هُوَ ظَاهر الْآيَة دون مزِيد تكلّف وَلَا يحل خلاف الظَّاهِر إِلَّا بِظَاهِر آخر وَبِاللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيق ))
قال البقاعي في تفسيره لسورة الحج :
((إلا إذا تمنى} أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان في أمنيته} أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم))
قال ابن عادل في تفسيره اللباب في علوم الكتاب لسورة الحج
((قال ابن الخطيب: وأما أهل التحقيق فقالوا: هذه الرواية باطلة موضوعة لوجوه من القرآن والسنة والمعقول: أما القرآن فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] ، وقوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [يونس: 15] ، وقوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] . فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية قوله: تلك الغرانيق العلى لكان قد ظهر كذب الله في الحال، وذلك لا يقوله مسلم. وقوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] وكلمة «كاد» عند بعضهم قريب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل، وقوله:
{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} [الإسراء: 74] وكلمة «لَوْلاَ» لانتفاء الشيء لانتفاء غيره، فذلك دل على أن الركون القليل لم يحصل، وقوله: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] ، وقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] وأما السنة: فروي عن محمد بن إسحاق أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا من وضع الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم قال: رواة هذه القصة مطعونون. وروى البخاري في صحيحه أنه - عليه السلام - قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس وليس فيه ذكر الغرانيق وروي هذا الحديث من طرق كثيرة، وليس فيها البتة ذكر الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوَّز على الرسول تعظيم الأوثان فقد كفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها: أنه - عليه السلام - ما كان عليه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة أمناً لأذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه، وإنما كان يصلي، إذا لم يحضروا ليلاً أو في أوقات خلوة، وذلك يبطل قولهم.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من غير أن يقفوا على حقيقة الأمر، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سُجَّداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله تعالى إحكام الآيات لئلا يلتبس القرآن بغيره، فبأن يُمْنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى.
وخامسها: أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل الشرائع أن يكون كذلك، ويبطل قوله تعالى: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه.
فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة، أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل العقلية والنقلية المتواترة.))
نقرا في التفسير الكبير للأمام الرازي
((هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين ، أما أهل التحقيق فقد قالوا : هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول . أما القرآن فوجوه :
أحدها : قوله تعالى : ( ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين ) [ الحاقة : 44 - 46] ، وثانيها : قوله : ( قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) [ يونس : 15 ] . وثالثها : قوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) [ النجم : 3 - 4] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلا لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم . ورابعها : قوله تعالى : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ) [ الإسراء : 73 ] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل . وخامسها : قوله : ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) [ الإسراء : 74 ] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل . وسادسها : قوله : ( كذلك لنثبت به فؤادك ) [ الفرقان : 32 ] . وسابعها : قوله : ( سنقرئك فلا تنسى ) [ الأعلى : 6 ] . وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال : هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا . وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم ، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق . وروي هذا الحديث من طرق كثيرة ، وليس فيها البتة حديث الغرانيق . وأما المعقول فمن وجوه :
أحدها : أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر ؛ لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان . وثانيها : أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة [ ص: 45 ] آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه ، وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة ، وذلك يبطل قولهم . وثالثها : أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر ، فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ؟ ورابعها : قوله : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته ) وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها ، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا ، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى . وخامسها : وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ، ويبطل قوله تعالى : ( ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ) [ المائدة : 67 ] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه ، فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة ، أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر ، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة ))
ويقول الرازي ايضا :
(( (فهذه الوجوه المذكورة في قوله : " تلك الغرانيق العلا " قد ظهر على القطع كذبها ، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة . وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمني القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ، ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته ، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه :
أحدها : أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء . قالوا : إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم ، وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضا [ ص: 48 ] خروج عن الدين ، وبيانه ما تقدم . وثانيها : ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير ، فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها . وثالثها : يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملا فيلقي الشيطان في جملته ما لم يرده ، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته . ورابعها : معنى الآية إذا تمنى ، إذا أراد فعلا مقربا إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك ، وهو كقوله تعالى : ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) [ الأعراف : 201 ] وكقوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ) [ الأعراف : 200 ] ومن الناس من قال : لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب ؛ لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى : ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ) ، والجواب : لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه ، فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة
المسألة الثالثة : يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم ، فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان ، بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر ، فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم ))
قال ابن عاشور رحمه الله في تفسيره التحرير و التنوير لسورة الحج
((وَمَعْنَى إِلْقَاءِ الشَّيْطَانِ فِي أُمْنِيَّةِ النَّبِيءِ وَالرَّسُولِ إِلْقَاءُ مَا يُضَادُّهَا، كَمَنْ يَمْكُرُ فَيُلْقِي السمّ فِي الدّسم، فَإِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ بِوَسْوَسَتِهِ: أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَانِ، وَيُلْقِيَ فِي قُلُوبِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ مَطَاعِنَ يَبُثُّونَهَا فِي قَوْمِهِمْ، وَيُرَوِّجُ الشُّبُهَاتِ بِإِلْقَاءِ الشُّكُوكِ الَّتِي تَصْرِفُ نَظَرَ الْعَقْلِ عَنْ تَذَكُّرِ الْبُرْهَانِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُعِيدُ الْإِرْشَادَ وَيُكَرِّرُ الْهَدْيَ عَلَى لِسَانِ النَّبِيءِ، وَيَفْضَحُ وَسَاوِسَ الشَّيْطَانِ وَسُوءَ فِعْلِهِِِِِ بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ
[الْأَعْرَاف: 27] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر: 6] . فَاللَّهُ بِهَدْيِهِ وَبَيَانِهِ يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ، أَيْ يُزِيلُ الشُّبُهَاتِ الَّتِي يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ بِبَيَانِ اللَّهِ الْوَاضِحِ، وَيَزِيدُ آيَاتِ دَعْوَةِ رُسُلِهِ بَيَانًا، وَذَلِكَ هُوَ إِحْكَامُ آيَاتِهِ، أَيْ تَحْقِيقُهَا وَتَثْبِيتُ مَدْلُولِهَا وَتَوْضِيحُهَا بِمَا لَا شُبْهَةَ بَعْدَهُ إِلَّا لِمَنْ رِينَ عَلَى قَلْبِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَاتِ الْمُحْكَمَاتِ فِي آلِ عِمْرَانَ.....وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ النَّبِيءِ إِذَا تَمَنَّى هَدْيَ قَوْمِهِ أَوْ حَرَصَ عَلَى ذَلِك فلقي مِنْهُم الْعِنَادَ، وَتَمَنَّى حُصُولَ هُدَاهُمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي نَفْسِ النَّبِيءِ خَاطِرَ الْيَأْسِ مَنْ هُدَاهُمْ عَسَى أَنْ يُقْصِرَ النَّبِيءَِِِِِِ مِنْ حِرْصِهِ أَوْ أَنْ يُضْجِرَهُ، وَهِيَ خَوَاطِرُ تَلُوحُ فِي النَّفْسِ وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ تَعْتَرِضُهَا فَلَا يَلْبَثُ ذَلِكَ الْخَاطِرُ أَنْ يَنْقَشِعَ وَيَرْسَخَ فِي نَفْسِ الرَّسُولِ مَا كُلِّفَ بِهِ مِنَ الدَّأْبِ عَلَى الدَّعْوَةِ وَالْحِرْصِ عَلَى الرُّشْدِ. فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مُلَوِّحًا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْأَنْعَام: 35] .......بِمَا تَلَقَّيْتَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الِانْتِظَامِ الْبَيِّنِ الْوَاضِحِ الْمُسْتَقِلِّ بِدَلَالَتِهِ وَالْمُسْتَغْنَى بِنَهْلِهِ عَنْ عُلَالَتِهِ، وَالسَّالِمِ مِنَ التَّكَلُّفَاتِ وَالِاحْتِيَاجِ إِلَى ضَمِيمَةِ الْقَصَصِ تَرَى أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَمَّا أَلْصَقَهُ بِهَا الْمُلْصِقُونَ وَالضُّعَفَاءُ فِي عُلُومِ السُّنَّةِ، وَتَلَقَّاهُ مِنْهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حُبًّا فِي غَرَائِبِ النَّوَادِرِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَمْحِيصٍ، مِنْ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قِصَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِسُورَةِ النَّجْمِ فَلَمْ يَكْتَفُوا بِمَا أَفْسَدُوا مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ حَتَّى تَجَاوَزُوا بِهَذَا الْإِلْصَاقِ إِلَى إِفْسَادِ مَعَانِي سُورَةِ النَّجْمِ، فَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَابْنِ شِهَابٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرْطُبِيِّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكِ وَأَقْرَبُهَا رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا: إِنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ فِي نَادٍ... وَهِيَ قِصَّةٌ يَجِدُهَا السَّامِعُ ضِغْثًا عَلَى إِبَّالَةٍ، وَلَا يُلْقِي إِلَيْهَا النِّحْرِيرُ بَالَهُ. وَمَا رُوِيَتْ
إِلَّا بِأَسَانِيدَ وَاهِيَةٍ وَمُنْتَهَاهَا إِلَى ذِكْرِ قِصَّةٍ، وَلَيْسَ فِي أَحَدِ أَسَانِيدِهَا سَمَاعُ صَحَابِيٍّ لِشَيْءٍ فِي مَجْلِسِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَنَدُهَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَنَدٌ مَطْعُونٌ. عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يَوْمَ نَزَلَتْ سُورَةُ النَّجْمِ كَانَ لَا يَحْضُرُ مَجَالِسَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ تُعَارِضُ أُصُولَ الدِّينِ لِأَنَّهَا تُخَالِفُ أَصْلَ عصمَة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا الْتِبَاسَ عَلَيْهِ فِي تَلَقِّي الْوَحْيِ. وَيَكْفِي تَكْذِيبًا لَهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النَّجْم: 3] وَفِي مَعْرِفَةِ الْملك. فَلَو رووها الثِّقَاتُ لَوَجَبَ رَفْضُهَا وَتَأْوِيلُهَا فَكَيْفَ وَهِيَ ضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ. وَكَيْفَ يَرُوجُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ مِنْ عَقْلٍ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي كَلَامٍ وَاحِدٍ تَسْفِيهُ الْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] إِلَى قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النَّجْم: 23] فَيَقَعُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَدْحُهَا بِأَنَّهَا «الْغَرَانِيقُ العلى وَأَن شفاعتهن لَتُرْتَجَى» . وَهَلْ هَذَا إِلَّا كَلَامٌ يَلْعَنُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَقَدِ اتَّفَقَ الْحَاكُونَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ كُلَّهَا حَتَّى خَاتِمَتِهَا فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النَّجْم: 62] لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا سَجَدُوا حِينَ سَجَدَ الْمُسْلِمُونَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ سَمِعُوا السُّورَةَ كُلَّهَا وَمَا بَيْنَ آيَةِ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى [النَّجْم: 19] وَبَيْنَ آخِرِ السُّورَةِ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي إِبْطَالِ الْأَصْنَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ مَعْبُودَاتِ الْمُشْرِكِينَ، وَتَزْيِيفٌ كَثِيرٌ لِعَقَائِدِ الْمُشْرِكِينَ فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَجَدُوا مِنْ أَجْلِ الثَّنَاءِ عَلَى آلِهَتِهِمْ))
قال القاسمي رحمه الله في تفسيره :
((وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أي رغب في انتشار دعوته، وسرعة علوّ شرعته أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي بما يصدّ عنها، ويصرف المدعوّين عن إجابتها فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ أي يبطله ويمحقه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ أي يثبتها فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد: 17] ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ يعلم الإلقاءات الشيطانية، وطريق نسخها من وجه وحيه. حَكِيمٌ يحكم آياته بحكمته. ثم أشار إلى أن من مقتضيات حكمته أنه يجعل الإلقاء الشيطانىّ فتنة للشاكّين المنافقين والقاسية قلوبهم عن قبول الحق، ابتلاء لهم ليزدادوا إثما. ورحمة للمؤمنين ليزدادوا ثباتا واستقامة، .... والضمير للقرآن أو لله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي إلى طريق الحق والاستقامة، فلا تزلّ أقدامهم بقبول ما يلقي الشيطان، ولا تقبل قلوبهم إلا ما يلقي الرحمن، لصفائها. هذا هو الصواب في تفسير الآية. ولها نظائر تظهر المراد منها كما أشرنا إليه، لو احتاجت إلى نظير. ولكنها بيّنة بنفسها، غنية عن التطويل في التأويل، لولا ما أحوج المحققين إلى ردّ ما دسه بعض الرواة هنا من الأباطيل. ونحن نسوق ما قيل فيها من ذلك، ثم نتبعه بنقد المحققين، لئلا يبقى في نفس الواقف حاجة.))
قال السمين الحلبي في تفسيره الدر المصون
((وقوله تعالى: {إِذَا تمنى} : إنما أُفْرِد الضميرُ، وإن تقدَّمه شيئان معطوفٌ أحدُهما على الآخر بالواو؛ لأنَّ في الكلام حذفاً تقديرُه: وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلِك مِنْ رسولٍ إلاَّ إذا تمنَّى ولا نبيٍّ إلاَّ إذا تمنَّى كقولِه: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . والحذفُ: إمَّا من الأول أو من الثاني.
والضميرُ في» أُمْنِيَّتِه «فيه قولان، أحدُهما: وهو الذين ينبغي أن يكونَ أنه ضميرُ الشيطان. والثاني: أنه ضميرُ الرسولِ، ورَوَوْا في ذلك تفاسيرَ اللهُ أعلم بصحتها ))
قال الثعالبي رحمه الله في تفسيره لسورة الحج :
(( ((وقوله سبحانه: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ... } الآية.
قلت: قال القاضي أبو الفضل عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين سُؤَالاتٍ منها ما رُوِيَ مِنْ " أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة «والنجم» وقال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [النجم:19، 20] قال: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ العُلَىٰ، وإنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَىٰ ". قال عياض: اعلم (أكرمك اللّه) أَنَّ لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأَوَّلُ: فيكفيك أنَّ هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولاَ رَوَاهُ ثقة بسند مُتَّصِلٍ سليم؛ وإنما أولع به وبمثله المُفَسِّرُون والمؤرِّخُونَ المُولَعُونَ بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكيُّ (رحمه اللّه تعالى) حيث يقول: لقد بُلِيَ الناسُ ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال عياض: قال أبو بكر البَزَّارُ: هذا الحديث لا نعلمه يُرْوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد مُتَّصل يجوزُ ذكرُه؛ وإنَّما يُعْرَفُ عن الكلبيِّ، قال عياض: والكلبيُّ مِمَّنْ لا تجوز الرواية عنه ولا ذِكْرُهُ؛ لقوَّةِ ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البَزَّارُ، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع في كتب التفسير ونحوها، ولم يُدْخِلْهُ البخاريُّ ولا مسلم، ولا ذكره ـــ في علمي ـــ مُصَنِّفٌ مشهور؛ بل يقتضي مذهبُ أهل الحديث أَنَّ الشيطان ألقى ولا يعينون هذا السَّبَبَ ولا غيره.
قال * ع *: وحدثني أَبي (رحمه اللّه تعالى) أَنَّهُ لَقِيَ بالمشرق من شيوخ العلماء والمتكلمين مَنْ قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ؛ وإنَّما الأمرُ يعني على تقدير صحَّته ـــ أَنَّ الشيطان نَطَقَ بلفظ أُسْمِعَهُ الكُفَّارُ عند قول النبي صلى الله عليه وسلم:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى } [النجم:19، 20].
وقَرَّبَ صوته من صوتِ النبي صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد رُوِيَ نحوُ هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعادنا اللّه من صِحَّتِهِ، وقد حكى موسى بن عقبة في «مغازيه» نحوَ هذا، وقال: إنَّ المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطانُ ذلك في أسماع المشركين، ومعنى قوله تعالى: { تَمَنَّىٰ } أي: تلا ومنه قوله تعالى:{ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَـٰبَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [البقرة:78]. أي: تلاوة، { فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَـٰنُ } أي: يُذْهِبُهُ، ويزيل اللبس به ويُحكمُ آياته، وعبارة البخاريِّ: وقال ابن عباس: { إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى ٱلشَّيْطَـٰنُ فِي أُمْنِيَّتِهِ } ، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل اللّه ما يلقى الشيطان ويحكم آياته، ويقال: { أُمْنِيَّتِهِ }: قراءته انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك، ويرجعُ عنه، انتهى))
قال النيسابوري في تفسيره غرائب القران ، سورة الحج :
((واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله{ ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين } [الحاقة: 44 - 46] وقوله{ وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وقوله{ ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن } [الإسراء: 74] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وقد صنف فيه كتاباً وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي. هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضاً إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وايضاً إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجداً قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضاً منع الشيطان من اصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وايضاً لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع، ولناقض قوله{ بلغ ما أنزل إليك } [المائدة: 67] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان: الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } [الآية: 78] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان: أحدهما أنه يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله " تلك الغرانيق العلى ". وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها.))
قال ابو حيان الاندلسي في تفسيره البحر المحيط لسورة الحج :
(( وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي كُتُبِهِمُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فَمَنْ قَبْلَهُمَا وَمَنْ بَعْدَهُمَا مَا لَا يَجُوزُ وُقُوعُهُ مِنْ آحَادِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمَعْصُومِ صَلَوَاتِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَطَالُوا فِي ذَلِكَ وَفِي تَقْرِيرِهِ سُؤَالًا وَجَوَابًا وَهِيَ قِصَّةٌ سُئِلَ عَنْهَا الْإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ جَامِعُ السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، فَقَالَ: هَذَا مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ، وَصَنَّفَ فِي ذَلِكَ كِتَابًا. وَقَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَيْهَقِيُّ: هَذِهِ الْقِصَّةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ رُوَاتَهَا مَطْعُونٌ عَلَيْهِمْ وَلَيْسَ فِي الصِّحَاحِ وَلَا فِي التَّصَانِيفِ الحديثة شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرُوهُ فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ وَلِذَلِكَ نَزَّهْتُ كِتَابِي عَنْ ذِكْرِهِ فِيهِ. وَالْعَجَبُ مِنْ نَقْلِ هَذَا وَهُمْ يَتْلُونَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى آمِرًا لِنَبِيِّهِ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ «2» وَقَالَ تَعَالَى وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «3» الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ «4» الْآيَةَ فَالتَّثْبِيتُ وَاقِعٌ وَالْمُقَارَبَةُ مَنْفِيَّةٌ. وَقَالَ تَعَالَى كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ «5» وَقَالَ تَعَالَى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «6» وَهَذِهِ نُصُوصٌ تَشْهَدُ بِعِصْمَتِهِ، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَعْقُولِ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَطْرُقُ إِلَى تَجْوِيزِهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرِيعَةِ فَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا التَّبْدِيلُ وَالتَّغْيِيرُ، وَاسْتِحَالَةُ ذَلِكَ مَعْلُومَةٌ. ))
قال الخازن في تفسيره لسورة الحج :
((((فإن قلت: قد قامت الدلائل على صدقه وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا قصداً ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً قال الله تعالى:{ وما ينطق عن الهوى } [النجم: 3] وقال تعالى:{ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } [فصلت: 42] فكيف يجوز الغلط على النبيّ صلى الله عليه وسلم في التلاوة وهو معصوم منه؟. قلت ذكر العلماء عن هذا الإشكال أجوبة: أحدها: توهين أصل هذه القصة وذلك أنه لم يروها أحد من أهل الصحة ولا أسندها ثقة بسند صحيح أو سليم متصل وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم والذي يدل على ضعيف هذه القصة اضطراب رواتها وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها فقائل يقول إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان في الصلاة وآخر يقول قرأها وهو في نادي قومه وأخر يقول قرأها وقد أصابته سنة وآخر يقول بل حدث نفسه بها فجرى ذلك على لسانه وآخر يقول إن الشيطان قالها على لسان النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا عرضها على جبريل قال ما هكذا أقرأتك إلى غير ذلك من اختلاف ألفاظها والذي جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرآ والنجم فسجد فيها وسجد من كان معه غير أن شيخاً من قريش أخذ كفاً من حصى أو تراب فرفعه إلى جبهته قال عبد الله فلقد رأيته بعد قتل كافراً ")))
قال الشنقيطي رحمه الله في تفسيره اضواء البيان لسورة الحج :
(( قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلِ
فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي الْبَيْتَيْنِ قَرَأَ وَتَلَا.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَكَوْنُ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَمَنَّى فِي الْآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَمَنِّيهِ إِسْلَامَ أُمَّتِهِ وَطَاعَتَهُمْ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ، وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ فَعَلَى أَنْ تَمَنَّى بِمَعْنَى: أَحَبَّ إِيمَانَ امته وَعَلَّقَ أَمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ أَلْقَى يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ، وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حَتَّى لَا يَتِمَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ الرَّسُولِ مَا تَمَنَّى.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِلْقَاءِ فِي أُمْنِيَّتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ وَشُبَهَهُ لِيَصُدَّ بِهَا عَمَّا تَمَنَّاهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَصَارَ الْإِلْقَاءُ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهَا بِالصَّدِّ عَنْ تَمَامِهَا وَالْحَيْلُولَةِ دُونَ ذَلِكَ.
وَعَلَى أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، فَفِي مَفْعُولِ أَلْقَى تَقْدِيرَانِ:
أَحَدُهُمَا: مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوِ النَّبِيِّ الشُّبَهَ وَالْوَسَاوِسَ لِيَصُدَّ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَيَتْلُوهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا لِيَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مِنْهَا.
وَقَوْلُهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا التَّقْدِيرِ.
وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ قَالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى رَجَعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ أَسْلَمُوا، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ: بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، يَعْنُونَ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، الَّذِي لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِ سِيَاقِ آيَاتِ «النَّجْمِ» الَّتِي تَخَلَّلَهَا إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ الْمَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً وَاضِحَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْإِلْقَاءِ الْمَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعَالَى، فِي اللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [53 \ 23] وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ هَذَا السَّبَّ الْعَظِيمَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَهَا بِخَيْرٍ الْمَزْعُومِ، إِلَّا وَغَضِبُوا، وَلَمْ يَسْجُدُوا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْكَلَامِ الْأَخِيرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِخْوَانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ الْآيَةَ [34 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [14 \ 22] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، فَأَيُّ سُلْطَانٍ لَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] وَقَوْلُهُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [26 \ 221 - 222] ، وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ.
مَسْأَلَةٌ.
اعْلَمْ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا، وَدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بُطْلَانِهَا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصَارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا.
فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرَى مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَكَّ رَاوِيهِ فِي الْوَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [69 \ 44] وَقَوْلِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآيَةَ [53 \ 3] ، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [17 \ 74] فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْبَزَّارِ أَنَّهَا لَا تُرْوَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، وَعَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَذَكَرَ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ وَأَبْطَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقِرَاءَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُورَةَ النَّجْمِ وَسُجُودُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فَلَا إِشْكَالَ.
وَأَمَّا عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي:
إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثَابِتَةٌ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ كُلُّهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، فَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا، وَأَقْرَبُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتَاتٌ، فَلَمَّا قَرَأَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 20] قَالَ الشَّيْطَانُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى. . . الْخَ فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ بَرِئٌ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِحْلَتِنَا إِيضَاحًا وَافِيًا، وَاخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَفِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» .وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى لِسَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا ذُكِرَ شَرْعًا، وَمَنْ أَثْبَتَهَا نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الْكُفْرِ لِلشَّيْطَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَلَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْغَرَانِيقُ: الطَّيْرُ الْبِيضُ الْمَعْرُوفَةُ وَاحِدُهَا: غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وَفِرْدَوْسٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ كَالطَّيْرِ الْبِيضِ، فَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لِعَابِدِيهَا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَكْفَرَهُمْ! وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَفْعُولَ الْإِلْقَاءِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ:
أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ; لِأَنَّ النَّسْخَ هُنَا هُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَهَذَا كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، لَيْسَ مِمَّا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ وَالْوَسَاوِسُ الْمَانِعَةُ مِنْ تَصْدِيقِهَا وَقَبُولِهَا، كَإِلْقَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ امْتِحَانُ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ قَالَ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 2 \ 53] ثُمَّ قَالَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [22 \ 54] فَقَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الْأَشْقِيَاءُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، وَيُكَذِّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ ; كَمَا يَزْعُمُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي إِلْقَائِهِ: فَهَذَا الِامْتِحَانُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا زَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.
وَمَعْنَى يُحْكِمُ آيَاتِهِ: يُتْقِنُهَا بِالْإِحْكَامِ، فَيُظْهِرُ أَنَّهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْطَانِ صَدَّ النَّاسِ عَنْهَا بِإِلْقَائِهِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطَانَ فَيَلْقَى فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، فِتْنَةً لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْبِذَلِكَ الِامْتِحَانِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا كَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [74 \ 31] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 143] وَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيْ: لِأَنَّهَا فِتْنَةٌ، كَمَا قَالَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 62 - 64] ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.))
و اضع لكم ما ذكره الامام الالباني رحمه الله في مقدمة كتابه نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق مبينا ضعف القصة بجميع طرقها :
(( بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي اصطفى نبينا على سائر البشر وعصمه من الشيطان أن يوحي إليه بشر فقال تعالى مخاطبا إبليس اللعين : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [ الحجر : 42 ] بل جعل تعالى له السلطة على شيطانه القرين فكيف من كان عنه من المبعدين ؟ . كما أشار إلى ذلك قول رسوله الكريم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير " ( 1 ) وصلى الله على محمد الذي مكنه الله تعالى من إبليس حتى كاد أن يخنقه وهم أن يربطه بسارية من سواري مسجد المدينة ( 2 ) وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين
وبعد فقد كتب إلى بتاريخ 14 / 7 / 1952 م بعض الأستاذة من الإخوان الأعزة من الباكستان حيث أوفد إليها لغاية علمية يسألني عن رأيي في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين هما : ابن كثير الدمشقي وابن حجر المصري فقد أنكره الأول وقواه الآخر . وطلب مني أن لا أضن بالجواب عليه فلبثت بعض الأشهر أترقب فرصة أستطيع فيها إجابة طلبه . ثم لقيني أحد الأحبة عقب صلاة عيد الأضحى لهذه السنة 1371 ه فسألني أيضا عن حديث الغرانيق فأجبته بأنه لا يصح بل هو باطل موضوع فذكر لي أن أحد الشباب ممن في قلوبهم مرض احتج به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وحاشاه يتكلم بما يرضي المشركين جذبا لهم إليه لأنه بزعمه الباطل لم يكن نبيا صادقا وإنما كان يتظاهر بذلك ترؤسا عليهم كما يهرف بذلك بعض الملاحدة قديما وحديثا فحملني ذلك على أن اغتنم فرصة العيد المذكور فشرعت متوكلا على الله الغفور في جمع طرق تلك القصة من كتب التفسير والحديث وبينت عللها متنا وسندا ثم ذكرت قول الحافظ ابن حجر في تقويتها وتعقبته بما يبين وهي ما ذهب إليه ثم عقبت على ذلك بذكر بعض البحوث والنقول عن بعض الأئمة الفحول ذوي التحقيق في الفروع والأصول تؤيد ما ذهبنا إليه من نكارة القصة وبطلانها ووجوب رفضها وعدم قبولها تصديقا لقوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ) [ الفتح : 9 ] ))
و رسالة الامام الالباني هذه قيمة جدا فقد اورد جميع الروايات الذاكرة لقصة الغرانيق و اظهر علل ضعفها سندا و متنا في كل رواية على حدة و فيها ما يمكن للطالب في علم الحديث و التفسير ان يستفيد منه
و الاروع منه ما خصصه في رسالته هذه في الرد على مسالة تصحيح ابن حجر رحمه الله لاصل القصة
واستنادا على هذا اضربت عن ذكر اسباب تضعيف روايات الغرانيق واكتفيت بتضعيف اهل العلم لها و من اراد ان يعرف سبب ضعف كل رواية على حدة فليراجع رسالة الامام الالباني رحمه الله و ليقراها.
رابط كتاب الامام الالباني رحمه الله: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق
http://islamport.com/d/1/alb/1/84/681.html#
و كما قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق ان الرواية لا يصح منها طريقا واحدا و ان مراسيلها كلها لا تصح الى الراوي الا مرسل ابي العالية و مرسل ابي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام و مرسل سعيد بن جبير و قتادة و كلهم من طبقة واحد توفو في نفس الفترة تقريبا فلا يبعد ان يكونوا كلهم اخذوا الرواية من مصدر واحد مجهول او عن جمع مجهول فلا يمكن اذا الجزم بصحة الرواية
قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق :
((إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة لألفيناها كلها مرسلة حاشا حديث ابن عباس ولكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل فيبقى النظر في هذه المراسيل وهي كما علمت سبعة صح إسناد أربعة منها وهي مرسل سعيد بن جبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبي العالية ( رقم 1 - 3 ) ومرسل قتادة رقم ( 5 ) وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين لأنهم من طبقة واحدة : فوفاة سعيد بن جبير سنة ( 95 ) وأبي بكر بن عبد الرحمن سنة ( 94 ) وأبي العالية - واسمه رفيع مصغرا - سنة ( 90 ) وقتادة سنة بضع عشرة ومائة والأول كوفي والثاني مدني والأخيران بصريان فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه واحدا لا غير وهومجهول وجائز أن يكون جمعا ولكنهم ضعفاء جميعا فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقبول حديثهم هذا لا سيما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمس المقام الكريم فلا جرم تتابع العلماء على إنكارها بل التنديد ببطلانها ولا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا وإن كنت لم أقف على من صرح بذلك كما ذكرت آنفا .))
و اما من تشبث بهذه المراسيل من الطاعنين فهو ملزم باخذ مرسل عروة بن الزبير رحمه الله اذ و ان كان مرسلا ضعيفا الا ان مرسله اقل ضعفا اذ ان عروة و ان كان في نفس طبقة الاربعة السابقين الا انه امام في المغازي و السير و قد تكلم رحمه الله في رسالته الى عبد الملك بن مروان عن بدء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة و الهجرة الى الحبشة ورجوع بعض المهاجرين الى الحبشة و لم يذكر قصة الغرانيق ابدا مما يوهن القصة و يزيد في ضعفها اذ ان عدم ذكره للقصة مع امامته في المغازي و احتجاجهم علينا بالمرسل كفيل برد القصة واثبات وهن من يحتج بمثلها
نقرا من تفسير الطبري رحمه الله لسورة الانفال :
((16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا أبان العطار قال: حدثنا هشام بن عروة, عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء, فكتب إليه عروة: " سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, وسأخبرك به, ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة, أن الله أعطاه النبوة, فنعم النبيُّ ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة, وأحيانَا على ملته, وأماتنا عليها, وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنـزل عليه, لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه, (57) وكادوا يسمعون له، (58) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال, أنكر ذلك ناسٌ, واشتدّوا عليه, (59) وكرهوا ما قال, وأغروا به من أطاعهم, فانصفق عنه عامة الناس فتركوه, (60) إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث, ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم, فكانت فتنةً شديدة الزلزال (61) , فافتتن من افتتن, وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له " النجاشي"، لا يُظلم أحد بأرضه, (62) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [صلاح] ، (63) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها, ومساكن لتِجَارهم (64) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا، (65) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة, وخاف عليهم الفتن. (66) ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. (67) ثم إنه فشا الإسلام فيها, ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. (68) فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (69) وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم, تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (70) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها, (71) وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير, وفشا بالمدينة الإسلام, وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش , تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم, (72) فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم, فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها= وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، (73) رؤوس الذين أسلموا, فوافوه بالحج, فبايعوه بالعقبة, وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا, (74) وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة, وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو, وهي التي أنـزل الله فيها: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ))
صححها الشيخ احمد شاكر رحمه الله في تحقيقه لتفسير الطبري رحمه الله وقال :
(((75) الأثر : 16083 - " أبان العطار " ، هو " أبان بن يزيد العطار " ، وقد سلف شرح هذا الإسناد : 15719 ، 15821 ، وغيرهما إسناد صحيح .
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره ، وفي تاريخه ، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم : 15719 ، 15821 أما في تاريخه ، فقد رواه مفرقًا في مواضع ، هذه هي 2 : 220 ، 221 ، 240 ، 241 ، 245 ، 267 - 269 ثم 3 : 117 ، 125 ، 132 ، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا ، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذا الخبر نفسه ، مفرق في موضعين من التاريخ 2 : 220 ، 221 كما أشرت إليه في ص : 443 تعليق : 1 ثم 2 : 240 ، 241.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4 : 61 ، 62 . ))
و كما قلت سابقا فاننا لا نستشهد بالمراسيل و لكننا نلزم من اراد ان يحتج بها علينا بمرسل عروة رحمه الله . و اما سبب عدم احتجاجنا بمرسل عروة رحمه الله( كغيرها من المراسيل) رغم ان بعض اهل العلم قواه فهو ما ذكره الشيخ عبد الله الجديع في كتابه تحرير علوم الحديث الجزء الثاني الباب الثاني الحديث المردود الفصل الأول ألقاب الحديث الضعيف بسبب عدم الاتصال المبحث الرابع: مسائل في الانقطاع والإرسال المسألة الثانية: المفاضلة بين المراسيل :
((ومما قواه طائفة من الأئمة من المراسيل: مراسيل عروة بن الزبير، وذلك من أجل أنه قال: " إني لأسمع الحديث فأستحسنه، فما يمنعني من ذكره إلا كراهية أن يسمعه سامع فيقتدي به، أسمعه من الرجل لا أثق به قد حدثه عمن أثق به، وأسمعه من الرجل أثق به حدثه عمن لا أثق به " (1).
قال ابن عبد البر: " كيف ترى في مرسل عروة بن الزبير، وقد صح عنه ما ذكرنا؟ أليس قد كفاك المؤنة؟ " (2).
قلت: لا ريب أن هذا النص عن عروة يفيد شدة تحريه واحتياطه، لكن العلم بتحري التابعي وحده لا يكفي للاحتجاج بمرسله دون عاضد؛ لجواز أن يكون حمله عن غير ثقة عند غيره، وحسن الظن بالمتروك ذكره من الإسناد لا يكفي لصحة النقل ما لم يشهد له شاهد. ))
كما ذكرنا سابقا فانه لم يصح شيء من المراسيل - المتضمنة لقصة الغرانيق - الى رواتها غير اربعة و هو ما اسند الى قتادة و ابي العالية و سعيد بن جبير و ابو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، و قد رددنا على قول من قال بان هذه المراسيل تعضد بعضها البعض بما نقلناه عن الامام الالباني رحمه الله من كون الاربعة من طبقة واحدة فلا يستبعد نقلهم عن بعضهم البعض و كذلك مخالفة متن روايتهم للحديث الصحيح و ما صح عن عروة بن الزبير رحمه الله في رسالته الى عبد الملك بن مروان و لكن علاوة على كل هذا اضيف علة اخرى و هي : ان اهل العلم تكلموا في مراسيل بعض من هؤلاء .
فاما مرسل ابي العالية رحمه الله :
نقرا من جامع التحصيل للعلائي الباب الرابع((وحكى ابن عبد البر عن الجماعة تصحيح مرسلات محمد بن سيرين كمراسيل النخعي وان مراسيل عطاء والحسن البصري لا يحتج بها لأنهما كانا يأخذان عن كل أحد وكذلك مراسيل ابي قلابة وأبي العالية
قلت تقدم عن ابن سيرين أنه ضعف مراسيل الحسين وأبي العالية وقال كانا يصدقان كل من حدثهما رواه عنه ابن عون ))
و نقرا من نفس المصدر الباب الثاني
((ومنها أن بعض المراسيل رويت من وجوه متعددة مرسلة والتابعون فيها متباينون فيظن أن مخارجها مختلفة وإن كلا منها يعتضد بالآخر ثم عند التفتيش يكون مخرجها واحدا ويرجع كلها إلى مرسل واحد ومثال هذا حديث القهقهة المتقدم ذكره روي مرسلا من طريق الحسن البصري وأبي العالية وإبراهيم النخعي والزهري بأسانيد متعددة وعند التحقيق مدار الجميع على أبي العالية
قال عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث لم يروه إلا حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه هشام بن حسان من حفصه فحدث به الحسن البصري بأرسله الحسن وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان سليمان ابن أرقم يختلف إلى الحسن وإلى الزهري فسمعه من الحسن فذاكر به الزهري فقال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن مهدي وحدثنا شريك عن أبي هاشم قال أنا حدثت به إبراهيم يعني النخعي عن أبي العالية فأرسله إبراهيم عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال البيهقي فإذا سمع السامع هذا الحديث يجده قد أرسله الحسن وإبراهيم النخعي والزهري وأبو العالية فيظنه متعدد الأسانيد وإذا كشف عنه ظهر مداره على أبي العالية
قلت ومرسلات أبي العالية ضعيفة روى ابن عدي عن ابن سيرين قال كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم الحسن وأبو العالية وسمى آخر))
و نقرا ما نقله ابن رجب في كتابه شرح علل الترمذي عن الامام الترمذي في الجزد الاول :
((روى حماد عن ابن عون، عن ابن سيرين، قال: كان ههنا ثلاثة يصدقون كل من حدثهم، وذكر الحسن وأبا العالية ورجلا آخر.
وروى جرير عن رجل عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين قال: لا تحدثنا عن الحسن، ولا عن أبي العالية فانهما لا يباليان عمن أخذا الحديث. ))
وقول ابن سيرين هنا عام في كل مراسيل ابي العالية و لا يخصص بحديث القهقهة فقط كما ذهب اليه بعض النوكى من النصارى و الا لما قرنه بمرسل الحسن و على هذا اعتمد العلائي رحم الله في توهين مرسل ابي العالية عند السلف
و اما مرسل قتادة رحمه الله :
نقرا من كتاب المراسيل لابن ابي حاتم رحمه الله :
((- بَابُ مَا ذُكِرَ فِي الْأَسَانِيدِ الْمُرْسَلَةِ أنَّهَا لَا تَثْبُتُ بِهَا الْحُجَّةُ
1 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الَْقَطَّانُ لَا يَرَى إرْسَالَ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ شَيْئًا وَيَقُولُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حُفَّّّاظٌ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا الشَّيْءَ عَلَّقُوهُ ))
و اما مرسل سعيد بن جبير رحمه الله :
نقرا من كتاب الكفاية للخطيب باب الكلام في ارسال الحديث:
((خْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ , قَالَ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: " مُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ بِكَثِيرٍ , كَانَ عَطَاءٌ يَأْخُذُ عَنْ كُلِّ ضَرْبٍ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَمُرْسَلَاتُ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَحَبُّ إِلَيَّ , قَالَ يَحْيَى: وَكَانَ شُعْبَةُ يُضَعِّفُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيٍّ , قَالَ يَحْيَى: إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَلِيٍّ , قَالَ ابْنُ الْمَدِينِيِّ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَوَّلَ مَا طَلَبْتُ فِي الْحَدِيثِ وَقَعَ فِي يَدِي كِتَابٌ فِيهِ مُرْسَلَاتٌ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ , فَجَعَلْتُ لَا أَشْتَهِيهَا وَأَنَا يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ , وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَالِكٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سُفْيَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ , قَالَ: وَكُلٌّ ضَعِيفٌ , قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سُفْيَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ شِبْهُ لَا شَيْءٍ , لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ إِنْسَانٌ صَاحَ بِهِ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مُرْسَلَاتِ عَطَاءٍ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ؟ قَالَ: سَعِيدٌ أَحَبُّ إِلَيَّ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مُجَاهِدٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ مُرْسَلَاتُ طَاوُسٍ؟ قَالَ: مَا أَقْرَبَهُمَا وَسَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: " مُرْسَلَاتُ أَبِي إِسْحَاقَ عِنْدِي شِبْهُ لَا شَيْءٍ , وَالْأَعْمَشِ , وَالتَّيْمِيِّ , وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ , وَقَالَ يَحْيَى: مُرْسَلَاتُ ابْنِ عُيَيْنَةَ شِبْهُ الرِّيحِ , ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: إِي وَاللَّهِ وَسُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ , قُلْتُ لِيَحْيَى: فَمُرْسَلَاتُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ؟ قَالَ: هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ , ثُمَّ قَالَ يَحْيَى: لَيْسَ فِي الْقَوْمِ أَصَحُّ حَدِيثًا مِنْ مَالِكٍ " قَالَ الْخَطِيبُ: وَالَّذِي نَخْتَارُهُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ سُقُوطُ فَرْضِ الْعَمَلِ بِالْمَرَاسِيلِ , وَأَنَّ الْمُرْسَلَ غَيْرُ مَقْبُولٍ , وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِرْسَالَ الْحَدِيثِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْلِ بِعَيْنِ رَاوِيهِ , وَيَسْتَحِيلُ الْعِلْمُ بِعَدَالَتِهِ مَعَ الْجَهْلِ بِعَيْنِهِ , وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ الْخَبَرِ إِلَّا مِمَّنْ عُرِفَتْ عَدَالَتُهُ , فَوَجَبَ لِذَلِكَ كَوْنُهُ غَيْرَ مَقْبُولٍ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَدْلَ لَوْ سُئِلَ عَمَّنْ أَرْسَلَ عَنْهُ , فَلَمْ يُعَدِّلْهُ , لَمْ يَجِبِ الْعَمَلُ بِخَبَرِهِ , إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفَ الْعَدَالَةِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ , فَكَذَلِكَ حَالُهُ إِذَا ابْتَدَأَ الْإِمْسَاكَ عَنْ ذِكْرِهِ وَتَعْدِيلِهِ ,لِأَنَّهُ مَعَ الْإِمْسَاكِ عَنْ ذِكْرِهِ غَيْرُ مُعَدِّلٍ لَهُ , فَوَجَبَ أَلَّا يُقْبَلَ الْخَبَرُ عَنْهُ ))
اقول : قول الامام يحيى بن سعيد بان مرسلات سعيد بن جبير احب اليه من مرسلات عطاء ليس فيه دليل على احتجاج يحيى بن سعيد القطان رحمه الله بمرسل سعيد بن جبير اذ ان قوله يندرج تحت باب التفاوت بين الضعيف و الاضعف و دليل ذلك انه صرح بان رواية مالك عن سعيد بن المسيب احب اليه من رواية سفيان عن ابراهيم النخعي و كلتاهما ضعيفة ثم ختم كل هذا بالتصريح بان مراسيل مالك هي اصح المراسيل و على هذا مشى الخطيب رحمه الله اذ صرح ان هذه الجملة من يحيى تعني سقوط العمل بالمرسل .
ملاحظة :
وجدت سندا للقصة يصل الى ابن عباس رضي الله عنه لم يذكره الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق، و هذا السند لا يخلو من ضعف كما سنبين و لا يصح عن ابن عباس رضي الله عنه
نقرا من تفسير السمرقندي بحر العلوم سورة الحج :
(( قال: حدثنا الخليل بن أحمد قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدّثنا جعفر بن زيد الطيالسي قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد قال: حدّثنا أبو عاصم، عن عمار بن الأسود، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ثم قال: تلك الغرانيق العلى، وإن الشفاعة منها ترتجى، فقال المشركون: قد ذكر آلهتنا في أحسن الذكر فنزلت الآية))
التحقيق :
الرواية ضعيفة لعلة : جعفر بن زيد الطيالسي مجهول و لا ترجمة له .
و الغريب ان الراوي عنه هو ابراهيم بن محمد و هو ابراهيم بن محمد بن عمارة بن حمزة .
نقرا من طبقات المحدثين باصبهان و الواردين عليها لابي الشيخ الاصبهاني الجزء الرابع الطبقة التاسعة :
((631 - إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ عُمَارَةَكَانَ أَحَدَ الْحُفَّاظِ وَمَنْ عُنِيَ بِالْمُسْنَدِ وَالشُّيُوخِ، لَمْ يُرَ بَعْدَ ابْنِ مُظَاهِرٍ مِثْلُهُ، وَمَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. ))
و هو نفسه ابراهيم بن محمد الذي روى عن ابي بكر المقري محمد بن علي بن الحسن المجهول رواية الغرانيق كما اخرجها الضياء المقدسي في كتابه الاحاديث المختارة نقلا عن ابن مردويه :
((247 - أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ الْخَبَّازُ أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ مُحَمَّدَ بْنَ رَجَاءِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَهُمْ أبنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أبنا أَحْمَدُ بْنُ مُوسَى بْنِ مَرْدَوَيْهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عَليّ المقرىء الْبَغْدَادِيُّ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّيَالِسِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى وَمَنَاة الثَّالِثَة الْأُخْرَى} تِلْكَ الغرانيق العلى وَشَفَاعَتهنَّ ترتجا فَفَرِحَ الْمُشْرِكُونَ بِذَلِكَ وَقَالُوا قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ اقْرَأْ عَلَيَّ مَا جِئْتُكَ بِهِ قَالَ فَقَرَأَ {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَة الْأُخْرَى} تِلْكَ الغرانيق العلى وَشَفَاعَتهنَّ ترتجا فَقَالَ مَا أَتَيْتُكَ بِهَذَا هَذَا عَنِ الشَّيْطَانِ أَوْ قَالَ هَذَا مِنَ الشَّيْطَانِ لَمْ آتِكَ بِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} إِلَى آخِرِ الآيَةِ ))
و هذا يفتح احتمالية كون جعفر بن زيد الطيالسي هو نفسه جعفر بن محمد بن جعفر ابي عثمان الطيالسي !!!! و هذا يضعنا بين خيارين :
الاول : ان جعفر بن زيد ليس هو جعفر بن محمد بن ابي عثمان الطيالسي و هذا يعني ان السند ضعيف لجهالة جعفر بن زيد
الثاني: ان جعفر بن زيد هو نفسه جعفر بن محمد بن ابي عثمان الطيالسي و هذا يعني ان السند وقع فيه اضطارب من ناحيتين :
- التصحيف الذي جعل جعفر بن محمد هو جعفر بن زيد !!!
- وقوع الوهم في السند بسقوط ابو بكر المقري و هو الواسطة بين جعفر بن محمد الطيالسي و ابراهيم بن محمد!!!
فعلى الاحتمال الاول السند ضعيف بجهالة جعفر بن زيد الطيالسي اذ لا ترجمة له
و على الاحتمال الثاني السند ايضا ضعيف بجهالة ابو بكر المقري اذ ليس فيه جرح و لا تعديل فقد ذكره الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد و لم يذكر له جرحا و لا تعديلا .
نقرا من تاريخ بغداد للخطيب ذكر من اسمه محمد ، حرف العين :
(([1294 - محمد بن علي بن الحسن أبو حرب المقرئ]
حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو بن أبي مذعور.
روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحيى العطشي.
(875) -[4: 116] أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْقَطِيعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بن أحمد بْنُ يَحْيَى الْعَطَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَرْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الْمُقْرِئُ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَذْعُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: سمعت حُمَيْدًا ذَكَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ قَالَ: " سَلامٌ عَلَيْكُمْ " قَالَ أَحْمَدُ: قَالَ لَنَا الْعَطَشِيُّ: تُوُفِّي أَبُو حَرْبٍ هَذَا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلاثِ مِائَةٍ. ))
و هذا ما قاله الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق لنسف شبهة الغرانيق :
((قلت: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال "التهذيب" إلا من دون ابن عرعرة، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي، وقد أورده الخطيب في "تاريخ بغداد" فقال "3/ 68–69": "محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء، حدث عن محمود بن خداش، ومحمد بن عمرو، وابن أبي مذعور. روى عنه أحمد بن كامل القاضي، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي" ثم ساق له حديثًا واحدًا وقع فيه مكنًا بـ "أبي حرب"، فلا أدري أهي كنية أخرى له، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال: "توفي سنة ثلاثمائة"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، فهو مجهول الحال، وهو علة هذا الإسناد الموصول، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء، الحافظ الثقة، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة "381" إحدى وثمانين وثلاثمائة، ووقع في "التذكرة: 3/ 172" "ومائتين" وهو خطأ.
فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الاطلاع على إسناد ابن مردويه "أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل" ))
اضف الى هذا ان الرواية رويت مرسلة عن سعيد بن جبير رضي الله عنه في مصادر اخرى و من نفس طريق عثمان بن الاسود :
1. نقرا من تفسير الطبري رحمه الله سورة الحج :
(( حدثنا ابن بشار, قال: ثنا محمد بن جعفر, قال: ثنا شعبة, عن أبي بشر, عن سعيد بن جُبير, قال: لما نـزلت هذه الآية: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: تلك الغرانيق العلى, وإن شفاعتهن لترتجى. فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال المشركون: أنه لم يذكر آلهتكم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه, فأنـزل الله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ )... إلى قوله: عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ . حدثنا ابن المثنى, قال: ثنى عبد الصمد, قال: ثنا شعبة, قال: ثنا أبو بشر, عن سعيد بن جُبير قال: لما نـزلت: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى ثم ذكر نحوه.))
2. نقرا من اسباب النزول للواحدي سورة الحج :
(((1) - أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَارِثِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو يَحْيَى الرَّازِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَهْلٌ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .... ))
قال الامام الالباني رحمه الله في نصب المجانيق :
((قلت: هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل، ويقوي ذلك، أعني كون إسناده مُعَلًا أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في "أسباب النزول": ص 233" من طريق سهل العسكري قال: أخبرني يحيى "قلت: هو القطان" عن عثمان بن الأسود، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19-20] ، فألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى" ففرح بذلك المشركون، وقالوا: قد ذكر آلهتنا، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إعرض علّي كلام الله، فلما عرض عليه، قال: أما هذا فلم آتك به، هذا من الشيطان، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} الآية [الحج: 52] .فرجع الحديث إلى أنه -عن عثمان بن الأسود عن سعيد- مرسل، وهو الصحيح، لموافقته رواية عثمان هذه، رواية أبي بشر عن سعيد. ))
و الثابت عن ابن عباس رضي الله عنه هو سجود المسلمين و المشركين في اخر النجم و لم يذكر شيئا عن قصة الغرانيق
نقرا من صحيح البخاري كتاب تفسير القران 4581 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس تابعه إبراهيم بن طهمان عن أيوب ولم يذكر ابن علية ابن عباس
وقد وافق الطبراني رحمه الله البخاري في اخراجه للرواية مختصرة في معجمه الكبير باب العين
11866 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الصَّائِغُ الْمَكِّيُّ، ثنا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْجُدِّيُّ، ح، وَحَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ مِهْرَانَ السَّمَّاكُ، قَالَا: ثنا عَبْدُ الْوَارِثِ، ثنا أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَجَدَ وَهُوَ بِمَكَّةَ بِالنَّجْمِ، وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ» ، وَقَالَ حَفْصُ بْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سَجَدَ بِمَكَّةَ فَسَجَدَ مَعَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكُونَ»
وقد وافق ما قاله ابن عباس رضي الله عنه هنا ايضا ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه و هو شاهد عيان
نقرا من صحيح البخاري ابواب سجود القران باب سجدة النجم :
1070 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ بِهَا فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ القَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى - أَوْ تُرَابٍ - فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ، وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا "، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا
وقد ضعف الرواية محقق كتاب تفسير السمرقندي
ملاحظة 2 :
ذكر البعض ان شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله اثبت رواية الغرانيق و هذا غير صحيح فشيخ الاسلام رحمه الله لم يثبت و لم ينفي الواقعة و انما نقل اراء من اثبت و من نفى و حجة كل منهما .
و لتوضيح هذه النقطة ساقوم بنقل ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله عن هذه الحادثة و نقله لاراء الفريقين في كتابه منهاج السنة و في مجموع الفتاوى ثم اشير الى الجزئية التي تثبت انه -رحمه الله - مجرد ناقل .
نقرا من منهاج السنة النبوية الفصل الثاني في أن مذهب الإمامية واجب الاتباع فصل كلام ابن المطهر بعد المقدمة وجوب اتباع مذهب الإمامية لوجوه الرد على قوله عن الإمامية إنهم يقولون إن الله قادر على جميع المقدورات التعليق على قوله وأن الأنبياء معصومون من الخطأ والسهو التعليق على قوله إن هذا ينفي الوثوق ويوجب التنفير
(( [وَمِمَّا يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ طَعَنَ فِي نُبُوَّةِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا قَدَحَ فِي الثِّقَةِ بِهِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الَّتِي تِيبَ مِنْهَا، وَلَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى تَأْوِيلِ النُّصُوصِ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ التَّحْرِيفِ لَهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ. وَالتَّوْرَاةُ فِيهَا قِطْعَةٌ مِنْ هَذَا، وَمَا أَعْلَمُ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدَحُوا فِي نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِتَوْبَتِهِ فِي أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْدَحُونَ فِيهِمْ بِالِافْتِرَاءِ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانُوا يُؤْذُونَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَمُوسَى قَدْ قَتَلَ الْقِبْطِيَّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ وَتَابَ مِنْ سُؤَالِ الرُّؤْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ قُدِحَ فِيهِ بِمِثْلِ هَذَا.
وَمَا جَرَى فِي سُورَةِ " النَّجْمِ " مِنْ قَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهَا لَتُرْتَجَى، عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ، ثُمَّ نَسَخَهُ اللَّهُ وَأَبْطَلَهُ ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْمُفْتَرَيَاتِ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُكَذِّبُ هَذَا وَإِنْ كَانَ مُجَوِّزًا عَلَيْهِمْ غَيْرَهُ: إِمَّا قَبْلَ النُّبُوةِ وَإِمَّا بَعْدَهَا، لِظَنِّهِ أَنَّ فِي ذَلِكَ خَطَأً فِي التَّبْلِيغِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ فِي التَّبْلِيغِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالْعِصْمَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا أَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى خَطَأٍ فِي التَّبْلِيغِ بِالْإِجْمَاعِ، وَمِنْ هَذَا فَلَمْ يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَفَرَ بِرُجُوعِهِ عَنْ هَذَا، وَقَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا مِمَّا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، وَلَكِنْ رَوَى أَنَّهُمْ نَفَرُوا لَمَّا رَجَعَ إِلَى ذَمِّ آلِهَتِهِمْ بَعْدَ ظَنِّهِمْ أَنَّهُ مَدَحَهَا، فَكَانَ رُجُوعُهُمْ لِدَوَامِهِ عَلَى ذَمِّهَا، لَا لِأَنَّهُ قَالَ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَاهُ. وَإِذَا كَانَ هَذَا لَمْ يُنَفِّرْ فَغَيْرُهُ أَوْلَى أَنْ لَا يُنَفِّرَ ))
و من نفس المصدر الفصل الأول من منهاج الكرامة عرض عام لرأي الإمامية وأهل السنة في الإمامة استمرار مناقشة مزاعم ابن المطهر فصل الرد على قول الرافضي إنهم يقولون إن الأنبياء غير معصومين:
(( وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ هُوَ الَّذِي يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَخَبَرَهُ (2) ، وَهُمْ مَعْصُومُونَ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ (3) بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَقِرَّ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْخَطَأِ.
وَتَنَازَعُوا هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُبَيِّنُهُ لَهُ بِحَيْثُ لَا يُقِرُّهُ عَلَى الْخَطَأِ. كَمَا نُقِلَ أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى لِسَانِهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) : تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ (5) لَتُرْتَجَى؛ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَ مَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ وَأَحْكَمَ آيَاتِهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَهُ إِذْ لَا مَحْذُورَ فِيهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] (6) يَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [سُورَةُ الْحَجِّ: 53] (7) ))
و نقرا من مجموع الفتاوى الجزء 21 كتاب الطهارة باب نواقض الوضوء:
(( وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى احْتِجَاجِ الْبُخَارِيِّ بِجَوَازِ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ النَّجْمَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ} وَهَذَا السُّجُودُ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: {قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ النَّجْمَ فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا قَالَ: فَرَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا} . قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ هَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سُجُودَ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ وَإِنَّمَا كَانَ لِمَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذِكْرِ آلِهَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} فَقَالَ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ قَدْ تُرْتَجَى فَسَجَدُوا لَمَّا سَمِعُوا مِنْ تَعْظِيمِ آلِهَتِهِمْ. فَلَمَّا عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ ذَلِكَ أَشْفَقَ وَحَزِنَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَأْنِيسًا لَهُ وَتَسْلِيَةً عَمَّا عَرَضَ لَهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} إلَى قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ إذَا تَلَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي تِلَاوَتِهِ. فَلَا يُسْتَنْبَطُ مِنْ سُجُودِ الْمُشْرِكِينَ جَوَازُ السُّجُودِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ لَا يَصِحُّ لَهُ وُضُوءٌ وَلَا سُجُودٌ إلَّا بَعْدَ عِقْدِ الْإِسْلَامِ. فَيُقَالُ: هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْقَوْمَ إنَّمَا سَجَدُوا لَمَّا قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} {وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ} {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} فَسَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ وَهُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ وَالْمُشْرِكُونَ تَابَعُوهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ. وَمَا ذُكِرَ مِنْ التَّمَنِّي إذَا كَانَ صَحِيحًا فَإِنَّهُ هُوَ كَانَ سَبَبَ مُوَافَقَتِهِمْ لَهُ فِي السُّجُودِ لِلَّهِ وَلِهَذَا لَمَّا جَرَى هَذَا بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ بِالْحَبَشَةِ ذَلِكَ فَرَجَعَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إلَى مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَتَعْظِيمَهُ وَلَكِنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَعَهُ آلِهَةً أُخْرَى كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فَكَانَ هَذَا السُّجُودُ مِنْ عِبَادَتِهِمْ لِلَّهِ وَقَدْ قَالَ: سَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ. ))
و هذا الاقتباس الاخير يدل صراحة على ان شيخ الاسلام بن تيمية رحمه الله لم يصحح القصة اذ نقل قول ابن بطال رحمه الله ثم اتبعه ب" و ما ذكر من التمني اذا كان صحيحا " و هذه عبارة تدل على عدم جزمه بصحة الرواية بل انها تشير الى توقفه فلا هو صححها و لا هو انكرها انما توقف في ثبوتها من عدمه .
و نقرا من مجموع الفتاوى الجزء 10 فصل علم السلوك باب ثبوت العصمة للأنبياء يحصل بها مقصود الرسالة:
(( وَلَكِنْ هَلْ يَصْدُرُ مَا يَسْتَدْرِكُهُ اللَّهُ فَيَنْسَخُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ؟ هَذَا فِيهِ قَوْلَانِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ السَّلَفِ يُوَافِقُ الْقُرْآنَ بِذَلِكَ. وَاَلَّذِينَ مَنَعُوا ذَلِكَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ طَعَنُوا فِيمَا يُنْقَلُ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي سُورَةِ النَّجْمِ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى وَقَالُوا: إنَّ هَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ ثَبَتَ: قَالَ هَذَا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ فِي مَسَامِعِهِمْ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ السُّؤَالَ وَارِدٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ أَيْضًا. وَقَالُوا فِي قَوْلِهِ: {إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} هُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَّرُوا مَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ فَقَالُوا هَذَا مَنْقُولٌ نَقْلًا ثَابِتًا لَا يُمْكِنُ الْقَدْحُ فِيهِ وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فَقَالُوا الْآثَارُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعْرُوفَةٌ ثَابِتَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْقُرْآنُ يُوَافِقُ ذَلِكَ فَإِنَّ نَسْخَ اللَّهِ لِمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ وَإِحْكَامَهُ آيَاتِهِ إنَّمَا يَكُونُ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ فِي آيَاتِهِ وَتَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ حَتَّى لَا تَخْتَلِطَ آيَاتُهُ بِغَيْرِهَا. وَجَعْلُ مَا أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ إنَّمَا يَكُونُ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا يَسْمَعُهُ النَّاسُ لَا بَاطِنًا فِي النَّفْسِ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ النَّسْخِ مِنْ جِنْسِ الْفِتْنَةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ مِنْ النَّسْخِ. ))
لاحظوا كيف نقل شيخ الاسلام بن تيمية حجج الفريقين و اكتفى بالرد على هذه الشبهة على فرض صحة القصة و هذا يؤيد ما قلناه سابقا ان موقفه من هذه القصة ليس التاكيد او النفي بل هو الوقف .
ملاحظة 3:
ان ما قاله بعض الاحناف و المالكية من الاحتجاج بالمرسل اطلاقا دون قيد انما يكون فيما يتعلق بعلم الفروع من الاحكام لا فيما يتعلق بعلم الاصول من العقائد فعلى مذهبهما تكون رواية الغرانيق ساقطة ايضا .
نقرا من دلائل النبوة للبيهقي رحمه الله الجزء الاول فصل في المراسيل :
(( كل حديث أرسله واحد من التابعين أو الأتباع، فرواه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَذْكُرْ من حمله عنه، فهو على ضربين:(أحدهما) : أن يكون الذي أرسله من كبار التابعين الذين إذا ذكروا من سمعوا منه ذكروا قوما عدولا يوثق بخبرهم. فهذا إذا أرسل حديثا نظر في مرسله، فإن انضم إليه ما يؤكده من مرسل غيره، أو قول واحد من الصحابة، أو إليه ذهب عوامّ من أهل العلم- فإنّا نقبل مرسله في الأحكام ))
و نقرا من ما قاله الامدي في كتابه الاحكام في اصول الاحكام الجزء الثاني القاعدة الثانية في بيان الدليل الشرعي و احكامه :
(( وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ إِرْسَالُ الْأَخْبَارِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ لِإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ إِذَا حَدَّثْتَنِي فَأَسْنِدْ، فَقَالَ: إِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي فُلَانٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ الَّذِي حَدَّثَنِي، وَإِذَا قُلْتُ لَكَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، فَقَدْ حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ عَنْهُ، وَأَيْضًا مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ رَوَى حَدِيثًا، فَلَمَّا رُوجِعَ فِيهِ قَالَ: (أَخْبَرَنِي بِهِ سَبْعُونَ بَدْرِيًّا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا اشْتُهِرَ مِنْ إِرْسَالِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ مَشْهُورًا فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَكَانَ إِجْمَاعًا (3) وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْعَدْلَ الثِّقَةَ إِذَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، مُظْهِرًا لِلْجَزْمِ بِذَلِكَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَجِيزُ ذَلِكَ إِلَّا وَهُوَ عَالِمٌ أَوْ ظَانٌّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَلِكَ.
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ ظَانًّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْهُ، أَوْ كَانَ شَاكًّا فِيهِ، لَمَا اسْتَجَازَ فِي دِينِهِ النَّقْلَ الْجَازِمَ عَنْهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الْمُسْتَمِعِينَ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْدِيلَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمَا كَانَ عَالِمًا وَلَا ظَانًّا بِصِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ (1) . فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ الْإِجْمَاعَ، وَدَلِيلُهُ مِنْ جِهَةِ الْإِجْمَالِ وَالتَّفْصِيلِ: أَمَّا الْإِجْمَالُ فَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ، وَالْإِجْمَاعَ قَاطِعٌ، فَلَا يُسَاعِدُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ التَّفْصِيلِ فَهُوَ أَنَّ غَايَةَ مَا ذَكَرَ مَصِيرُ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَى الْإِرْسَالِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى إِجْمَاعِ الْكُلِّ.))
وقال محقق الكتاب عبد الرزاق عفيفي في تعليقه على الهامش رقم 3 :
(( (3) أَقُولُ إِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى جَوَازِ الرِّوَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ، وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الْمُرْسَلَةُ مِنَ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ اجْتِهَادِيَّةٌ لِكُلِّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا بِمَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَالْكَلَامُ فِي مِثْلِهَا بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْبَحْثِ، وَالْمُنَاظَرَةُ دُونَ الْإِنْكَارِ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ سُكُوتَهُمْ مُوَافَقَةٌ، فَهُوَ إِجْمَاعٌ فِي غَيْرِ مَحَلِّ النِّزَاعِ، إِذِ النِّزَاعُ هُنَا فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمُرْسَلُ مِنَ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ هُوَ إِجْمَاعٌ سُكُوتِيٌّ مُخْتَلَفٌ فِي الِاحْتِجَاجِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالنِّزَاعُ فِيهِ قَائِمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى رَفْعِهِ))
و نقرا من نصب الراية للامام الزيلعي رحمه الله الجزء الاول :
(( ، وَفِي "مُسْند" الشَّافِعِي نَفسه مَرَاسِيل كَثِيرَة، بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ الَّذِي هُوَ الْمَعْرُوف بَين السّلف، وَفِي "موطأ مَالك"، نَحْو ثَلَاثمِائَة حَدِيث مُرْسل، وَهَذَا الْقدر أَكثر من نصف مسانيد "الْمُوَطَّأ" وَمَا فِي أَحْكَام الْمَرَاسِيل للصلاح العلائي من البحوث فِي الْإِرْسَال، جُزْء يسير، مِمَّا لأهل الشان من الْأَخْذ وَالرَّدّ فِي ذَلِك، وَفِيمَا علقناه عَلَى شُرُوط الْأَئِمَّة الْخَمْسَة، وَجه التَّوْفِيق بَين قَول الْفُقَهَاء بتصحيح الْمُرْسل، وَقَول متأخري أهل الرِّوَايَة بتضعيفه، مَعَ نوع من الْبسط فِي الِاحْتِجَاج بالمرسل، بل البُخَارِيّ نَفسه ترَاهُ يسْتَدلّ فِي كتبه بالمراسيل، وَكَذَا مُسلم فِي الْمُقدمَة، وجزء الدّباغ، وَلَا يتَحَمَّل هَذَا الْموضع لبسط الْمقَال فِي ذَلِك بِأَكْثَرَ من هَذَا. وَمن شُرُوط قبُول الْأَخْبَار عِنْد الْحَنَفِيَّة مُسندَة، كَانَت، أَو مُرْسلَة، أَن لَا تشذ عَن الْأُصُول المجتمعة عِنْدهم، وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاء بالغوا فِي استقصاء موارد النُّصُوص من الْكتاب وَالسّنة، وأقضية الصَّحَابَة، إِلَى أَن أرجعوا النَّظَائِر الْمَنْصُوص عَلَيْهَا، والمتلقاة بِالْقبُولِ إِلَى أصل تتفرع هِيَ مِنْهُ، وَقَاعِدَة تندرج تِلْكَ النَّظَائِر تحتهَا، وَهَكَذَا فعلوا فِي النَّظَائِر الْأُخْرَى، إِلَى أَن أَتموا الفحص والاستقراء، فاجتمعت عِنْدهم أصُول - مَوضِع بَيَانهَا، كتب الْقَوَاعِد والفروق - يعرضون عَلَيْهَا أَخْبَار الْآحَاد، فَإِذا ندت الْأَخْبَار عَن تِلْكَ الْأُصُول، وشذت، يعدونها مناهضة لما هُوَ أَقْوَى ثبوتاً مِنْهَا، وَهُوَ الأَصْل المؤصل من تتبع موارد الشَّرْع الْجَارِي مجْرى خبر الكافة، والطَّحَاوِي كثير المراعاة لهَذِهِ الْقَاعِدَة فِي كتبه، ويظن من لَا خبْرَة عِنْده أَن ذَلِك تَرْجِيح مِنْهُ لبَعض الرِّوَايَات عَلَى بَعْضهَا بِالْقِيَاسِ))
ملاحظة 4: هناك من كان من المائين الاولى من السلف ممن رفض الاحتجاج بالمرسل وهذا يرد على ما قاله الطبري و ابو داود رحمهما الله من ان المرسل كان يعمل به حتى اتى الشافعي رحمه الله .
1. ابن سيرين رحمه الله
نقرا من مقدمة صحيح مسلم رحمه الله :
(( حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيَّاءَ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: " لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الْإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ، قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ " حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ، أَخْبَرَنَا عِيسَى وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: لَقِيتُ طَاوُسًا فَقُلْتُ: حَدَّثَنِي فُلَانٌ كَيْتَ وَكَيْتَ، قَالَ: «إِنْ كَانَ صَاحِبُكَ مَلِيًّا، فَخُذْ عَنْهُ»))
2. سفيان بن عيينة رحمه الله
نقرا من الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي باب ذكر ما احتج به من ذهب الى قبول المراسيل
(( أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَمَذَانِيُّ، ثنا صَالِحُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَافِظُ، ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَمْدَانَ، ثنا هِلَالُ بْنُ الْعَلَاءِ , قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: " حَمَلَ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ يَوْمًا عَلَى ابْنِ عُيَيْنَةَ، فَصَعِدَ فَوْقَ غُرْفَةٍ لَهُ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ: تُرِيدُ أَنْ يَتَفَرَّقُوا عَنْكَ حَدِّثْهُمْ بِغَيْرِ إِسْنَادٍ , فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا , يَأْمُرُنِي أَنْ أَصْعَدَ فَوْقَ الْبَيْتِ بِغَيْرِ دَرَجَةٍ " قَالَ صَالِحٌ: يَعْنِي أَنَّ الْحَدِيثَ بِلَا إِسْنَادٍ لَيْسَ بِشَيْءٍ , وَأَنَّ الْإِسْنَادَ دَرَجُ الْمُتُونِ , بِهِ يُوصَلُ إِلَيْهَا "))
3. عبد الله بن المبارك رحمه الله .
نقرا من نفس المصدر السابق :
(( أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُظَفَّرِ الدِّينَوَرِيُّ، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْمُزَكِّي، ثنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ , قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الْمُقْرِئَ , يَقُولُ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مَعْدَانَ , يَقُولُ: قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «مَثَلُ الَّذِي يَطْلُبُ أَمْرَ دِينِهِ بِلَا إِسْنَادٍ كَمَثَلِ الَّذِي يَرْتَقِي السَّطْحَ بِلَا سُلَّمٍ» ))
4. علي بن المديني رحمه الله
نقرا من نفس المصدر السابق :
(( أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَضْلِ الْقَطَّانُ، ثنا أَبُو عِيسَى أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ الْجَوْهَرِيُّ، ثنا جَدِّي , قَالَ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ عَنْ إِسْنَادِ حَدِيثٍ سَقَطَ عَلَيَّ , فَقَالَ تَدْرِي مَا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْحَدَّادُ؟ قَالَ: «الْإِسْنَادُ مِثْلُ الدَّرَجِ وَمِثْلُ الْمَرَاقِي , فَإِذَا زَلَّتْ رِجْلُكَ عَنِ الْمَرْقَاةِ سَقَطْتَ , وَالرَّأْي مِثْلُ الْمَرْجِ»))
وقد رد العلائي رحمه الله على دعوى الاجماع الذي ذكره الطبري رحمه الله و اقره ابن عبد البر رحمه الله
نقرا من جامع التحصيل للعلائي رحمه الله الباب الثالث :
(( وأما الإجماع فقد ادعاه جماعة منهم حتى قال محمد بن جرير الطبري لم يزل الناس على العمل بالمرسل وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده يشير إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه قالوا أما عصر الصحابة فلا ريب في شيوع الإرسال منهم وإن لم يحصل نكير البتة على أحد ممن أرسل من الصحابة رضي الله عنهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
هذا وصلى الله على سيدنا محمد و على اله وصحبه وسلم ....وأما التابعون فإرسالهم للأحاديث التي لا تدخل تحت الحصر مشهور شائع بينهم كابن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومن يطول الكلام بذكرهم ولم يكن روايتهم لها إلا للعمل بها وإلا فلو كانت لغوا لا تفيد شيئا ولا يحتج بها لأنكرها عليهم العلماء وبينوا أن إرسالهم الحديث يقتضي التوهين له وعدم الاحتجاج به فما أنكر ذلك عليهم نظراؤهم ولا من فوقهم وإنما أنكره من جاء من بعدهم
قالوا ولا يعترض على هذا بأنه يلزم منه أن يكون الخلاف في ذلك مردودا قادحا في المخالف لكونه خارقا للإجماع وذلك باطل لأن الخلاف في المرسل مقبول مسموع من قائله لا نجيب عنه بأن الخلاف المردود المقتضي للقدح إنما هو خرق الإجماع القطعي أما الإجماع الاستدلالي أو الظني فلا يقدح في خارقه وهو هنا بهذه المثابة لأنه إجماع سكوتي
والجواب عن ذلك كله إن دعوى الإجماع في ذلك باطل قطعا إلا في عصر الصحابة زمن النبوة وبعدها بيسير حين لم يخالط الصحابة غيرهم وذلك لا يرد على من لم يحتج بالمرسل وكذلك إرسال صغار الصحابة لما تقدم إن مثل هذا مقبول على الراجح المشهور الذي عليه جمهورالعلماء وإنه لم يخالف... وأما بعدما كثر التابعون وانتشرت رواياتهم بين الصحابة المتأخرين وغيرهم فلا يمكن دعوى إجماع سكوتي على قبول المرسل فضلا عن غيره وقد تقدم قصة ابن عباس مع بشير بن كعب وعدم قبوله المراسيل مطلقا وإلا فيمن يعرف وهي ثابتة في صحيح مسلم من الوجهين المتقدم ذكرهما وكذلك قول ابن عباس أيضا كنا نحفظ الحديث والحديث يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما إذا ركبتم الصعب والذلول فهيهات وقول ابن سيرين لم يكونوا يسألون عن الإسناد حتى وقعت الفتنة فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم
قلت لأن المتدعة كذبت أحاديث كثير تشيد بها بدعتها قال ابن عباس رضي الله عنه لما بلغه ما وضعه الرافضة من أهل الكوفة على علي رضي الله عنه قاتلهم الله أي علم أفسدوا رواه مسلم في مقدمة صحيحه أيضا
قال الإمام الشافعي رحمه الله كان ابن سيرين وعروة بن الزبير وطاووس وإبراهيم النخعي وغير واحد من التابعين يذهبون إلى أن لا يقبلو الحديث إلا عن ثقة يعرف ما يروي ويحفظ وما رأيت أحدا من أهل الحديث يخالف هذا المذهب وقد تقدم إنكار الزهري على إسحاق بن أبي فروة إرسال الحديث وقوله قاتلك الله يا ابن أبي فروة تحدثنا بأحاديث ليست له خطم ولا أزمة يعني الأسانيد والزهري ممن كان يرسل الحديث فدل قوله هذا على أن إرساله الحديث لم يكن ليعمل به ربما كان للمذاكرة ونحوها أو رأى أبن أبي فروة ربما يرسل عن غير ثقة فأنكر عليه ذلك
فإن قيل فكيف أرسل الزهري عن سليمان بن أرقم وغيره حتى ضعف جماعة من الأئمة مراسيله مطلقا
قلنا يحتمل أنه لم يطلع على ضعف سليمان بن أرقم وأحسن الظن به وكذلك قال الشافعي فيه رآه الزهري يعني سليمان ابن أرقم من أهل المروءة والعقل فقبل عنه وأحسن الظن به فسكت عن اسمه إما لأنه أصغر منه وإما لغير ذلك
والحاصل أن إنكار أهل ذلك العصر للإرسال وردهم للمرسل موجود في صور كثيرة فلا إجماع حينئذ ولا يمكن طرد اتفاق الصدر الأول من الصحابة بعد ذلك لما أشار إليه ابن عباس وابن سيرين وغيرهما من الفرق بينهم وبين من بعدهم لوجود الأهواء والكذب بعد الصدر الأول ثم إن هذا القول من ادعاء الاتفاق معارض بما نقله مسلم في مقدمة صحيحه عن غيره مقررا لكلامه المرسل من الروايات في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة وقول محمد بن جرير لم يزل العمل بالإرسال وقبوله حتى حدث بعد المائتين القول برده مردود بقول من رده قبل المائتين كالأوزاعي وشعبة والليث بن سعد وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وغيرهم وبالله التوفيق))
ثانيا : مخالفة روايات الغرانيق للرواية الصحيحة الثابتة في الصحيحين متنا :
في صحيح البخاري كتاب تفسير القران
4581 حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس تابعه إبراهيم بن طهمان عن أيوب ولم يذكر ابن علية ابن عباس
وفي صحيح مسلم كتاب المساجد و مواضع الصلاة
4582 حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد عن عبد الله رضي الله عنه قال أول سورة أنزلت فيها سجدة والنجم قال فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من ترابفسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهوأمية بن خلف
الاختلافات بين رواية الغرانيق و بين الرواية الصحيحة في صحيح البخاري رحمه الله
1. ان سجود المشركين في الصحيحين كان في اخر سورة النجم بينما في رواية الغرانيق كان سجودهم في بداياتها بعد قوله تعالى ((و مناة الثالثة الاخرى))
2. سبب سجود المشركين في الصحيحين هو وقع الايات في سورة النجم عليهم و ما سمعوه من قوة البيان و بلاغة الكلام
بينما في رواية الغرانيق ان سبب السجود هو مدح النبي صلى الله عليه وسلم لالهتهم و العياذ بالله و حاشاه بابي هو و امي
3. ان الرواية في الصحيحين لا تذكر ان النبي عليه الصلاة و السلام ذكر الغرانيق اصلا في قراءته و لا انه طلب الشفاعة منها بعكس رواية الغرانيق الضعيفة
يتبع
تعليق