حكم شتم المسلم (يسوع) بحجة أنه ليس عيسى عليه السلام
أولا : المراد بـ "يسوع " في كتب النصارى هو : المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، وهم يسمونه بلسانهم : "يسوع" .
وأما كونهم يكذبون عليه ، ويدعون أنه ابن الله ، أو أنه قتل ، أو صلب ، أو نحو ذلك من كذبهم وتحريفهم ، لا يسوِّغ لنا أن نعتدي عليه ، ولا أن نقابل كذبهم بكذب مثله ، ولا ضلالهم بضلال مثله ، كما أنهم لو شتموا الله جل جلاله ، كان من أشنع الباطل والضلال ، أن نشتم الله الذي يشتمونه ، بحجة أن الله الذي نؤمن به منزه عن ذلك الشتم ؛ بل لا يقول لهذا إلا من سفه نفسه ، وضل عن مقاصد الشرع ضلالا مبينا .
بل لو ابتدؤوا هم وشتموا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ، لم يكن لنا أن نشتم نبيهم ؛ فإنهم يشتمون نبينا لأنهم كفار به ، وأما نحن فمؤمنون بنبي الله عيسى ابن مريم عليه السلام ، معظمون له ، محبون له .
ثانيا : إذا قدر أن النصارى أو غيرهم من ملل الكفر ، يعظمون شخصا عندهم ، نبيا أو غير نبي ، أو يعبدون أحدا من دون الله ، صنما أو غيره ، لم يجز لنا أن نسب ونشتم من يعظمه هؤلاء الكفار ، فإن ذلك يؤدى بهم أن يسبوا من نعظمه ، فإن شتمنا نبيهم شتموا نبينا ، وإن شتمنا إلههم شتموا إلهنا ؛ فكنا بذلك متسببين لشتم الله جل جلاله ، وشتم نبيه . قال الله تعالى : ( وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) الأنعام/ 108
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم .
"تفسير ابن كثير" (3 /314)
وقد روى البخاري (5973) ومسلم (90) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ) قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : ( يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ )
قال النووي رحمه الله : " فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ مَنْ تَسَبَّبَ فِي شَيْءٍ جَازَ أَنْ يُنْسَب إِلَيْهِ ذَلِكَ الشَّيْء " انتهى .
فعلم مما تقدم أن سب يسوع النصارى من أعظم السفه وأكبر الخطايا ؛ لأن السب يقع على نبي كريم من أولي العزم من الرسل صلى الله عليه وسلم ، ولو علم الساب أنه يسب بذلك نبيا من أنبياء الله ، وقصده : كفر ؛ لأن سب الأنبياء كفر باتفاق المسلمين .
والواجب نصح هؤلاء السفهاء وزجرهم ليكفوا عن هذا العمل ، ويتوبوا إلى الله منه ، ومن كان منهم مستطيعا للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فليتصدر لذلك موفقا مسددا ، وإلا فليتق الله وليكف عن هذا السفه وهذا الجهل .
وقد ورد نفس السؤال للشيخ سفر الحوالي، وننقل رده:
السؤال: بعض إخواننا في غرف البالتوك درجوا على شتم يسوع؛ بحجة أنه ليس عيسى عليه الصلاة السلام، فما هو رأيكم في هذه المسألة؟ هل يسوع هو عيسى؟ وهل يجوز شتمه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فأولاً: نشكركم على ما تبذلونه من جهود دعوية, وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقكم, كما نشكركم على محبتكم لنا في الله, ونسأل الله أن يجمعنا وإياكم بهذه المحبة بجنات النعيم إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة الكرام! تعلمون أن الله تبارك وتعالى قال: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ))[الأنعام:108], ويقول تبارك وتعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ))[العنكبوت:46].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الأعظم في التعامل مع أهل الكتاب بالحكمة والموعظة الحسنة, كما أمره ربه تبارك وتعالى, وكان كما جاء وصفه في كتبهم -وكما كانت حياته كلها صلى الله عليه وسلم- لا يجهل؛ ولكن يعفو ويصفح؛ فكل من آذاه صلى الله عليه وسلم أو شتمه فإنه لا يقابل الجهل بالجهل؛ ولكنه يعفو ويصفح.
ومن العجب -حقيقة- أن بعض الإخوة هداهم الله وأصلح بالهم! ينزل بهم سوء الفهم أو الحماس أحياناً أو الدفاع في غير موضعه الصحيح, وترك الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ينزل بهم ذلك إلى الوقوع في مثل هذا العمل، أي: أن يسبوا نبي الله عيسى عليه السلام، أياً كان الاسم الذي يسمى به عندهم أو عندنا؛ لأن المقصود عندنا وعندهم واحد -كما أن الله تبارك وتعالى واحد؛ فهو ربنا وربهم, وروح القدس هو جبريل عليه السلام عندنا وعندهم- فلا يجوز أن يُسبَّ نبي ولا ملك فضلاً عن سب الله تبارك وتعالى -كما قرأنا في الآية- على الإطلاق, وإن نَسب إليه المشركون ما نسبوا؛ لأن التوراة المحرفة التي يؤمن بها هؤلاء تنسب الأباطيل والقبائح والشنائع إلى الأنبياء؛ فمن ذلك: ما نسبوه إلى نوح عليه السلام بقولهم: إنه سكر وتعرى، ومثل ذلك: ما نسبوه إلى لوط عليه السلام حيث قالوا: إنه زنى بابنتيه, وكذلك نسبوا إلى داود وسليمان عليهما السلام من القبائح، بل وصل الحد بهم أنهم اتهموا سليمان عليه السلام بأنه يعبد الأصنام, وأن الأصنام المنحوتة كانت في بيته تعبدها نساؤه من دون الله تبارك وتعالى؛ وغير ذلك من الأباطيل.
وعلى كل حال فكل هذا لا يُجيز للمسلم أن يسب أحداً من الأنبياء؛ بل لا نقول: فقط الأنبياء الذين وردوا في القرآن أو في السنة؛ بل لو أن لديهم شخصاً يدعون أنه نبي -مع أنه يجوز أن يكون نبياً؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يقصص علينا كل الأنبياء, كما قال تعالى: ((وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ))[النساء:164]- فلا يجوز لنا أن نذمه أو نتعرض له إلا مقيداً بما يرد عندهم -لأنه قد يجوز أن يكون في الباطن نبياً أو عبداً صالحاً أو ولياً من أولياء الله تبارك وتعالى- فنقول: فلان كما يقولون أو كما يزعمون أو كما عندهم أو كما في كتبهم.
وعندما (جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسبونه حين إلقائهم السلام عليه؛ فيقولون: السام عليك. يورُّون بذلك؛ فعندما ردت عليهم عائشة رضي الله تعالى عنها؛ وقالت: عليكم السام واللعنة. أنكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا عائشة ! إن الله رفيق يحب الرفق).
فليس من دعوتنا على الإطلاق لا في الإنترنت ولا في التأليف ولا في غير ذلك: الشتم أو السب أو القذف، هذا هو ديننا.
وكذلك يا إخواني! من ناحية الذوق والمروءة والعقل لا ينبغي ذلك، وكما يعلم الجميع في كل أنحاء العالم أن العلماء يتناقشون ويتحاورن بأدب وبحسن خلق، أما القذف والشتم والذم فهذا يجيده الجهال أكثر من العلماء, ولا غرابة في ذلك؛ لأن المثل يقول: كل ينفق مما عنده.
فيجب على الإخوة أن يكونوا جميعاً -إن شاء الله- قدوة في التعامل الحسن, وهذا مما يحبب الإيمان إلى أهل الكتاب, ويجعلهم يتقبلون الدعوة, ويجعلهم يستمعون إلى ما يرد في وسائلها من هذه الغرف في الإنترنت أو في غيرها.
أما الدعوة بالسب والشتم وما أشبه ذلك فلا حاجة لنا أبداً بهذه الدعوة، فلا حاجة للإسلام ولا للدعوة إلى داعية يسب نبياً من أنبياء الله تبارك وتعالى، حتى وإن تأول في ذلك ما تأول؛ فإنه لا يجوز أبداً، وقد يؤدي به -والعياذ بالله- إلى الخروج من الدين وهو لا يشعر؛ ولا سيما -كما تعلمون- أن عيسى عليه السلام من أولي العزم, وهو الذي أثنى الله تبارك وتعالى عليه في كتابه, وهو أقرب وأولى الأنبياء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث؛ لأنه ليس بينه وبين نبينا نبي، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فأنصح الإخوة الكرام أن يعفوا ألسنتهم وأقلامهم, وأن يجتنبوا هذه الموضوعات التي لا بد وأن تكون نتائجها غير حسنة في الدعوة إلى الله عز وجل.
وليعلموا أنه لا أحد يهتدي إلى الإسلام عن طريق الشتم والسب، والطعن والذم؛ بل إن المؤمن ليس بشتام ولا لعان أبداً حتى لدابته, فضلاً عن شتم ولعن الناس في أي أمر من الأمور, وإنما هو دائماً حسن الخلق، وحسن التعامل, ويدعو إلى الله كما أمر الله، فمن استجاب فالله تعالى هو الذي هداه, ومن لم يستجب فقد قامت عليه الحجة.
تعليق