الفرع الثالث
مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)
مبدأ شخصية العقوبة
القاعدة في القانون الجزائي هي أن العقوبة لا تطال إلا مرتكب الجريمة أو من ساهم في ارتكابها مساهمة يجرمها القانون كمساهمة الشريك في الجريمة أو المتدخل فيها أو المحرض عليها.
ويعني مبدأ شخصية العقوبة أن العقوبة لا توقع إلا على من ارتكب الجريمة أو ساهم في ارتكابها سواء بصفة أصلية أو تبعية، وكان أهلا للمسئولية الجنائية. (المجالي نظام شرح قانون العقوبات: القسم العام _دراسة تحليلية في النظرية العامة للجريمة والمسؤولية الجزائية، دار الثقافة-عمان، 2005.).
ولقد تأكد هذا المبدأ بصورة جلية في مواضع كثيرة في القرآن الكريم فقال تعالي ﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ (الإسراء:15).
ورغم عدم ورود نص صريح ينطق بمبدأ شخصية العقوبة الجزائية إلا أن المبدأ مستقر عليه حتي أصبح من المبادئ العامة للقانون والتي يجري العمل بها ولو بغير نص، ومع ذلك يمكن إيراد بعض القواعد التي تنطوي في ثناياها على مبدأ شخصية العقوبة في إطار قانون العقوبات الأردني ومنها نص المادة 74-1 منه والذي نصه: " لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة"، وكذلك ما أصطلح على تسميته بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الوارد عليه النص في المادة الثالثة من ذات القانون بأنه " لا يقضي بأية عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتراف الجريمة ..، كما يستشف هذا المبدأ الراسخ من الأحكام الخاصة بنظرية الاشتراك الجرمي التي حددت لكل من ساهم في ارتكاب جريمة أحكاما معينة للمساءلة الجزائية (يراجع المطلب العاشر عدم جواز اصطناع الدليل من هذه الدراسة).
ويعد مبدأ شخصية العقوبة ركيزة أساسية من ركائز العدالة فبدونه تنهار العدالة ويتحقق الظلم وهو ما جاءت على ذكره الآية على لسان العزيز ﴿ قال معاذ الله أن نأخذ.. ﴾ - ويلاحظ أن مبدأ شخصية العقوبة في إطار القانون الجنائي مطلق لم يتم الخروج عليه- لكن الأمر مختلف في نطاق المسؤولية المدنية، إذ أجازت القوانين مساءلة شخص عن أعمال أتاها آخر.
المحكمة الدستورية العليا المصرية
الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
تحت عنوان: أصل البراءة
إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه، أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها - لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين - وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي - ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعي به - إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولي بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها
innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption. It does not rest on any other proved facts, it is assumed
وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، فقد ولد حراً مبرئا من الخطيئة أو المعصية.
ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه - يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية وثيقة الصلة بحق الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التي طرحتها بأدلة النفي التي يعرضها.
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Egyp...CC-15-Y16.html
وتأسيا على مبدأ شخصية العقوبة فقد حارب القانون عادة الأخذ بالثأر أو الانتقام دافعا من شأنه التأثير على جرمية الفعل المرتكب بدافع الثأر كما جرم استيفاء الحق بالذات ودون الرجوع إلى السلطات المختصة في الدولة، لأنها تخالف مبدأ شخصية العقوبة خاصة إذا تم الثأر من شخص آخر غير الجاني، وتضعف من سلطة الدولة وسيادة القانون.
هناك مبدأ قانوني في شرائع من قبلنا، ومُقرٌّ في شريعتنا، ومازال معمولاً به في الأنظمة العقابية.. وهو:
(شخصية العقوبة).. أي: لا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ (يوسف / 79..
وهذا أصل من أصول الشريعة الغرَّاء، ورد في شريعتنا متفِقاً مع ما ورد على لسان سيدنا [يوسف]..
يقول تعالى:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ المائدة / 164 .
ويقول تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴾الإسراء 13..
فهذا أحسن تعبير عن [شخصيَّة العقوبة]!!.
ويتجلى هذا الأمر بوضوح في (شخصيَّة العقـــــوبة) والتي تتجلى في قول الملك اثناء التحقيق:
﴿ وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه
﴿ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ﴾ وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
﴿ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾.
البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
لا تنس أن يوسف عليه السلام كان رهن الاعتقال ولم توجه له تهمة..
﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
(1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر.
وقد ورد في الصحيحين مرفوعا «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي»، وفي رواية أحمد «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر».
(2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
(3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
(4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
﴿ قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى: « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
﴿ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾ أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوئه لا قليلا ولا كثيرا.
انتبه للإجابة الدبلوماسية منهن.. إن الملك لم يسألهن عن اخلاق يوسف عليه السلام حتى تكون تلك الإجابة ولكنه سألهن عن تصرف بدر منهن تجاه يوسف وهو اتهام مباشر لهن..
هنا قامت امرأة العزيز وبكل شجاعة قالت:
﴿ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
﴿ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ لا أنه راودني، بل استعصم وأعرض عني.
﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ في قوله حين افتريت عليه: هي راودتني عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: ﴿ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ ولم يعرض لشأنها.
وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
﴿ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم إني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ﴾ أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكرنا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)
مبدأ شخصية العقوبة
القاعدة في القانون الجزائي هي أن العقوبة لا تطال إلا مرتكب الجريمة أو من ساهم في ارتكابها مساهمة يجرمها القانون كمساهمة الشريك في الجريمة أو المتدخل فيها أو المحرض عليها.
ويعني مبدأ شخصية العقوبة أن العقوبة لا توقع إلا على من ارتكب الجريمة أو ساهم في ارتكابها سواء بصفة أصلية أو تبعية، وكان أهلا للمسئولية الجنائية. (المجالي نظام شرح قانون العقوبات: القسم العام _دراسة تحليلية في النظرية العامة للجريمة والمسؤولية الجزائية، دار الثقافة-عمان، 2005.).
ولقد تأكد هذا المبدأ بصورة جلية في مواضع كثيرة في القرآن الكريم فقال تعالي ﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ (الإسراء:15).
ورغم عدم ورود نص صريح ينطق بمبدأ شخصية العقوبة الجزائية إلا أن المبدأ مستقر عليه حتي أصبح من المبادئ العامة للقانون والتي يجري العمل بها ولو بغير نص، ومع ذلك يمكن إيراد بعض القواعد التي تنطوي في ثناياها على مبدأ شخصية العقوبة في إطار قانون العقوبات الأردني ومنها نص المادة 74-1 منه والذي نصه: " لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة"، وكذلك ما أصطلح على تسميته بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الوارد عليه النص في المادة الثالثة من ذات القانون بأنه " لا يقضي بأية عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتراف الجريمة ..، كما يستشف هذا المبدأ الراسخ من الأحكام الخاصة بنظرية الاشتراك الجرمي التي حددت لكل من ساهم في ارتكاب جريمة أحكاما معينة للمساءلة الجزائية (يراجع المطلب العاشر عدم جواز اصطناع الدليل من هذه الدراسة).
ويعد مبدأ شخصية العقوبة ركيزة أساسية من ركائز العدالة فبدونه تنهار العدالة ويتحقق الظلم وهو ما جاءت على ذكره الآية على لسان العزيز ﴿ قال معاذ الله أن نأخذ.. ﴾ - ويلاحظ أن مبدأ شخصية العقوبة في إطار القانون الجنائي مطلق لم يتم الخروج عليه- لكن الأمر مختلف في نطاق المسؤولية المدنية، إذ أجازت القوانين مساءلة شخص عن أعمال أتاها آخر.
المحكمة الدستورية العليا المصرية
الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
تحت عنوان: أصل البراءة
إن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه، أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها - لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين - وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي - ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعي به - إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولي بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها
innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption. It does not rest on any other proved facts, it is assumed
وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، فقد ولد حراً مبرئا من الخطيئة أو المعصية.
ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه - يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية وثيقة الصلة بحق الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التي طرحتها بأدلة النفي التي يعرضها.
http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Egyp...CC-15-Y16.html
وتأسيا على مبدأ شخصية العقوبة فقد حارب القانون عادة الأخذ بالثأر أو الانتقام دافعا من شأنه التأثير على جرمية الفعل المرتكب بدافع الثأر كما جرم استيفاء الحق بالذات ودون الرجوع إلى السلطات المختصة في الدولة، لأنها تخالف مبدأ شخصية العقوبة خاصة إذا تم الثأر من شخص آخر غير الجاني، وتضعف من سلطة الدولة وسيادة القانون.
هناك مبدأ قانوني في شرائع من قبلنا، ومُقرٌّ في شريعتنا، ومازال معمولاً به في الأنظمة العقابية.. وهو:
(شخصية العقوبة).. أي: لا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ (يوسف / 79..
وهذا أصل من أصول الشريعة الغرَّاء، ورد في شريعتنا متفِقاً مع ما ورد على لسان سيدنا [يوسف]..
يقول تعالى:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ المائدة / 164 .
ويقول تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ﴾الإسراء 13..
فهذا أحسن تعبير عن [شخصيَّة العقوبة]!!.
ويتجلى هذا الأمر بوضوح في (شخصيَّة العقـــــوبة) والتي تتجلى في قول الملك اثناء التحقيق:
﴿ وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ﴾ كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه
﴿ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ﴾ وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
﴿ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾.
البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
لا تنس أن يوسف عليه السلام كان رهن الاعتقال ولم توجه له تهمة..
﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ﴾ أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
(1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر.
وقد ورد في الصحيحين مرفوعا «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي»، وفي رواية أحمد «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر».
(2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
(3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
(4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
﴿ قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى: « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
﴿ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ ﴾ أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوئه لا قليلا ولا كثيرا.
انتبه للإجابة الدبلوماسية منهن.. إن الملك لم يسألهن عن اخلاق يوسف عليه السلام حتى تكون تلك الإجابة ولكنه سألهن عن تصرف بدر منهن تجاه يوسف وهو اتهام مباشر لهن..
هنا قامت امرأة العزيز وبكل شجاعة قالت:
﴿ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ﴾ حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
﴿ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ﴾ لا أنه راودني، بل استعصم وأعرض عني.
﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ في قوله حين افتريت عليه: هي راودتني عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: ﴿ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ﴾ ولم يعرض لشأنها.
وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
﴿ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ﴾ أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم إني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ ﴾ أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكرنا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.
تعليق