الديداخي " تعليم الرسل " ( القرن الثاني)
يقول القس عبد المسيح بسيط (( كتب هذا الكتاب في نهاية القرن الأول واقتبس كثيراً من الإنجيل للقديس متى وأشار إلى الإنجيل ككل ، سواء الإنجيل الشفوي أو المكتوب بقوله " كما هي عندكم في الإنجيل ( 15 : 3 ، 4 ) و" كما أمر الرب في أنجيله" ( 15 : 3 ) ويقتبس من الإنجيل للقديس متى بقوله " لا تصلوا كما يصلي المراؤون ، بل كما أمر السيد في إنجيله ، فصلوا هكذا : أبانا الذي في السماء ..الخ" ( 2:8 ) و"لأن الرب قال لا تعطوا الخبز للكلاب" (5:9) . ويختم الكتاب بالقول " ولكن كما كتب سيأتي الرب ومعه القديسون (زك 5:14 ) ثم يضيف " وسينظر العالم مخلصاً آتياً على سحاب السماء" (مت 3:24) )) .
ألهذه الدرجه وصل الحال بهؤلاء القساوسة حتى يستشهدوا بأسفار وكتابات مزيّفة وهذه شهادة أبو التأريخ الكنسي ـ على حد قول القساوسة ـ يقول في كتابه عن الأسفار المرفوضة (( وضمن الأسفار المرفوضة ، يجب أن يعتبر أيضاً أعمال بولس و ما يسمى بسفر الراعي ، ورؤيا بطرس ، يضاف إلى هذه رسالة برنابا التي لا تزال باقية ، وما يسمى تعاليم الرسل ))[2].
وبهذا يتضح أنه( بقدرة قادر) أصبحت الأسفار المرفوضة حجّة فلماذا إذاً لا نستشهد بسفر الأعمال الأبوكريفي الذي يذكر أن المسيح لم يصلب بل صلب إنسان آخر مكانه[3] ، فعلى الأقل هناك شهادة تأتي لصالح هذا السفر في الوثيقة الموراتورية التي تستشهد بها حيث تقول دائرة المعارف الكتابية (( يبدو من إشارة كاتب الوثيقة الموراتورية ( بيان بالأسفار المعترف بها في حوالي 190 م ) إلى سفر الأعمال الكتابي ، أنه ربما كان يشير إلى سفر آخر للأعمال ، فهو يقول " أعمال كل الرسل موجودة في كتاب واحد ، فقد كتبها لوقا ببراعة لثاوفيلس ، في حدود ما وقع منها تحت بصره ، كما يظهر ذلك من عدم ذكره شيء عن استشهاد بطرس أو رحلة بولس من روما لأسباني )).
ولماذا لا نستشهد بسفر أعمال يوحنا الذي يخبرنا أن المسيح لم يمت مصلوباً وإنما أمر يوحنا أن يحفر له قبراً ثم اضطجع بهدوء في القبر وأسلم الروح[4] . هذا إذا علمنا أن سفر أعمال يوحنا كان يُقرأ في الكنيسة في القرون الأولى في الدوائر القويمة وذلك بحسب رواية أكلمندس الإسكندري الذي يستشهد به حضرات القساوسة وقد استخدمها بروكورس ( القرن الخامس ) في تأليف رواية عن رحلات الرسول كما استخدمها أبيداس ( القرن السادس)[5] ، ولكن الصاعقة تأتي عندما نعلم أن كاتب الديداخي كان يقتبس من أسفار غير موجودة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا فيقول (( وبخصوص هذا فقد قيل : لتعرق صدقتك في يدك حتى تعرف لمن تعطيها )) [6].
وكل المحاولات للصق هذا النص بالكتاب المقدس الموجود بين أيدينا هي كلها محاولات لا تقنع عقلاً سليماً أو باحثاً منصفاً ، والأغرب من هذا أن كاتب الديداخي الذي لا نعرف له اسماً ولا موطناً ولا هويهً لم يذكر لنا ولو لمرة واحدة أنه يقتبس من إنجيل متى أو أنه يذكر متى نفسه لا من قريب ولا من بعيد وإنما كان كل كلامه عن إنجيل الرب انظر مثلاً قوله (( ولا تصلوا كالمرائين ، بل كما أمر الرب في أنجيله فصلوا هكذا))[7]
قاعدة هامة في موضوع الإقتباس
نحن كمسلمين لا ننكر أن يكون هناك إنجيلٌ تركه المسيح فيه أقواله وأمثاله ولكننا نعتقد بأن هذه المادة الإنجيلية قد أخذ منها كثيرون وأضافوا إليها معلومات وأخبار غير سليمة مثل موضوع صلب المسيح ، فالمتتبع لمنهجية التحريف في الكنيسة الأولى سواء ممن تطلق عليهم الكنيسة هراطقة أو ممن ينتسبون إلى الكنيسة يجد أنهم كانوا يستخدمون مجموعة من الأخبار الحقيقية ثم يصيغوا منها عملاً مزيفاً بإضافة معلومات غير حقيقية إليه فتضيع الحقائق التاريخية في أكوام من الأساطير .
ولنأخذ مثالاً على ذلك :ـ قصة تكلا في سفر أعمال بولس
فهناك حقائق تاريخية في هذا السفر يؤيدها وجود طائفة قوية باسمها في سلوقية . وتريفينا شخصية حقيقية تأكد وجودها من اكتشاف نقود بإسمها وكانت أم الملك بوليمون الثاني ملك بنطس وقريبة للإمبراطور كلوديوس ، ولا يوجد شك من وجودها في أنطاكيا وقت زيارة بولس الأولى لها وتشهد الإكتشافات الجغرافية عن دقة الرواية في هذا السفر من الناحية الجغرافية فهو يذكر الطريق الملكي الذي تقول إن بولس سار فيه من لسترة إلى أيقونية ، وهي حقيقة تستلفت النظر ، لأنه بينما كان الطريق مستخدماً في أيام بولس للأغراض العسكرية أهمل استخدامه كطريق منتظم في الربع الأخير من القرن الأول وقد راجت قصة تكلا وبولس بين المسيحيين في الشرق والغرب على حد سواء وهناك قصيدة شعرية عنوانها الوليمة كتبها كيبريان ، أحد شعراء جنوب غاليا ، في القرن الخامس ، وفي تلك القصيدة تبدو تكلا في مستوى الشخصيات الكتابية العظيمة ، وكتاب أعمال زاسيف وبولكسينا مأخوذ كله من أعمال بولس .
وقد اقتبس من هذه القصة اقتباسين قصيرين واقتبس منها أيضا أكلمندس الأسكندري ، ولكن تأتي الصاعقة أن هذا السفر قد ألفه وزوره قس من قساوسة أسيا ـ بالطبع لم يكن ممن تدعوهم الكنيسة بالهراطقة ـ زيّف هذا الكتاب بقصد تعظيم بولس وذلك بشهادة ترتليان وقد اعترف هذا القس بهذا التحريف والتزييف حباً في بولس[8]
الشاهد من هذا المثال :ـ أن الكتب المحرّفة سواءً إنجيل متى أو مرقس أو لوقا أو غيرهم لا شك قد يكون بها حقائق تاريخية وجغرافية وأمثال قالها المسيح فعلاً ولكن الإشكالية هي هل هذه الكتب كل ما فيها صحيح أم هى بعض من الحقائق التاريخية في أكوام من التحريف والتخريف، فلا يكاد يخلوا عمل مما رفضته الكنيسة من عبارات والفاظ موجودة في الأسفار التي قبلتها الكنيسة ولعل التعليل المناسب لهذا هو وجود أصل أخذ منه الجميع ثم أضاف كل واحد إلى ما وصل إليه من هذه المواد إضافات من عنده ، ـ أياً ما كانت تسمية هذا الأصل سواء وثيقة تعرف بـ " Q "[9] التي تكلم عنها العلماء أو نسميه إنجيل المسيح ـ
نعود لكتاب الديداخي ونسأل :- لماذا افترض القس أن هذه الإقتباسات هي من إنجيل متى الموجود بين أيدينا ؟ لماذا لا يكون إقتباساته هي من إنجيل متى الذي كان بين يدي العبرانيين الذي لم يكن يحتوي على أي عبارة تتكلم عن ألوهية المسيح[10] ؟
ولعل لهذا القول وجاهته لأن الديداخي لا يذكر أي عبارة يفهم منها لا من قريب ولا من بعيد أنه يؤله المسيح بل دائما ما يصفه بكلمة " فتاك " وهي نفس الكلمة التي يستخدمها في وصف داود النبي فيقول:
(( أولا بخصوص الكأس نشكرك يا أبانا لأجل كرمة داود فتاك المقدسة التي عرفتنا إياها بواسطة يسوع فتاك لك المجد إلى الأبد)) .[11]
وهنا يتضح جلياً أن الكاتب لا يؤله المسيح ويفصل تماما بينه وبين الله الإله المعبود .
والنقطه الثانية هي أن الكاتب استخدم كلمة إفخارستيا ولكن يتضح أنه يمارس طقساً مختلفاً تماماً عما تمارسه الكنيسة الآن ، فالأكل ليس كما هو الآن عبارة عن قطعة صغيرة جداً من القربان وإنما هي أكل حتى الإمتلاء فهو يقول: (( بعد أن تمتلئوا اشكروا هكذا نشكرك أيها الآب القدوس من أجل اسمك القدوس الذي أسكنته في قلوبنا ومن أجل المعرفة والإيمان والخلود التي عرفتنا بها بواسطة[12] يسوع فتاك . لك المجد إلى الآباد ))[13]
فأي إفخارستيا هذه التي يأكل منها المتناول حتى الإمتلاء ؟؟
ثم هناك تعاليم في الديداخي قد تتعارض مع الكتاب المقدس الذي بين أيدينا الآن فهو يقول (( لا تحنث ))[14] وهذا يعني جواز الحلف والقسم شريطة ألا تحنث فهل يتفق هذا مع قول إنجيل متى ((أيضا سمعتم انه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب اقسامك. واما انا فاقول لكم لا تحلفواالبتة.لا بالسماء لانها كرسي الله. ولا بالارض لانها موطئ قدميه.ولا باورشليم لانها مدينة الملك العظيم. ولا تحلف براسك لانك لا تقدر ان تجعل شعرة واحدة بيضاء او سوداء. بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا.وما زاد على ذلك فهو من الشرير ))[15] فهل بعد هذا يمكن أن نقول أنه يقتبس من إنجيل متى الذي بين أيدينا الآن ؟؟!!
وجاء أيضاً (( وكل نبي يتكلم بالروح لا تجربوه ولا تدينوه كل خطية تغفر أما هذه الخطية فلا تغفر))[16]
قارن هذا بما جاء في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا الآن (( ايها الاحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الارواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا الى العالم)) [17].
ثم إن كاتب الديداخي يُعلّم بتعاليم غريبة فهو يقول (( كل نبي حقيقي قد اختبر ويعمل سر الكنيسة في العالم ، ولا يٌعلّم بأن يعمل مثلما يعمل هو ، فلا تدينوه لأن دينونته عند الله هكذا عمل أيضاً الأنبياء القدام )) [18]
وأكبر دليل على أن كاتب الديداخي كان يتكلم عن إنجيل مختلف تماما عن الأناجيل الي بأيدي الكنيسة الآن هو قوله (( أما بخصوص الرسل والأنبياء فاعلموا أنه وفقاً لتعليم الإنجيل يكون الأمر هكذا : كل رسول يأتي إليكم اقبلوه كرب . لا يبقى عندكم سوى يوم واحد أو يوم آخر عند الضرورة فإن مكث ثلاثة أيام فهو نبي . عندما يمضي الرسول ، فلا يأخذ شيئاً سوى خبز إلى أن يدرك مبيتاً أما إذا طلب دراهم فهو نبي كاذب . وكل نبي يتكلم بالروح لا تجربوه ولا تدينوه كل خطيئة تغفر أما هذه الخطيئة فلا تغفر )) [19]
أخبرونا هداكم الله ، في أي إنجيل جاء هذا الكلام ؟
وعن أي إنجيل يتكلم كاتب الديداخي الذي لا نعرف له اسماً ولا موطناً ولا هويةً ؟؟؟
[2] تاريخ الكنيسة ـ يوسابيوس القيصري 25:3 صفحة 127
[3] دائرة المعارف الكتابية حرف أ ـ ابوكريفا ـ صفحة 43
[4] دائرة المعارف الكتابية حرف أ ـ أبوكريفا ـ أعمال يوحنا صفحة 49
[5] دائرة المعارف الكتابية حرف أ ـ أبوكريفا ـ أعمال يوحنا صفحة 49ـ50
52 نفس المرجع السابق
[6] الديداخي أي تعليم الرسل 1 : 6 صفحة 156
[7] الديداخي أي تعليم الرسل 8 : 2 صفحة 172
[8] نقلاً عن دائرة المعارف الكتابية بتصريف حرف أ ـ أبوكريفا ـ أعمال بولس صفحة 45 ـ 47
[9] يرى أغلب علماء الكتاب المقدس أنه كانت هناك وثيقة نقل عنها مرقس ومتى اسموها Q وهي ضائعة الآن انظر مثلاً الإنجيل بحسب القديس مرقس ـ الأب متى المسكين ص30
[10] الإنجيل بحسب القديس متى ـ الأب متى المسكين ـ صفحة 27
[11] الديداخي أي تعليم الرسل 9 : 2 صفحة 174
[12] لاحظ دائما الكاتب يذكر المسيح كوسيلة من عند الله لمعرفة الإيمان
[13] الديداخي أي تعليم الرسل 10 : 1 – 2 صفحة 175 و 176
[14] الديداخي أي تعليم الرسل 2 : 3 صفحة 159
[15] متى 5 : 33 – 37
[16] الديداخي أي تعليم الرسل 11 : 6 صفحة 182
[17] 1 يوحنا 4 : 1
[18] الديداخي أي تعليم الرسل 11 : 11 صفحة 185
[19] الديداخي أي تعليم الرسل 11 : 3 – 7 صفحة 181 – 182
تعليق