الجوانب القانونية في سورة يوسف ..الإصدار قبل الأخير

تقليص

عن الكاتب

تقليص

المهندس زهدي جمال الدين مسلم اكتشف المزيد حول المهندس زهدي جمال الدين
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • المهندس زهدي جمال الدين
    12- عضو معطاء

    حارس من حراس العقيدة
    عضو شرف المنتدى
    • 3 ديس, 2006
    • 2169
    • مسلم

    #31
    الفرع الثالث

    مبــدأ قانــونيٌّ (شخصيَّة العقـــــوبة)

    مبدأ شخصية العقوبة
    القاعدة في القانون الجزائي هي أن العقوبة لا تطال إلا مرتكب الجريمة أو من ساهم في ارتكابها مساهمة يجرمها القانون كمساهمة الشريك في الجريمة أو المتدخل فيها أو المحرض عليها.
    ويعني مبدأ شخصية العقوبة أن العقوبة لا توقع إلا على من ارتكب الجريمة أو ساهم في ارتكابها سواء بصفة أصلية أو تبعية، وكان أهلا للمسئولية الجنائية. (المجالي نظام شرح قانون العقوبات: القسم العام _دراسة تحليلية في النظرية العامة للجريمة والمسؤولية الجزائية، دار الثقافة-عمان، 2005.).
    ولقد تأكد هذا المبدأ بصورة جلية في مواضع كثيرة في القرآن الكريم فقال تعالي ﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء:15).
    ورغم عدم ورود نص صريح ينطق بمبدأ شخصية العقوبة الجزائية إلا أن المبدأ مستقر عليه حتي أصبح من المبادئ العامة للقانون والتي يجري العمل بها ولو بغير نص، ومع ذلك يمكن إيراد بعض القواعد التي تنطوي في ثناياها على مبدأ شخصية العقوبة في إطار قانون العقوبات الأردني ومنها نص المادة 74-1 منه والذي نصه: " لا يحكم على أحد بعقوبة ما لم يكن قد أقدم على الفعل عن وعي وإرادة"، وكذلك ما أصطلح على تسميته بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات الوارد عليه النص في المادة الثالثة من ذات القانون بأنه " لا يقضي بأية عقوبة لم ينص القانون عليها حين اقتراف الجريمة ..، كما يستشف هذا المبدأ الراسخ من الأحكام الخاصة بنظرية الاشتراك الجرمي التي حددت لكل من ساهم في ارتكاب جريمة أحكاما معينة للمساءلة الجزائية (يراجع المطلب العاشر عدم جواز اصطناع الدليل من هذه الدراسة).
    ويعد مبدأ شخصية العقوبة ركيزة أساسية من ركائز العدالة فبدونه تنهار العدالة ويتحقق الظلم وهو ما جاءت على ذكره الآية على لسان العزيز ﴿ قال معاذ الله أن نأخذ.. - ويلاحظ أن مبدأ شخصية العقوبة في إطار القانون الجنائي مطلق لم يتم الخروج عليه- لكن الأمر مختلف في نطاق المسؤولية المدنية، إذ أجازت القوانين مساءلة شخص عن أعمال أتاها آخر.
    المحكمة الدستورية العليا المصرية
    الدعوى رقم 25 لسنة 16 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
    تحت عنوان: أصل البراءة
    إ
    ن أصل البراءة يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه، أو متهما، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها - لا لتكفل بموجبها حماية المذنبين - وإنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه قد أحاطتها الشبهات بما يحول دون التيقن من مقارفة المتهم للواقعة محل الاتهام، ذلك أن الاتهام الجنائي في ذاته لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دوما ولا يزايله، سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة، أو أثنائها وعلى امتداد حلقاتها، وأيا كان الزمن الذي تستغرقه إجراءاتها. ولا سبيل بالتالي لدحض أصل البراءة بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، بما لا يدع مجالا معقولا لشبهة انتفاء التهمة، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن فيه، وصار باتا. وحيث إن افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية، ولا هو من صورها، ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي - ممثلا في الواقعة مصدر الحق المدعي به - إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها. وهذه الواقعة البديلة هي التي يعتبر إثباتها إثباتا للواقعة الأولي بحكم القانون. وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور. فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل واقعة أخرى، وأقامها بديلا عنها
    innocence is more properly called an assumption as opposed to a presumption. It does not rest on any other proved facts, it is assumed
    وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، فقد ولد حراً مبرئا من الخطيئة أو المعصية.
    ويفترض على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لازال كامناً فيه، مصاحباً له فيما يأتيه من أفعال، إلى أن تنقض محكمة الموضوع بقضاء جازم لا رجعة فيه هذا الافتراض، على ضوء الأدلة التي تقدمها النيابة العامة مثبتة بها الجريمة التي نسبتها إليه في كل ركن من أركانها، وبالنسبة إلى كل واقعة ضرورية لقيامها، بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها. وبغير ذلك لا ينهدم أصل البراءة، إذ هو من الركائز التي يستند إليها مفهوم المحاكمة المنصفة التي كفلها الدستور، ويعكس قاعدة مبدئية تعتبر في ذاتها مستعصية على الجدل، واضحة وضوح الحقيقة ذاتها، تقتضيها الشرعية الإجرائية، ويعتبر إنفاذها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية، وليوفر من خلالها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل، بما يحول دون اعتبار واقعة تقوم بها الجريمة ثابتة بغير دليل، وبما يرد المشرع عن افتراض ثبوتها بقرينة قانونية ينشئها.
    وحيث إن افتراض براءة المتهم من التهمة الموجهة إليه - يقترن دائما من الناحية الدستورية - ولضمان فعاليته - بوسائل إجرائية وثيقة الصلة بحق الدفاع، من بينها حق المتهم في مواجهة الشهود الذين قدمتهم النيابة العامة إثباتا للجريمة، والحق في دحض أقوالهم وإجهاض الأدلة التي طرحتها بأدلة النفي التي يعرضها.
    http://hrlibrary.umn.edu/arabic/Egyp...CC-15-Y16.html
    وتأسيا على مبدأ شخصية العقوبة فقد حارب القانون عادة الأخذ بالثأر أو الانتقام دافعا من شأنه التأثير على جرمية الفعل المرتكب بدافع الثأر كما جرم استيفاء الحق بالذات ودون الرجوع إلى السلطات المختصة في الدولة، لأنها تخالف مبدأ شخصية العقوبة خاصة إذا تم الثأر من شخص آخر غير الجاني، وتضعف من سلطة الدولة وسيادة القانون.
    هناك مبدأ قانوني في شرائع من قبلنا، ومُقرٌّ في شريعتنا، ومازال معمولاً به في الأنظمة العقابية.. وهو:
    (شخصية العقوبة).. أي: لا يتعدى أثر العقوبة إلى غير الجاني ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ (يوسف / 79..
    وهذا أصل من أصول الشريعة الغرَّاء، ورد في شريعتنا متفِقاً مع ما ورد على لسان سيدنا [يوسف]..
    يقول تعالى:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ المائدة / 164 .
    ويقول تعالى :﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا الإسراء 13..
    فهذا أحسن تعبير عن [شخصيَّة العقوبة]!!.
    ويتجلى هذا الأمر بوضوح في (شخصيَّة العقـــــوبة) والتي تتجلى في قول الملك اثناء التحقيق:
    ﴿ وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ كي أستمع كلامه وأعرف درجة عقله وأعلم تفضيل رأيه
    ﴿ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ وبلّغه أمر الملك وطلب إليه إنفاذه.
    ﴿ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.
    البال: هو الأمر الذي يبحث عنه ويهتم به: أي ارجع إلى سيدك قبل شخوصي إليه ومثولي بين يديه، وسله عن حال النسوة اللاتي قطّعن أيديهن ليعرف حقيقة أمره، إذ لا أود أن آتيه وأنا متهم بقضية عوقبت من أجلها بالسجن وقد طال مكثي فيه دون تعرف الحقيقة ولا البحث في صميم التهمة.
    لا تنس أن يوسف عليه السلام كان رهن الاعتقال ولم توجه له تهمة..
    ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ أي إنه تعالى هو العالم بخفيّات الأمور، وهو الذي صرف عنى كيدهن فلم يمسسني منه سوء.
    وقد دل هذا التريث والتمهل من يوسف عليه السلام عن إجابة طلب الملك له حتى تحقق براءته على جملة أمور:
    (1) جميل صبره وحسن أناته، ولا عجب فمثله ممن لقى الشدائد جدير به أن يكون صبورا حليما، ولا سيما ممن ورث النبوة كابرا عن كابر.
    وقد ورد في الصحيحين مرفوعا «ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي»، وفي رواية أحمد «لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر».
    (2) عزة نفسه وصون كرامته، إذ لم يرض أن تكون التهمة بالباطل عالقة به، فطلب إظهار براءته وعفته عن أن يزنّ بريبة أو تحوم حول اسمه شائبة السوء.
    (3) إنه عفّ عن اتهام النسوة بالسوء والتصريح بالطعن عليهن حتى يتحقق الملك بنفسه حين ما يسألهن عن السبب في تقطيع الأيدي ويعلم ذلك منهن حين الإجابة.
    (4) إنه لم يذكر سيدته معهن وهي السبب في تلك الفتنة الشعواء وفاء لزوجها ورحمة بها، وإنما اتهمها أولا دفاعا عن نفسه حين وقف موقف التهمة لدى سيدها وبعد أن طعنت فيه.
    ﴿ قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ الخطب الشأن العظيم الذي يقع فيه التخاطب إما لغرابته وإما لإنكاره، ومنه قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: « قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ » وقوم موسى: « فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ » أي إن الرسول بعد أن أبلغ الملك قول يوسف: إنه لا يخرج من السجن استجابة لدعوته حتى يحقق قصة النسوة - جمعهن وسألهن: ما خطبكن الذي حملكن على مراودته عن نفسه: هل كان عن ميل منه إليكن، وهل رأيتن منه مواتاة واستجابة بعدها، وماذا كان السبب في إلقائه في السجن مع المجرمين.
    ﴿ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ أي معاذ الله. ما علمنا عليه سوءا يشينه ويسوئه لا قليلا ولا كثيرا.
    انتبه للإجابة الدبلوماسية منهن.. إن الملك لم يسألهن عن اخلاق يوسف عليه السلام حتى تكون تلك الإجابة ولكنه سألهن عن تصرف بدر منهن تجاه يوسف وهو اتهام مباشر لهن..
    هنا قامت امرأة العزيز وبكل شجاعة قالت:
    ﴿ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ حصحص: ظهر بعد أن كان خفيا أي إن الحق في هذه القضية كان في رأى من بلغهم - موزّع التبعة بيننا معشر النسوة وبين يوسف، لكل منا حصة بقدر ما عرض فيها من شبهة، والآن قد ظهر الحق في جانب واحد لا خفاء فيه، وهن قد شهدن بما علمن شهادة نفى، وهأنذا أشهد على نفسي شهادة إيجاب.
    ﴿ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لا أنه راودني، بل استعصم وأعرض عني.
    ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله حين افتريت عليه: هي راودتني عن نفسي، والذي دعاها إلى هذا الاعتراف مكافأة يوسف على ما فعله من رعاية حقها وتعظيم جانبها وإخفاء أمرها حيث قال: ﴿ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ولم يعرض لشأنها.
    وفي هذا الاعتراف شهادة مريحة من امرأة العزيز ببراءة يوسف من كل الذنوب، وطهارته من كل العيوب.
    ﴿ ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي ذلك الاعتراف مني بالحق له، والشهادة بالصدق الذي علمته منه، ليعلم إني لم أخنه بالغيب عنه منذ سجن إلى الآن، فلم أنل من أمانته، أو أطعن في شرفه وعفته، بل صرحت لأولئك النسوة بأني راودته عن نفسه فاستعصم، وهأنذا أقر بهذا أمام الملك ورجال دولته وهو غائب عنا.
    ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينفذه بل يبطله وتكون عاقبته الفضيحة والنكال، ولقد كدنا له فصرف ربه عنه كيدنا، وسجنّاه فبرأه الله وفضح مكرنا، حتى شهدنا على أنفسنا في مثل هذا الحفل الرهيب والمقام المنيف ببراءته من كل العيوب، وسلامته من كل سوء.
    وعلى الجملة فالتحقيق أسفر عن أن يوسف كان مثل الكمال الإنساني في عفته ونزاهته لم يمسسه سوء من فتنة أولئك النسوة، وأن امرأة العزيز أقرّت في خاتمة المطاف بذنبها في مجلس الملك إيثارا للحق وإثباتا لبراءة يوسف عليه السلام.


    تعليق

    • المهندس زهدي جمال الدين
      12- عضو معطاء

      حارس من حراس العقيدة
      عضو شرف المنتدى
      • 3 ديس, 2006
      • 2169
      • مسلم

      #32
      الفرع الرابع

      حق المتهم في الدفاع عن نفسه

      إن قاعدة افتراض براءة المتهم حتى تثبت إدانته، قد وُجدت في الشريعة الإسلامية منذ مدة تزيد على خمسة عشر قرناً، حيث جاءت بها نصوص القرآن والسنة، وبهذا فقد امتازت هذه الشريعة على القوانين الوضعية التي لم تعرف هذه القاعدة إلا في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أدخلت في القانون الوضعي الفرنسي كنتيجة من نتائج الثورة الفرنسية، وقُررت لأول مرة في المادة 9 من إعلان حقوق الإنسان الصادر عام1789م، ثم انتقلت القاعدة من التشريع الفرنسي إلى التشريعات الوضعية الأخرى، حتى أصبحت قاعدة عالمية في القوانين الوضعية كلها.
      وتطبيقاً لهذه القاعدة في الشريعة الإسلامية فإن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعى، فعليه أن يثبت وقوع الجريمة من المدعى عليه (المتهم) ومسؤوليته عنها، عملاً بقوله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ”البينة على من ادعى”، ولا يوجد أي التزام على المتهم من حيث المبدأ لإثبات براءته، فهو في نظر الجميع يعتبر بريئاً حتى يُدان، غير أنه ليس هناك ما يمنع المتهم من المساهمة في إثبات براءته بتقديم الأدلة والبيانات للقضاء التي من شأنها نفي التهمة ودرء المسؤولية الجنائية عنه، أو التعبير عن قيام سبب من أسباب الإباحة، أو انعدام المسؤولية أو أي عذر من الأعذار الشرعية.
      وبناء عليه فإن حق الفرد الذي اتهم في دينه وعرضه وسلوكا ظلما كيوسف عليه السلام أن يدافع عن نفسه تجاه من ظلمه، ويرفع صوته جاهرا بالحق مثل قول يوسف عليه السلام في مواجهة الحاكم، ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي يوسف:26.
      بل أباح الله تعالى له ما لم يبح لغيره، رعاية لظرفه، وذودا عن حرمته، حين قال الله تعالى: ﴿ لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (النساء:148)، ولا يجوز لأحد منع المتهم من الدفاع عن نفسه، فهذا حق طبيعي وشرعي، وقد أعطى الله الحرية لإبليس اللعين ليجادل عن نفسه أمام رب العالمين، ويقول عن آدم: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ الأعراف:12.
      كما جعل من حق كل نفس يوم القيامة أن تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ﴿ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ النحل:111.
      فحق المتهم في الدفاع عن نفسه من أهم المبادئ المقررة في الشريعة الإسلامية لتحقيق العدالة بين الخصوم، كما ان مبدأ حق المتهم في سماع مقاله أمام القضاء، وهو حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، حديث رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ لعلي بن أبي طالب عندما بعثه إلى اليمن قاضياً، فعن علي -كرم الله وجهه- قال بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ إلى اليمنِ قَاضِيًا فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُرْسِلُنِي وَأَنَا حَدِيثُ السِّنِّ وَلاَ عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ فَقَالَ ‏ "‏ إِنَّ اللَّهَ سَيَهْدِي قَلْبَكَ وَيُثَبِّتُ لِسَانَكَ فَإِذَا جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْكَ الْخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِيَنَّ حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَكَ الْقَضَاءُ ‏‏.‏ قَالَ فَمَا زِلْتُ قَاضِيًا أَوْ مَا شَكَكْتُ فِي قَضَاءٍ بَعْدُ ) أخرجه أبو داود (3582) واللفظ له، وابن ماجه (2310)، وأحمد (636)، والنسائي في (السنن الكبري) (8421) باختلاف يسير.
      من هذا الحديث يتضح لنا أنه يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، لأن رسول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ قد نهى عن الحكم قبل سماع حجة المتهم، والنهي يُفيد فساد المنهي عنه، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء،
      فإنني أقول لسيادتكم أنكم لا تسمحون لنا بالدفاع عن أنفسنا وتكتفون فقط بما جاء على ألسنتنا أمام النيابة والله وحده يعلم أننا برئاء مما هو منسوب لنا وبه نحاكم..
      تحرموننا من ابسط حقوقنا وهي الدفاع عن أنفسنا مع أن حق الدفاع عن النفس هو مبدأ حق أصيل يجب ألا يصادر تحت أي مصوغ، لأن لكل صاحب حق مقالاً، والأصل في ضرورة تمكين المتهم من سماع مقاله قبل الحكم عليه، وإذا ما حكم القاضي دون سماع أقوال المتهم كان حكمه باطلاً، فحضور المتهم لإبداء دفاعه شرط لصحة القضاء، ففي القضية التي تسور فيها الخصمان المحراب على نبي الله داود عليه السلام ليحكم بينهما بالعدل، وكان المدعي قوي الحجة، إذ قال فيما نص عليه القرآن على لسانه:﴿ إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ص:23.
      وأمام هذه الحجة الظاهرة حكم له النبي داوود عليه السلام دون سماعه لحجة المدعى عليه(المتهم)، كما جاء في قوله تعالى:﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ ص:24.
      ولما كان هذا الحكم قد صدر بدون سماع حجة طرفي الخصومة، فإن داود عليه السلام قد شعر بخلل حكمه فسارع إلى الاستغفار والتوبة، كما قال تعالى:﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ وكان هذا من الله توجيهاً لنبيه داود عليه السلام، وإنذاراً لمن يتولى القضاء بين الناس في الأمة الإسلامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بأن الحكم بظاهر حجة خصم دون سماع حجة الخصم الآخر، هو ميل عن الحق وإتباع للهوى يترتب عليه العذاب الشديد يوم القيامة، كما قال تعالى في كتابه الكريم:﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ص:26.
      ومن ثم يجب على القاضي ألا يصدر حكماً على المتهم حتى يسمع مقاله. ويطمئن لصدق قوله.
      ومن المناسب هنا أن أذكر مرافعة تخيلية لأحد المتهمين لنرى كيف تكون.
      ----------------
      طبقاً لأمر الإحالة في القضبة رقم 4459 لسنة 2015 جنايات حلون المقيدة برقم 321 لسنة 2015 كلي جنوب القاهرة والمقيدة برقم 451 لسنة 2014 حصر أمن الدولة العليا المقيدة برقم 29 لسنة 2015 جنايات أمن الدولة العليا..
      وبعد قرار الاتهام وأقوال النيابة طلب المتهم (....) الكلمة بعد مرافعة الأستاذ الفاضل محاميه الاعتباري فقال:
      بداية كل الاحترام والتقدير للسيد المحامي الفاضل والذي جاهد إلى استمالة القاضي تمهيدا لإقناعه بحق موكله ،ذلك المحامي الذي يقف في مكان منخفض مرتديا السواد حزنا ليكون قريبا مع من قهرتهم شهوة الانسان ليسمع أناتهم فيرسل الى قلب القاضي صرخات المظلومين.
      ومع احترامي للكل فأنا أرى أنه من المناسب في هذا الموقف أن أدافع عن نفسي بلساني أنا..
      وهأنذا أقف أمامكم في مشهد من مشاهد المحن، وموقف من مواقف الابتلاء والتمحيص سقت إليه سوقا وأرغمت عليه إرغاما، في زمن انقلبت فيه الموازين وتبدلت فيه القيم.
      يجمعني موقف من مواقف الابتلاء، في زمن أصبح فيه الضحية مجرما، والجلاد بطلا، فاتحا يتوج ويوشح.!.
      إني لأقف أمامكم في حيرة من أمري، حيرة مستحكمة تدفعني إلى الاستغراب والدهشة، ثم تقودني إلى الاضطراب والقلق.
      أقلب طرفي حول رحلي.. ثم أرجع البصر كرتين في سنوات عمري الماضيات، فأستدعي أيامها، وأستحضر مواقفها، وأستنطق أحداثها، بكل أمانة وتجرد، فإذا بي أعرف وأنكر لكني لا أرى فيها لحظة واحدة في مخفر من مخافر الشرطة، ولا أرى فيها وجه قاض في زيه الرسمي، ولا باب محكمة ولا وجه نائب ولا وكيل ...
      حتى إذا كنت في بداية العقد الرابع من عمري قالوا مجرم يجب سجنه مدى الحياة:
      عجبت حتى غمني السكوت *** صرت كأني حائر مبهوت
      أنا أحفظ جيدا قول الإمام علي كرم الله وجهه: " إذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ"..
      اللهم إن لم يكن بك علينا غضب فلا نبالي ولكن عافيتك هي أوسع لنا.
      ومن ثم فأجدني ساخط كل السخط، وغاضب كل الغضب على كل ألوان الظلم وعلى جميع الظالمين وأتباعهم وأشياعهم ﴿ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا.الأعراف:146.
      رغم استفزاز المواقف، وقسوة الظروف، فإني أريد أن أضبط أعصابي، وأسيطر على عواطفي وأتحدث بالتي هي أحسن ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
      وإذا كان هناك من استفزازات وتحديات متتالية، قد لا يكون آخرها هذا الشهر الفضيل شهر رمضان الذي يمر سريعاً كسيف البال متعثر الخطو شاحب الوجه واليد واللسان، فهذا الشهر هو الشهر السابع الذي يأتي وأنا في محبسي هذا..سبع سنوات ميلادية من الاعتقال منذ عام 2014 وحتى عام 2020م وثماني رمضانات بالأشهر الهجرية، وإن في النفس لشلالا من الألم المتدفق في حديثي وأثر من ندوب أو أثر من جراح القلب أو بقايا من دموع أو صدى ألم وحزن.
      لقد خرجت من مقر عملي كما يخرج الموتى من قبورهم لا أدري إلى أين؟ ولا من أين؟ إلى مقبرة جماعية أم إلى جحيم جديد؟.
      وفي محبسي تقابلت مع رفقائي الذين هم في القضية التي نحاكم بسببها كمثلي لا يعلمون شيئا عنها..
      والأهم من ذلك أنهم كلهم علماء وأطباء ومهندسون ومدرسون وطلبة جامعيون..
      كيف يستقيم في ضميركم أن أمثال هؤلاء أصبحوا بين ليلة أو ضحاها مجرمين..
      إن المأساة المكتوبة على شفاهنا ألما للَّا إنسانية المحطمة وحزنا على الكرامة البشرية الممزقة، لقد كنا نحمل في محابسنا خلال الأعوام الستة الماضية من دروب الألم والأسى ما كان يكفي ويغني ويرضي كل من لديه روح للتشفي والانتقام، كل من في قلبه حقد أو ضغينة.
      لكن ما توقعنا أن ينابيع الرحمة قد جفت إلى هذا الحد.
      ولا أن القلوب والأكباد قد تبلدت إلى هذا الحد.
      ولا أن الأحاسيس والمشاعر قد تبلدت إلى هذا الحد.
      كنت قد سمعت في صغري حديثا مؤداه:
      أن بغيا من أبناء العمومة دخلت الجنة في كلب كان يلعق الثرى من شدة العطش فسقته فشكر الله لها فغفر لها، وأن الصحابة سألوا النبي الكريم صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ وإن لنا في البهائم لأجرا قال: في كل كبد رطب أجر.
      لقد علقنا جراحنا من فرط الألم فلم نجد بغيا واحدة يتألم قلبها أو تحرك يدها برحمة.
      إنني لا استجدي عطفكم..
      فإن كنتم تحاكمونني بحق فأنا أقبل بحكم الحق وإن كنتم تحاكمونني بباطل فأـنا أكبر من أن استجدي الباطل.
      هناك أمران يعمقان الجراح
      أما أولهما:
      فإن المرارة لتتضاعف وتزداد حيرة عندما يؤخذ الإنسان بجريرة غيره ويلبس تهمة لا علاقة له بها .
      ولو كان لي في الأمر ناقة أو جمل لهان الخطب ولما تبرأت ولما اعتذرت، بل كان لي رأي آخر وموقف آخر وكلام آخر وأزعم أن عندي من الشجاعة الأدبية ما أستطيع أن أواجه به مثل ذلك الموقف بكل حزم وإصرار وثبات.
      وأنا أشهد أن أحاديث النيابة هزيلة هزيلة وأشهد أن أحاديثها كلام أينما توجه لا يأتي بخير وأن أصدق ما يقال فيها قول الحق جل وعلا : ﴿ إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ الفرقان:4..
      وأن أحاديثها فاحشة يحرم نشرها وسماعها.
      أما ثانيهما:
      فعزائي ان كان لي من عزاء ...
      بأني بحمد لله لا ثوب غادر / لبست ولا من خزية أتقنع
      وأني :
      ...ما أَهْوَيْتُ كَفِّي لرِيبَةٍ / ولا حَمَلَتْنِي نَحْوَ فاحِشَةٍ رِجْلي
      وأَعْلَمُ أَنِّي لم تُصِبْنِي مُصِيبَةٌ / مِن الدَّهْرِ إلاّ قد أَصابَتْ فَتىً قَبْلِي
      وأن جيلا من بعدنا سيقرأ ما كتبنا وما تركنا.. إن خيرا فخيرا وإن شرا فشر، وكل ينفق مما لديه. وللتاريخ إنني أشهد الله وأشهدكم أنني بريء بريء، وأنني استحضر قوله تعالى:
      ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء:112...
      إنني أطلب من هذه المحكمة الموقرة أن تمتلك الشجاعة الأدبية والأخلاقية أن تعيد إلينا حريتنا المسلوبة .. فمتى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا.
      والسلام على من اتبع الهدى.
      وعقب المحامي على قول المتهم بقوله:
      (...وبعد كل الذي قاله لكم موكلي وبينه لحضراتكم. فإننا نقبل حكم المحكمة، ومن حقنا أن نقول ما نشاء بدون خجلٍ أو مؤاربة أو حياءٍ.. نعم سنكون في هذه المحاكمة صُرحاء .... أشد ما تكون الصراحة، حتى ولو كانت موجعة للبعض، أو تورم منها أنوف آخرين.. لأننا وحتى هذه اللحظات كنا نعتقد أن صوت العقل سيغلب، وأنَّ المصلحة العليا ستُغلب.. لكن قرت عُيون البعض بتلك المُحاكمة.. وقُرت عيون آخرين بوجود موكلي خلف القضبان، فلتكن المُحاكمة إذاً هي نهاية المطاف.. وليكن حكمكم هو غاية العدل ومنتهى الإنصاف، ولتكن مشيئة الله هي العليا.. ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليحي من حيَّ عن بينه، ويهلك من هلك عن بينه. .وما يحز في النفس هو التحقير من شأننا كمحامين ندافع عن الحق ونبينه لكم..
      ونتساءل فيما بيننا ما الذي جعل العلاقة بين القضاء والمحامين وهم أبناء رحمٍ واحد وغاية واحدة، تصل إلى هذا المنحنى وذلك المنعطف الخطر؟.
      نحن لم نتسلل إلى محرابكم.. ولكننا أصحاب حقٍ وأصحاب قضية وأصحاب رسالة.. وما آتينا نُمارس هذه الرسالة إلا بمقتضى القانون ومن منطق العدالة.. فلسنا دخلاء أيها السادة وليس الأمر منوط بالقضاة وحدهم.. فالعدالة لا تستقم على قدمٍ واحدة. ونحنُ القدم الأخرى.. والقول بغير ذلك يهدم ميزان العدالة ويقوضها.. أليس للميزان كفتين؟! ولئن كان الله خلق الإنسان من عينين، وشفتين، وأذنين، وكفين، وقدمين. فقد خلق الإنسان بقلبٍ واحد.. ولسانٍ واحد..
      فأنتم أيها السادة القلب، ونحنُ اللسان، ومخطئ من ظن يوماً أن يضن علينا بالكلام، وأُقر مطمئناً أن طبيعة عمل المحامي وخبرته المكتسبة من ممارسة المهنة، نراه يرجو ويتوسل ويترافع علناً ويكتُب مذكراته.. ويؤكد في كل كلمة ثقته بعدالة قاضيه..
      غير أن بعض القضاة يظهرون عدم الاكتراث بما نقول.. ويعرض عنا بصورة فيها امتهان لكرامتنا.. ونلتزم في ذلك غاية اللياقة والأدب.. ونطوى الصدر عن ألمٍ دفين.. ثم يصدر القاضي حكمه.. وقد يكون خاطئًا.. فإذا ما طَعَنّا على ذلك، نذكر في طعْننا تأدباً ورقاً أن الحكم قد أخطأ، ولا نقول أن القاضي هو الذي أخطأ.. نحنُ اللذينَّ ننتظر لساعات لبدء الجلسات.. نحنُ اللذينَّ نقف إجلالاً لكم حال دخولكم القاعة.. ونحنُ اللذينَّ نقف احتراماً عند انصرافكم.. ونحنُ اللذينَّ لا نتحدث بين أيديكم إلا بإذن، ولا نصمت إلا بإذن.. نحنُ اللذينَّ تعلمنا من أسلافنا العظام الإنحناء في محرابكم تقديساً للعدالة.. ونحنُ اللذينَّ لا نخاطبكم إلا بالاحترام الكامل..
      واليوم نحرم من حق الدفاع عن موكلينا بالأمر؟ كيف تستقيم أجنحة العدالة؟..
      نحن نتمسك بمرافعتنا السابقة ونصر عليها. تأسيسا لأحكام القانون.
      هنا أذعنت المحكمة لطلب الأستاذ المحامي وقبلت كل الدفوع التي تقدم بها المحامون والبالغ عددهم خمسة وستون محاميا..
      والحقُ أقول لكم أنه إذا كان في الحكم على موكلي شفاءٌ لما في الصدور فاحُكموا عليه، وإذا كان ميزان العدالة سيستقيم بالحكم عليه فاقضوا عليه. وإذا كان الحكم عليه قرباناً للعدالة وإرضاءً للآلهة فإننا نقدمه مختارين طائعين. والله ولي التوفيق.)..
      وهذه مرافعة تخيلية أخرى:
      يقف المتهم في مواجهة القاضي الظالم في حكمه وقد ألقى في وجهه سهماً من سهام المظلومين فقال:
      الْحَمْدُ للهِ رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، هو الحكمُ العدل، صاحبُ الجودِ والفضل، إنْ أثابَ فبفضلهِ وإنْ عاقبَ فبعدله، أحمدهُ سبحانهُ بما هوَ لهُ أهلٌ مِنَ الحمدِ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
      يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:
      ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
      ويقول تعالى لرسوله الكريم ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ الشورى: 15.
      ويقول سبحانه وتعالى:
      ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة: 8]، وتستمر الآية ونستمر معها فيقول ﴿ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة: 8] المائدة.
      والسؤال.. لماذا يتم حبسي مع التجديد؟..
      بالرغم من أنه في القانون الجنائي المصري نجد أن مدة الحبس الاحتياطي في أحوال الجنايات يجب ألا تزيد على سنتين، فالحبس بحسب الأصل هو عقوبة لا يجوز توقيعها على الإنسان إلا بمقتضى حكم قضائي واجب النفاذ، لأن الهدف من الحبس هنا هو سلب حرية المتهم في أثناء مدة التحقيق.
      وأنه طبقاً لما جاء في المادة 129 من قانون العقوبات والتي جعلت الحد الأقصى للحبس الاحتياطي في مواد الجنح ستة أشهر، وفى مواد الجنايات ثمانية عشر شهرا، وسنتين في حالة ما إذا كانت العقوبة المقررة هي السجن المؤبد أو الإعدام، ومع ذلك وطبقاُ لمخالفة القانون تم تجديد حبسي سنوات وسنوات وسنوات بلغت سبع سنوات فنحن الآن في العام 2020م.
      وهنا ومن داخل قاعة هذه المحكمة..
      ارفع التماسي إلى قاضي السماء.. وذلك من خلال سورة الفاتحة والتي هي نبراسي ومنهج حياتي..
      ففاتحة الكتاب نظرا لأهميتها اسماها رب العزة عز وجل بالصلاة وهي عبارة عن طلب مقدم من العبد إلى ربه ومولاه العادل قاضي السماء يطلب منه طلباً محدداً. ترى ما هو؟..
      تأملوا:

      عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه، أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
      مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بأُمِّ القرآن، فهي خداجٌ -ثلاثًا- غير تمام، فقيل لأبي هُرَيرَة: إنَّا نكونُ وراءَ الإمام، فقال: اقرأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول:
      قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بَيني وبَين عبدي نِصفين، ولعَبدي ما سأل،
      فإذا قال العبدُ ﴿ الحمدُ لله ربِّ العالَمين، قال الله تعالى: حمَدني عَبدي،
      وإذا قال ﴿ الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي،
      وإذا قال ﴿ مالِك يومِ الدِّين، قال: مَجَّدني عبدي، (وقال مرَّة: فوَّض إليَّ عبدي)،
      فإذا قال ﴿ إيَّاك نعبُدُ وإيَّاك نستعين، قال: هذا بَيني وبَين عبدي، ولعَبدي ما سأل،
      فإذا قال ﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ صِراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
      دققوا جيدا في وعد الله تعالى للسائل قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
      فالفاتحة طلب مقدم من العبد إلى الله العادل سبحانه وتعالى فبعد أن يحمده ويمجده ويثني عليه سبحانه وتعالى..
      عندئذ يتقدم بطلبه وكله يقين بأن الله سبحانه وتعالى قد أجاب دعوته..
      فحينما يقول ﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ يجيبه سبحانه وتعالى بقوله: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ.
      فإذا أحسن العبد نيته وهو يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى مستشعراً قوله تعالى: ولعبدي ما سأل..
      يجعلنا نتوقف كثيراً عندها.. ولا نمر عليها مرور الكرام ونظراً لأهميتها وصعوبتها فإننا نطلب العون من الله على بلوغها..
      ولأننا نقول:
      ﴿ اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ يتعين علينا أن نعرف بوجود ثلاثة فقط وحدهم عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ...وهم:
      1ـ الله سبحانه وتعالى: ﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍهود : 56 .
      2ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ الزخرف : 43
      3ـ من يأمر بالعدل: ﴿ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ النحل : 76
      فالبند ثالثاً يضع الآمر بالعدل مع الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم..
      انتبهوا: لم يقل سبحانه وتعالى ومن يَحْكُمُ بِالْعَدْلِ..... وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..
      ولكنه قال عز من قائل: وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..... وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ..
      وفارق كبير بين من يحكم بالعدل.. فلا يجور.
      وبين من لا يحكم بالعدل فيقيض الله سبحانه وتعالى له من يَأْمُرُهُ بِالْعَدْلِ.....
      فالذي يأمر بالعدل يفعل هذا وكله يقين أن الله حافظه وحاميه لأنه هو القائل ولعبدي ما سأل.
      فمن يجاهر بكلمة الحق في وجه من يتوسم فيه أن يحكم بالعدل، موقعه مع الله ورسوله فما أعظمها من معية..
      ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ كَلِمَةَ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ).
      وهذه هي الرسالة التي يجب أن يفهمها كل مسلم يقرأ الفاتحة سبع عشرة مرة كل يوم ويقول في ختامها:
      ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ الفاتحة: 6..
      أي اللهم يسر لنا سبيل الوصول إلى مرتبة ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..
      وهأنذا وامتثالا لقول ربي ﴿ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ..
      إنني أشهد الله العلي العظيم وأشهدكم أنني بريء بريء من كل ما نسب إليّ، وأنني استحضر قوله تعالى:
      ﴿ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا النساء:112.
      ولما سئل ابن تيمية رحمه الله عن دليله في قوله (إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة) أجاب من سور هود: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
      وقد وقعت على دليل آخر من سورة القصص: ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ.
      فإن كنتم تحاكمونني بحق فأنا أرضى بحكم الحق..
      وإن كنتم تحاكمونني بباطل فأنا أكبر من أن استجدي الباطل لأنني في المكان الخطأ..
      يا رب إني، مغلوب مبغيّ عليّ مظلوم، قد قلّ صبري وضاقت حيلتي، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهها عنّي، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمتها، وخذلني من استنصرته من عبادك، وأسلمني من تعلّقت به من خلقك ً وغدر بي وطعنني القريب الصديق، اللهم لا تفتني بالقنوت من دعاءك.. ولا تفتن الظالم بالأمن من عقابك.. فيصر على ظلمي ويمنعني حقي.. اللهم وعرفه يا إلهي ما أوعدت الظالمين من عقابك.. وعرفه عما قليل ما وعدت المظلومين من نصرتك..
      وعلى الظالمين تدور الدوائر..
      والسلام على من اتبع الهدى.

      تعليق

      • المهندس زهدي جمال الدين
        12- عضو معطاء

        حارس من حراس العقيدة
        عضو شرف المنتدى
        • 3 ديس, 2006
        • 2169
        • مسلم

        #33
        المطلب الرابع

        قضيتي الثبوت والتحاكم

        هذه القضية من أهم القضايا الجنائية حيث أن مراتب القضاء ثلاثة وهي:
        1- الثبوت
        2- الحكم
        3- التنفيذ
        ( الثبوت) وهو أول مرحلة من مراحل القضاء ويختص بإثبات الجريمة على المتهم.
        (الحُكم) وهو ثاني مرحلة من مراحل القضاء وهو النطق بالحكم.
        (التنفيذ) وهو آخر مراحل القضاء وهو تنفيذ الحكم الصادر من الحاكم أو القاضي في حق المتهم.
        وشهادة الشاهد إعانة توصل لأولى مراحل القضاء وهي مرتبة (الثبوت) وهي بذلك إعانة توصل إلى الفعل قطعاً.
        إذن الشاهد مُعين في أول مرحلة من مراحل القضاء التي بدونها ينعدم الحكم وتنفيذه.
        ومن هذا الإجمال إلى شيء من التفصيل وهو على فروع.

        الفرع الأول

        امرأة العزير مع يوسف عليه السلام

        قال هي راودتني عن نفسي:
        واقعة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز عندما راودته عن نفسه لم تكتمل فيها أركان التحاكم الرئيسية فكانت:
        امرأة العزيز وزوجها (طرف).. ويوسف عليه السلام (طرف).
        أي متنازعان فلم ترتفع القضية لجهة ثالثة لكي تفصل فيها.
        إن شرف المرأة وعرضها هو عرض لزوجها يدافع عنه، وهو تبع له ولهذا فإن العزيز هو خصم يوسف في هذا الموضوع وليس طرفا ثالثا لأن الأمر يخص عرضه وشرفه، ومما يُدل على ذلك ما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام قوله: (ما بال رجالٌ يؤذونني في أهلي..) في حديث الإفك الشهير. فقد نسب الأذى على نفسه مع أن الكلام كان عن زوجته رضي الله تعالى عنها.
        فأولاً: يوسف عليه السلام قد حكم عليه العزيز خصمه بالسجن لأنه كان في مركز قوة ولم تحكم عليه جهة ثالثة رفع إليها الخصمان القضية للفصل فيها بل الذي أمر بسجن يوسف هي امرأة العزيز لا زوجها وما جاء في نص الآية واضح وصريح
        ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف:25..
        وقوله تعالى ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢
        وقول العزيز في ذلك:
        ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يوسف:29.
        فسبحان الله ما أوضح البيان وكيف عمت عنه العينان ولكنها ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ الحج:46.
        فلم يحكم العزيز عليه أصلا بشيء فضلاً أنه لا يمكن أن يكون حكما في قضية هو خصم فيها.
        ثانيا: قضية يوسف عليه السلام قضية ثبوت وليست قضية حكم والفرق بين الثبوت والحكم واضح فكل حكم ثبوت وليس كل ثبوت حكم، إذ أن الحكم يحتاج إلى حاكم وإلا لم يكن حكما، أما الثبوت فلا يشترط فيه وجود الطرف الثالث (الحاكم).
        قال ابن القيم رحمه الله: في الطرق الحكمية ج5 ص 1بعنوان (دعوى قتل أبي جهل).
        ومن ذلك أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفكما؟.
        قالا: لا.
        قال: فأرياني سيفيكما فلما نظر فيهما قال لأحدهما هذا قتله وقضى له بسلبه.
        (وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع والدم في النصل شاهد عجيب) ص 762 برقم 4020 كتاب المغازي، وصحيح مسلم ص748 برقم 1800، كتاب الجهاد والسر، باب قتل أبي جهل.
        فقوله صلى الله عليه وسلم: هل مسحتما سيفيكما- إلى أن قال- هذا قتله.. هذه هي قضية الثبوت التي يكون الرجوع فيها إلى خبير أو عالم ولو كان مشركا.
        وقوله: وقضى له بسلبه هذا هو الحكم أو القضاء الذي لا يجوز الرجوع فيه إلا لحاكم يحكم بشرع الله ويشترط فيه الإسلام.
        والناظر المنصف لحادثة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز يجد أنها قضية ثبوت وليست قضية تحاكم.
        وقد يطلق على الثبوت حكم من ناحية لغوية..
        أما من حيث الاصطلاح هو أن الثبوت يحتاج إلى خبير أو حكيم..
        فالمرجع في الغالب الخبرة والفطنة والدراية..
        أما الحكم فهو يشترط فيه الرجوع فيه لحكم الله سبحانه وتعالى والمحكم فيه مسلم.
        فمن لم يفرق بين التحاكم وبين النزاع معه وبين قضية الثبوت اختلطت عليه الأمور ووقع في المحظور.
        فمرحلة الثبوت تسبق مرحلة الحكم وليست منها وإن كانت من لوازمها.
        1- مرحلة الثبوت: وتشمل تحرى القرائن والبينات وسماع الشهود وإعذار المتهم أيضا، مثل قول القاضي هل هناك من يشهد معك بهذا؟ وغير ذلك.
        2- ثم مرحلة الحكم.
        3- ثم مرحلة التنفيذ.
        وقد يسمى كل ذلك حكما مجازا ولكن الحقيقة أن مرحلة الثبوت ليست حكما وإن كانت غالبا ما تفعل كمقدمة له وقد تنتهي به.
        ومن أمثلة إطلاق لفظ الحكم عليها مجازا بالرغم من أنها ليست حكما، تفسير العلماء لقوله تعــــــالى
        ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا بقولهم وحكم حاكم من أهلها فجعلوا ذلك حكما باعتبار أنه يظهر الحق ويجلوه لا من باب أنه كان حكما فعلا لأن هذا كان في مرحلة الثبوت وليس في مرحلة الحكم.
        ومن أمثلة محاولة إثبات البراءة بالبينات في مرحلة الثبوت سواء أمام المسلمين أو الكفار:
        1- قوله تعالى ﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ يوسف:82. وكان ذلك من إخوة يوسف عليه السلام دفعا لتهمة متوقعة يتهمون بها لرجوعهم بدون أخيهم وكان ذلك منهم أمام نبي الله يعقوب عليه السلام.
        2- وقوله تعالى ﴿ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ يوسف:73. وكان ذلك من إخوة يوسف عليه السلام واستخدموا لإثبات ذلك القسم دفعا للتهمة منهم أمام يوسف عليه السلام بالرغم من أنهم يظنون أنه عزيز مصر وعلى دين قومه.
        3- وقوله تعالى:﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا يوسف:56. وكان هذا بينَّة منه أظهرها الشاهد للعزيز لكي يمكنه من الوصول إلى الحقيقة.
        4- وقوله تعالى ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ يوسف:51. وكانت مخاطبة الملك لهن بالإدانة رغبة منه في مباغتتهن بالحقيقة ليعترفن بها، وكان ذلك منه بالرغم من أنه كان كافرا على الراجح من كلام أهل العلم، وقد فعل ذلك لأنه كان موقنا ببراءة يوسف عليه السلام وصدق وصفه لما سجنوه من أجله أنه من كيدهن وهذا بديهي بعد أن صدقه في تأويله رؤياه.
        5- ومرحلة الثبوت هذه مثل إظهار البينة أو التحقق من التهمة تشمل كل ما يحاول به القاضي أو من يقوم قبله بذلك من سؤال الشهود والمتهم والبحث عن قرائن وبينات أو استخلاصها أو إعذار المتهم بطلب شهود النفي منه.
        6- ومثل ما تقوم به حاليا النيابة ويسمى التحقيق وما يقوم به الخبراء وغيرهم من الهيئات التي تختص بإظهار القرائن والبينات وليست على الحقيقة هيئات حكم وقضاء.
        وذلك حتى يتمكن القاضي من الحكم بما يرى أنه الحق بحسب دينه في مرحلة الحكم، فإن كان دينه الإسلام فسيحكم بالأحكام الشرعية حيث هو يتعبد الله بذلك، وإن كان دينه غير الإسلام فسيحكم بما يوافق دينه من قوانين وأحكام بلده.
        وقوله عليه السلام كما ذكره تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي يوسف:26.
        إنما رد التهمة عن نفسه بما يفيد إنكارها وكان ذلك في مرحلة التثبت من التهمة وهذه مرحله يعرف كل من له علم بكتب القضاء أنها تسبق مرحلة الحكم وليست منها، والآية تدل على أنه يمكنك أن تدفع عن نفسك تهمة في مرحلة الثبوت وهذا من باب إثبات براءة الذمة الأصلية التي تستصحب لكل البشر، بل إن اتهام امرأة العزيز ليوسف ورد يوسف عليه السلام عليها وشهادة الشاهد وهي قرينة ثبوت التهمة، كل ذلك لم يتجاوز مرحلة التثبت من التهمة.
        أما عن واقعة سجن يوسف عليه السلام نفسها , فكانت من العزيز وامرأته والنسوة في مرحلة لاحقة لتلك الواقعة التي اتهمته فيها امرأة العزيز بمراودتها , وكان ذلك بعد ذيوع وانتشار قصة مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام بين الناس , وهذا لابد وأن يستغرق وقتا لانتشاره , وعندما رأوا سجنه كانوا جميعا خصومه فسجنوه لما رأوا الآيات, فكانوا هم الخصم والقاضي وهذا أيضا ليس صورة من صور التحاكم.
        - ومعلوم أن طلب الحكم بالبراءة غير اشتراط البراءة , ففي الأولى ( طلب الحكم ) خطوات لابد أن تتم كما في كل قضاء , وذلك يكون باستدعاء الخصوم والشهود وسؤالهم في مرحلة الثبوت قبل مرحلة الحكم ويكون القاضي فيها مظهرا الحيدة التامة مع طرفي الخصومة , وهذا لم يكن ليتم ويوسف في السجن , بل لابد للملك أن يحضره إلى مجلس القضاء , ولم يكن لديه ما يمنعه من الحضور بعد أن أمر الملك بإخراجه , ويحضر أيضا امرأة العزيز والنسوة ويبدأ التحقيق في المنازعة , وهذا لم يحدث بل إن الملك أخذ كلاما فيه الكثير من التعريض لا التصريح من يوسف وخاطب به النسوة وامرأة العزيز بينهن بالإدانة وهذا يعد محاباة وليست قضاءً , فما الذى حدث إذن ؟.
        -الذى حدث هو أن الملك أراد يوسف نفسه لا أراد مجرد خروجه, والدليل هو أنه لما رجع إليه الساقي بتأويل رؤياه, أمره بإحضار يوسف إليه لا بمجرد إخراجه من سجنه: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ يوسف: 54.
        ثم يبدو ذلك أكثر وضوحا بعد أن نفذ الملك ما اشترطه يوسف لخروجه من إظهار براءته، فعاود الملك طلبه بمجرد الانتهاء منها، وأظهر علة ذلك الطلب هذه المرة ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي.
        - كما أن الملك كان يصدق يوسف بعد تأويله رؤياه في كل ما يقوله, فليس بعد تصديقه له في تأويل الرؤيا يمكن أن يكذبه في شيء أو حتى يشك في صدق كلامه, ولذلك لما أرسل له يوسف ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يوسف:50. صدقه في أن ذلك كيد منهن وأيقن ببراءته , وجمع النسوة لا ليحقق معهن وهو موقن ببراءة يوسف , بل جمعهن ليواجههن بالإدانة التي هو موقن بها :
        ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ يوسف:51. فيبهتهن ويظهرن براءة يوسف عليه السلام.
        وقد كان ما أراده: ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ ۚ.
        وكذلك فعلت امرأة العزيز: ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
        وبتحقق ذلك وكما أراده يوسف واشترطه لخروجه من سجنه، خرج فعلا إلى الملك الذي كان ينتظر ذلك ليستفيد من يوسف في تدبير شئون مملكته في الأزمة المتوقعة طبقا لتأويل يوسف نفسه، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ يوسف:54.
        وكان رد يوسف علي السلام دليلا على ما ذكرت أيضا، حيث اختار مخازن الغلال لكي يباشر بنفسه معالجة الأزمة المقبلة: ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ يوسف:55.
        - فكان تكييف ما حدث هو استعانة من يوسف عليه السلام بالملك لما أحس بحاجته إليه في إظهار براءته وليس أدل على ذلك من أن إظهار براءة يوسف عليه السلام لم تكن بحكم من الملك, بل كانت باعتراف صريح من النسوة وامرأة العزيز:
        ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ.
        ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.


        تعليق

        • المهندس زهدي جمال الدين
          12- عضو معطاء

          حارس من حراس العقيدة
          عضو شرف المنتدى
          • 3 ديس, 2006
          • 2169
          • مسلم

          #34
          الفرع الثاني

          إثبات البراءة في مرحلة الثبوت لا يلزم منه الإقرار بمرحلة الحكم إذا لم تكن طالبا لها.

          وفى هذه المرحلة - مرحلة الثبوت - يجوز للمتهم أن يحاول إثبات براءته أو إثبات خلو ذمته مما اتهمه به غيره، أي يحاول إثبات بقاء ذمته على البراءة الأصلية.
          مثل قول يوسف عليه السلام: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي يوسف:26.
          فقوله لا يتعدى ما ذكر في النص من أنه نفى للتهمة عن نفسه في مرحلة الثبوت في تهمة كانت امرأة العزيز هي من أراد أن يحاكمه للعزيز بها بالرغم من أنها لم تتم كمحاكمة فلم تتعد مرحلة الثبوت للآتي:
          أن العزيز لم يحكم ببراءته وانما تأكد من براءته ببينة الشاهد ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا..
          ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ۚ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ يوسف:26.
          وكان قوله ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا ۚ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ ۖ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يوسف:29، فضا منه للأمر على استحياء بغير فصل , فلا هو حكم ببراءة يوسف لأن الحكم ببراءة البريء يلزم منه معاقبة الجاني الحقيقي وهو لا يريد أن يعاقب زوجته , أو لأن عقابها كان سيفضحه , فلا هو عاقبها ولا هو كابر في الحق بعد ما تبين له وأقر زوجته على اتهامها ليوسف عليه السلام بالباطل لأن ذلك كان يستلزم منه أيضا أن يعاقب يوسف بالسجن كما طلبته زوجته , ولم يفعل ذلك , قيل لأنه كان يحب يوسف ولما تأكد من براءته وعدم خيانته له في زوجته آثر عدم معاقبته , ولذلك انتهى الأمر في صورة توصيات كما ذكرت الآيات
          ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا، ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ وليس حكما فيه معاقبة أحد الطرفين بدعوى أنه الجاني.
          فأين حكم العزيز المزعوم في هذه المسألة.
          وأيضا في الثانية في قول يوسف عليه السلام كما ذكره سبحانه:
          ﴿ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يوسف:50.
          وهو فتح ملف القضية من جديد للحكم ببراءته.
          فتأويل يوسف عليه السلام لرؤيا الملك خاصة بعد فشل ملئه في ذلك جعله الله سببا لإظهار براءته من عدة أوجه:
          أن الملك علم منها أن يوسف صادق فيما يقول بدلالة ما أخبره الساقي من صدق تأويله قبل ذلك، وبدلالة تصديقه تأويل يوسف لرؤياه والتي علم منها وأيقن تبعا لذلك التأويل بحجم ما هو مقدم عليه هو ومملكته من محنة، وأن الذي يمكن أن يعبر به وبمملكته تلك المحنه هو من أول الرؤيا نفسه، فأرسل في طلبه ولم يرسل بمجرد إخراجه من السجن مكافأة له كما ذكره تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ.
          أن يوسف عليه السلام علم من لهفة الملك على طلبه حاجة الملك إليه ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ، فأراد أن يستعين به في إظهار براءته على الملأ.
          ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ يوسف:50.
          فبمجرد أن أرسل برسالته مع رسول الملك يلمح بأن سبب سجنه كيد النسوة وامرأة العزيز من بينهن معرضا بها غير مصرح حفظا لغيبة سيده، جمعهن الملك وخاطبهن بالإدانة تصديقا ليوسف عليه السلام في مجرد تلميحه وإشارته إلى الكيد منهن ﴿ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ جمعهن وخاطبهن بالإدانة.
          ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ يوسف:51.
          والذي أعلن براءة يوسف وأثبتها في الواقع ليس حكما من الملك بل هو اعترافا من النسوة بها:
          ﴿ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ.
          واعترافا أيضا من امرأة العزيز بها:
          ﴿ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
          ولم يحكم له الملك بالبراءة لأنه كان يعرف انه بريء وهذا هو السبب في أنه لما جمع النسوة وامرأة العزيز، خاطبهن بالإدانة ولم يسألهن حتى سؤال المحقق في مرحلة الثبوت ﴿ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ۚ يوسف:51. فهو حتى لم ينصب نفسه قاضيا يريد أن يتثبت من براءة يوسف عليه السلام تمهيدا للحكم بها , لأنه كان موقنا بها , وعلى ذلك لم يفعل ما يفعله الحكام أو القضاة فلم يقم بسؤال طرفي الخصومة مثلا , أو طلب الإعذار (شهود النفي أو الإثبات ) منهما أو من أحدهما , بل توجه بالإدانة لأحدهما تصديقا للآخر وعملا بما يريده حتى يخرج إليه تصديقا له واحتياجا له ليصطفيه لنفسه ويجعله من خاصته , ولذلك لما انتهت النسوة وامرأة العزيز من إعلان براءته أخرج الملك إلى أرض الواقع حقيقة ما في نفسه بالنسبة ليوسف فقال كما ذكره عزوجل
          ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ يوسف:54.
          يراجع في ذلك:
          كتاب انوار البروق في انواء الفروق للقرافي يمكن تنزيله من الشبكة الدولية من على محرك بحث ياهو وهو أربع مجلدات تحتوي على اقل قليلا من 300 فرق مهم تبدأ من الفرق الأول وهو الفرق بين الشهادة والبينة (وهذا الفرق وحده استغرق من القرافي ثماني سنوات فلتأمل!!!!) وهذه الفروق هامة جدا كي لا يقع الباحث في أي لبس.


          تعليق

          • المهندس زهدي جمال الدين
            12- عضو معطاء

            حارس من حراس العقيدة
            عضو شرف المنتدى
            • 3 ديس, 2006
            • 2169
            • مسلم

            #35
            الفرع الثالث القرائن

            مقدمة
            القرينة لغة: مأخوذة من قرَن الشيء بالشيء؛ أي: شدَّه إليه ووصَله به، كجَمْع البعيرين في حبلٍ واحد، وكالقَرن بين الحج والعمرة، وتأتي المقارنة بمعنى المرافقة والمُصاحبة، ومنه ما يُطلق على الزوجة قرينة، وعلى الزوج قرين، وفي الاصطلاح: ما يدلُّ على المراد من غير كونه صريحًا.
            والقرينة عند القانونيين: "دليلٌ يقوم على استنباط أمرٍ مجهول من أمرٍ معلوم".
            وأمَّا مشروعيَّة إعمال القرينة، فإن القرينة مشروعة في الجملة؛ لِما ورَد في قوله تعالى في سورة يوسف: ﴿ وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف: 18]، قال القرطبي في تفسيره: "إنهم لَمَّا أرادوا أن يَجعلوا الدم علامة صِدقهم، قرَن الله بهذه العلامة علامةً تُعارِضها، وهي سلامة القميص من التمزيق؛ إذ لا يُمكن افتراسُ الذئب ليوسفَ وهو لابِسٌ القميصَ، ويَسلم القميصُ، وأجْمَعوا على أن يعقوب - عليه السلام - استدلَّ على كذبهم بصحَّة القميص، فاستدلَّ العلماء بهذه الآية على إعمال الأَمَارات في مسائل كثيرة من الفقه".
            كما استدلُّوا بقوله تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف: 26 – 27].
            على جواز إثبات الحُكم بالعلامة؛ إذ أثبَتوا بذلك كذبَ امرأة العزيز فيما نسَبته ليوسف - عليه الصلاة والسلام.
            ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم في صحيحه: (الأَيِّم أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبِكر تُستأمر، وإذنها سكوتُها).
            فجعَل صُماتها قرينة دالة على الرِّضا، وتَجوز الشهادة عليها بأنها رَضِيت، وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن.
            كما سارَ على ذلك الخلفاء الراشدون والصحابة في القضايا التي عرَضت، ومن ذلك ما حكَم به عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعثمان - رضي الله عنهم، ولا يُعلَم لهم مخالفٌ - بوجوب الحدِّ على مَن وُجِدت فيه رائحة الخمر، أو قاءَها؛ وذلك اعتمادًا على القرينة الظاهرة.
            ومن أدلة إعمال القرينة في القضاء، ما أورَده النسائي في سُننه، قال - رحمه الله تعالى -: "باب السعة للحاكم في أن يقول للشيء الذي لا يَفعله: أفْعَل؛ ليَستبين الحقُّ"، ثم ساقَ الحديث عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (خرَجت امرأتان معهما صبيَّان لهما، فعدا الذئبُ على إحداهما، فأخَذ ولدها، فأصبَحتا تَختصمان في الصبي الباقي إلى داود - عليه السلام - فقضى به للكبرى منهما، فمرَّتا على سليمان، فقال: كيف أمركُما، فقصَّتا عليه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّ الغلام بينهما، فقالت الصغرى: أتشقُّه؟ قال: نعم، فقالت: لا تَفعل، حظي منه لها، قال: هو ابنك، فقَضى به لها) ، وصحَّحه الألباني.
            قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -:
            "قال العلماء: يُحتمل أن داود - عليه السلام - قضى به للكبرى لشَبَهٍ رآه فيها، أو أنه كان في شريعته ترجيحُ الكبرى، أو لكونه كان في يدها، فكان ذلك مُرجَّحًا في شرْعه، وأمَّا سليمان - عليه السلام - فتوصَّل بطريقٍ من الحِيلة والملاطفة إلى معرفة باطنة القضيَّة، فأوْهَمها أنه يُريد قطْعَه؛ ليَعرف مَن يَشُقُّ عليها قطْعُه، فتكون هي أُمَّه، فلمَّا أرادَت الكبرى قطْعَه، عرَف أنها ليستْ أُمَّه، فلمَّا قالت الصغرى ما قالت، عرَف أنها أُمُّه، ولَم يكن مُراده أنه يَقطعه حقيقةً، وإنما أرادَ اختبار شَفَقتها؛ ليتميَّز له الأمَّ"، ثم قال النووي: "قال العلماء: ومثلُ هذا يَفعله الحاكم؛ ليتوصَّل به إلى حقيقة الصواب".
            والقرائن عند القانونيين تنقسم إلى قسمين؛ قرائن قانونيَّة، وقرائن قضائيَّة:
            والقرائن القانونية: هي التي استنبَطها المُقَنِّن الوضعي، مما يَغلب وقوعه من الحالات، فبنى عليها قاعدة عامَّة نصَّ عليها، فلا يُسوغ للقاضي أن يُخالفها.
            وأمَّا القرائن القضائية، فهي استنباطُ القاضي لأمورٍ مجهولة من أمورٍ معلومة، وبعبارة أخرى: هي القرائن التي يَستنتجها القاضي باجتهاده وذكائه في موضوع الدعوى وظروفها، وهي متعلِّقة بالوقائع، وتَختلف حسب الظروف، وأمرُها متروك للقاضي.
            أولاً: تصوير المسألة:
            كما قلنا أنه يُقصد بالقرائن، الأمارات والعلامات، وهذه الأمارات وقائع مادية ظاهرة1 ومحسوسة ومقترنة بحق شخصي أو مدني أو جزائي، وعليه فهل تعتبر هذه الواقعة وسيلة من وسائل إثبات الحق، ورفع الجهالة عنه، أم لا تعتبر؟.
            وهل تُعتبر القرينة، وسيلة من وسائل التَّرجيح والدفع؟.
            والقرينة كواقعة مادية ظاهرة ومحسوسة، مقارنة للحق، ومتصلة به، منها ما هو قديم، ذكره الفقهاء في القديم كالحمل2، قرينة ودليل على واقعة الزِّنا، والبكارة قرينة تدفَع وقوع جريمة الزنا، ومنها ما هو حديث مرتبط بالتقدم العلمي، كبصمة الإصبع، والتشريح، والتحاليل المخبرية للبُقع الدموية والمنويَّة، والصور الفوتوغرافية، وتسجيل الأصوات.3
            ويجدر التنويه هنا أن القرائن الحديثة مضبوطة بضابط شرعي يتمثَّل فيما يلي4:
            1- أن تكون القرينة قوية، واحتِمال الخطأ فيها نادرًا.
            2- أن تتَّصل القرينة بالحق اتصالاً مباشرًا، وأن يكون الارتباط قويًّا، لا انفِكاك له.
            3- أن تكون القرينة مَشروعة؛ لأن القرينة وسيلة، والحق غاية الوسيلة، فلا يجوز الوصول بوسيلة غير مشروعة؛ لأنَّ الغاية لا تبرِّر الوسيلة، والقصد غير الشرعي، هادم للقصد الشرعي.
            ثانيًا: تحرير محل النزاع:
            أ- القرائن لها دور قوي في الاستئناس والتَّرجيح، وتعيين جانب أقوى المتداعين في الدعوى؛ وبناء على ذلك يحدد المدعي في الدعوى؛ ليكلف بالإثبات؛ لأنه يدعي خلاف الظاهر، كما أن القرينة تلعب دورًا كبيرًا في تشكيل قناعة القاضي عند وزن البينات، وهذا أمر لا خلاف فيه؛ لأنه يستند إلى أصول الشريعة، ومنطق العقل5.
            ب- القرينة تعدُّ وسيلة من وسائل دفع الدعوى أو التهمة؛ كالبكارة، وسيلة لدفع جريمة الزنا، وهذا أمر متفق عليه بين الفقهاء؛ لأنه يستند إلى أصول الشريعة، ومنطق العقل، وخاصة في جرائم الحدود؛ لأن القرينة شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات.
            جـ- اختلف الفقهاء في اعتماد القرينة، كوسيلة من وسائل إثبات الحقوق بشكل مستقلٍّ عن وسائل الإثبات الأخرى، وبهذا انحصر الخلاف بين العلماء6.
            ثالثًا: منشأ الخلاف:
            يرجع الخلاف بين الفقهاء في هذه المسألة إلى عدة أمور، هي:
            أ -الأدلة الواردة فيها، أدلة ظنية، يتطرَّق إليها الاحتمال، تتَّسع للرأي والرأي الآخر.
            ب-تعارض الأدلة الواردة في هذه المسألة.
            جـ -الاختلاف في مدى تطبيق قاعدة الذرائع، يقول الأستاذ الزحيلي: "ولعل السبب في عدم تصريح الفقهاء بالقرائن هو الاحتياط والتحرُّز، وسد الذرائع، لأن استعمال القرائن يحتاج إلى صفاء الذهن، وحدة الفكر، ورجحان العقل، وزيادة التقوى والصلاح والإخلاص، وإلا انحرَف بها صاحبها، وأصبحت أداة للظلم، ووسيلة للاضطهاد والتعسف"7.
            ويقول الشيخ محمود شلتوت:"ومما ينبغي المسارعة إليه، في هذا المقام، أن الناظر في كتب الأئمة، يرى أنهم مجمعون على مبدأ الأخذ بالقرائن في الحكم والقضاء، وأن أوسع المذاهب في الأخذ بها مذهبا المالكية والحنابلة، ثم الشافعية ثم الحنفية"8.
            رابعًا: آراء العلماء في هذه المسألة:
            اختلف الفقهاء في اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات إلى فريقين:
            الأول: يرى أن القرائن وسيلة من وسائل الإثبات المعتبرة شرعًا، وينسب هذا الرأي إلى جماهير العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة9، واستدلوا على ذلك بما يلي:
            1- الأدلة من القرآن الكريم:
            وردت أدلة كثيرة في القرآن الكريم، تُشير بوضح إلى اعتماد القرائن الواضحة، وسيلة من وسائل الإثبات، ومنها:
            أ- قوله تعالى: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف: 18].
            وجه الاستدلال بالآية الكريمة:
            تُفيد الآية الكريمة أن إخوة يوسف عليه السلام أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم، لكن سيدنا يعقوب عليه السلام، لم يَقتنِع بدعواهم، وذلك لوجود قرينة أقوى، وهي عدم تمزق قميص سيدنا يوسف عليه السلام،10 وكيف يأكله الذئب، دون أن يمزِّق قميصه؟! وهذه قرينة قاطعة، تدل على بطلان دعواهم، ولهذا استدل سيدنا يعقوب عليه السلام على كذبهم، بصحة القميص، وهذا دليل على اعتماد القرائن، وسيلة من وسائل الإثبات، وشرع من قبلنا شرع لنا، إذا جاء في شرعنا، ولم يرفع أو يرد في شرعنا ما يغيره.
            ب- قال تعالى: ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف: 26 – 28] .11
            وجه الاستدلال:
            تفيد الآيات بوضوح اعتماد قدِّ القميص وسيلة لمعرفة الصادق منهما من الكاذب في دَعواه، وهذا دليل واضح على اعتماد القرائن القاطعة وسيلة من وسائل الإثبات، وشرْع مَن قبلَنا شرعٌ لنا إذا جاء في شرعِنا ولم يَرِدْ في شَرعِنا ما يغيره12.
            2-الأدلة من السنة الشريفة:
            وردت عدة أدلة، تدل على اعتماد القرائن وسيلة من وسائل الإثبات، نذكُر منها:
            أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تُنكح الأيم حتى تُستأمَر، ولا تُنكَح البِكر حتى تُستأذَن)، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: (أن تسكُت) 13.
            وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
            يفيد الحديث بوضوح أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتمد سكوت البكر قرينةً قاطعة على رضاها بالزواج.
            ب- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أردتُ الخروج إلى خيبر، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم - فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: (إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسَقًا، فإذا طلب منك آيةً، فضع يدَك على ترقوته).14
            وجه الاستدلال بالحديث:
            الحديث يدل بوضح على اعتماد القرينة الواضحة وسيلة من وسائل إثبات الحق والصدق، في طلب المال من وكيل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن وضع اليد على ترقوة الوكيل، علامة على صدق رسولِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه المال من وكيله.
            جـ- عن عبد الرحمن بن عوف، قال: بينما أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منَّا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس: فقلتُ: ألا إنَّ هذا صاحبكما الذي سألتُماني، فابتدراه بسيفَيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرَفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال: (أيكما قتله؟)، قال كل واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: (هل مسحتُما سيفيكما؟) قالا: لا، فنظَر في السيفين، فقال: (كلاكما قتله) .15 والحديث سبق تخريجه على نحو مخالف لما سبق..
            وجه الاستدلال بالحديث:
            يدلُّ الحديث بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في قضائه على وجود أثر الدم على السيف كقرينة على القتل.16
            د- عن عبيد الله بن عتْبة أنه سمعَ عبدالله بن عباس، يقول: قال عمر بن الخطاب وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله قد بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، قرأناها ووعيناها وعقلْناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمْنا بعدَه، فأخشى، إنْ طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلُّوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على مَن زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف".17
            وجه الاستدلال:
            يفيد الأثر بوضوح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعل حمل المرأة التي لا زوج لها، قرينة قاطعة على زناها يقام عليها الحد.18
            3-وأما المعقول:
            فإن عدم اعتماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، يؤدي إلى ضياع الحقوق، ويشجع المجرمين على إجرامهم، وهذا مآل محرم، فما يؤدي إليه يكون باطلاً، ويُثبت نقيضه وهو اعتماد القرائن وسيلة إثبات للحقوق؛ لأن المحافظة على الحقوق من مقاصد الشريعة،19 وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
            والفريق الثاني: يرى عدم اعتماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق، وينسب هذا الرأي إلى بعض الحنفية وبعض المالكية.20
            واستدلوا على ذلك بما يلي:
            أ- عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (البينة على المدَّعي، واليمين على من أنكر).21
            وجه الاستدلال بالحديث:
            الحديث اعتمد البينة وسيلة لإثبات الحق، ولو كانت القرينة مُعتمدة لذِكرها الحديث، وعدم ذكرها دليل على عدم اعتمادها وسيلة من وسائل إثبات الحق.22
            ب- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كنت راجمًا أحدًا بغير بينة، لرجمتُ فلانة؛ فقد ظهر منها الريبة في منطقها، وهيئتها، ومن يدخل عليها).23
            وجه الاستدلال بالحديث:
            إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقم الحد على المرأة بناءً على الظاهر، وهذا دليل واضح على عدم اعتماده صلى الله عليه وسلم القرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
            جـ- عن ابن عباس قال: شرب رجل فسكر، فلُقي يَميل في الفجِّ، فانطُلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى بدار العباس، انفلَت، فدخل على العباس فالتزَمه فذكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: (أفعلها؟) ولم يأمر فيه بشيء.24
            وجه الاستدلال بالحديث:
            إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإقامة الحد على الرجل؛ لأنه لم يعتمِد قرينةَ سُكرِه دليلاً على ذلك، ولو كانت القرينة وسيلة إثبات؛ لأقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد، بناءً عليها.
            د- أما المعقول:
            فإن القرائن وإن كانت قوية من حيث الظاهر قد يظهر بعد ذلك الأمر على خلافها، ويتطرَّق إليها الاحتمال، وتدور حولها الشبهات، وقد يترتب على الحكم بها الظلم والمفسدة، وهذا لا يجوز شرعًا؛25 عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم لمسلم مخرجًا، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة).26
            خامسًا: رأي القانون المستمَدِّ مِن الفقه الإسلامي:
            ذهبت معظم القوانين المستمَّدة من الفقه الإسلامي، إلى اعتماد القرائن، وسيلةً من وسائل إثبات الحقوق؛ على النحو الآتي:
            أ- الكتابة.
            ب- الشهادة.
            جـ- القرائن.
            د- المُعايَنة والخِبرة.
            هـ- الإقرار.
            و- اليمين.
            ويستفاد مما سبق ما يلي:
            أ- القرينة وسيلة من وسائل الإثبات، وهي تُغني عن الوسائل الأخرى وتقوم مقامها، كالشَّهادة سواء بسواء.
            ب- القرينة وسيلة من وسائل دفع الدعوى.
            جـ- يُعطى القاضي سلطة تقديرية في استِنباط القرائن، وخاصَّةً عند وزْنِ البيِّنات، وتكوين القناعة بشهادة الشهود.

            سادسًا - المناقشة والتَّرجيح:
            إن المتأمِّل في أدلَّة المانعين لاعتماد القرينة وسيلة من وسائل الحق، يجد أنها يتطرق إليها الاحتمال والضعف سندًا ومتنًا، وخاصة فيما يتعلق بالقرائن؛ لأنها قرائن ضعيفة وليست قاطعة؛ ولهذا لا يُبنى عليها حكم، وبهذا تكون الأدلة خارج محل النزاع، ولا يجوز الاستدلال بها في هذه المسألة؛ لأنَّ القرينة المعتمَدة، هي القرينة القاطِعة، والأدلة التي استدلَّ بها المانِعون، تشير إلى القرائن الضعيفة، والتي لا يَجوز أن يُبنى عليها الحكم، وهذا أمر متَّفق عليه، ولهذا تكون الأدلة التي استدلَّ بها المانِعون خارج محلِّ النزاع، ولا يَجوز الاستدلال بها.
            كما أن القرينة تعدُّ بيِّنة؛ لأنَّها تُظهِرُ الحقَّ وتبيِّنه؛ ولهذا تَندرِجُ تحت مفهوم قولِه – عليه الصلاة والسلام - البيِّنة على مَن ادَّعى؛ ولهذا يكون استدلال المانعين بهذا الحديث، استدلالاً في غير محلِّه؛ ويكونُ حجَّة القائلين باعتِماد القَرينة وسيلة من وسائل الإثبات.
            وبناءً على ذلك، وتَحقيقًا لمقاصد الشارع في تحقيق العدالة وحفظ الحقوق، فإنِّي أميلُ إلى اعتِماد القرائن وسيلة من وسائل إثبات الحقوق الشخصية والمدنية والجزائية، إذا كانت قاطعةً ومشروعةً، ولا يتطرَّق إليها الاحتِمال للأَسباب التاليَة:
            1- قوَّة أدلَّة القائلين بها.
            2- ضَعفُ أدلَّة المانِعين.
            3- تَحقيق مقاصد الشارع بإقامة العدْل وحفظ الحقوق.
            4- ولأنَّها بيِّنة تندرِجُ تحت مَفهوم قوله عليه السلام: ((البيِّنة على من ادعى)).
            5- ولأنَّ القوانين المستمَدَّة من الفقه الإسلامي اعتمدتْها وسيلة مِن وسائل الإثبات.
            المراجع:
            [1] الرازي: مختار الصحاح (ص: 533) ، والجرجاني: التعريفات (ص: 223).
            [2] ابن فرحون: تبصره الحكام (2 / 93) ، والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 207، 208).
            [3] د. سعيد بن درويش: طرائق الحكم (ص: 347) وما بعدها.
            [4] د. محمد الزحيلي: أصول المحاكمات الشرعية والمدنية (ص: 205).
            [5] د. البوطي: محاضرات في الفقه المقارن (ص: 195).
            [6] د. محمد رأفت عثمان ورفاقه: الفقه المقارن (ص: 253) ، ود. عبد الكريم زيدان: نظام القضاء في الشريعة الإسلامية (ص: 219) وما بعدها.
            [7] د. محمد الزحيلي: أصول المحاكمات الشرعية والمدنية (ص: 210).
            [8] الشيخ محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة (ص: 540).
            [9] الزيلعي: تبيين الحقائق (3 / 299)، وابن عابدين: رد المحتار (7 / 438)، وابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (7 / 205) وما بعدها، والقرافي: الفروق (4 / 167)، وابن فرحون: تبصرة الحكام (2 / 93)، والعز بن عبدالسلام: قواعد الأحكام (2 / 50)، وابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 4).
            [10] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (9 (ص: 150) ، وابن العربي: أحكام القرآن (3 / 1077).
            [11] الجصاص: أحكام القرآن (3 / 171) ، وابن العربي: أحكام القرآن (3 / 1084) وما بعدها.
            [12] ابن فرحون: تبصرة الحكام (2 / 93).
            [13] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (9 / 191).
            [14] أبو داود: سنن أبي داود (4 / 47) ، والتَّرقُوَة: العُظيم بين ثغرة النحر والعاتق؛ انظر: الفيروز آبادي: القاموس المحيط (3 / 315).
            [15] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (7 / 226).
            [16] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 11).
            [17] النووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 206) ، 207).
            [18] د. سعيد الزهراني: طرائق الحكم (ص: 343).
            [19] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 4) وما بعدها.
            [20] ابن نجيم: الأشباه والنظائر (ص: 248) ، والقرافي: الفروق (4 / 65).
            [21] الترمذي: سنن الترمذي (5 / 20) ، والبيهقي: السنن الكبرى (10 / 252).
            [22] عبدالكريم زيدان: القضاء في الإسلام (ص: 222).
            [23] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (15 / 488).
            [24] سنن أبي داود (4/ 162).
            [25] د. محمد رأفت عثمان: الفقه المقارن (ص: 297).
            [26] البيهقي: السنن الكبرى (10 / 238).






            تعليق

            • المهندس زهدي جمال الدين
              12- عضو معطاء

              حارس من حراس العقيدة
              عضو شرف المنتدى
              • 3 ديس, 2006
              • 2169
              • مسلم

              #36
              الفرع الرابع

              الطعن في الحكم القضائي

              مصطلحات قانونية
              معنى الطعن في الحكم القضائي: إبطال العمل بالحكم القضائي الأول، والعمل بالحكم الذي يراه حقا سواء كان ذلك حكمه أم حكم قاضٍ سبقه، وله عدة طرق منها الطرق العادية وهي المعارضة في الحكم أو الاستئناف أو بالنقض أو التماس إعادة النظر.
              والاستشكال: هو الاعتراض على تنفيذ حكم قضائي مشمول بالصيغة التنفيذية إما بعريضة أو أمام المحضر وقت التنفيذ وقد يكون من المنفذ ضده الحكم أو ومن الغير.
              والاستئناف: هو إعادة نظر الدعوى الجزئية أو الابتدائية أمام دائرة استئنافية. واستئناف الأحكام القضائية بعد الحكم للحكم مرة أخرى قبل تنفيذها سنّة ماضية لتصحيح الحكم متى ما كان خطأ، ولا تبرأ الذمّة إلا به، سواء كان من قاضِ آخر أو رجوعاً من نفس القاضي الذي أصدر الحكم أولاً، كما أن وظيفة الاستئناف لا تقف عند مراقبة صحة الحكم المستأنف، إنما يؤدى إلى إعادة الفصل في القضية من جديد من حيث الوقائع والقواعد الشرعية والنظامية أمام محكمة الدرجة الثانية " الاستئناف ".
              والنقض: هو الطعن على حكم محاكم الاستئناف إذا شابها مخالفة في القانون أو خطأ في تطبيقه أو تأويله أو إذا وقع بطلان في الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر ذلك الحكم. ولا يترتب على الطعن بالنقض وقف تنفيذ الحكم ولكن يجوز لمحكمة النقض أن تأمر بوقف تنفيذه مؤقتاً إذا طلب ذلك في صحيفة الطعن وكان يخشى من التنفيذ وقوع ضرر جسيم يتعذر تداركه.
              ومن أدلّة مشروعيّة النقض ما يلي:
              1- في سورة يوسف نرى قضية الاستئناف واضحة بجلاء وذلك في قوله تعالى:
              ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ * قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ سورة يوسف: 50 – 52.
              ففي الآية دليل على جواز الدفاع في أي وقت سواء اثناء النظر في القضية او بعدها فقد دافع يوسف عليه السلام عن نفسه عند القاء التهمه عليه قال تعالى ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي .......(26) .
              وعندما ظن نجاة ساقي الملك قال تعالى ﴿ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ..(42).
              ودافع عن نفسه ايضا حينما أرسل له الملك قال تعالى ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ .........(50) .
              فنقول هذا حق لا مرية فيه، ففي الشريعة الإسلامية ادله كثيره على مشروعية الدفاع عن النفس او العرض او المال او النسل او الدين.
              كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مات دون عرضه فهو شهيد ومن مات دون ماله فهو شهيد..... الى اخر الحديث.
              وعليه فإن ما يفعله المستأنف في المحاكم المصرية اليوم هو نفسه ما فعله يوسف عليه السلام.
              2 ـ نقضُ سليمان لحكم داود عليهما السلام قبل تنفيذه وحكمُ سليمان بحكم آخر، وقد أقرّ الله سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم فقــــال: ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ الأنبياء: 78-79.
              قال ابن حجر: (وأخرج عبد الرزاق بسند صحيح عن مسروق قال: كان حرثهم عنباً نفشت فيه الغنم، أي رعت ليلاً، فقضى داود بالغنم لهم، فمرّوا على سليمان فأخبروه الخبر، فقال: لا، ولكن أقضي بينهم أن يأخذوا الغنم فيكون لهم لبنها وصوفها ومنفعتها، ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردّوا عليهم غنمهم) (فتح الباري 13/148).
              وقال ابن العربي عند تفسيره للآية الوارد فيها نقض سليمان لحكم داود عليهما السلام في ( أحكام القرآن 3/266 ) : ( في هذه الآية دليل على رجوع القاضي عمّا حكم به إذا تبيّن أنّ الحقَّ في غيره ).
              3 ـ وقد يؤيد قاضي الاستئناف حكم الدرجة الأولى مثل ما حدث في قصّة الزُبْيَة – وهي الحفرة التي تُغطّى ليُصاد بها الأسد - ، فعن علي رضي الله عنه قال : (لَمَّا بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْيَمَنِ حَفَرَ قَوْمٌ زُبْيَةً لِلْأَسَدِ ، فَوَقَعَ فِيهَا الْأَسَدُ ، وَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الزُّبْيَةِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ وَتَعَلَّقَ بِآخَرَ ، وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ ، حَتَّى صَارُوا أَرْبَعَةً ، فَجَرَحَهُمُ الْأَسَدُ فِيهَا فَهَلَكُوا ، وَحَمَلَ الْقَوْمُ السِّلَاحَ وَكَادَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ ، قَالَ فَأَتَيْتُهُمْ فَقُلْتُ : أَتَقْتُلُونَ مِائَتَيْ رَجُلٍ مِنْ أَجْلِ أَرْبَعَةِ إِنَاسٍ! تَعَالَوْا أَقْضِ بَيْنَكُمْ بِقَضَاءٍ، فَإِنْ رَضِيتُمُوهُ فَهُوَ قَضَاءٌ بَيْنَكُمْ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ رَفَعْتُمْ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْقَضَاءِ.
              فَجَعَلَ لِلْأَوَّلِ رُبُعَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّانِي ثُلُثَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلثَّالِثِ نِصْفَ الدِّيَةِ، وَجَعَلَ لِلرَّابِعِ الدِّيَةَ، وَجَعَلَ الدِّيَاتِ عَلَى مَنْ حَفَرَ الزُّبْيَةَ عَلَى قَبَائِلِ الْأَرْبَعَةِ، فَسَخِطَ بَعْضُهُمْ وَرَضِيَ بَعْضُهُمْ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، فَقَالَ: أَنَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ، فَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّ عَلِيًّا قَدْ قَضَى بَيْنَنَا.
              فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَضَى عَلِيٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْقَضَاءُ كَمَا قَضَى عَلِيٌّ.
              فِي رِوَايَةٍ: فَأَمْضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَاءَ عَلِيٍّ). روا أحمد وغيره، وصحّحه أحمد شاكر برقم 573، وساق الحديث محتجاً به ابن القيّم كما في (زاد المعاد 5/13، وإعلام الموقعين 2/58)، والمجد كما في المنتقى (2/699).
              4- واستندوا أيضا على الدليل النقلي الآتي: (إن عمر أتى بامرأة زنت، فأقرت، فأمر برجمها، فقال علي: لعل لها عذرا؟ ثم قال لها: ما حملك على الزنا؟ قالت كان لي خليط ـ أي راع ترافقه إذا رعت إبلها، وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن، فظمئت فاستسقيته، فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج، أعطيته الذي أراد فسقاني، فقال علي: الله أكبر ﴿ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم. الإمام القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والأمام، ط2، مكتب المطبوعات الإسلامية، حلب، 1995م، هامش ص55..
              يستدل من هذه الرواية بأن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نقض الحكم القضائي الذي أصدره عمر، وهذا دليل عملي على جواز الطعن بالحكم القضائي.


              تعليق

              • المهندس زهدي جمال الدين
                12- عضو معطاء

                حارس من حراس العقيدة
                عضو شرف المنتدى
                • 3 ديس, 2006
                • 2169
                • مسلم

                #37
                المطلب الخامس

                الحيل الفقهية

                تكييف الواقعة أو ما يعرف بالحيل الفقهية ومشروعيتها
                بيان الحيل، وأنواعها، وشروطها..
                تكييف الواقعة (أو ما يعرف بالحيل الفقهية ومشروعيتها)
                ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ * قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ *قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ * قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ * قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * يوسف: 69-76.
                تفسير المفردات
                آوى إليه: أي ضم إليه، والابتئاس: اجتلاب البؤس والشقاء، والسقاية (بالكسر) وعاء يسقى به، وبه كان يكال للناس الطعام ويقدر بكيلة مصرية 1 \ 12 من الإردب المصري، وهو الذي عبر عنه بصواع الملك، وأذن مؤذن: أي نادى مناد، من التأذين وهو تكرار الأذان والإعلام بالشيء الذي تدركه الأذن، والعير: الإبل التي عليها الأحمال والمراد أصحابها، زعيم: كفيل أجعله جزاء لمن يجئ به، الكيد: التدبير الذي يخفى ظاهره على المتعاملين به حتى يؤدى إلى باطنه المراد منه، ودين الملك: شرعه الذي يدين الله تعالى به.
                الإيضاح
                ﴿ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ أي ولما دخلوا عليه في مجلسه الخاصّ بعد دخولهم باحة القصر من حيث أمرهم أبوهم، ضم إليه أخاه الشقيق بنيامين، وقد حصل ما كان يتوقع يعقوب أو فوق ما كان يتوقع من الحدب عليه والعناية التي خصه بها.
                ﴿ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ يوسف الذي فقد تموه صغيرا.
                ﴿ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي فلا يلحقنك بعد الآن بؤس أي مكروه ولا شدة بسبب ما كانوا يعملون من الجفاء وسوء المعاملة بحسدهم لي ولك.
                روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال لهم أحسنتم وأصبتم، وستجدون أجر ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله، وقال أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا (حجرة) وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشمّ رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال من يجد أخا مثلك؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: إني أنا أخوك إلخ.
                ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي فلما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه.
                وفي قوله: جعل السقاية، إيماء إلى أنه وضعها بيده ولم يكل ذلك إلى أحد من فتيانه كتجهيزهم الأول والثاني لئلا يطلعوا على مكيدته.
                ﴿ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي وقد افتقد فتيانه السقاية، لأنها الصواع الذي يكيلون به للممتارين فلم يجدوها، فأذن مؤذنهم بذلك أي كرر النداء به كدأب الذين ينشدون المفقود في كل زمان ومكان قائلا:
                ﴿ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ أي يا أصحاب العير قد ثبت عندنا أنكم سارقون، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم.
                ﴿ قالُوا: وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ أي قال إخوة يوسف للمؤذن ومن معه: أي شيء تفقدون، وما الذي ضل عنكم فلم تجدوه؟.
                ﴿ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ أي نفقد الصواع الذي عليه شارة الملك.
                ﴿ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ أي ولمن أتى به حمل جمل من القمح، وفى هذا دليل على أن عيرهم كانت الإبل لا الحمير.
                ﴿ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ أي قال المؤذن وأنا كفيل بحمل البعير، أجعله حلوانا لمن يجىء به، سواء أكان مفقودا أم جاء به غير سارقه.
                ﴿ قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ أي قالوا لقد علمتم بما خبرتموه من أمرنا وسيرتنا من حين مجيئنا في امتيارنا الأول وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا التي ردت إلينا مع غيرها، أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بسرقة ولا غيرها مما فيه تعدّ على حقوق الناس.
                ﴿ قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ أي قال فتيان يوسف لهم فما جزاء سارقه إن كنتم كاذبين في جحودكم للسرق وادعائكم البراءة والنزاهة؟.
                ﴿ قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاؤه أخذ من وجد في رحله وظهر أنه هو السارق له وجعله عبدا لصاحبه، وقوله:
                ﴿ فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق وتأكيد له بإعادته، كما تقول حق الضيف أن يكرم، فهو حقه، والقصد من الأول إفادة الحكم، ومن الثاني إفادة أن ذلك هو الحق الواجب في مثل هذا، وقد كان الحكم في شرع يعقوب أن يسترقّ السارق سنة.
                ﴿ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء الأوفى نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم في شريعتنا، فنحن أشد الناس عقابا للسراق.
                وهذا تأكيد منهم بعد تأكيد لثقتهم ببراءة أنفسهم.
                ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ أي فبدأ يوسف بتفتيش أوعيتهم التي تشتمل عليها رحالهم ابتعادا عن الشبهة وظن التهمة بطريق الحيلة.
                ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ أي ثم إنه بعد أن فرغ من تفتيش أوعيتهم فتش وعاء أخيه فأخرج السقاية منه.
                ﴿ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل هذا الكيد والتدبير الخفي كدنا ليوسف، وألهمناه إياه، وأوحينا إليه أن يفعله.
                ذلك أن الحكمة الإلهية اقتضت تربية إخوة يوسف وعقابهم بما فرطوا في يوسف واستحقاقهم إتمام النعمة عليهم يتوقف على أخذه بطريق لا جبر فيه ولا تقتضيه شريعة الملك، وبه يذوقون ألم فراق بنيامين ومرارته، فيما لا لوم فيه على أحد غير أنفسهم، ولن يكون هذا الحكم منهم إلا بوقوع شبهة السرقة على بنيامين من حيث لا يؤذيه ذلك ولا يؤلمه، وقد أعلمه أخوه يوسف به وبغايته. وفى هذا إيماء إلى جواز التوصل إلى الأغراض الصحيحة بما ظاهره الحيلة والمكيدة إذا لم يخالف شرعا ثابتا.
                ثم علل ما صنعه الله من الكيد ليوسف بقوله:
                ﴿ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ أي وما كان له ولا مما تبيحه أمانته لملك مصر أن يخالف شرعه الذي فوض له الحكم به وهو لا يبيح استرقاق السارق، فما كان بالميسور له أخذ أخيه من إخوته ومنعه من الرحيل معهم إلا بحكمهم على أنفسهم بشريعة يعقوب التي تبيح ذلك.
                ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية الشريفة منكرة بحسب الظاهر، لأنها تهمة باطلة، وكان من شأن يوسف أن يتباعد عنها ويتحاماها إلا بوحي من الله - بين أنه فعل ذلك بإذن الله ومشيئته فقال:
                ﴿ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، لا أنه هو الذي اخترع هذه المكيدة.
                وليس من التقوى التحايل على إسقاط الواجبات، أو فعل المحرمات، بحجة إخراج الناس من الضيق، بل قد يكون التحايل على الأحكام الشرعية سببًا في الوقوع في المضايق.
                إنَّ في هذه الآية من الأمور القانونية والفقهيَّة، أمور منها:
                1- [احتيال] سيّدنا [يوسف عليه السلام بجعل السقاية في رحل أخيه، تمهيداً لاتّهامه بالسرقة، ومن ثم تنفيذ بقية ما رسمه في ذهنه !!..
                2- [احتياله] بانتزاع رضاهم بتحكيم شريعة أبيهم [يعقوب] !..
                3- [احتياله] بإبعاد الظنِّ منهم في كون الأمر مدبَّرٌ، فيبدأ تفتيشه برحالهم.
                فهل: [الاحتيال] جائز للأنبياء فقط؟ أم هو جائز لنا؟.
                وهل: جوازُهُ أصلاً وابتداءً؟، أم عن طريق الرجوع إلى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنا ؟.. هذا هو موضوع المبحث الآتي
                ونستطيع هنا أن نتكلم - بفضلِ الله - عن جملةٍ من مسائل القانون والشرع، في هذه الآيات، وكالآتي: شــرائعُ مَنْ قَبــْلَنا
                مما لا شك فيه أنَّ الاستدلال بالآية لِمَا أردنا الاستدلال له، متوَقِّفٌ على الأخذ:
                (بشرائع منْ قَبْلنا، إذا ذكرت في قرآننا، من غير تصريح باعتداد أو إلغاء).
                وهذا ما سنعود إليه بعد حين.
                ويقول القرآن الكريم:
                ﴿ ولمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنّي أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون.
                فهذا مجرد تطمين لأخيه حتى لا تذهب به الظنون كلّ مذهب بالنسبة لما هو آتٍ من الأحداث، ليتحول بعدئذ القرآن العظيم في روايته لأحداث قصة [يوسف] عليه وعلى نبينا السلام، إلى منعطف خطير، وهو الاحتيال، للوصول الى المطلوب.
                وبناء عليه لابد للحيل الجائزة أو المخارج الشرعية من ضوابط تضبطها حتى تؤدي دورها، وحتى لا يقع المسلم في الحيل المحرمة، وهذه الضوابط هي:

                1- أن تكون الحيلة متوافقة مع مقصد الشارع، وفيها تحقيق مصلحة شهد الشرع باعتبارها، وألا تهدم أصلًا شرعيًا، قال الشاطبي: “فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلًا شرعيًا، ولا تناقض مصلحة شهد الشرع باعتبارها؛ فغير داخلة في النهي". نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي 3/ 124.
                2- أن يكون النظر في تقرير مصالح الحيل وموافقتها لمقصود الشارع للعلماء الشرعيين؛ "ليكون الناظر متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها"، ولا يفتح المجال لغيرهم؛ لأن من كان جاهلًا بالأصول يكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيقع في مخالفتها بقصد أو دون قصد. نفائس الأصول في شرح المحصول، للقرافي 9/ 4092.
                3- ألا تتضمن إسقاط حق، أو تحريم حلال، أو تحليل حرام، قال ابن القيم:"وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب، وهي حيلة جائزة؛ فإنها لا تتضمن إسقاط حق، ولا تحريم حلال، ولا تحليل حرام إعلام الموقعين، لابن القيم 4/ 17.. وقد ذكر ابن القيم من هذه الحيل الجائزة مئة وستة عشر مثالًا. المرجع السابق 3/ 261-4/ 37.

                تعليق

                • المهندس زهدي جمال الدين
                  12- عضو معطاء

                  حارس من حراس العقيدة
                  عضو شرف المنتدى
                  • 3 ديس, 2006
                  • 2169
                  • مسلم

                  #38
                  الفرع الأول

                  الحيل التي اتَّبعها [يوسف] مع اخوته.!.

                  إن ّ[احتيال] سيّدنا يوسف لأجل أخذ أخيه عنده، دون أمرٍ سلطوي، أو إشعارٍ لهم بحقيقةِ شخصه.
                  و [احتياله] لإبعاد الشكِّ عن تدبيراته من أجل أخذ أخيه.
                  و [احتياله] لهم حتى يقبلوا بشريعة أبيهم لكي يُبقي أخاه عنده.
                  كلُّ ما تقدَّم، أمرٌ يستحق التوقف والتأمل الفقهي، لأجل الوصول الى حُكمٍ في مسألةٍ هي من أخطر المسائل حسَّاسيَّةً، ألا وهي مسألة ما أطلق عليه، أو قل ما اصطُلِح عليه:( بالحيل الشرعيَّة).
                  إنّ الاصطلاح لا مناقشة فيه..
                  إذ: [لا مشَّاحة في الاصطلاح]، فالعبرة بحقيقة الأشياء لا بأسمائها، فاختلاف الأسماء لا يُغيِّرُ مِن حقيقة المسميَّات، وإن كان الأفضل تجنُّب الألفاظ المثيرة للإبهام والإيهام.
                  إنَّ لفظ [الاستحسان] أثار ما أثار بسبب الفهم المتعجل لمعناه، ولو رجعنا إلى مقصود أصحابه منه لَما قيل الذي قيل فيه وفي المتَّخذين له دليلا، وما زال ذلك غُصَّةً في حلوق الطرفين: القائلين به، والمنكرين له.
                  فلو اختار أصحابُهُ غيْرَ هذا الاسم لَمَا توَلَّد الالتباس، ولو تأنى مُنْكِرُه لما لِيِمَ على حُكمهِ، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ فتبينوا ... ﴾ .
                  بعد هذا ينبغي أن نُشَخِّص (الحيلة) التي استعملها سيِّدُنــــا [يُوسف] عليه السلام، حتى نستطيع الحكم عليها بمقبوليَّةٍ أو رفضٍ، لكي يكون الكلام بعدئذٍ في مدى إمكان الأخذ بها في شريعتنا، رغم أنَّها وردت في قرآننا العظيم، على أنّها مِن تطبيقات الشرائع السابقة لشريعة نبيِّنا عليه أفضل الصلاة والتسليم.
                  لقد احتال لهم أول مرَّة:
                  ﴿ فلمّا جهّزهم بِجَهازِهِم جَعَلَ السقاية في رحْل أخيه ثمَّ أذنّ مؤذّن أيتها العيرُ إنّكم لسارقون فقد فعل هذا تمهيداً لاتِّهامهم بالسرقة.
                  ثم احتال لهم ثانيةً حين سألهم:
                  ﴿ .. قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ يوسف:74.
                  فلما أراد أن يستبقي عنده أخاه، ولم يكن له من سبيلٍ في قانــون [الملك]، سألهم عن شريعة أبيهم [يعقوب] في مثل هذه الحالات، فأخبروه باسترقاق المسروق منه للسارق، إن ثبتت السرقة.
                  فاحتال لهم ثالثة:
                  ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ يوسف:76.
                  فإبعاداً للظن والتُهمة، بدأ بالتفتيش في غير رحل أخيه، أو وِعاء السارق المجازي، وهو أخاه. وهذا نوع [احتيال].
                  إنّ هذا الاحتيال امتدحه الله سبحانه وتعالى بكونه هو فعل الذين رفع الله سبحانه وتعالى درجتهم بالعلم:
                  ﴿ .. نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ يوسف:76..
                  فكان (الكيد) - أي التدبير - من الله سبحانه وتعالى، هو الذي ألهم سيِّدنا يوسف ما فعل، ولولا فعل سيِّدنا يوسف لما أخذ أخاه، فهو ممن رفع الله درجته بهذا العلم !!..
                  إنَّ في هذه الآية من الأمور القانونية والفقهيَّة، أمور منها:
                  1- [احتيال] سيّدنا [يوسف عليه السلام بجعل السقاية في رحل أخيه، تمهيداً لاتّهامه بالسرقة، ومن ثم تنفيذ بقية ما رسمه في ذهنه !!..
                  2- [احتياله] بانتزاع رضاهم بتحكيم شريعة أبيهم [يعقوب] !..
                  3- [احتياله] بإبعاد الظنِّ منهم في كون الأمر مدبَّرٌ، فيبدأ تفتيشه برحالهم.
                  فهل: [الاحتيال] جائز للأنبياء فقط؟ أم هو جائز لنا ؟.
                  وهل: جوازُهُ أصلاً وابتداءً؟، أم عن طريق الرجوع إلى شَرْعِ مَنْ قَبْلَنا ؟.. هذا هو موضوع المبحث الآتي.

                  الفرع الثاني

                  معنى الاحتيال.. وشروط الأخذ بها..

                  معنى الاحتيال
                  نقول: الاحتيال هنا بمعنى التدبير، وهو المسمى [بالمُخْرِج] الشرعي. وجمعه: مخارج، ومفرده على صيغة اسم الفاعل.
                  ولقد سميَّت المخارج كذلك، لأنَّها: تُخرج من الضيق الذي فيه المكلَّف، إلى السعة التي يبتغيها.
                  أمَّا الحيلة: فجمعها [الحِيَل]. وهي: الحذق في التدبير، وتقليب الفكر للوصول إلى المقصود.
                  وفي الشرع، لم يتعرض العلماء لوضع تعريفٍ اصطلاحي لها، ولذلك فقد عرفناها بأنَّها هي:
                  الطريق لوصول المكلف إلى مُبتغاه، من غير وقوعٍ في الحرام أو شبهته، ومن غير إبطالٍ لواجبٍ، أو خروجٍ على المقاصد العامَّة للشريعة، أو الأصول العامَّةِ المعتبرة.
                  يقول شمس الأئمة السرخْسي في المبسوط:
                  [ .. فإنّ الحيل في الأحكام المُخرجةُ عن الآثام جائز عند جمهور العلماء رحمهم الله، وإنما كَرِه ذلك بعض المُتقشِّفة لجهلهم، وقلَّة تأملهم في الكتاب والسنة ] .
                  نقلاً من: [ملحق كتاب الحيل لمحمد بن الحسن، طبعة ليبسك 1930، وأعادته بالأوفست مكتبة المثنى ببغداد ] .
                  وجوازه ممّا ورد ذكره في هذه الآية، وفي مواضِعَ قبْلَها، ممّا يدل على جوازه في شرائع مَنْ قبلنا، وقد أوضحناها قبلاً بالتفصيل.
                  ويؤيده ما ورد في قصة سيدنا [أيوب] عليه وعلى نبيّنا السلام، حيث حلف في أشد حالات مرضه وشدته:
                  إن أحياه الله لَيَضْرِبَنَّ امرأته مائة جلدة!،وذلك لأمر ما عدّة كبيراً، ويستدعي منه الذي نذره، مِنْ وجهة نظره رغم أنَّها الوحيدة التي بقيت معه في محنته، فلمّا أنجاه الله، وقع في محنةٍ بين أمرين:
                  الأول: البِّر بيمينه، وهو نبيٌّ لا يُخالف، خصوصا بعد أن منَّ الله عليه بالشفاء، وزيادة المال والولد.
                  يقول تعالى: ﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ الأنبياء:83-84.
                  الثاني: الوفاء لزوجه التي صاحبته في محنته، بعد تخلى الجميع.. فأخرَجَهُ الله من ذلك [بحيلة] علمَّها إياهُ، أو قل هو: [مُخْرِجٌ شرعيٌّ].
                  يقول تعالى :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ ۗ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ ص:41-44.
                  أي: خُذ عُرجوناً قديماً ذا مائة شِمراخ، فاضرب زوجتك بخفةٍ، ضربةً واحدةً تعوّض عن المائة، فلا تُعدّ حينئذٍ حانثاً، بل بارّاً بقسمك، ولا تعُد متنكِّراً لمن فاض جميلُها عليك في وقت محنتِك. !!..
                  والحيل الشرعيَّة للأخذ بها شروطاً، وهي:
                  1- أن تُخرج من الضيق الى السعة.
                  2- ألاّ تُؤدى الى ضياع حقّ من حقوق الله، أو العباد.
                  3- ألا تُعارض أمراً قامت الحُجة على اعتباره في شريعتنا، أو قاعدةٍ من القواعد المعروفة في الشريعة، أو أصلاً من الأصول.
                  فمن ضياع الحقوق: أنْ يعلِّم بعض الماجنين من المفتين، من وجبت عليهم الزكاة، وبقي بينهم وبين شرط [حولان الحـول] أيام، يعلّمون أولئك بالتصدّق بجزء يسير يَثْلِم النصاب، مقابل سقوط الكثير.
                  فمن ملك عشرين مثقالاً من الذهب، فعليه نصف مثقال، فلو تصدّق [بحبةٍ]، فإنّ النصاب سوف يقلُّ عن حدِّه الأدنىِّ، وبالتالي فلا زكاة.. والفرق بين الحبة ونصف المثقال كثير!!..
                  وما قامت الحجة على مراعاته في شريعتنا: حرمة الربا، فقيام بعض الماجنين بتعليم المُقرضِين أن يبيع المقترض سلعةً نقداً، ثم يشتريها بثمن أعلى مُنَسَّئاً، فتعود له سلعتُهُ ويكونُ مديناً بالفرق بين الصفقتين، وهو في حقيقته ربا الاقتراض، المعروف بربا النسيئة.
                  فكل هذا وذاك هو من: [العلم الذي يُعلَم ولا يُعَلَّم]
                  وهو احتيال مرفوض، ويكون اُلمفتي من هذا القبيل، مستحقـاً للحَجْر.. أي: [المنع]، باعتباره واحداً من ثلاثة جوّز الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، الحجر عليهم، استثناءً من مبدئه في عدم الحجر بعد سن الخامسة والعشرين، وهم:
                  أ. [المفتي الماجن] الذي: يعلِّم الناس الحيل.
                  ب. [والمتطبب الجاهل] الذي: يؤذي الناس بجهله.
                  ج. [والمُكاري المفلس] الذي: لا يستطـيع الإيفاء بالتزامـاته، ويكتفي بأخذ المال مع عدم القدرة على الوفاء.
                  فالأخذ [بالحيل] أو المخارج، بشروطها، كان استدلالاً بفعل سيِّدينا: [يوسف، وأيوب] عليهما السلام.
                  وكلّ هذا من شرع من قبلنا الذي سكت عنه قرآننا، فأخذنا به لعدم مخالفته قاعدةً شرعيةً، أو نصاً من النصوص، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة.
                  ولهذا فقد استدلّ الأحناف لجواز [الحيل]، بما يأتي:
                  أ. من القرآن الكريم:
                  1- ما ورد عن سيِّدنا أيوب، وقد تقدم.
                  2-ما ورد عن سيِّدنا يوسف، مما نحن بصدده.
                  3-ما ورد على لسان سيِّدنا موسى، حين قطع وعداً للرجل الصالح، حيثُ قال:
                  ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا الكهف:69.
                  فقد احتال سيِّدنا موسى لنفسه، خشية عدم قدرته على الصبر، فأتى بالاستثناء، وهو قول:
                  ﴿ إِن شَاءَ اللَّهُ …...
                  ولم يُعاتَبْ على ذلك، لأنه استعمل مُخْرِجاً صحيحا.. فلا يُعدُّ حانثا إن لم يَسْتطع الصبر !!..
                  ومن السنة النبوية الشريفة:
                  1- وفي مصنف عبد الرزاق عن غزوة الخندق:
                  قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ، وَكَانَ يَأْمَنُهُ الْفَرِيقَانِ، كَانَ مُوادِعًا لَهُمَا فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ عِنْدَ عُيَيْنَةَ وَأَبِي سُفْيَانَ إِذْ جَاءَهُمْ رَسُولُ بَنِي قُرَيْظَةَ: أَنِ اثْبُتُوا، فَإِنَّا سَنُخَالِفُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيْضَتِهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ)
                  وَكَانَ نُعَيْمٌ رَجُلًا لَا يَكْتُمُ الْحَدِيثَ، فَقَامَ بِكَلِمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ..... فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَلَيَّ الرَّجُلَ، رُدُّوهُ) فَرَدُّوهُ فَقَالَ: (انْظُرِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَكَ، فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ) فَإِنَّمَا أَغْرَاهُ فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى عُيَيْنَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ: هَلْ سَمِعْتُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ يَقُولُ قَوْلًا إِلَّا كَانَ حَقًّا؟ قَالَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَمَّا ذَكَرْتُ لَهُ شَأْنَ قُرَيْظَةَ قَالَ: (فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ) قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: سَنَعْلَمُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ مَكْرًا..
                  فَأَرْسَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّكُمْ قَدْ أَمَرْتُمُونَا أَنْ نَثْبُتَ، وَأَنَّكُمْ سَتُخَالِفُونَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَيْضَتِهِمْ، فَأَعْطُونَا بِذَلِكَ رَهِينَةً فَقَالُوا: إِنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ لَيْلَةُ السَّبْتِ، وَإِنَّا لَا نَقْضِي فِي السَّبْتِ شَيْئًا.
                  فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ إِنَّكُمْ فِي مَكْرٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَارْتَحِلُوا، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرِّيحَ، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَأطْفَأتْ نِيرَانَهُمْ وَقَطَعَتْ أَرْسَانَ خُيُولِهِمْ، وَانْطَلَقُوا مُنْهَزِمِينَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ قَالَ: فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: ﴿ وكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا الأحزاب.
                  وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة:
                  (1472 أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: قَالُوا كَذَا، وَفَعَلُوا كَذَا، صَنَعُوا كَذَا فَذَهَبَ الْعَيْنُ فَأَخْبَرَهُمْ، فَهُزِمُوا، وَلَمْ يَكْذِبْ، وَلَكِنْ قَالَ: أَفَعَلُوا كَذَا، أَصَنَعُوا كَذَا؟ اسْتِفْهَامٌ. قَالَ : فَذَكَرْتُهُ لِمُغِيرَةَ فَأَعْجَبَهُ قَالُوا : فَالَّذِي رَخَّصَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَدِيعَةِ فِي الْحَرْبِ ، نَحْوُ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ فِيهَا مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ الْقَائِلُ فِيهَا مِمَّا يَحْتَمِلُ مَعَانِيَ ، مُوهِمًا بِذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ مَا فِيهِ الْوَهَنُ عَلَى الْعَدُوِّ ، كَايَدَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ إِذْ أَخْبَرَهُ بِرِسَالَةِ الْيَهُودِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ : فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ ، فَقَالَ قَوْلًا مُحْتَمِلًا ظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْيَهُودَ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا ، مِنْ إِرْسَالِهِمُ الرُّسُلَ فِيهِ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَا أَرْسَلُوا بِهِ ، إِمَّا عَنْ أَمْرِهِ ، أَوْ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ . وَذَلِكَ، لَا شَكَّ، أَنَّهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَفْعَلُوا إِلَّا عَنْ أَحَدِ ذَيْنِكَ الْوَجْهَيْنِ، إِمَّا عَنْ أَمْرِهِ، وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّدْقُ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ ذَلِكَ كَذِبًا لَوْ قَالَ: إِنَّمَا أَرْسَلَتِ الْيَهُودُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ بِمَا أَرْسَلَتْ بِهِ إِلَيْهِ، بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ بِذَلِكَ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَمِنَ الْكَذِبِ بِمَعْزِلٍ قَالُوا: وَمِنَ الْخَدِيعَةِ الَّتِي أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الْحَرْبِ مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَ قَوْمٍ وَرَّى بِغَيْرِهِمْ. قَالُوا: وَكَالَّذِي رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، كَانَ يَفْعَلُ أَهْلُ الدِّينِ وَالْفَضْلِ فِي مَغَازِيهِمْ، قَالُوا: وَمِنْ ذَلِكَ مَا) الحديث بطوله. تهذيب الأثار للطبري.
                  (فَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ).
                  قَالُوا: وَمِنَ الْخَدِيعَةِ الَّتِي أَذِنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الْحَرْبِ مَا رُوِيَ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ غَزْوَ قَوْمٍ وَرَّى بِغَيْرِهِمْ.
                  وكان ذلك منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكتساب حيلة، ومُخرج من الإثم، بتقييد الكلام [بلعلَّ].
                  2- من كتاب المبسوط للسرخسي الصادر عن دار المعرفة
                  [كِتَابُ الْحِيَلِ]
                  قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ ....
                  قال:
                  فَإِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
                  وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ الْكِتَابِ - قَوْله تَعَالَى - ﴿ : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [ص: 44] هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً، فَإِنَّهُ حِينَ قَالَتْ: لَهُ لَوْ ذَبَحْتَ عَنَاقًا بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْرَدَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَقَالَ تَعَالَى -:
                  ﴿ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ [يوسف: 70] إلَى قَوْلِهِ ﴿ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] وَذَلِكَ مِنْهُ حِيلَةٌ، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً لِإِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ لِيُوقِفَ إخْوَتَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ.
                  وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ﴿ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا [الكهف: 69] ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ سَلَامَتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - ﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [الكهف: 23] ﴿ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الكهف: 24] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْحَرْبُ خُدْعَةٌ» ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اكْتِسَابُ حِيلَةٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ الْإِثْمِ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ «وَلَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا وَاحِدَةً، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلِّمْ أَخَاكَ ثُمَّ تَزَوَّجْهَا» .
                  وَهَذَا تَعْلِيمُ الْحِيلَةِ وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ، مَنْ تَأَمَّلَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَجَدَ الْمُعَامَلَاتِ كُلَّهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ امْرَأَةً إذَا سَأَلَ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ تَزَوَّجْهَا، وَإِذَا هَوِيَ جَارِيَةً فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا؟ يُقَالُ لَهُ: اشْتَرِهَا، وَإِذَا كَرِهَ صُحْبَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ: مَا الْحِيلَةُ لِي فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا.
                  وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا إذَا نَدِمَ وَسَأَلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ رَاجِعْهَا؟ وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا إذَا تَابَتْ مِنْ سُوءِ خُلُقِهَا وَطَلَبَا حِيلَةَ قِيلَ لَهُمَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ، وَيَدْخُلَ بِهَا فَمَنْ كَرِهَ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ، فَإِنَّمَا يَكْرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ.
                  فَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَمَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا أَوَّلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة: 2] فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ: بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلسَّائِلِ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى» .
                  ثمَّ أورد أدلةً أخرى، تجدها مبسوطةً في المبسوط، ولو استوفيناها لخرجنا عن المقصود.
                  لقد أكثر الأحناف من استعمال [الحيل]، حتى ظنَّ الظانُّون أنهـم في أحكام الدين متساهلون !!، وليس الأمر كما يُخيل للبعض، بل هو استعمالٌ للمخـارج توسعةً على المكلفين، على النحو الذي بينَّاه، وليس من السهل أن يتضح الأمر لكل أحدٍ، خصوصاً بعد شيوع استعمال لفظة (الحيلة) في غير الممدوح من الأمور.
                  ومن شدة اهتمامهم بهذا الفن من فنون الفقه، وهي متنوعةٌ، فقد أفرده بالتأليف الإمام: محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ الإمام أبي حنيفة، والذي حفظ أصول مذهبه وفروعه، بكثرة مدوَّناته المتداولة، وسمَّى كتابه ذاك (المخارج في الحيل).


                  تعليق

                  • المهندس زهدي جمال الدين
                    12- عضو معطاء

                    حارس من حراس العقيدة
                    عضو شرف المنتدى
                    • 3 ديس, 2006
                    • 2169
                    • مسلم

                    #39
                    المطلب السادس

                    علاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل..

                    عجبًا لقميص يوسف..
                    يأتي من دونه فيكون بداية حزن أبيه!.
                    ثم يأتي من دونه فيكون نهاية حزن أبيه!.
                    يأتي مرَّة ليكون دليلًا على خيانة إخوته!.
                    ويأتي مرَّة دليلًا على خيانة امرأة العزيز!.
                    يشهد مرَّة صراع الفحش والعفاف!.
                    ثم يكون شاهدًا على انتصار العفاف!.
                    عاش هذا القميص أحداث الطفولة، وما فيها من كيد الإخوة وأحداث الشباب، وما فيها من امتحانات!.
                    وعاش أحداث الملك والسلطان وما بها من ابتلاءات!.
                    وهكذا.. لقد لخَّص هذا القميص قصة يوسف كلها من بدايتها وحتى نهايتها!.
                    ثلاثة قمصان، وأربع رؤى، جعلت عنصر التشويق حاضراً وبقوةٍ في سورة يوسف، وأسهمت بفاعلية في تصاعد الأحداث وتطورها، وجعلت قارئ السورة ومتتبع القصة في حالتَي ترقّب وشغف دائمتين لما ستؤول إليه الأحداث، لا تنتهيان إلا بانتهاء القصة؛ ما جعل قصة يوسف الصديق "أحسن القصص" كما أخبر عنها الله -تعالى- في كتابه الكريم.
                    في السورة ثلاثة قمصان، كلهم ليوسف، وكل منها كان في مرحلة عمرية واجتماعية مختلفة، ولعب كل قميص منها دوراً فاعلاً في تطور أحداث القصة من البداية إلى النهاية..
                    القميص الأول: قميص يوسف صغيراً، قميص يوسف وهو في كنف أبيه بالبادية، قميص يوسف وهو ذاهب ليرتع ويلعب، قميص مصبوغ بدم كذب، الدليل الكاذب في اتهام الذئب، قميص التيقن بفقدان يوسف، قميص بعده صبر جميل وحزن شديد.
                    القميص الثاني: قميص يوسف بعدما بلغ أشُدَّه، قميص يوسف في بيت العزيز، قميص مقدود من دبر، ودليل البراءة من اتهام المراودة.
                    القميص الأخير في السورة: قميص يوسف عزيز مصر، قميص يعبق بريح يوسف، قميص ردَّ بصر يعقوب، قميص البشارة بلقاء الغائب.
                    ومن لطائف السورة، أن القميص الأول ليوسف قميص خلعه عنه إخوته، والقميص الثاني قميص قدّته امرأة العزيز، والقميصان مثَّلا مرحلتين قد ظُلم فيهما يوسف، وانتقل فيهما من الرخاء إلى الشدة. فبعد خلع القميص الأول، أُلقِي يوسف في الجب، وبعد قدّ القميص الثاني أُدخل السجن.
                    ولكن، يأتي القميص الثالث وتأتي معه النهاية السعيدة للقصة، فهو قميص يوسف بعدما صار عزيز مصر، قميصُ رَدِّ بصر يعقوب، والتقاء يوسف أبويه وإخوته وسجودهم له وتحقق الرؤيا.
                    وبالنظر إلى توزيع القمصان الثلاثة في القصة، نجد أنهم قد سيطروا على القصة كاملة؛ ففي بداية القصة قميص وعليه دم كذب، وفي نهاية القصة قميص به ريح يوسف، وأما منتصف القصة فقد كان بطلها قميص يوسف المقدود وما لعبه من دور في إثبات تهمة المراودة على امرأة العزيز، وما أدى إليه هذا من تصاعد الأحداث وسجن يوسف بعد ذلك.
                    وكما أدت قمصان يوسف الثلاثة دورها في تصاعد الأحداث وتسلسلها، نجد أن الرؤى الأربع قد لعبت أيضاً دوراً مميزاً ومحورياً في القصة، وأسهمت -بشكل مباشر- في تطور الأحداث وإضافة بعض الغموض الذي رفع معدلات التشويق في القصة، بداية من الرؤيا الأولى وحتى تحققها في نهاية القصة.
                    القضية : هناك قضية هامة يجب الانتباه لها في معرض استعراضنا لأهمية القميص، وهي اقتصار استخدام مفردة (قميص) في هذه السورة فقط وحين الحديث عن يوسف تحديدا، بينما في القرآن استخدمت مفردات أخرى لأنواع المرتديات كالجلباب واللباس والثياب وغيره، هذا إذا اعتبرنا أن القميص صنف من الثياب، إن المتأمل في سيرة يوسف عليه السلام وإخوته يلاحظ أمورا متعددة وعلوما كثيرة وبالأخص أن هناك مجموعة من القمصان المنسوبة ليوسف، أحدها الذي جاء به إخوته وعليه دم كذب، وقمصان أخرى كان يرتديها يوسف حين كان عند أبيه وفي بيت العزيز، ولعل القميص الأهم من بينها هو الذي ألقوه على وجه أبيه فارتد بصيرا.
                    فعلاقة يوسف بقميصه علاقة تستحق التأمل..
                    1- رأيناه يوم أن كاد له إخوته بسوء..
                    ﴿ وَجَاءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ۚ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ يوسف: ١٨.
                    وطبعاً هذا القميص احتفظ به أبوه..
                    2- ومع امرأة العزيز
                    ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف: ٢٥.
                    وطبعاً هذا القميص احتفظت به هيئة المحكمة كدليل إدانة..
                    3-ومع أبيه
                    ﴿ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ يوسف: ٩٣.
                    وطبعاً هذا القميص من الواضح أنه هو القميص الذي كان يرتديه ساعتها فهو بمثابة البشارة..
                    وهنا تبرز أمامنا تساؤلات هامة:
                    ما هو السر الذي لا نعرفه عن قميص يوسف هذا؟ ولماذا لم يستخدم يوسف أنواعا أخرى من الثياب خلاف القمصان؟ ألم تجد امرأة العزيز غير القميص لتقده؟ ولماذا أستخدم الشاهد القميص في شهادته وليس شيئا آخر؟ وكيف يكون قد القميص من قبل دليل كذب وإدانة، بينما قده من دبر دليل صدق وبراءة؟ وكيف يمكن ليوسف أن يقد قميصه من قبل؟ وهل واجهة القميص الأمامية تسمى قبل وواجهته الخلفية تسمى دبرا؟.
                    وهل القميص المستخدم في الشهادة هو نفس القميص الذي أرسله يوسف لأبيه؟ ولماذا لم يرسل يوسف لأبيه أي قطعة أخرى خلاف هذا القميص؟.
                    غريب أمر هذا القميص! ما سره؟ هل معنى مفردة قميص في السورة هو ذات المعنى المتداول بين الناس أم أن السورة تشير إلى شيء آخر لا علاقة له بما نعرف؟ تساؤلات عديدة أحاول من خلالها الإجابة في ضوء ما يسر الله لي من تدبر لآيات القرآن العظيم.
                    دعونا نفتح قضية يوسف مع امرأة العزيز من جديد ونضع تحت المجهر إن صح لي التعبير أول دليل جنائي في القضية وهو قميص يوسف، فلعل هناك أمر ما قد فات علينا، فهو ليس كأي قميص آخر، فقد لعب دورا هاما في قصة يوسف عليه السلام.
                    أهمية قميص يوسف:
                    الفرق بين مفردتي (قميص) و (لباس): في البداية لنعود إلى آيات القرآن العظيم محاولة التعرف على بعض معاني مفردة (لباس)، فقد وردت هذه المفردة في آيات عديدة من القرآن الكريم ولكني سأقتصر على هاتين الآيتين من سورة الأعراف لارتباطهما بالموضوع من ناحية الهدف من اللباس.
                    قال تعالى في الأعراف: آية 26 و27 ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ و ﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا، الهدف واضح من خلال الآيتين، ألا وهو أن اللباس يقصد به ستر العورة أو السوأة وهي تقع في الجزء الأدنى من الجسد، فإذا كان الهدف من اللباس هو تغطية أسفل الجسد، إذن يمكننا الاستنتاج منه أن القميص يستخدم لتغطية الجزء الأعلى منه.
                    الفعلين (قمص) و(لبس) ليسا فعلين حركيين يتطلبان من الفرد الانتقال من مكان لآخر.
                    الفرق بين الفعلين (نزع) و (قد) وارتباطهما بالقميص:
                    لنتدبر الآن الفرق بين الفعلين (نزع) و (قد).
                    (نزع) و (قد) ليسا فعلين حركيين يتطلبان من الفرد الانتقال من مكان لآخر!.
                    ورد الفعل (نزع) في أكثر من آية من سور القرآن العظيم وهو في مجمله يشير إلى إخراج شيء من شيء أو سلب شيء عن شيء، سواء كان المنزوع ماديا أو معنويا! كنزع الملك ونزع ما في الصدور ونزع اليد ونزع الرحمة ونزع العتاة ونزع الشهداء ونزع الناس ونزع اللباس.
                    وصف القرآن الكريم الفعل الذي قام به الشيطان لإزالة اللباس بمفردة (ينزع) والهدف من النزع هو (ليريهما سوآتهما)، بينما وصف الفعل الذي قامت به امرأت العزيز بمفردة (قدت) ولكن الهدف من القد ليس مصرحا به في الآيات وإنما هو من بنات أفكارنا.
                    حتى ولو كان كذلك، فالنتيجة هي ظهور الجزء العلوي من جسد يوسف! ولو كان الهدف هو إظهارها سوأة يوسف لكانت صياغة الفعل أظنها ستكون (ونزعت قميصه) مما لا يتناسب معه استخدام فعل النزع، فهو استخدام في غير موضعه فجاء التعبير الأمثل بمفردة (قدت)، كما أنها لو كانت كما ظنناها لاتجهت مباشرة نحو لباس يوسف لتنزعه وليس قميصه لتقده! مما يشير إلى أن الفعل الذي قامت به امرأة العزيز لا ينطوي على شبهة الوقوع أو نية الشروع في علاقة مشبوهة.
                    وإذا كان كشف الجزء الأعلى من الجسم يعتبر عورة أو شروع في نية مشبوهة، إذن فما أكثر من تبدوا أكتافهم وصدورهم بل وبطونهم أثناء نسكي الطواف أو السعي!!.
                    الفرق بين مفردتي (قبل) و (دبر):
                    (قبل) و (دبر) مفردتين متناظرتين تشيران إلى الناحية الأمامية والناحية الخلفية من القميص.
                    فإذا كانت الآية الكريمة تشير إلى أن امرأة العزيز (قدت قميصه من دبر) بمعنى شقت قميصه من الخلف كما قالوا لنا ، فقد يكون تبريرا مقبولا فقط في حالة واحدة وهي إذا افترضنا ان الفعل (قدت) يعني (شقت) ، ولكن هذه الفرضية لا تصمد طويلا ، فحينما نتدبر الفعل (شق) في القرآن العظيم نجد أنه فعل يشير إلى المباعدة بين شيئين أو جعل الشيء يصبح جزئين كقوله تعالى ﴿ وانشق القمر و ﴿ ثم شققنا الأرض فلو كان الفعلان يحملان نفس المعنى لكانت صياغة الآية أظنها ستختلف فقد تكون على سبيل المثال (وشقت قميصه من دبر) ، ولكن هذا المفهوم لمعنى الفعل (شق) أيضا لا يستقيم في حالة يوسف ، إذ كيف يمكن ليوسف أن يشق قميصه من الأمام إن كان راغبا في استئناف هذه العلاقة المشبوهة ، فقد كان يكفيه مجرد خلع قميصه بكل يسر وسهولة بدل أن يشقه!..
                    إن الفعل (قدت قميصه) فعل ماضي ترتيبه جاء بعد أن همت به وهم بها أي بعد أن فرغت امرأت العزيز من مراودة يوسف دون أن تصل معه إلى نتيجة، فبعد الفراغ من أمر كهذا تعاد الأمور لمكانها والثياب لوضعها، وهو حسب ظني يعني “أغلقت” ولا يعني شقت.
                    وإليك الدليل: (إن كان قميصه قد من قبل) أي إن كان قميصه أغلق من الأمام، فهو دليل كذب يوسف وصدق امرأت العزيز و (إن كان قميصه قد من دبر) أي إن كان قميصه أغلق من الخلف فهو دليل صدق يوسف وكذب امرأت العزيز لأنه لا أحد يمكنه أن يغلق قميصه من الخلف إلا بمساعدة من طرف آخر.
                    مما تقدم، أظن والله أعلم بأن يوسف كان يرتدي القميص فوق الباس أو ما نسميه (سروال)، وهذا هو الزي الفرعوني القديم حيث نرى العبيد يرتدون السروال أو الإزار أما السادة فكانوا يرتدون القمصان فوق الإزار وعادة ما تكون القمصان بأربطة وأن تلك الأربطة موقعها في مقدمة القميص وذلك نجده في أغلب ثياب الرجال، ولكي تغلق قميصك أو ثوبك فلن تحتاج لأحد يقوم به نيابة عنك فالأمر في غاية البساطة والسهولة، بعكس النساء. فمن يتأمل في ثياب النساء قديما وحديثا سواء كن نساء عفيفات أو مائلات مميلات، نجد الغالب في ثيابهن، إلا ما ندر أنها تغلق من الخلف سواء باستخدام السحاب أو (السستة) أو بالأرزة، ومن ضمنهن امرأت العزيز. ولأن ثيابهن كذلك فمن الصعوبة بمكان أن يقمن بإغلاق ثيابهن بأنفسهن فهن دائما بحاجة إلى من يساعدهن على القيام بذلك.
                    أظن الإشكال الذي وقعت فيه امرأت العزيز يكمن في الناحية التي أغلقت بها القميص (أمام أم خلف) (قبل أم دبر) ، فقد فات عليها الأمر بسبب ارتباكها وحساسية الموقف وتسارع أحداثه فالعزيز لم يصل ولكنه على وشك ، فكأني بها تسمع صوته قادما ويوسف في وضع غير طبيعي نتيجة الشد والجذب الذي حصل بينهما ، هنا أدانت امرأت العزيز نفسها بنفسها دون أن تدرك ، فحين لملمتها الموضوع على عجل وإعادتها قميص يوسف عليه ، في هذه الأثناء تدخلت الإرادة الإلهية ﴿ كذلك كدنا ليوسف فقامت عفويا بإغلاق اربطة قميص يوسف من الخلف وهو ما لا يمكن ليوسف فعله إلا بمساعدة طرف آخر، فكان هذا الوضع المقلوب للقميص مثار شك في نظر الشاهد فأسرع نحو الإدلاء بشهادته وهو ما أوقع امرت العزيز في ذاك الحرج.
                    يقول الدكتور فاضل السامرائي:
                    تكررت كلمة قميص في قصة يوسف عليه السلام ثلاث مرات وكان للقميص دور بارز في القصة
                    ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ يوسف:18.
                    ﴿ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ يوسف:25.
                    ﴿ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يوسف:93.
                    يقول:
                    في ذهني ملاحظات أقولها في هذه المسألة :
                    أولاً ثلاث مرات استعمل القميص بيّنة في ثلاثة مواضع: استُعمِل بيّنة مزوّرة في قوله ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ هذه بينة مزورة وليست بيّنة صحيحة ﴿ بدم كذب جاءوا يستدلون على قولهم إن الذئب أكله بالقميص الذي عليه دم كذب. هذه البيّنة مزوّرة، إذن استعمله أولاً بينة مزورة.
                    واستعمله مرة أخرى بيّنة صحيحة للوصول إلى براءة يوسف ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ إذن الأولى كانت مزورة والثانية بيّنة صحيحة للاستدلال على البراءة.
                    والبيّنة الثالثة استعمل بيّنة صحيحة للدلالة على أن يوسف لا يزال حياً ﴿ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا كانت بشرى لوالده وسبب لردّ بصره.
                    بينة صحيحة في قميص يوسف وفي الرائحة تستعمل الآن بيّنة الكلاب البوليسية تستعمل للاستدلال على الرائحة. ليس بالضرورة أنه القميص الأول لكن يعقوب يعرف رائحة ابنه.
                    وردت قميص ثلاث مرات واستعمل في كل مرة بيّنة، ثلاث بينات: بينة مزورة وبينة صحيحة للوصول إلى الحكم وبينة صحيحة للاستدلال على أن يوسف لا يزال حياً.
                    الأمر الآخر أنه استُعمل بداية لحزن يعقوب ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ونهاية حزنه ﴿ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَـذَا.
                    واستعمل ثلاث مرات في ثلاث مراحل من حياة يوسف: وهو صغير ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ.
                    إذن استعمل القميص بيّنة في ثلاث مواضع واستعمل لثلاث مراحل زمنية معاشية في حياة يوسف: المرحلة الأولى مرحلة رميه في الجب ﴿ وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ صيّرته مملوكاً وعاش غريباً مع غير أهله،
                    المرحلة الوسطى سجنه بعد الحادثة مع امرأة العزيز دخل مرحلة أخرى وهو السجن وهذه المرحلة لما بلغ أشدّه وصارت معيشة أخرى غير النمط الأول.
                    والمرحلة الثالثة جمع شمله بأهله وسعادتهم أجمعين. إذن ثلاث مراحل الأولى عندما أصبح مملوكاً وفراقه عن أهله والثانية عندما صار سجيناً والثالثة اجتماعه بأهله.
                    هناك مسألة لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون، إذن رائحة يوسف في القميص وهذا أمر ثابت أن لكل إنسان له رائحة خاصة لكن لا يميزها كل الناس وإنما تميزها الكلاب البوليسية.
                    ثم من الناس من إذا عصبت عينيه تعطيه قميصاً تسأله لمن؟ يقول لفلان ويعرفه من الرائحة.
                    لطيفة قرآنيه:
                    تأملوا في قوله تعالى: ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَٰذَا..
                    يقول تعالى في سورة يوسف 93: ﴿ ٱذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ..أرجو التأمل في الكلمتين ﴿ يَأْتِ بَصِيرًا ......و ﴿ وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ..
                    ألم يدخل يعقوب عليه السلام ضمن قول يوسف لإخوته: ﴿ وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ..
                    فما دلالة الفعل ﴿ يَأْتِ هنا؟ .. من أين يأتي؟!..دققوا..
                    إن المقصود أنه يعود مبصرا في التو واللحظة.
                    ولكن الفعل (يأتي) يظل له إيحاؤه.. فما دلالته؟.
                    إن يعقوب عليه السلام لم يكن غائبا فيأتي! فهو جالس مكانه لا يريم! ولكنه كان كالغائب.. فحين فقد بصره لم يكن (حاضراً) فيما حوله، يراه، ويتفاعل معه كما يتفاعل المبصرون! إنما كان (غائبا) ببصره عنه.. وحين يرتد بصيرا فإنه (يأتي).. يأتي من غيبته التي كان فيها، ويصبح (حاضراً) فيما يحيط به من أشخاص وأشياء..
                    وكلمة واحدة تعطى هذا المعنى العميق كله، وتجعل المشهد يتحرك بحركة (المجيء) بعد (الغياب)!..
                    ألا إنه إعجاز.

                    تعليق

                    • المهندس زهدي جمال الدين
                      12- عضو معطاء

                      حارس من حراس العقيدة
                      عضو شرف المنتدى
                      • 3 ديس, 2006
                      • 2169
                      • مسلم

                      #40
                      المطلب السابع
                      امرأة العزيز بين المعصية والتوبة

                      الفرع الأول المعصية

                      تمثلت معصية امرأة العزيز في مراودتها ليوسف عليه السلام عن نفسه، ولم تتعد أكثر من المراودة بمعنى أن جريمة الزنا لم تتم وان ما حدث هو المراودة، فما معنى المراودة؟.
                      يقول الإمام الشعراوي في خواطره:
                      المراودة: هي مطالبة برفق ولين في خداع يستر ما تريده ممن تريده، أي طالبته بلين ورفق
                      في أسلوب يخدع ليتحرر مما هو فيه إلى ما تطلبه.
                      غلقت: الحدث يبالغ فيه إما لقوة الحدث أو لتكرار الحدث.
                      قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يوسف: ٢٣.
                      قال تعالى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ: أنت لا تستغيث إلا إذا خارت قواك.
                      ويقول الطبري في تفسيره:
                      يقول تعالى ذكره:
                      وراودت امرأة العزيز- وهي التي كان يوسف في بيتها - عن نفسه أن يواقعها.
                      وعن السدي ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ قال أحبته.
                      وقوله:﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ يقول: وغلقت المرأة أبواب البيوت، عليها وعلى يوسف لما أرادت منه وراودته عليه، بابا بعد باب.
                      وقوله: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ يقول جل ثناؤه: قال يوسف إذ دعته المرأة إلي نفسها وقالت له هلم إلى: اعتصم بالله من الذي تدعوني إليه وأستجير به منه.
                      وقوله: ﴿ إِنَّهُ رَبِّي يقول: إن صاحبك وزوجك سيدي.
                      وقوله: ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَايَ يقول: أحسن منزلتي وأكرمني وائتمنني، فلا أخونه، عن ابن إسحاق، قال: ﴿ أَحْسَنَ مَثْوَايَ] أمنني على بيته وأهله.
                      وقوله: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يقول: إنه لا يدرك البقاء، ولا ينجح من ظلم ففعل ما ليس له فعله، وهذا الذي تدعوني إليه من الفجور ظلم وخيانة لسيدي الذي ائتمنني على منزله.
                      ويقول القرطبي:
                      أصل المراودة الإرادة والطلب برفق ولين.
                      ﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ. غلق للكثير ولا يقال غلق الباب. يقال إنها سبعة أبواب غلقتها ثم دعته إلي نفسها، ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ هلم وأقبل وتعال.
                      قوله تعالى: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أي أعوذ بالله وأستجير به مما دعوتني إليه.
                      ﴿ إِنَّهُ رَبِّي يعني زوجها، أي هو سيدي أكرمني فلا أخونه؛ قاله مجاهد وابن إسحاق والسدي.
                      وقال ابن كثير:
                      أخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه فراودته عن نفسه أي حاولته على نفسه ودعته إليها وذلك أنها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه فحملها ذلك على أن تجملت له وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها: ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ فامتنع من ذلك أشد الامتناع وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير أي أن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي وأحسن إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
                      نخلص مما سبق إلى أن المراودة: هي عرض الشيء بأسلوب مزخرف ومزين، فيه لين يخدع، ويخرج المطلوب منه، أو المعروض عليه هذا الشيء، عن حالته الطبيعية ليلقى قبولا لدى الطرف الآخر.
                      وهذه هي أولى مراحل الزنا في هذه الحالة شب يوسف عن الطوق، وأصبح شابا يافعا في بلاط امرأة العزيز: ﴿ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا وكان يوسف جميلا، نظرت المرأة إلي يوسف في لحظة تملكها فيها الشيطان، وأخذت تراود نفسها أولا، ويزين لها الشيطان فعل الفاحشة معه.
                      يقول الإمام الشعراوي في خواطره:
                      لكل عملية شعورية يتعرض لها الإنسان في الفعل ثلاثة عوامل، إدراك، فوجدان، فنزوع.
                      كان الأول امرأة العزيز تنظر إلي يوسف لجماله ولا يوجد إربة أخرى تنظر إليه فيه لكن عندما بلغ أشده أصبح الخيال يسرح في أكثر من الإدراك وهو النزوع لأنها وجدت في نفسها إعجابا به. وعلى هذا فإن العلاقة بين امرأة العزيز ويوسف مرت بمراحل غواية منها وصد منه، وسنفصلها بعض الشيء.
                      مراحل الغواية والصد
                      قال تعالى:
                      ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف: ٢٣
                      المرحلة الأولى: المراودة الخفية:
                      يوسف شاب في بيت امرأة العزيز، وهي التي أكرمت مثواه من قبل، ولها الفضل عليه من تربيتها له، وجعلته في بيتها، وتعامله معاملة غير معاملة العبيد في القصر، وله ميزة عن غيره، وتتنازعها العاطفة تجاهه، فإن أمرته بشيء فيجب أن يطيعها، ولكنها تعرفه، وتعرف أخلاقه، وحياءه، ورجاحة عقله، وعلمه، فكيف سيكون الوصول إليه، إذاً، عليها أن تعرض الأمر عليه بمكر المرأة ودهائها، كإشارات، وتلميحات، وإيحاءات، لعلها تجد منه استجابة، فلم تجد منه ما يشير إلى أنه استجاب إلى ما ترمى إليه، إذا فماذا تفعل؟ أخذت تنازع نفسها، إنها تريده، وبأي شكل يجب أن تناله، والمرآة لا تحب من يتجاهلها وتحب أن تكون مطلوبة، والتجاهل يثير ثائرتها، وتعقد العزم وتصر على أن تنال غايتها أيا كانت وبأي أسلوب، أو أية طريقه، ولا ترضى بالاستسلام.
                      المرحلة الثانية: الغواية المكشوفة
                      قامت امرأة العزيز في هذه المرحلة بالعرض، فقد يكون يوسف خائفا أو مترددا، فقامت بصرف العبيد وسدنتها، ونعرف أنه يقيم في بيتها، وقامت بغلق أبواب القصر إغلاقا محكما:
                      ﴿ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وتزينت كزينة المرأة لزوجها، وأبرزت مفاتنها له، لعله تنازعه نفسه، وتتحرك أحاسيسه عندما يراها في هذه الفتنة، ويميل إليها، خاصة وأنه شاب وليست لديه خبرة الرجال في تمالك الأعصاب في مثل هذه المواقف، ولكن خاب ظنها، فلم ينظر إليها وتجاهلها أنه ينظر إليها على أنها أمه، لذلك نراه قد استحي منها..
                      فزاد حنق امرأة العزيز على يوسف، فما كان منها إلا أن تدخل في المرحلة التالية.
                      المرحلة الثالثة: التصريح الواضح لفعل الفاحشة
                      ماذا تفعل امرأة تملكها الشيطان، في رجل لم يتحرك لكل ما سبق من أساليب المراودة والغواية، الباطنة منها، والمكشوفة، فكان لابد من التصريح ﴿ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ أي إني قد تزينت وهيأت نفسي وتجهزت من أجلك فأنا لك هنا أسقط في يد يوسف، واهتز داخليا في نفسه بسبب هذا الطلب الذي لم يكن يتوقعه، المرأة التي تربى في بيتها وأكرمته، وهي التي كانت تلاعبه وتداعبه وهو صغير، وجعلها مثل أمه التي فقدها صغيرا، تطلب منه هذا الطلب الفاحش، ماذا يفعل يوسف؟ فكان لابد من التذكير، أي تذكير امرأة العزيز لتعود إلى رشدها.

                      مراحل التذكير:
                      قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يوسف: ٢٣
                      المرحلة الأولى: التذكير بالله:
                      ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ وهي أعلى مراتب التذكير والتذكر ولا تعلوها أي مرتبة أخرى.
                      أي أن الله لم يأمر بهذا الفعل الفاحش ؛ وهنا نذكر حديث رسول الله في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ الإمام الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَرَجُلان تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امرأة ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَاليا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) --- (صحيح البخاري).
                      لم تتعظ امرأة العزيز بهذا التذكير، فنزل درجة من درجات التذكير.
                      المرحلة الثانية: التذكير بمن رباه
                      فأراد أن يذكرها بمن له الفضل عليه وعليها، لأنها زادت في الإلحاح في طلبها، فقال لها:
                      ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾ أي أن الذي تطلبين منى أن أخونه هو من رباني، وعهد بي إليك، وأكرمني وأحسن وفادتي وتربيتي، وهو الذي قال لك:
                      ﴿ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً يوسف: ٢١، فكيف تطلبين منى أن أخونه، لكن امرأة العزيز لم تلق بالا لهذا أيضا؛ وظلت مستمرة في طلبها الشاذ، فنزل منزلة أخرى.
                      المرحلة الثالثة: التذكير بسوء العاقبة:
                      لم يكن أمام يوسف إلا الورقة الأخيرة لديه، فهي لم تتعظ بتذكيره لها بالله ولجؤه إلى الله، وأن الله لم يأمر بهذا، وأنه لا يمكن أن يخون صاحب البيت، فكان يجب أن يكون التذكير الأخير بشدة وغلظة لصدها، ويذكرها بآخر ما لديه من أسباب عدم الفعل فقال لها:
                      ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وهو أن من يفعل هذا الفعل لا يمكن أن يفلح في الدنيا أو في الآخرة لأنه سيكون ظالما لنفسه أمام الله، وللرجل الذي رباه، ولأن الله دائما بالمرصاد لكل خوان أثيم.
                      وللتدليل على ذلك سنعطى مثلا: هب أن أحدا أراد منك فعل إساءة ما إلى إنسان له فضل عليك، وأنت مخلص لله ولهذا الرجل، فماذا كنت ستفعل؟.
                      أظن أنك ستقول له أولا: اتق الله، أو أنك ستذكره بالله، وإذا أصر وأنت لا تريد الفعل، ستذكره بأفضال هذا الرجل عليك، وإذا زاد إصراره وإلحاحه أظن أنك ستوبخه وستزجره. وهذا هو ما فعله يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز.
                      مفهوم الهم
                      ما هو الهم؟ هناك همان: هم حديث نفس ... وهم للفعل (حركه).
                      وأما عن همّ (حديث النفس) فهو على عدة أنواع:
                      الأول: هو هم الحزن، مثل الحزن على فقدان حبيب أو مال أو ما شابه ذلك.
                      الثاني: هم حديث النفس (هم النفس)، وهو انشغال العقل بقضية ما تشغل بالنا وتؤرق حياتنا، ونتدبر فيها كيفية حلها، فقد يأخذ حلها وقتا، قد يطول هذا الوقت أو قد يقصر، فمثلا نقول: أن الدين هم بالليل ومذلة بالنهار ونفكر في كيفية تسديد هذا الدين، أو مشكلة ما في العمل وهكذا.
                      الثالث: وهو المؤدى إلى الهم الحركي، فلكي يقوم الإنسان بعمل شيء ما فإنه يمر بعدة مراحل للقيام بهذا العمل:
                      (1) فكرة تمر بعقل الإنسان حديث نفس.
                      (2) تدبر هذه الفكرة حديث نفس.
                      (3) عقد العزم على تنفيذ هذه الفكرة حديث نفس.
                      (4) الاستعداد للقيام للتنفيذ حديث نفس.
                      (5) القيام بالتنفيذ فعل(حركه).
                      ولكن تأتى مرحلة دقيقة تلي الاستعداد للقيام بالفعل، والقيام بالتنفيذ للفعل، وهذه هي مرحلة الهم.
                      إذاً فان الهم الحركي للفعل: هو مرحلة تلي الاستعداد للعمل والعمل نفسه، وهذا كان هم امرأة العزيز.
                      الرابع: وهناك هم أخير، يسمى هم رد الفعل:
                      وهذا الهم سنعطى له مثلا ولله المثل الأعلى: هب أن رجلا قام بمحاولة الاعتداء عليك، وهم بضربك، فماذا كنت ستفعل؟ هل ستتركه؟ أم ستهم أنت أيضا بالدفاع عن نفسك، إذا هناك همان حركيان:
                      الأول: هم فعل.... والثاني: هم رد فعل.
                      فبعد هذا التعريف لأنواع الهم، إذا فعلينا أن نسوق الأدلة على براءة يوسف عليه السلام من هم عمل الفاحشة، وذلك في الفرع الثاني..

                      تعليق

                      • المهندس زهدي جمال الدين
                        12- عضو معطاء

                        حارس من حراس العقيدة
                        عضو شرف المنتدى
                        • 3 ديس, 2006
                        • 2169
                        • مسلم

                        #41
                        الفرع الثاني

                        أدلة براءة يوسف عليه السلام

                        نسوق خمسة عشر دليلاً على براءة يوسف عليه السلام
                        الدليل الأول
                        لو أن يوسف عليه السلام قد مال إلي امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، فلماذا أعرض منذ البداية عندما راودته؟ ، ولماذا لم يحدث والطريق ممهد له بغلق الأبواب ؟ ، وامرأة العزيز في كامل زينتها، ولم يكن معهما أحد، وزيادة على ذلك أنها هي التي دعته إليها.
                        الدليل الثاني
                        لماذا ذكرها يوسف بالله، ثم بالرجل الذي رباه، ثم بسوء العاقبة بعد ذلك، أم أنه كان اعتراضا واهيا؟.
                        الدليل الثالث
                        لماذا كان همها هي سابقا لهمه للفعل؛ إن كان قد مال إليها وخارت قواه أمام إغراءاتها؟.
                        فالأولى إن كان ضعف أمامها أن يكون هو المبتدي بالهم، وتكون الآية (وهم بها وهمت به) لأن المرأة لها صفة الإغراء والدعوة، وتترك للرجل أن يبدأ هو بباقي الأمور من بداية الهم حتى النهاية.
                        قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤
                        المتأمل في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا، أي كان همها سابقا لهمه.
                        ونعود لسؤالنا: لماذا كان همها هي سابقا لهمه؟.
                        هناك سببان لهمها:
                        السبب الأول: أنها قد وجدت فيه ضعفا فأرادت أن تشجعه وتخرجه من حالة الضعف هذه.
                        السبب الثاني: أنها قد وجدت فيه إعراضا قويا فأرادت أن تجبره على الفعل بالقوة.
                        فإلي أي السببين نميل؟.
                        وهذه هي إحدى الدلائل القوية على براءة يوسف من الهم بها لعمل الفاحشة، وأن يوسف أصلا لم يمل إلى امرأة العزيز ولم تحدثه نفسه بعمل الفاحشة.
                        وعلينا أن نذكر هنا أيضا أن الله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ، والمدقق في قوله تعالى يلاحظ أنه جل علاه لم يقل ] هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا]،..
                        فلماذا قال سبحانه وتعالى ] وَلَقَدْ]؟.
                        لأن كلمة ] وَلَقَدْ]، تأتى هنا لتعطى إحساسا بقوة الهم منها ولتأكيده.
                        أما قوله ﴿ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا،.. فقط، فتعطى انطباعا برعونة الهم بينهما وأنه من المحتمل أن يكون عليه السلام قد مال إليها بالفعل.
                        الدليل الرابع
                        تربية يوسف في بيت امرأة العزيز منذ صغره عندما عهد به العزيز إلى زوجته فكان عمره لم يتعدى أصابع اليد الواحدة، وتربى يوسف في بيت المرأة، وكبر يوسف وهو يجعلها مثل أمه، فهل إذا تربى أحد في بيت ما منذ صغره؟ فهل عندما يكبر سيميل شهوانيا إلى من ربته مهما كانت المغريات ؟، اللهم إلا إذا كانت تربيته كانت سيئة، وهذا البيت سيء، فقد يكون بيت العزيز سيئا، فهل كانت تربية يوسف عليه السلام سيئة ؟، إن يوسف عليه السلام قد تربى على أعين الله سبحانه وتعالى يؤيد هذا قوله تعالى في يوسف 21:
                        ﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يوسف: ٢١.
                        وقوله تعالى 22: ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يوسف: ٢٢.
                        الدليل الخامس:
                        اعتصامه بالله وتذكيره لامرأة العزيز بأن ربه لا يرضى بهذا الفعل ولم يأمر به:
                        قال تعالى: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ يوسف: ٢٣
                        ولك أن تتأمل قول يوسف عليه السلام في هذا المقام: ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ..
                        ثم تذكيره لها بزوجها الذي له الفضل عليه وعليها ﴿ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ .
                        ثم وصل به الأمر إلى أن يهددها بعاقبة الأمور ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ .
                        كل هذا في وقت واحد، وموقف واحد، ولا يوجد فترة زمنية للتروي ومراودة النفس للفعل، ثم ينقلب الموقف فجأة وبدون مقدمات ليهم بها لعمل الفاحشة، كيف هذا؟ مع أن كل الذي قاله يوسف من أعذار شديدة، مقدمات لعدم الفعل.


                        الدليل السادس
                        حديث النفس للفعل يأخذ وقتا ومراودة مع النفس حتى يقتنع الإنسان بعمل الشيء، والموقف مع امرأة العزيز لم يأخذ وقتا حتى لمراودة النفس.
                        الدليل السابع
                        اختلاف العلماء والمفسرين في البرهان الذي أعطاه الله ليوسف ولم يدل حديث شريف على هذا البرهان، ولكنه اجتهاد علماء ومفسرين ليس له دليل قاطع.
                        والبرهان كما يقول الإمام الشعراوي في خواطره: هو الحجة على الحكم.
                        أو هو الإثبات بدليل، والدليل إما أن يكون بالقرآن واضحا، أو من سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بالاستنباط من القرآن أو السنة النبوية الشريفة أو منهما معا، ونحن هنا نتكلم عن نبي له عصمته من الله سبحانه وتعالى فيجب أن يكون كلامنا مدعم بكل ما سبق.
                        فيقول رب العزة: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
                        ﴿ كَذَلِكَ أي من أجل أن يوسف صبر على فتنة امرأة العزيز ولم يميل إليها وساق إليها الحجج لكيلا يفعل الفاحشة معها واعتصم بالله، فإننا سنصرف عنه سوء يصيبه من وراءها، وسنعود لهذه النقطة فيما بعد. ﴿ لِنَصْرِفَ لنبعد.
                        ﴿ السُّوءَ هو وصم الإنسان بعمل شائن، أو بصفة تشينه، مثل انه (سارق ـ زان ـ كاذب ـ مرتش.... الخ)، أو أن نقول عنه أنه حاول أن يفعل كذا، مما يصيبه هذا السوء، كأن نقول مثلا أن هذا الشخص سرق أو حاول السرقة فإننا بهذا نكون قد أسأنا إليه، وذلك لينال عقوبة ما، إما في سمعته وهذه إساءة نفسية أو في بدنه.
                        ﴿ وَالْفَحْشَاء هي فعلة الزنا حيث يقول رب العزة:
                        قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً الإسراء: ٣٢.
                        الدليل الثامن
                        علينا هنا أن نقرأ الآية جيدا: ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
                        وعليه فإننا يجب أن نسأل أنفسنا: لماذا أنزل الله الآية بهذا المنطوق وبهذا الترتيب؟، أي قدم صرف السوء على الفحشاء، وفي هذا ملمح مهم:
                        إن كان يوسف قد مال إلى امرأة العزيز، وحدثته نفسه بفعل الفاحشة، ثم رأى برهان ربه الذي منعه عن الفعل، فإن الله في هذه الحالة قد صرف عنه فعل الفاحشة.
                        ويكون منطوق الآية: ( لِنَصْرِفَ عَنْهُ َالْفَحْشَاء) فقط.
                        وأما إذا كان الله يريد أن يصرف عنه الفحشاء كي لا يصيبه سوء بعد ذلك، فإن منطوق الآية يكون:
                        (لِنَصْرِفَ عَنْهُ الْفَحْشَاء والسُّوءَ)، لأن الفحشاء هنا مقدمة في محاولة الفعل على السوء الذي كان سيصيبه بعد ذلك. ولأن الله هو المتكلم فإن كل أية، وكل كلمة، بل وكل حرف في القرآن الكريم موضوع بحساب وميزان دقيق، لكي يؤدى المعنى والغرض الذي يريده الله منه ويهدف إليه.
                        إذا فعلينا أن نعمل عقولنا، ولنقرأ الآية كما أنزلها الله سبحانه وتعالى: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف: ٢٤.
                        ونعود لسؤالنا لماذا قدم الله السوء على الفحشاء؟
                        والإجابة في الآية التالية والله تعالى أعلم.
                        قال تعالى: ﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يوسف: ٢٥
                        فإن كان يوسف قد مال إليها، وحاول فعل الفاحشة، فإنه قد أراد بأهل العزيز سوءا بالفعل، ومحاولة خيانة العزيز في أهله، مهما كانت هي أغوته أو لم تغوه.
                        ولأنه لم تحدثه نفسه بهذا، فإن الله قد صرف عنه هذا السوء بإظهار براءته:
                        قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يوسف: ٢٨
                        ويأتي تأكيد براءته في الآية التالية على لسان العزيز نفسه، قال تعالى: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ يوسف: ٢٩
                        وعلى هذا فإن السوء الذي سيصيب يوسف يأتي من فرية تفتريها عليه امرأة العزيز في جريمة لم يرتكبها ولم يفكر فيها. هذا عن السوء، ولكن ماذا عن الفحشاء؟
                        الفحشاء يأتي ذكرها في الآية33من نفس السورة: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ يوسف: ٣٣
                        وذلك بعد أن تكالبت عليه النسوة، وهددته امرأة العزيز بالعقاب إن لم يفعل معها الفاحشة:
                        قال تعالى:
                        ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢
                        ويأتي صرف الفحشاء في الآية 34حيث قال رب العزة :﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف: ٣٤
                        لبى الله نداء يوسف واستغاثته به حيث يقول رب العزة في سورة النمل 62:
                        ﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (62) النمل: ٦٢
                        وكأنني أشعر أن هذه الآية قد أنزلت في نبي الله يوسف خاصة لأنه فعلا كان في حالة المضطر المستغيث، ولأن يوسف عليه السلام لم يكن في حالة استغاثة أو اضطرار في قوله:
                        ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) يوسف: ٢٣
                        لأنه كان في حالة تنبيه وتذكير لامرأة العزيز ، ولم يكن هناك اضطرار إلي الاستغاثة والركن الكامل ، ولكن كان أمامه خيارات كثيرة ، ووقت متسع ، وحيل للهرب من الموقف الذي كان فيه من قبل .
                        أما في هذا الموقف فان يوسف قد أحيط به، ولا يوجد مخرج له، فإما الفعل، أو السجن والصغار، ولا يوجد خيار أخر، فكان لابد من الركن إلي الله وهو مضطر.
                        وهنا يعلمنا الله سبحانه وتعالى أن العبد يجب عليه أولا أن يعمل عقله الذي خلقه الله له في الأزمات للخروج منها ، فإذا ما استعمل الإنسان عقله ، فان الله سيهديه إلي برهان للخروج من مأزقه ، كما فعل يوسفu وهداه الله لحيلة الهروب إلي الباب ، ولكن إذا استنفذ العبد كل حيله وأحيط به ، فعليه أن يلجأ إلي من هو أقوى منه ومن الموقف الذي هو فيه ، فان الله سبحانه وتعالى سيخرجه منه بقدرته ولكن أن نركن إلي الدعاء فقط ولا نحاول أن نفكر للخروج من مما نحن فيه ، ونقول أن الله سبحانه وتعالى سيخرجنا مما نحن فيه ، فهذا يعتبر تواكلا .﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) يوسف: ٣٤
                        فصرف الله عنه ما كانت امرأة العزيز والنسوة يمكرون على فعله معه.
                        أما كيف صرف الله عنه كيد النسوة ، فهي من آيات الله التي لم يبين لنا أحد من المفسرين وعلمائنا الأجلاء كيف صرف الله هذا الكيد.
                        ظهر للعزيز وحاشيته أن يوسف بريء، وأن أخلاقه، وأدبه، ودينه لا غبار عليه، ولكن وجوده فيه فتنة على نسائهم، إذا فعليهم أن يتخذوا موقفا لدرء هذا الخطر.
                        وكان القرار حبس يوسف عليه السلام فترة من الزمن حتى تموت هذه الفتنة.
                        الدليل التاسع شهادة إبليس نفسه عليه اللعنة ليوسف عليه السلام.
                        قال تعالى في الآية التي نحن بصددها:
                        ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف: ٢٤، والمخلصين كما قال العلماء إما بفتح اللام، وهم من استخلصهم الله لنفسه أو بكسر اللام، وهم الذين اخلصوا دينهم لله.
                        فهل عبد مخلص لله، أو استخلصه الله لنفسه، يقع بالتفكير في معصية أو فاحشة ويقع في براثن الشيطان، مع أن الله يقول في كتابه الكريم على لسان الشيطان في سورة ص:
                        ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ص: ٨٢ - ٨٣
                        فاستثنى لعنة الله عليه عباد الله المخلصين من مجرد الغواية فيقول القرطبي:
                        فمعنى: ﴿ لَأُغْوِيَنَّهُمْ لاستدعينهم إلى المعاصي.
                        ويقول الإمام الشعراوي:
                        وقد صرف الله عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغواية، فالشيطان نفسه يقر أن من يستخلصه الله لنفسه من العباد إنما يعجز هو كشيطان عن غوايته ولا يجرؤ على الاقتراب منه. والغواية هي وقوع المعصية في النفس وإن لم يفعل.
                        ويوسف عليه السلام نبي أخلص الدين لله، واستخلصه الله لنفسه، فكيف يقع في براثن الشيطان ويميل إلى امرأة العزيز ويهم بعمل الفاحشة معها.
                        الدليل العاشر عصمة الأنبياء
                        إن الله قد عصم الأنبياء جميعا من مجرد الوقوع في الخطيئة، أو الاقتراب منها، أو التفكير فيها ، ولكن جل تفكيرهم في عظمة الله سبحانه وتعالى ، واخذ الأشياء بحلالها وليس بحرامها مهما كانت المغريات ، لأن الله جعلهم قدوة وأسوة للبشر في أفعالهم ليقتاد بهم الناس ، فإن كان يوسف عليه السلام قد حدثته نفسه بفعل الفاحشة ، فإن هذا يكون دليلا لكل إنسان ضعيف الإيمان تحدثه نفسه بالفاحشة ويذعن لها ثم يجعل لنفسه حجة بأن الله لم يريه دليلا أو برهانا للكف أو الابتعاد عنها كما أرى يوسف برهان ربه فارتدع وابتعد .
                        وبعد كل ما ظهر من الأدلة السابقة واللاحقة في أن يوسف عليه السلام لم يهم بعمل الفاحشة مع امرأة العزيز ولم يفكر فيها.
                        إذا فعلينا أن نعرف ما الذي حدث أو على الأقل نتصوره، وقبل هذا علينا أن نحلل البرهان بعد أن عرفنا معناه.
                        قلنا من قبل أن البرهان هو كما قال الإمام الشعراوي، هو الحجة على الحكم، أو هو إثبات الشيء بدليل، أي أن البرهان هو دليل إثبات لقضية أو لحكم.
                        فإما أن يأتي ماديا ليثبت هذه القضية.
                        أو أن يأتي عقليا: كأن تنشغل بقضية ما تهمك ولا تجد لها حلا، فتهم بعمل ما قد يكون فيه ضرر لك، ولكن تأتى إليك فكرة أخرى للخروج من هذا المأزق أو هذه القضية، فتقول لقد كدت أن أفعل كذا، لولا أن الله ألهمني لأبتعد عن هذا الفعل وأفعل غيره.
                        ونقول كما قال العلماء والمفسرين، لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، ولكن هم بماذا؟
                        فإن الهم هنا، هو القضية التي تباحث فيها العلماء، وأدت إلي الفهم بأن هم يوسف هو لفعل الفاحشة.
                        ولنتصور ما حدث على ضوء الأدلة:
                        اشتد إلحاح امرأة العزيز على يوسف عليه السلام وزاد سخطها وغضبها، فماذا تفعل مع هذا الرجل الواقف أمامها، وتطلب منه فعل لو طلبته من الملوك لأجابوها إليه، ولكن أمامها نوع آخر من الرجال لم يرفض طلبها وحسب، ولكنه يناطحها بالحجج التي تمنعه من الفعل.
                        فما كان عليها إلا أن تجبره على الفعل ولو بالقوة، فهمت بالانقضاض عليه لتمسكه من قميصه مِنْ قُبُلٍ (أي من الإمام) لتشده إليها أو لتجذبه نحوها، (وعندما نقول همت معناه أنها لم تصل إليه بعد ولم تمسكه)، فما كان من يوسف إلا أن هم ليردها عنه، ويدافع عن نفسه، وكاد أن يلمسها من قميصها، عندما وجد في وجهها هذا الهم ولكن جاءه إلهام رباني (البرهان):
                        أن يا يوسف لا تمدن يدك عليها لتدفعها عنك، ولا تلمسها، ولكن أدر لها ظهرك بسرعة، واهرب من أمامها، واتجه إلى الباب، فإنا منجوك من سوء يلحقك إن لمستها، ودليل ذلك القميص وسيأتي شرحه وتوضيحه في الآية التالية 25:
                        قال تعالى:
                        ﴿ وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) يوسف: ٢٥
                        بسرعة أدار يوسف ظهره لامرأة العزيز وولى هاربا إلى الباب ليفتحه، فوجدت امرأة العزيز نفسها في موقف لا تحسد عليه، إن خرج يوسف من هذا المكان سيفتضح أمرها، ولن يفعل ما تأمره به وهي في هذه الحالة من السعار، ولن يكون لها القدرة بعد ذلك في التعامل معه.
                        إذا ماذا تفعل؟ عليها أن تمنعه من الهرب، وعليه أن يفعل ما تأمره به، لكيلا يستطيع بعده إفشاء سرها.
                        بسرعة جرت وراء يوسف لتمنعه من الخروج، وتمنعه من الباب، فأمسكت بقميصه من الخلف لتجذبه إلى الوراء، ولكن يوسف شاب وقوى، فمع اندفاع يوسف وجذبها للقميص من الخلف، انحنى ظهر يوسف للأمام ليعطى نفسه قوة في الاندفاع للهرب ومعالجة الباب لفتحه، انقطع القميص من الخلف وتمكن يوسف من فتح الباب.
                        وكانت المفاجأة، فإذا بزوجها أمام الباب.
                        أدركت امرأة العزيز أنها في ورطة وإن لم تخرج منها بسرعة فسوف يدرك زوجها ما حدث.
                        رجل يفتح الباب، وهذا الرجل ليس ككل رجال القصر، إنه يوسف الذي رباه ويعرف أخلاقه.
                        وامرأته وراءه وليست أمامه، والمنظر العام ليس حسنا.
                        إذا فعليها أن تخرج بسرعة من هذه الورطة، فكان لابد من استحضار مكر المرأة وخداعها، واستثماره في هذه اللحظة لتبعد عنها الشكوك ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، يوسف 25.
                        ألقت على يوسف تهمة هو بريء منها فألحقت به سوءًا، باتهامه بمحاولة فعل الفاحشة معها.
                        وأرادت به سوءًا بأن يسجن أو يعذب.
                        وهذه قدرة عجيبة في الخروج من المأزق الذي صنعته هي، ثم تلحق التهمة بالبريء، ثم تحدد العقوبة، بل وتفرضها على زوجها لكيلا يتحقق مما حدث، ولتجعله يصدقها.
                        الشاهد
                        قال تعالى: ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِيوَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) يوسف: ٢٦
                        وجد يوسف نفسه قد تورط في قضية لم يكن هو السبب فيها، فلم يفعلها، أو يسعى إليها، أو يفكر فيها أصلا.
                        ذهل يوسف من القدرة الغريبة في لي الحقيقة، وهذا ما نقابله ونعيشه في هذه الأيام من لي في الحقائق، فأصبح البريء متهما ، والمجرم بريئا، وأكل الحقوق افتخارا، وضاعت الحقوق بين الناس ، وامتلأت المحاكم بالقضايا ومحامون درسوا القانون ليتلاعبوا به وبألفاظه ، وليس للدفاع عن المظلوم وإعطاء الحق لأصحابه ، وهم يعلمون الحقيقة من موكليهم ، فماذا يا ترى سيفعل الله بهم يوم القيامة ، أفيقي يا أمة الإسلام .
                        فلم يكن أمام يوسف من دفاع عن نفسه إلا جملة واحدة ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي
                        إننا نجد هنا أن يوسف قد بدأ كلامه بكلمة ﴿ هِيَ
                        أي بضمير الغائب كأنها غير موجودة ولم يزد أو يسترسل في حديث طويل لا طائل من ورائه، وفيه أدب، ووجه كلامه إلي من اتهم عنده، ومن يهمه الأمر، ولم يلتفت إلي المرأة، لأنها ابتدأت الحديث بالكذب، فلم يوبخها، أو يؤنبها، أو يكذبها، ولم يقسم بأنه لم يفعل هذا الأمر ولكنه أوجز في الحديث
                        ﴿ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي .
                        صمت العزيز ولم يتكلم، إنه في موقف صعب، هناك تعارض في القول، فكلا الطرفين عزيز عنده.
                        المرأة: زوجته.
                        ويوسف هو من رباه ويعرف أخلاقه.
                        وكلاهما قريب من نفسه، فماذا يفعل؟.
                        إن صدق زوجته في اتهامها ليوسف، وأصدر حكمه كما أمرت زوجته، ثم تظهر براءة يوسف بعد ذلك فقد يندم على حكمه الظالم، ولكن الموقف الذي رآه فيه شك من كلام زوجته.
                        وإن صدق يوسف في دفاعه عن نفسه، قد تكون زوجته صادقة في اتهامها.
                        ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) يوسف: ٢٦
                        فكان لابد من عرض الأمر على شخص قريب منه، على درجة عالية من الحكمة والعقل، ويزن الأمور بميزان الحق والعدل ويطمئن إلي حكمه.
                        ليس هذا فحسب ولكن يجب أن يكون قريبا لزوجته أيضا، أي من أهلها، لأنه سيكتم فضيحتها إن كانت هي المخطئة، وإن كان يوسف هو المخطئ فسوف يحكم عليه وينتهي الأمر.
                        تم عرض الأمر على الشاهد أو من سيعطى حكمه في هذه القضية.
                        فماذا قال الرجل: ﴿ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) يوسف: ٢٦
                        أي أن القميص الذي يرتديه إن كان قطع من الأمام، فإنها تكون صادقة في كلامها، لأنه في هذه الحالة تكون المواجهة، ويكون هو مقبلا عليها ومحاولا الاعتداء عليها، وتكون هي مدافعة عن نفسها ، فتدفعه عنها ، فيقطع القميص من الإمام ، ويكون هو كاذبا في هذه الحالة.
                        الدليل الحادي عشر الشاهد مرة أخرى
                        قال تعالى:
                        ﴿ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) يوسف: ٢٧
                        أي وإن كان القميص قطع من الخلف، فإنها تكون كاذبة في ادعائها، وكان هو صادقا في كلامه، وبرهان ذلك أن ظهره كان لها وهي وراءه.
                        فما الذي دفعها لتقطع قميصه من الخلف.
                        اللهم إلا إذا كانت هي الطالبة له، وهو في حالة فرار منها، مما أدى إلى قطع القميص من الخلف من شدة اندفاعه وفراره منها.
                        أليس هذا دليل دامغ وبرهان ما بعده برهان، على أن برهان ربه هو إيحاء من الله إلى يوسف، بعدم الدفاع عن نفسه، وألا يلمس المرأة، ولكن عليه أن يعطى لها ظهره بسرعة ليهرب من أمامها.
                        لأنه في هذه الحالة كان ستحدث مواجهة بين الاثنين (يوسف وامرأة العزيز)، فكانت ستمسك به من الأمام وسيحاول هو الإفلات منها مما كان سيؤدى إلى قطع القميص من الأمام.
                        وعلينا أن نتصور ما كان سيحدث إن كان يوسف قد مال إليها وهم بالمعصية:
                        فهل كانت ستتركه بعد هذا الهم، وأصبح في متناول يديها ؟.
                        أم أنها كانت ستقبض عليه بسرعة قبل أن يذهب من أمامها، وتمسك بقميصه من أمام ويكون هناك مشادة بينهما وتكون مواجهة، وكان سيقطع القميص من قبل.
                        ومن حكمة الله سبحانه وتعالى، أن يضع برهان البراءة في آية منفصلة، ولم توصل بالآية السابقة، لنتدبر آياته سبحانه، ولا نمر عليها مر الكرام.
                        ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى علمنا كيفية استنباط الأحكام بالأدلة المادية والعقلية.
                        قال تعالى: ﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يوسف 28.
                        وجد العزيز نفسه أمام موقف يجب أن ينسى، ولا يذكر مرة أخرى، وإلا سينتشر الأمر، وستكون فتنة، وتلوك الألسن سيرة زوجته، وسيرته وقد يفقد منصبه جراء ذلك، فأراد أن تموت هذه الفتنة في مهدها، وليحمى سمعته من القيل والقال، بحيث تكون الأمور طبيعية وهذا من طبيعة علية القوم دائما.
                        من هنا اتخذ العزيز موقفه لكيلا يفتضح بيته، فقال ليوسف بصيغة الأمر:
                        ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) يوسف: ٢٩
                        ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـذَا، أي عليك يا يوسف أن تنسى هذا الأمر نهائيا ولا تحدث به أحد.
                        ثم وجه حديثه لامرأته موبخا إياها: ﴿ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ أي اطلبي الصفح والعفو والغفران لأنك أذنبت ذنبا شديدا.
                        لأنه ما كان لك وأنت امرأة العزيز أن تقعي في مثل ما تقع فيه سائر النساء.
                        الدليل الثاني عشر
                        قول الإمام الشعراوي تعقيبا على الآية السابقة:
                        وبهذا القول من الزوج أنهى الحق سبحانه هذا الموقف عند هذا الحد، الذي جعل عزيز مصر يقر أن امرأته قد أخطأت ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا الأمر ليكتمه.
                        مكر النسوة
                        قال تعالى:
                        ﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) يوسف: ٣٠
                        انتشر الخبر في المدينة بالكيفية التي أخبر بها العلماء، وبدأت النسوة تتكلم وتلوك سيرة امرأة العزيز
                        ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ
                        وكلمة ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ هي إكبارا لها وتصغيرا لفعلها.
                        إكبارا لها لكونها امرأة العزيز، وتصغيرا، لأنها وهي في هذه المكانة العالية، وتطلب فعل الفاحشة مع أحد الخدم في القصر.
                        ولأن فعلها هذا يضعهن في موضع الحرج أمام خدمهن وعلى هذا قلن:
                        ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ أي أنها لا يمكن أن تفعل هذا الفعل، إلا إذا كان حبه قد تمكن منها، ووصل هذا الحب إلى شغاف قلبها، وحبها هذا قد أوصلها إلى الضلال، ولم تعد تدري ما تفعل.
                        يقول فضيلة الشيخ الشعراوي في خواطره: وما قلناه هو الحق، لكنهن لم يقلن ذلك تعصبا للحق أو تعصبا للفضيلة، ولكنه الرغبة للنكاية بامرأة العزيز، وفضحا للضلال الذي أقامت فيه امرأة العزيز.
                        وأردن أيضا شيئا آخر، أن ينزلن امرأة العزيز من كبريائها، وينشرن فضيحتها فأتين بنقيضين، لا يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إلا خسيس المنهج.
                        وقالت النسوة: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً .
                        وقسم فضيلته الحب إلى منازل:
                        (الهوى ـ التعلق ـ الكلف ـ العشق ـ التدله ـ الهيام ـ الجوى) وقد شرحها فضيلته بإسهاب في خواطره.
                        قال تعالى:
                        ﴿ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) يوسف: ٣١
                        وصل إلى امرأة العزيز ما تناقلته نسوة كبار القوم، وعلمت أنهن يمكرون بها ويسيئون إليها في أحاديثهن.
                        ويستمر الإمام الشعراوي في قوله:
                        المكر هو ستر شيء خلف شيء، كأن الحق ينبهنا على أن قولتها ليس غضبة للحق ولا كرها للضلال الذي قامت به امرأة العزيز ولكنهن أردن شيئا آخر، وهو أن ينزلن امرأة العزيز عن كبريائها وينشرن فضيحتها.
                        وعلى هذا بدأت امرأة العزيز تفكر في مكر أقوى وأشد، لتظهر ما في أنفسهن وفى نفس الوقت يكون ردا عليهن ودفاعا عن نفسها.
                        أرسلت إليهن، وأعدت لكل واحدة منهن مجلسا مجهزا بالمفارش ومخاد ومساند ليستندن إليها ويكن في حالة استرخاء تام.
                        الدليل الثالث عشر
                        مازال المتحدث هو الإمام الشعراوي
                        وهذا دليل براءة آخر على لسان إمام الدعاة لنبي الله يوسف عليه السلام حيث يقول رضي الله تعالى عنه:
                        وكان الاعتراف: ﴿ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَراً إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ وكلمة ﴿ حَاشَ هي للتنزيه، هي تنزيه لله سبحانه عن العجز عن خلق هذا الجمال المثالي، أو أنهن قد نزهن صاحب تلك الصورة عن حدوث منكر أو فاحشة بينه وبين امرأة العزيز.
                        الدليل الرابع عشر
                        اعتراف امرأة العزيز
                        ﴿ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢
                        وجدت امرأة العزيز ما حدث للنسوة فقالت لهن معاتبة، وشامتة في النسوة، ومعترفة، ومصرة على الفعل، في آن واحد. أي أن هذا هو من قلتن فيه: ﴿ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) يوسف: ٣٠، ولقد وصلني ما قلتن في، عنى وعنه فأردت أن أريكن إياه، فإنكن ومن نظرة واحدة، تاهت عقولكن ولم تدرين ما تفعلن وقطعتن أيديكن انبهارا لجماله، فما بالي أنا التي أعيش معه ليل نهار.
                        ثم جاءت اللحظة الحاسمة للانقضاض عليهن والاعتراف بل والتباهي بما حدث منها:
                        ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وذلك خلافا لما قالت من قبل:
                        ﴿ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )25) يوسف: ٢٥
                        الدليل الخامس عشر:
                        يقول رب العزة على لسان امرأة العزيز ﴿ فَاسَتَعْصَمَ وهذا دليل أخر من الأدلة الدامغة، على أن يوسف لم يمل إلى امرأة العزيز شهوانيا ولم يهم بعمل الفاحشة.
                        لأنه باعترافها هي قالت: ﴿ فَاسَتَعْصَمَ لم تقل ] ولكنه استعصم]، فهناك فرق كبير بين الكلمتين لأن الفاء هنا تعطى سرعة رد فعل يوسف بالرفض لفعل الفاحشة وشدته، وأن اعتصامه ورفضه لم يأخذ وقتا للمراودة مع النفس يفعل أو لا يفعل.
                        ثم أظهرت إصرارها وتحديها لفعل الفاحشة مع يوسف في جرأة أمام النسوة، لأنها وجدت في النسوة ميل إلي يوسف، فأعلنت تحديها له: ﴿ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢.
                        فأصبح الطلب مكشوفا، ومفضوحا، وبلا حياء لأنها وجدت نفسها وقد انهزمت من قبل أمام يوسف، إذا فعليه الآن أن يفعل وبالأمر، وإن لم يطع أمرها فإنه سيعاقب بالسجن، وسينزل من المنزلة التي هو عليها الآن من كونه المقرب إليها في حاشيتها، ورأى من مظاهر العز والترف ما لم يره غيره، إلى السجن، ويفعل أشياء تصغر من شأنه.
                        وهذا يظهر لنا ما لنساء علية القوم من تأثير في القرارات التي تصدر وتخص العامة والدولة.
                        وجد يوسف نفسه أمام تحد جديد، وهو من اختبار الله له، واختبار لإيمانه وصبره، ويعلمنا الله من خلاله كيف نقف أمام الشدائد، وكيف ومتى نلجأ إلي الركن الشديد.
                        فالمرأة مازالت مصرة على الفعل، وهذه المرة ليست كسابقتها، فإن لم يفعل فالسجن أمامه، وليس السجن فقط، ولكن سينزل من المكانة التي هو فيها الآن من ترف العيش ورغدة، إلى منازل الذين يقومون بالأعمال المشينة، وهو غير معتاد على هذا.
                        أي شاب هذا الذي يترك النعيم والترف بجوار امرأة العزيز، وينزل إلى منازل الصاغرين، هل من أجل ليلة مع امرأة، وأي امرأة إنها امرأة العزيز التي إن وافق على طلبها فسيكون في منزلة يحسده عليها العزيز نفسه.
                        وليس مع امرأة العزيز وحدها ولكن مع نساء علية القوم أيضا.
                        ثم أليست هذه هي الفحشاء التي تكلم الله فيها وقال فيها.. ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) يوسف: ٢٤.
                        أصبح يوسف في موقف صعب، وهو على مفترق طريقين.
                        أحدهما فيه هناء الدنيا وردغها ونعيمها، وفيه الضغوط شديدة لفعل الفاحشة، ولكن فيه غضب الله سبحانه، والآخر فيه السجن، والشقاء، والعذاب، والتصغير من الشأن في الدنيا، ولكن فيه رضاء الله سبحانه وتعالى، ونعيم الآخرة..
                        والكيد: هو ما أضمرته امرأة العزيز والنسوة في الضغط علي يوسف لفعل الفاحشة معهن.
                        ولكن يوسف له رأى أخر: وليتعلم منه رجال الأمة وشبابها، الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، ونسوا أن لهم ربا مطلع على أفعالهم، وسيحاسبهم بها يوم العرض عليه.
                        حسم يوسف أمره، واتجه إلي الله بالدعاء حيث قال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف: ٣٣.
                        هنا جمع يوسف النسوة في محاولة فعل الفاحشة معه، ولم يتكلم عن امرأة العزيز على الرغم من أن امرأة عزيز هي التي قالت: ﴿ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) يوسف: ٣٢ .
                        وهذا يؤكد أن يوسف لم تتحرك غريزته تجاه امرأة العزيز في مراودتها الأولى، ولكن تكالب النسوة عليه، كاد أن يغلبه فكان دعائه وتضرعه إلي الله:
                        ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يوسف: ٣٣.
                        أي أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء؛ أو يوافق النسوة على دعوتهن له، ولكن يوسف عليه السلام دعا ربه؛ فقال: ﴿ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) يوسف: ٣٣.
                        فيوسف عليه السلام يعرف أنه من البشر؛ وإن لم يصرف الله عنه كيدهن؛ لاستجاب لغوايتهن ولأصبح من الجاهلين الذين لا يلتفتون إلى عواقب الأمور.
                        إلي هنا تنتهي علاقة يوسف مع امرأة العزيز، ولكنه لم يبرأ التبرئة الكاملة، فلقد دخل السجن ظلما، ولكن الله سبحانه له تصريف آخر.فكان تعبير رؤيا الرجلين اللذان كانا معه في السجن هي مفتاح النقلة الأخرى له، فجاءت رؤيا الملك التي لم يستطع أحد أن يعبرها، لتنقل يوسف نقلة أخرى، ويتم عن طريقها كشف ما حاول العزيز وحاشيته أن يطمسوه، ولتبرئ يوسف براءة كاملة من محاولة فعل الفاحشة مع امرأة العزيز.
                        فبعد أن عبر رؤيا الملك، أدرك الملك أن من يعبر تلك الرؤيا بهذا التأويل لا يمكن أن يكون مثله في السجن، فطلبه الملك.


                        تعليق

                        • المهندس زهدي جمال الدين
                          12- عضو معطاء

                          حارس من حراس العقيدة
                          عضو شرف المنتدى
                          • 3 ديس, 2006
                          • 2169
                          • مسلم

                          #42
                          المطلب الثامن

                          هل حظي سيدنا يوسف بمحاكمة عادلة؟

                          يمكن الإجابة عن هذا التساؤل بالنفي، فرغم كثرة ووضوح الأدلة المؤيدة لبراءة سيدنا يوسف، فقد كان الحكم عليه مخالفا لكل قواعد القانون والعدالة، وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله تعالي في الآية 35 من سورة يوسف ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ.... فجميع الأدلة المادية والقانونية تؤيد براءته مما ادعته امرأة العزيز، ومع ذلك جاء الحكم عليه بالسجن ولمدة غير محددة إمعانا في الظلم والابتلاء. وقد انطوي النص القرآني على ادانة للحكم الصادر بحق سيدنا يوسف وتفهم هذه الإدانة من عبارة ﴿ ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ فأية آيات تلك التي رآها عزيز مصر ومعه كافة الوزراء حتى يحكموا بالسجن على سيدنا يوسف؟ إنها -بلا شك- آيات تؤكد براءته وإدانة المدعية التي كانت بالعقوبة وفقا لما تقتضيه العدالة.
                          فادعاء امرأة العزيز ظل مجردا بلا دليل يؤيده، وإنكار سيدنا يوسف تأيد بأدلة مادية وقانونية وعقدية، ومع ذلك صدر الحكم على البريء بالسجن ولمدة مطلقة، وطلب من المدعية بلا دليل والجانبية وفقا للتصور القانوني أن تستغفر لذنبها ،وفي المحاكمات الجزائية يمكن للمحكمة أن تستند في حكمها بالإدانة إلى شهادة المشتكي وحدها شريطة أن تكون هذه الشهادة مأخوذة تحت تأثير القسم القانوني وأن تطمئن المحكمة إليها وأن لا يقدم دليل يدحض ما جاء فيها، وهو الأمر الذي لم يتحقق في حالة امرأة العزيز فهي قدمت ادعاء مجردا وبلا قسم في مواجهة أدلة قاطعة في دلالاتها على عدم صحة الادعاء.
                          وزوجة رجل متنفذ، الأمر الذي ربما لعب دورا في فرض عقوبة الحبس على سيدنا يوسف. مما يدعو إلى ضمان وتعزيز استقلال القاضي في معرض قيامه بواجبه.
                          وعليه يمكن القول بأن سيدنا يوسف ربما يكون قد حظي بمحاكمة عادلة " منقوصة " وأعني بذلك أنه أعطي الحق في الدفاع عن نفسه، ولم يعذب، بل واستطاع نفي التهمة عن نفسه بأدلة حاسمة، لكن تلك المحاكمة لم تكن عادلة بنتيجتها التي كان يفترض أن تكون -واستنادا إلى أدلة قاطعة الدلالة- إعلان براءة المشتكي عليه، وإدانة المشتكية، الأمر الذي لم يحدث إلا في وقت لاحق.
                          وربما كان السبب في ذلك أن خصومة سيدنا يوسف كانت مع امرأة متنفذة.
                          أصول المحاكمات في القضايا الجزائية
                          1- القانون لا يفرض وجود ممثل النيابة العامة في المحاكمات التي تجري أمام محكمة الصلح، وأجاز للمشتكي أو وكيله القيام بدور ممثل النيابة العامة في المحاكمة من حيث تسمية البينة وتقديمها بما في ذلك استجواب الشهود ومناقشة الدفاع وطلب اجراء الخبرة، وفي الدعاوى الجنحة الغير معاقب عليها بالحبس أن ينب عنه وكيلا ما لم، بينما القانون يفرض حضور ممثل النيابة العامة أمام محكمة البداية.
                          2-تجري المحاكمة وجاهيا بالنسبة للخصم الحاضر، وغيابيه بالنسبة للخصم الذي لم يحضر، وبمثابة الوجاهية بالنسبة للخصم الذي حضر المحاكمة ثم غاب عن المحاكمة بعد حضوره إحدى جلساتها.
                          3-عند البدء بالمحاكمة يتلى قرار الظن ويتم توضيح وقائع الدعوى من قبل ممثل النيابة العامة أو من يقوم مقامه كالمشتكي أو وكيله والمدعي الشخصي.
                          4-يسأل المشتكى عليه التهمة المسندة إليه، فإذا أعترف بها يأمر القاضي بتسجيل اعترافه بكلمات أقرب ما تكون إلى الألفاظ التي استعملها في اعترافه، ومن ثم يدينه ويحكم عليه بالعقوبة المناسبة للجريمة.
                          5- يشرع قاضي الصلح في استماع البينات في حالة إنكار المشتكى عليه التهمة أو رفضه الإجابة عليها أو إذا لم يقنع القاضي في اعترافه.
                          6-بعد سماع بينة النيابة يجوز للمحكمة أن تقرر عدم وجود قضية ضد المشتكى عليه وان تصدر قرارها الفاصل فيها وإلا سألت المشتكى عليه عما إذا يرغب في إعطاء إفادة دفاعاً عن نفسه فإذا أعطى مثل هذه الإفادة جاز لممثل النيابة العامة مناقشته. وبعد أن يعطي المشتكى عليه إفادة تسأله المحكمة إذا كان لديه شهود أو بينة أخرى يعزز فيها دفاعه فإذا ذكر أن لديه شهوداً دعتهم المحكمة وسمعت شهاداتهم وللمشتكى عليه أو وكيله حق توجيه أسئلة إلى شهود الدفاع، كما أن لممثل النيابة والمدعي الشخصي حق مناقشة هؤلاء الشهود.
                          7-بعد استماع البينات يبدي المدعي الشخصي مطالبه وممثل النيابة العامة مطالعته والظنين والمسؤول بالمال دفاعهما وبعد ذلك تحكم المحكمة في الحال أو في جلسة تالية، وهذا ثبت أن المشتكى عليه ارتكب الجرم المسند إليه تحكم عليه المحكمة بالعقوبة وتقضي في الحكم نفسه بالالتزامات المدنية.
                          8-تبين أن الفعل لا يؤلف جرماً أو أن المشتكى عليه برئ منه قررت المحكمة عدم مسؤوليته أو أعلنت براءته وتقضي على المدعي الشخصي في الوقت ذاته بطلب المشتكى عليه التعويض إذا ظهر لها أن الدعوى أقيمت عليه بصورة كيدية.
                          قانون أصول المحاكمات الجزائية في مصر.https://manshurat.org/node/14676


                          تعليق

                          • المهندس زهدي جمال الدين
                            12- عضو معطاء

                            حارس من حراس العقيدة
                            عضو شرف المنتدى
                            • 3 ديس, 2006
                            • 2169
                            • مسلم

                            #43
                            المطلب التاسع

                            إعادة المحاكمة

                            ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ۖ (الآية 50 من سورة يوسف).
                            لعل ما جاء في الآية الكريمة يقترب مما بات يعرف اليوم في قواعد أصول المحاكمات الجزائية منها والمدنية بإعادة المحاكمة ﴿ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ الآية 50 من سورة يوسف ، وهي إحدى الطرق غير العادية التي نص عليها القانون للطعن في الأحكام والقرارات الصادرة عن المحاكم وقد أجازت المادة (377) من الباب الرابع من قانون الإجراءات الجزائية رقم 3 لسنة 2001م لوزير العدل أن يطلب إعادة المحاكمة في دعاوى الجنايات والجنح أيّا كانت المحكمة التي حكمت بها، والعقوبة التي قضت بها، وذلك في الأحكام التي اكتسب الدرجة الباتة في مواد الجنايات والجنح في أحوال حددها المشرع حصرا بالتالي:
                            1- إذا حكم على شخص في جريمة قتل، ثم ظهرت أدلة تثبت أن المدعى بقتله قد وجد حياً.
                            2- إذا صدر حكم على شخص من أجل واقعة ثم صدر حكم على شخص آخر من أجل الواقعة عينها، وكان بين الحكمين تناقض بحيث يستنتج منه براءة أحد المحكوم عليهما.
                            3- إذا كان الحكم مبنياً على شهادة قضي بأنها كاذبة، أو على وثيقة قضي بعد صدور الحكم بأنها مزورة، وكان لهذه الشهادة أو الوثيقة تأثير في الحكم.
                            4- إذا ظهرت وقائع جديدة بعد صدور الحكم، أو أظهرت وثائق وأدلة كانت مجهولة حين صدور الحكم وكان من شأن هذه الوقائع أو الوثائق إثبات براءة المحكوم عليه.
                            5- إذا كان الحكم مبنياً على حكم صادر من محكمة مدنية أو إحدى محاكم الأحوال الشخصية وألغي هذا الحكم.
                            قرارات محكمة النقض المصرية المتعلقة بإعادة المحاكمة (التماس إعادة النظر):
                            يبين من نص المادة 441 من قانون الإجراءات الجنائية التي حددت حالات طلب إعادة النظر ومما ورد بمذكرتها الإيضاحية ومن المقارنة بينها وبين نص القانون الفرنسي المستمدة منه أن الحالات الأربع الأولى التي وردت في المادة المشار إليها، وهي حالات منضبطة يجمعها معيار محدد أساسه أن الواقعة الجديدة المسوغة لإعادة نظر الدعوى إما أن ينبني عليها بذاتها ثبوت براءة المحكوم عليه بوجود المدعى قتله حياً أو بقيام التناقض بين حكمين بحيث يستنتج منه براءة أحد المحكوم عليهما، وإما أن ينبني عليها انهيار أحد الأدلة المؤثرة في الحكم بالإدانة كالحكم على الشاهد أو الخبير بالعقوبة المقررة لشهادة الزور أو الحكم بتزوير ورقة قدمت في الدعوى أو إلغاء الأساس الذي بنى عليه الحكم.
                            والملاحظ أن القانون المصري كان في صدد تحديد الحالات التي يجوز فيها طلب إعادة النظر أكثر تشدداً من القانون الفرنسي، إذ بينما تنص الفقرة الأولى من المادة 441 من قانون الإجراءات الجنائية على " وجوب وجود المدعى قتله حياً " اعتباره وجهاً لإعادة النظر، يترخص القانون الفرنسي فيكتفي بظهور أوراق من شأنها إيجاد الأمارات الكافية على وجوده حياً.
                            وقد كان النص الفرنسي أمام الشارع المصري وقت وضع قانون الإجراءات الجنائية ومع ذلك فقد آثر إحتراماً لحجية الأحكام الجنائية ألا يكتفي بتطلب مجرد ظهور الدليل على وجود المدعى قتله حياً بل أوجب وجوده بالفعل حياً، مما يؤكد أنه يتطلب الدليل الجازم القاطع بذاته في ثبوت براءة المحكوم عليه أو سقوط الدليل على إدانته.
                            ولما كان من غير المقبول - على هدي ما تقدم - أن يتشدد الشارع في الحالات الأربع للمادة 441 من قانون الإجراءات الجنائية ليفتح الباب على مصراعيه في الحالة الخامسة التي تستوعب بعمومها ما تقدمها، وإنما قصد بها في ضوء الأمثلة التي ضربتها المذكرة الإيضاحية والتي تدل بذاتها على براءة المحكوم عليه أو يلزم عنها سقوط الدليل على إدانته أو على تحمله التبعة الجنائية، وباستصحاب سياسة التشريع والقاعدة العامة التي أرشد الشارع إلى عناصرها في الفقرات السابقة عليها - أن تكون نصاً احتياطيا ابتغاء أن يتدارك بها ما عساه أن يفلت من صور تتحاذى معها ولا تنفك عنها والتي قد يتعذر فيها إقامة الدليل على الوجه المتطلب قانوناً، كوفاة الشاهد أو عتهه أو تقادم الدعوى الجنائية قبله أو لغير ذلك من حالات شبيهة مما لازمة عدم الاكتفاء فيها بعدول مجرد لشاهد أو متهم عما سبق أن أدلى به لدى محكمة الموضوع دون أن يصاحب عدوله ما يحسم بذاته الأمر ويقطع بترتيب أثره في ثبوت براءة المحكوم عليه ، وهو ما يقيم موازنة عادلة لا إفراط فيها أو تفريط بين حق المحكوم عليه ومصالح المجتمع الذي يضيره المساس من غير سبب جازم بقوة الشيء المقضي فيه جنائياً وهي من حالات النظام العام التي تمس مصلحة المجتمع والتي تقضي بوضع حد لنزاع فصل فيه القضاء نهائياً، وهو ما سجلته المادة 455 من قانون الإجراءات الجنائية حين نصت على أنه لا يجوز الرجوع إلى الدعوى الجنائية بعد الحكم فيها نهائياً بناء على ظهور أدلة جديدة أو ظروف جديدة أو بناء على تغيير الوصف القانوني للجريمة، فأصبح بذلك حكم القضاء عنوان حقيقة هي أقوى من الحقيقة نفسها مما لا يصح معه النيل منها بمجرد دعوى غير حاسمة، كما أنه لا يجوز أن تكون محلاً للمساومة بين الأفراد.
                            والقول بغير ذلك مضيعة لوقت القضاء وهيبته ومجلبة لتناقض أحكامه ما بقي الأمر معلقاً بمشيئة المحكوم عليهم كلما حلا لهم تجديد النزاع وإعادة طرحه على القضاء.
                            طعن رقم 1868 لسنة 34 قضائية
                            تاريخ جلسة الحكم: 3/5/1966م.
                            فإذا حكم على شخص وبعد صدور الحكم قضى بالشهادة الكاذبة على من كان قد شهد عليه تعاد المحاكمة ولا تقبل شهادة هذا الشاهد في المحاكمة الجديدة.
                            ولعل السبب الذي من أجله أجيز لسيدنا يوسف طلب " إعادة المحاكمة " يتمثل في الشهادة الكاذبة أو بشكل أكثر دقة " كتمان الشهادة " لدى نسوة المدينة (للمزيد حول موضوع إعادة المحاكمة أنظر الزعبي، عوض أحمد " أصول المحاكمات المدنية " جزء2، ص 907_ 947).
                            وقد أبرزت النص القرآني ما حدث في إعادة المحاكمة بقوله تعالى في الآية 51 من سورة يوسف: ﴿ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ... وعندما ظهرت براءة سيدنا يوسف مما اتهمته امرأة العزيز به حكم له بالبراءة وأخرج من السجن وتوالت بعد ذلك الأحداث. يري بعض المفسرين أن سيدنا يوسف سجن لما شاع الحديث إيهاما أنه راود امرأة العزيز عن نفسها لأن القوم ظهر لهم أن من المصلحة حبسه إلى حين خشية أن تظهر براءته وسوء سلوك امرأة العزيز. أنظر ابن كثير، الحافظ عماد الدين، دار المعرفة، 1969.
                            ومن قانون الإجراءات الجنائية المصرية رقم 150 لسنة 1950 أنقل لكم الأتي:
                            https://manshurat.org/node/14676
                            المادة 43
                            لكل مسجون الحق في أن يُقدّم في أي وقت لمأمور السجن شكوى كتابة ً أو شفهياً ويطلب منه تبليغها للنيابة العامة - وعلى المأمور قبولها وتبليغها في الحال بعد إثباتها في سجل يُعد لذلك في السجن.
                            ولكل من علم بوجود محبوس بصفة غير قانونية أو في محل غير مخصص للحبس أن يُخطِر أحد أعضاء النيابة العامة - وعليه بمجرد علمه أن ينتقل فوراً إلى المحل الموجود به المحبوس وأن يقوم بإجراء التحقيق وأن يأمر بالإفراج عن المحبوس بصفة غير قانونية - وعليه أن يُحرر محضراً بذلك.


                            الفصل السادس في سماع الشهود (قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950)
                            المادة 110 يسمع قاضي التحقيق شهادة الشهود الذين يطلب الخصوم سماعهم ما لم ير عدم الفائدة من سماعهم.
                            وله أن يسمع شهادة من يرى لزوم سماعه من الشهود عن الوقائع التي تثبت أو تؤدي إلى ثبوت الجريمة وظروفها وإسنادها إلى المتهم أو براءته منها.
                            المادة 111 تقوم النيابة العامة بإعلان الشهود الذين يقرر قاضي التحقيق سماعهم. ويكون تكليفهم بالحضور بواسطة المحضرين، أو بواسطة رجال السلطة العامة.
                            ولقاضي التحقيق أن يسمع شهادة أي شاهد يحضر من تلقاء نفسه، وفي هذه الحالة يثبت ذلك في المحضر.
                            المادة 112 يسمع القاضي كل شاهد على انفراد، وله أن يواجه الشهود بعضهم ببعض وبالمتهم.
                            المادة 113 يطلب القاضي من كل شاهد أن يبين اسمه ولقبه وسنه وصناعته وسكنه وعلاقته بالمتهم، ويدون هذه البيانات وشهادة الشهود بغير كشط أو تحشير.
                            ولا يعتمد أي تصحيح أو شطب أو تخريج إلا إذا صدق عليه القاضي والكاتب والشاهد.
                            المادة 114 يضع كل من القاضي والكاتب إمضاءه على الشهادة وكذلك الشاهد بعد تلاوتها عليه وإقراره بأنه مصر عليها، فإن امتنع عن وضع إمضائه أو ختمه أو لم يمكنه وضعه أثبت ذلك في المحضر مع ذكر الأسباب التي يبديها. وفي كل الأحوال يضع كل من القاضي والكاتب إمضاءه على كل صفحة أولاً بأول.
                            المادة 115 عند الانتهاء من سماع أقوال الشاهد، يجوز للخصوم إبداء ملاحظاتهم عليها.
                            ولهم أن يطلبوا من قاضي التحقيق سماع أقوال الشاهد عن نقط أخرى يبينونها.
                            وللقاضي دائماً أن يرفض توجيه أي سؤال ليس له تعلق بالدعوى، أو يكون في صيغته مساس بالغير.
                            المادة 116 تطبق فيما يختص بالشهود أحكام المواد 283 و285 و286 و287 و288.
                            المادة 117 يجب على كل من دعي للحضور أمام قاضي التحقيق لتأدية شهادة أن يحضر بناءً على الطلب المحرر إليه وإلا جاز للقاضي الحكم عليه بعد سماع أقوال النيابة العامة بدفع غرامة لا تجاوز خمسين جنيهاً ويجوز له أن يصدر أمراً بتكليفه بالحضور ثانياً بمصاريف من طرفه، أو أن يصدر أمراً بضبطه وإحضاره.
                            المادة 118 إذا حضر الشاهد أمام القاضي بعد تكليفه بالحضور ثانياً أو من تلقاء نفسه وأبدى أعذاراً مقبولة، جاز إعفاؤه من الغرامة بعد سماع أقوال النيابة العامة، كما يجوز إعفاؤه بناء على طلب يقدم منه إذا لم يستطع الحضور بنفسه.
                            المادة 119 إذا حضر الشاهد أمام القاضي وامتنع عن أداء الشهادة أو عن حلف اليمين يحكم عليه القاضي في الجنح والجنايات بعد سماع أقوال النيابة العامة بغرامة لا تزيد على مائتي جنيه.
                            ويجوز إعفاؤه من كل أو بعض العقوبة إذا عدل عن امتناعه قبل انتهاء التحقيق.
                            المادة 120 يجوز الطعن في الأحكام الصادرة على الشهود من قاضي التحقيق طبقا للمادتين 117 و119. وتراعى في ذلك القواعد والأوضاع المقررة في القانون.
                            المادة 121 إذا كان الشاهد مريضاً أو لديه ما يمنعه من الحضور تسمع شهادته في محل وجوده، فإذا انتقل القاضي لسماع شهادته وتبين له عدم صحة العذر جاز له أن يحكم عليه بغرامة لا تجاوز مائتي جنيه.
                            وللمحكوم عليه أن يطعن في الحكم الصادر عليه بطريق المعارضة أو الاستئناف طبقاً لما هو مقرر في المواد السابقة.
                            المادة 122 يقدر قاضي التحقيق بناء على طلب الشهود المصاريف والتعويضات التي يستحقونها بسبب حضورهم لأداء الشهادة.
                            الفصل السابع في الاستجواب والمواجهة (قانون الإجراءات الجنائية رقم 150 لسنة 1950)
                            المادة 123 عند حضور المتهم لأول مرة في التحقيق يجب على المحقق أن يتثبت من شخصيته ثم يحيطه علماً بالتهمة المنسوبة إليه ويثبت أقواله في المحضر.
                            ويجب على المتهم بارتكاب جريمة القذف بطريق النشر في إحدى الصحف أو غيرها من المطبوعات، أن يقدم للمحقق عند أول استجواب له وعلى الأكثر في الخمسة الأيام التالية بيان الأدلة على كل فعل أسند إلى موظف عام أو شخص ذي صفة نيابية عامة أو مكلف بخدمة عامة وإلا سقط حقه في إقامة الدليل المشار إليه في الفقرة الثانية من المادة 302 من قانون العقوبات*. فإذا كلف المتهم بالحضور أمام المحكمة مباشرة وبدون تحقيق سابق وجب عليه أن يعلن إلى النيابة والمدعي بالحق المدني بيان الأدلة في الخمسة الأيام التالية لإعلان التكليف بالحضور وإلا سقط حقه كذلك في إقامة الدليل*.
                            ولا يجوز تأجيل نظر الدعوى في هذه الأحوال أكثر من مرة واحدة لمدة لا تزيد على ثلاثين يوماً وينطق بالحكم مشفوعاً بأسبابه.
                            * قضى بعدم دستورية الجزئين الأول والثاني من الفقرة.
                            المادة 124 لا يجوز للمحقق في الجنايات وفي الجنح المعاقب عليها بالحبس وجوباً أن يستجوب المتهم أو يواجهه بغيره من المتهمين أو الشهود إلا بعد دعوة محاميه للحضور عدا حالة التلبس وحالة السرعة بسبب الخوف من ضياع الأدلة على النحو الذي يثبته المحقق في المحضر.
                            وعلى المتهم أن يعلن اسم محاميه بتقرير لدى قلم كتّاب المحكمة أو إلى مأمور السجن، أو يخطر به المحقق، كما يجوز لمحاميه أن يتولى هذا الإعلان أو الإخطار.
                            وإذا لم يكن للمتهم محام، أو لم يحضر محاميه بعد دعوته، وجب على المحقق، من تلقاء نفسه، أن يندب له محامياً.
                            وللمحامي أن يثبت في المحضر ما يعن له من دفوع أو طلبات أو ملاحظات.
                            ويصدر المحقق بعد التصرف النهائي في التحقيق بناءً على طلب المحامي المنتدب أمراً بتقدير أتعابه وذلك استرشاداً بجدول تقدير الأتعاب الذي يصدر بقرار من وزير العدل بعد أخذ رأي مجلس النقابة العامة للمحامين وتأخذ هذه الأتعاب حكم الرسوم القضائية.
                            المادة 125 يجب السماح للمحامي بالاطلاع على التحقيق في اليوم السابق على الاستجواب أو المواجهة ما لم يقرر القاضي غير ذلك.
                            وفي جميع الأحوال لا يجوز الفصل بين المتهم ومحاميه الحاضر معه أثناء التحقيق.


                            تعليق

                            • المهندس زهدي جمال الدين
                              12- عضو معطاء

                              حارس من حراس العقيدة
                              عضو شرف المنتدى
                              • 3 ديس, 2006
                              • 2169
                              • مسلم

                              #44
                              المطلب العاشر

                              عدم جواز اصطناع الدليل

                              بعد أن نفذ إخوة سيدنا يوسف مخططهم الإجرامي بإلقاء يوسف في غيابة الجب، رجعوا إلى أبيهم يبكون كذبا واصطنعوا لأنفسهم دليلا بأن جاؤوا على قميص أخيه يوسف بدم كذب، وادعوا -كذبا-أن ذئبا أكله ليقنعوا أباهم ببراءتهم من دم أخيهم وفي ذلك قال تعالي ﴿ وَجَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ..، لكن أباهم أعرض عنهم ولم يصدق دعواهم قائلا لهم..﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ... (الآية 18 من سورة يوسف).
                              وقد تكررت ذات الموقف من سيدنا يعقوب عندما أخبره أبناؤه بمصير أخيهم "بنيامين " وأنه سرق واستبقاه عزيز مصر، حيث جاء النص القرآني مشحونا بالألم الذي ألم بسيدنا يعقوب مؤكدا لهم عدم تصديقه لهم فيما يدعون.
                              ﴿ ارْجِعُوا إِلَىٰ أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ يوسف:81.
                              ﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۝ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ۝ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ۝ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ سورة يوسف:83-86.
                              ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ يوسف: 86
                              والمستقر عليه التشريع أنه لا يجوز للخصم أن يصطنع دليلا لنفسه لإثبات دعواه:
                              جاء في "بحث في موسوعة القانون المشارك" أ.د. عبد الرزاق أحمد السنهوري:
                              "الأصل أن الدليل الذي يقدم ضد الخصم يكون صادراً منه حتى يكون دليلا عليه، فالورقة المكتوبة حتى تكون دليلا على الخصم يجب أن تكون بخطه أو بإمضائه، وإذا كانت الورقة ليست دليلا كاملا واقتصر أمرها على أن تكون مبدأ ثبوت بالكتابة، فانه يجب كذلك أن تكون صادرة من الخصم الذي يراد الاثبات ضده على التفصيل الذي سنبينه فيما بعد.
                              ومن ثم لا يجوز أن يكون الدليل الذي يتمسك به الخصم صادراً منه هو أو أن يكون من صنعه، فمن البداهة أن الشخص لا يستطيع أن يصطنع دليلا بنفسه لنفسه. (ولو يعطى الناس بدعواهم ـ كما جاء في الحديث الشريف ـ لادعى أناس دماء رجال وأموالهم) (أنظر طرق القضاء في الشريعة الإسلامية للأستاذ أحمد إبراهيم ص 235 ونظام الإثبات في القانون المدني المصري للأستاذ عبد الباسط جميعي ص 93)
                              فلا يجوز إذن أن يكون الدليل يقدمه الخصم على صحة دعواه مجرد أقواله وادعاءاته، او أن يكون ورقة صادرة منه، أو مذكرات دونها بنفسه. وتطبيقاً لذلك نصت الفقرة الأولى من المادة 972 من التقنين المدني على أنه (ليس لأحد ان يكسب بالتقادم على خلاف سنده، فلا يستطيع أحد أن يغير بنفسه لنفسه سبب حيازته ولا الأصل الذي تقوم عليه هذه الحيازة).
                              وهذه القاعدة فرع عن مبدأ أعم وأشمل، هو أن الشخص لا يستطيع أن يخلق بنفسه لنفسه سبباً لحق يكسبه، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه.
                              فالوارث الذي يقتل مورثه يحرم من إرثه، وإذا كان التأمين على حياة شخص غير المؤمن له برئت ذمة المؤمن من التزاماته متى تسبب المؤمن له عمداً في وفاة ذلك الشخص أو وقعت الوفاة بناء على تحريض منه، وإذا كان التأمين على الحياة لصالح شخص غير المؤمن له فلا يستفيد هذا الشخص من التأمين إذا تسبب عمداً في وفاة الشخص المؤمن على حياته أو وقعت الوفاة بناء على تحريض منه (م 757 مدني).
                              ويعتبر الشرط قد تحقق إذا كان الطرف الذي له مصلحة في أن يتخلف قد حال بطريق الغش دون تحققه، وكذلك لا أثر للشرط الذي تحقق إذا كان تحققه قد وقع بغش الطرف الذي له مصلحة في أن يتحقق (م 388 من مشروع التقنين المدني الحالي).
                              على أن القانون نص في بعض الحالات، لمبررات قدرها المشرع، على جواز أن يتمسك الشخص بدليل صدر منه هو.
                              من ذلك ما نصت عليه الفقرة الأولى من المادة 397 من التقنين المدني من أن (دفاتر التجار لا تكون حجة على غير التجار، غير أن البيانات المثبتة فيها عما ورده التجار تصلح أساساً يجيز للقاضي أن يوجه اليمين المتممة إلى أي من الطرفين وذلك فيما يجوز إثباته بالبينة).
                              ومن ذلك ما نص عليه التقنين التجاري من أن دفتر التاجر قد يكون حجة له على التاجر، إذ تقضى المادة 17 من هذا التقنين بأنه (يجوز للقضاة قبول الدفاتر التجارية لأجل الاثبات في دعاوى التجار المتعلقة بمواد تجارية إذا كانت تلك الدفاتر مستوفية للشروط المقررة قانوناً).
                              ومن ذلك أخيراً ما نصت عليه المادة 257 من تقنين المرافعات ـ
                              في حالة امتناع الخصم من تقديم ورقة يلزمه القانون بتقديمها ـ من أنه (إذا لم يقم الخصم بتقديم الورقة في الموعد الذي حددته المحكمة.. اعتبرت صورة الورقة التي قدمها خصمه صحيحة مطابقة لأصلها، فان لم يكن خصمه قد قدم صورة من الورقة جاز الأخذ بقوله فيما يتعلق بشكلها أو بموضوعها)
                              (على أن الورقة قد تكون صادرة من الخصم فيستند إليها الخصم الآخر، وفى هذا الاستناد إقرار من هذا الخصم الآخر بصحة ما جاء بالورقة، ومن ثم يجوز للخصم الأول ان يحتج بها بالرغم من أنها صادرة منه هو (نقض مدني 22 مايو سنة 1941 المحاماة 22 ص 250 ـ نظام الإثبات في القانون المدني المصري للأستاذ عبد الباسط جميعي ص 93.

                              تعليق

                              • المهندس زهدي جمال الدين
                                12- عضو معطاء

                                حارس من حراس العقيدة
                                عضو شرف المنتدى
                                • 3 ديس, 2006
                                • 2169
                                • مسلم

                                #45
                                المبحث الخامس

                                الآيات المتصلة بقانون العقوبات

                                ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ الآية رقم 9 من سورة يوسف. (جريمة المؤامرة وسبق الإصرار).
                                ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. الآية رقم 23 من سورة يوسف (جريمة عرض فعل منافي للحياء).
                                ﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ۚ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ الآية رقم 24 من سورة يوسف. (الشروع في الجريمة).
                                ﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ۚ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.. الآية رقم 25 من سورة يوسف (الجرم المشهود).
                                ﴿ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ... ﴿ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلَّا مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذًا لَّظَالِمُونَ الآيات 78 و79 من سورة يوسف (شخصية العقوبة).
                                ﴿ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ. الآية رقم 88 من سورة يوسف. (العفو العام والخاص).
                                ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ ۚ كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. الآية رقم 76 من سورة يوسف. (مبدأ إقليمية القانون والقانون الواجب التطبيق).
                                عرضت سورة يوسف لمبادئ وأنماط جرمية وموضوعات تتعلق بقانون العقوبات وستعرض الدراسة لهذه المبادئ والأنماط الجرمية في مطلبين، يعرض أولهما للأنماط الجرمية التي وردت الإشارة إليها في السورة، أما الثاني فيبحث في الموضوعات المتعلقة بقانون العقوبات.

                                المطلب الأول

                                بعض الأنماط الجرمية التي عرضت لها سورة يوسف

                                ورد في سورة يوسف آيات تشير إلى بعض من السلوكيات التي كانت تعد جرائم في وقت ارتكابها وفقا للشرائع السائدة في زمان حدوث القصة، وقد لاحظت الدراسة أن تلك السلوكيات قد ورد النص على تجريمها في قانون العقوبات المصري وسيتم تاليا عرض أبرز تلك الجرائم.
                                الفرع الأول

                                المؤامرة والإنفاق الجنائي

                                قال تعالي ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ يوسف:9.
                                في معرض كيدهم لأخيهم يوسف، تداول إخوة يوسف في الأمر، وتبادلوا الآراء حول ما سيفعلونه بأخيهم، فكان هناك رأي يقول بقتل يوسف، ورأي بإبعاده إلى أرض بعيدة عن ديارهم يكون فيها غير آمن من الوحوش، وجاء رأى ثالث ينهي عن قتل يوسف ويدعو إلى إلقائه في بئر قد يموت فيها وقد يلتقطه بعض المسافرين، وأيا ما كانت وجهات نظر إخوة سيدنا يوسف في شأن المكيدة له، فإن ما قاموا به يدخل في باب التآمر لارتكاب جريمة.
                                ولكن المؤامرة في سياق التشريعات الحديثة لا تكون إلا فيما يتعلق بالجرائم المخلة بأمن الدولة، فالمشرع المصري لا يعاقب على الاتفاق الجنائي العام، ولكنه يعاقب على الاتفاق الجنائي الخاص بارتكاب بعض الجرائم الواقعة مثلما إذا اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة ما أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائيا سواء أكان الغرض منه جائزا أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التي لوحظت في الوصول إليه.
                                ويؤكد هذا الاتجاه في قانون العقوبات المصري ما تم عرضه في:
                                المحكمة الدستورية العليا المصرية
                                قضية رقم 114 لسنة 21 قضائية المحكمة الدستورية العليا "دستورية"
                                مبادئ الحكم: الرقابة على دستورية القوانين (جنائي).
                                نص الحكم
                                باسم الشعب
                                المحكمة الدستورية العليا
                                بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 2 يونية سنة 2001 م، الموافق العاشر من ربيع الأول سنة 1422هـ
                                برئاسة السيد المستشار/ محمد ولي الدين جلال
                                رئيس المحكمة
                                والسادة المستشارين/ حمدي محمد علي وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض وماهر البحيري ومحمد علي سيف الدين وعدلي محمود منصور
                                أعضاء
                                وحضور السيد المستشار/ محمد خيري طه عبد المطلب النجار
                                رئيس هيئة المفوضين
                                وحضور السيد/ ناصر امام محمد حسن
                                أمين السر
                                أصدرت الحكم الآتي
                                في القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 114 لسنة 21 قضائية "دستورية".
                                المقامة من
                                السيد/ ...
                                ضد
                                1- السيد/ رئيس الجمهورية
                                2- السيد/ وزير العدل
                                3- السيد/ رئيس مجلس الشعب
                                4- السيد/ النائب العام
                                الإجراءات
                                بتاريخ الثاني والعشرين من يونيو سنة 1999 أودع المدعي قلم كتاب المحكمة صحيفة الدعوى الماثلة طالبا الحكم بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات.
                                وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة طلبت فيها الحكم برفض الدعوى.
                                وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريرا برأيها.
                                ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم.
                                المحكمة
                                بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة.
                                حيث إن الوقائع - على ما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق - تتحصل في أن النيابة العامة أحالت المدعي إلى محكمة جنايات طنطا، متهمة إياه بأنه - بدائرة مركز زفتى محافظة الغربية – (...................)، وأثناء نظر الدعوى دفع المدعي بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات، فقدرت محكمة الموضوع جدية هذا الدفع وصرحت له برفع الدعوى الدستورية فأقام الدعوى الماثلة.
                                وحيث إن المادة 48 من قانون العقوبات يجرى نصها كالآتي: فقرة أولى "يوجد اتفاق جنائي كلما اتحد شخصان فأكثر على ارتكاب جناية أو جنحة ما أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ويعتبر الاتفاق جنائيا سواء أكان الغرض منه جائزا أم لا إذا كان ارتكاب الجنايات أو الجنح من الوسائل التي لوحظت في الوصول إليه.
                                "فقرة ثانية" وكل من اشترك في اتفاق جنائي سواء كان الغرض منه ارتكاب الجنايات أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب لمجرد اشتراكه بالسجن.
                                فإذا كان الغرض من الاتفاق ارتكاب الجنح أو اتخاذها وسيلة للوصول إلى الغرض المقصود منه يعاقب المشترك فيه بالحبس.
                                "فقرة ثالثة" وكل من حرض على اتفاق جنائي من هذا القبيل أو تداخل في إدارة حركته يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة في الحالة الأولى المنصوص عليها في الفقرة السابقة وبالسجن في الحالة الثانية.
                                "فقرة رابعة" ومع ذلك إذا لم يكن الغرض من الاتفاق إلا ارتكاب جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرات السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة.
                                "فقرة خامسة" ويعفى من العقوبات المقررة في هذه المادة كل من بادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود اتفاق جنائي، وبمن اشتركوا فيه قبل وقوع أية جناية أو جنحة، وقبل بحث وتفتيش الحكومة عن أولئك الجناة، فإذا حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل الإخبار فعلا إلى ضبط الجناة الأخرين".
                                وحيث إن المدعي ينعى على نص هذه المادة عدم بيانه للركن المادي للجريمة، ذلك أن الركن المادي هو سلوك أو نشاط خارجي، فلا جريمة بغير فعل أو ترك، ولا يجوز للمشرع الجنائي أن يعاقب على مجرد الأفكار والنوايا، باعتبار أن أوامر القانون ونواهيه لا تنتهك بالنية وحدها، وإنما بالأفعال التي تصدر عن إرادة آثمة؛ فضلا عن أن النص جاءت صياغته واسعة يمكن تحميلها بأكثر من معنى وتتعدد تأويلاتها إذ ترك تحديد الأعمال المجهزة والمسهلة للجريمة لاجتهادات مختلفة مما يفقده خاصية اليقين التي يجب توافرها في النصوص الجزائية.
                                وحيث إنه باستعراض التطور التاريخي للمادة 48 المشار إليها، يبين أن المشرع المصري أدخل جريمة الاتفاق الجنائي كجريمة قائمة بذاتها - تختلف عن الاتفاق كسبيل من سبل المساهمة الجنائية - بالمادة 47 مكررة من قانون العقوبات الأهلي، وكان ذلك بمناسبة اغتيال رئيس مجلس النظار سنة 1910 فقدمت النيابة العامة إلى قاضي الإحالة تسعة متهمين أولهم بتهمة القتل العمد مع سبق الاصرار والترصد، والباقين بتهمة الاشتراك في القتل، غير أن القاضي اقتصر على تقديم الأول إلى محكمة الجنايات ورفض إحالة الباقين لعدم توافر أركان الجريمة قبلهم، فتقدمت الحكومة إلى مجلس شورى القوانين بمشروع بإضافة نص المادة 47 مكررة إلى قانون العقوبات الأهلي- وهو يؤثم جريمة الاتفاق الجنائي المجرد على ذات النحو الذي ورد بعد ذلك بالنص الطعين مع خلاف بسيط في الصياغة - غير أن المجلس عارض الموافقة على المشروع مستندا إلى أن القانون المصري - كالقوانين الأخرى - لا يعاقب على شئ من الأعمال التي تتقدم الشروع في ارتكاب الجريمة، كالتفكير فيها والتصميم عليها واتفاق الفاعلين أو الفاعلين والشركاء على كيفية ارتكابها، ولا على إتيان الأعمال المجهزة أو المحضرة لها.
                                وعرج المجلس إلى المقارنة بين النص المقترح ونظيره في القانون المقارن موضحا أن القانون الفرنسي يشترط للتجريم وجود جمعية من البغاة أو اتفاق بين عدة أشخاص وأن يكون غرض الجمعية أو الاتفاق تحضير أو ارتكاب جنايات على الأشخاص والأموال. وأشار المجلس إلى أنه إذا كانت هناك حاجة للاستثناء من ذلك فيجب أن يكون بقدر الضرورة التي يقتضيها حفظ النظام، وأنه لأجل أن تكون المادة 47 مكررة مقيسة بمقياس الضرورة النافعة فيجب ألا تشمل سوى الجمعيات التي يخشى منها على ما يجب للموظفين العموميين أو السياسيين من الطمأنينة، أو بعبارة أخرى يجب أن لا يقصد منها إلا حماية نظام الحكومة، فلا يشمل النص الأحوال الأخرى كالاتفاقات الجنائية التي تقع بين شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة تدخل في باب الجرائم العادية كجرائم السرقة أو الضرب أو التزوير أو غير ذلك من الجرائم الواقعة على الأشخاص وعلى الأموال؛ غير أن نظارة الحقانية رفضت اقتراح المجلس إذ رأته يثير صعوبات كبيرة في العمل ويفتقد الضمانات الفعالة ضد جميع الاتفاقات التي تكون غايتها تحقيق المقاصد السياسية بطريق القوة، وأضافت أن القانون الجديد لم يوضع إلا للأحوال التي تجعل الأمن العام في خطر، ولن يعمل به أصلا بما يجعله مهددا للحرية الشخصية، والمأمول أن لا تدعو الأحوال إلى تطبيق هذا القانون إلا في النادر كما في البلاد التي استقى منها. وصدر نص المادة 47 مكررة عقوبات أهلي معاقبا على الاتفاق الجنائي، بعد أن برر مستشار الحكومة استعمال المشرع لتعبير الاتفاق الجنائي بديلا عن كلمة association الواردة في القانون الفرنسي - والتي جاءت أيضا في النسخة الفرنسية لقانون العقوبات الأهلي - بأن هذا اللفظ الأخير قد يفيد قدرا من التنظيم والاستمرار.
                                وحيث إن أحكام القضاء في شأن جريمة الاتفاق الجنائي - كجريمة قائمة بذاتها - اتجهت في البداية إلى وجوب قيام اتفاق منظم ولو في مبدأ تكوينه وأن يكون مستمرا ولو لمدة من الزمن، واستند القضاء في ذلك إلى الاسترشاد بالفكرة التي حملت المشرع إلى تجريم الاتفاق الجنائي، غير أنه عدل بعد ذلك عن هذا الاتجاه، فقضي بأن مجرد الاتفاق على ارتكاب جناية أو جنحة كاف بذاته لتكوين جريمة الاتفاق الجنائي بلا حاجة إلى تنظيم ولا إلى استمرار، وقد أشير في بداية هذا العدول إلى أن المادة 47 مكررة عقوبات أهلي هي في حقيقة الواقع من مشكلات القانون التي لا حل لها لأنها أتت بمبدأ يلقي الاضطراب الشديد في بعض أصول القانون الأساسية، وأن عبارات التنظيم والاستمرار هي عبارات اضطرت المحاكم للقول بها هربا من طغيان هذه المادة، والظاهر - من الأعمال التحضيرية للنص - أن مراد واضعيه أن يكون بيد الحكومة أداة تستعملها عند الضرورة وفي الأحوال الخطرة استعمالا لا يكون في اتساع ميدانه وشموله محلا للتأويل من جهة القضاء التي تطبقه، وأن الأجدر معاودة النظر في ذلك النص بما يوائم بين الحفاظ على النظام والأمن العام من جهة ويزيل اللبس والخلط بينه والمبادئ الأخرى، وإلى أن يتم ذلك فلا سبيل لتفادي إشكال هذا النص ومنع إضراره، إلا ما حرصت عليه النيابة العامة من عدم طلب تطبيقه إلا في الأحوال الخطرة على الأمن العام. وإذا كان المشرع قد عاود النظر مرتين في المادة سالفة الذكر سنتي 1933، 1937 إلا أنه ظل على فكرته الأساسية فيها التي تقوم على عقاب الاتفاق البسيط على ارتكاب أية جناية أو جنحة، ولو لم تقع أية جريمة نتيجة لذلك الاتفاق.
                                وحيث إن نص المادة 48 المشار إليها كان محل انتقاد اللجنة التي شكلت لوضع آخر مشروع حديث متكامل لقانون العقوبات - خلال الوحدة بين مصر وسوريا تحت إشراف مستشار رئيس الجمهورية للشئون القانونية آنذاك - برئاسة الأستاذ على بدوى وزير العدل وعميد كلية الحقوق بجامعة القاهرة الأسبق وعضوية كل من رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض والمستشار عادل يونس والدكتور علي راشد أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق بجامعة عين شمس... وغيرهم، حيث ورد بالمذكرة الإيضاحية للمشروع أنه قد أصلح من أحكام جريمة الاتفاق الجنائي التي تم وضع نصها في ظروف استثنائية والتي لم يكن لها نظير... وأعيدت صياغة أحكامها بحيث تتفق مع اتجاهات التشريع الحديث؛ واختتمت تلك المذكرة بأنه قد رؤي أنه من الأفضل أن يلحق بالنصوص المقترحة ما يتصل بها من تعليقات وإيضاحات مبررة لها أو مفسرة لأحكامها كترجمة مباشرة لأفكار من اشتركوا في صوغ أحكامه وقت مناقشتها مما لا يتوفر عادة في المذكرات الإيضاحية... فضلا عن ميزة تسهيل الوقوف على مقاصد النصوص التي تم التوصل إليها بإجماع الآراء... وبذلك يكون المشروع خلاصة لأعمال لجان متعددة ومشاريع استغرق وضعها سنين طويلة الأمد، روجعت على ضوء القانون المقارن والفقه الحديث ونشاط المؤتمرات الدولية ليكون ذلك القانون مرآة لما بلغته الجمهورية من تطور مرموق في الميدان التشريعي.
                                وفي مقام التعليق على نص المشروع في المادة 59 منه (المقابلة للمادة 48 من قانون العقوبات) أوردت اللجنة أنها "رأت بمناسبة وضع التشريع الجديد أن جريمة الاتفاق الجنائي على الوضع المقرر في التشريع المصري الحالي في المادة 48 إنما هو نظام استثنائي اقتضت إنشاءه ظروف استثنائية ويندر وجود نظير له في الشرائع الأخرى الحديثة.. هذا فضلا عما أفضى إليه تطبيقه من الاضطراب والجدل في تفسير أحكامه، ولذلك فضلت اللجنة العدول عنه في المشروع الجديد اكتفاء بجرائم الاتفاقات الخاصة التي نص عليها القانون في حالات معينة بارزة الخطورة.
                                يضاف إلى ذلك أن اللجنة رأت... اعتبار تعدد المجرمين.. ظرفا مشددا إذا وقعت الجريمة بناء على اتفاقهم السابق، فإذا بقى الاتفاق بغير نتيجة كان هناك محل لتوقيع التدابير الاحترازية التي يقررها القانون... بدلا من توقيع العقوبات العادية...، وتحديدا لمعنى الخطورة... اشترط النص أن يقع الاتفاق بين ثلاثة على الأقل حتى يتحقق الظرف المشدد أو يتوافر شرط توقيع التدابير الاحترازية.
                                وليس المراد بالاتفاق في هذه الحالة مجرد التفاهم العرضي وإنما هو الاتفاق المصمم عليه الذي تدبر فيه الجريمة وكيفية ارتكابها، وهذا النوع من الاتفاق هو الذي يبلغ درجة من الخطورة تقتضي معالجتها تشريعيا بتشديد العقاب إذا وقعت الجريمة المدبرة، أو بتوقيع التدابير الاحترازية التي يقررها القانون... إذا لم تقع الجريمة، والمفهوم من تعبير وقوع الجريمة نتيجة للاتفاق... هو أن تقع الجريمة تامة أو مشروعا فيها شروعا معاقبا عليه".
                                وحيث إنه إذا كان الهدف من التجريم قديما هو مجرد مجازاة الجاني عن الجريمة التي اقترفها، فقد تطور هذا الهدف في التشريع الحديث ليصبح منع الجريمة سواء كان المنع ابتداء أو ردع الغير عن ارتكاب مثلها، فالاتجاهات المعاصرة للسياسة الجنائية في مختلف الدول تتجه - كما تشير المؤتمرات المتعاقبة للأمم المتحدة بشأن منع الجريمة ومعاملة المجرمين - إلى أهمية اتخاذ التدابير المانعة لوقوع الجريمة وسن النصوص التي تكفل وقاية المجتمع منها وتجريم الاشتراك في الجمعيات الإجرامية وتنمية التعاون الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة، إلا أن شرعية النصوص التي تتخذ كوسيلة لتحقيق هذه الأهداف مناطها توافقها وأحكام الدستور واتفاقها ومبادئه ومقتضاه، ومن ثم يتعين على المشرع - في هذا المقام - إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى.
                                وحيث إن الدستور ينص في المادة 41 على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهى مصونة لا تمس..." كما ينص في المادة 66 على أن: "العقوبة شخصية.
                                ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون"، كما حرص في المادة 67 على تقرير افتراض البراءة، فالمتهم برئ إلى أن تثبت إدانته في محاكمة منصفة تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه.
                                وحيث إن الدستور - بنص المادة 66 سالفة الذكر - قد دل على أن لكل جريمة ركنا ماديا لا قوام لها بغيره يتمثل أساسا في فعل أو امتناع وقع بالمخالفة لنص عقابي، مفصحا بذلك عن أن ما يركن إليه القانون الجنائي ابتداء في زواجره ونواهيه هو مادية الفعل المؤاخذ على ارتكابه إيجابيا كان هذا الفعل أم سلبيا، ذلك أن العلائق التي ينظمها هذا القانون في مجال تطبيقه على المخاطبين بأحكامه، محورها الأفعال ذاتها، في علاماتها الخارجية، ومظاهرها الواقعية، وخصائصها المادية، إذ هي مناط التأثيم وعلته، وهى التي يتصور إثباتها ونفيها، وهى التي يتم التمييز على ضوئها بين الجرائم بعضها البعض، وهى التي تديرها محكمة الموضوع على حكم العقل لتقييمها وتقدير العقوبة المناسبة لها، ولا يتصور بالتالي وفقا لأحكام الدستور أن توجد جريمة في غيبة ركنها المادي، ولا إقامة الدليل على توافر السببية بين مادية الفعل المؤاثم والنتائج التي أحدثها بعيدا عن حقيقة هذا الفعل ومحتواه.
                                ولازم ذلك أن كل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية - وليس النوايا التي يضمرها الإنسان في أعماق ذاته - تعتبر واقعة في منطقة التجريم كلما كانت تعكس سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا.
                                فإذا كان الأمر غير متعلق بأفعال أحدثتها إرادة مرتكبها، وتم التعبير عنها خارجيا في صورة مادية لا تخطئها العين، فليس ثمة جريمة.
                                وحيث إنه من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين الجزائية، أن تكون درجة اليقين التي تنتظم أحكامها في أعلى مستوياتها، وأظهر في هذه القوانين منها في أية تشريعات أخرى، ذلك أن القوانين الجزائية تفرض على الحرية الشخصية أخطر القيود وأبلغها أثرا، ويتعين بالتالي - ضمانا لهذه الحرية - أن تكون الأفعال التي تؤثمها هذه القوانين محددة بصورة قاطعة بما يحول دون التباسها بغيرها، وأن تكون تلك القوانين جلية واضحة في بيان الحدود الضيقة لنواهيها، ذلك أن التجهيل بها أو انبهامها في بعض جوانبها لا يجعل المخاطبين بها على بينة من حقيقة الأفعال التي يتعين عليهم تجنبها. كذلك فإن غموض مضمون النص العقابي مؤداه أن يحال بين محكمة الموضوع وبين إعمال قواعد منضبطة تعين لكل جريمة أركانها وتقرر عقوبتها بما لا خفاء فيه.
                                وهى قواعد لا ترخص فيها وتمثل إطارا لعملها لا يجوز تجاوزه، ذلك أن الغاية التي يتوخاها الدستور هي أن يوفر لكل مواطن الفرص الكاملة لمباشرة حرياته في إطار من الضوابط التي قيدها بها، ولازم ذلك أن تكون القيود على الحرية التي تفرضها القوانين الجزائية، محددة بصورة يقينية لأنها تدعو المخاطبين بها إلى الامتثال لها لكى يدفعوا عن حقهم في الحياة وكذلك عن حرياتهم، تلك المخاطر التي تعكسها العقوبة، بحيث لا يتم تجاوز الحدود التي اعتبرها الدستور مجالا حيويا لمباشرة الحقوق والحريات التي كفلها، وهو ما يخل في النهاية بالضوابط الجوهرية التي تقوم عليها المحاكمة المنصفة وفقا لنص المادة 67 من الدستور.
                                وحيث إن البين من استقراء نص الفقرة الأولى من المادة 48 المشار إليها أنها عرفت الاتفاق الجنائي بأنه اتحاد شخصين أو أكثر على ارتكاب جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، ولم يشترط النص عددا أكثر من اثنين لقيام الجريمة، كما لم يتطلب أن يستمر الاتفاق لمدة معينة أو أن يكون على قدر من التنظيم، وقد يكون محل الاتفاق عدة جنايات، أو عدة جنح، أو مجموعة جرائم مختلطة من النوعين معا، كما قد لا يرد الاتفاق إلا على جناية أو جنحة واحدة، ولم يستلزم النص أن تكون الجريمة أو الجرائم المتفق على ارتكابها على درجة من الجسامة، بل قد يكون محل الاتفاق اقتراف أي جنحة مهما كانت قليلة الأهمية في دلالتها الإجرامية، كما أنه ليس بلازم أن تتعين الجناية أو الجنحة محل الاتفاق كما لو تم الاتفاق على استعمال العنف - بأي درجة - لتحقيق غاية الاتفاق، سواء كانت هذه الغاية في ذاتها مشروعة أو غير مشروعة، ومن ثم فإن نطاق التجريم جاء واسعا فضفاضا لا تقتضيه ضرورة اجتماعية مبررة.
                                وحيث إن قضاء هذه المحكمة قد جرى على أن شرعية الجزاء - جنائيا كان أم مدنيا أم تأديبيا - مناطها أن يكون متناسبا مع الأفعال التي أثمها المشرع أو حظرها أو قيد مباشرتها.
                                فالأصل في العقوبة هو معقوليتها، فكلما كان الجزاء الجنائي بغيضا أو عاتيا، أو كان متصلا بأفعال لا يسوغ تجريمها، أو مجافيا بصورة ظاهرة للحدود التي يكون معها متناسبا مع خطورة الأفعال التي أثمها المشرع، فإنه يفقد مبررات وجوده ويصبح تقييده للحرية الشخصية اعتسافا؛ متى كان ذلك، وكانت الفقرة الثانية من المادة 48 تقرر عقوبة السجن على الاتفاق الجنائي على ارتكاب جناية، وكانت عقوبة السجن هي وضع المحكوم عليه في أحد السجون العمومية وتشغيله داخل السجن أو خارجه في الأعمال التي تعينها الحكومة المدة المحكوم بها عليه، ولا يجوز أن تنقص عن ثلاث سنوات ولا أن تزيد على خمس عشرة سنة إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانونا، بينما هناك جنايات كثيرة حدد المشرع العقوبة فيها بالسجن مدة تقل عن خمس عشرة سنة؛ كما تنص ذات الفقرة على أن عقوبة الاتفاق الجنائي على ارتكاب الجنح هي الحبس أي وضع المحكوم عليه في أحد السجون المركزية أو العمومية المدة المحكوم بها عليه وحدها الأدنى أربع وعشرون ساعة ولا تزيد على ثلاث سنوات إلا في الأحوال الخصوصية المنصوص عليها قانونا، بينما هناك جنح متعددة حدد المشرع العقوبة فيها بالحبس مدة تقل عن ثلاث سنوات؛ وهو ما يكشف عن عدم تناسب العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من النص المطعون فيه مع الفعل المؤاثم، ولا وجه للمحاجة في هذا المقام بأن الفقرة الرابعة من المادة 48 المشار إليها تقضي بأنه إذا كان محل الاتفاق جناية أو جنحة معينة عقوبتها أخف مما نصت عليه الفقرة السابقة فلا توقع عقوبة أشد مما نص عليه القانون لتلك الجناية أو الجنحة، ذلك أن محل الاتفاق - كما سبقت الاشارة - قد يكون ارتكاب جناية أو جنحة غير معينة بذاتها وعندئذ توقع العقوبات الواردة في الفقرة الثانية من المادة وحدها، وهي تصل إلى السجن خمس عشرة سنة أو الحبس ثلاث سنوات - حسب الأحوال - ولا شك أنها عقوبات مفرطة في قسوتها تكشف عن مبالغة المشرع في العقاب بما لا يتناسب والفعل المؤثم.
                                وحيث إنه لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها، وكانت الفقرة الرابعة من المادة 48 تقرر توقيع العقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق على مجرد الاتفاق على اقترافها حتى ولو لم يتم ارتكابها فعلا، فإنها بذلك لا تحقق ردعا عاما ولا خاصا، بل إن ذلك قد يشجع المتفقين على ارتكاب الجريمة محل الاتفاق طالما أن مجرد الاتفاق على اقترافها سيؤدي إلى معاقبتهم بذات عقوبة ارتكابها.
                                وحيث إن السياسة الجنائية الرشيدة يتعين أن تقوم على عناصر متجانسة، فإن قامت على عناصر متنافرة نجم عن ذلك افتقاد الصلة بين النصوص ومراميها، بحيث لا تكون مؤدية إلى تحقيق الغاية المقصودة منها لانعدام الرابطة المنطقية بينها؛ تقديرا بأن الأصل في النصوص التشريعية - في الدولة القانونية - هو ارتباطها عقلا بأهدافها، باعتبار أن أي تنظيم تشريعي ليس مقصودا لذاته، وإنما هو مجرد وسيلة لتحقيق تلك الأهداف؛ ومن ثم يتعين دائما استظهار ما إذا كان النص الطعين يلتزم إطارا منطقيا للدائرة التي يعمل فيها، كافلا من خلالها تناغم الأغراض التي يستهدفها، أم متهادما مع مقاصده أو مجاوزا لها، ومناهضا - بالتالي - لمبدأ خضوع الدولة للقانون المنصوص عليه في المادة 65 من الدستور؛ متى كان ذلك وكان المشرع الجنائي قد نظم أحكام الشروع في الباب الخامس من قانون العقوبات (المواد من 45 إلى 47) وهو الذي يسبق مباشرة الباب السادس الخاص بالاتفاق الجنائي، وكان الشروع هو البدء في تنفيذ فعل بقصد ارتكاب جناية أو جنحة إذا أوقف أثره لأسباب لا دخل لإرادة الفاعل فيها، وكان مجرد العزم على ارتكاب الجريمة أو الأعمال التحضيرية لذلك لا يعتبر شروعا، بحيث يتعدى الشروع مرحلة مجرد الاتفاق على ارتكاب الجريمة إلى البدء فعلا في تنفيذها، وكان الشروع غير معاقب عليه في الجنح إلا بنص خاص، أما في الجنايات فإن عقوبة الشروع تقل درجة عن العقوبة المقررة لارتكاب الجناية، أو بما لا يزيد على نصف الحد الأقصى للعقوبة المقررة للجريمة التامة؛ فإذا أعقب المشرع تلك الأحكام بالنص في المادة 48 على تجريم مجرد اتحاد إرادة شخصين أو أكثر على ارتكاب أي جناية أو جنحة أو على الأعمال المجهزة أو المسهلة لارتكابها، وتحديد العقوبة على النحو السالف بيانه بالعقوبة المقررة لارتكاب الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإنه يكون منتهجا نهجا يتنافر مع سياسة العقاب على الشروع، ومناقضا - بالتالي - للأسس الدستورية للتجريم.
                                وحيث إن الفقرة الأخيرة من المادة 48 تقرر الاعفاء من العقوبات المقررة لمن يبادر من الجناة بإخبار الحكومة بوجود الاتفاق الجنائي والمشتركين فيه قبل وقوع الجناية أو الجنحة محل الاتفاق، فإن حصل الإخبار بعد البحث والتفتيش تعين أن يوصل إلى ضبط الجناة، وذلك ابتغاء تشجيع المتفقين على الابلاغ بإعفائهم من العقاب على النحو السالف البيان؛ إلا أن مؤدى النص أنه إذا ما تم الاتفاق ثم عدل المتفقون جميعا من تلقاء أنفسهم عن المضي في الاتفاق فإن جريمة الاتفاق الجنائي تكون قد وقعت متكاملة الأركان ويحق العقاب على المتفقين، فيغدو ارتكاب الجريمة محل الاتفاق - في تقدير المتفقين - ليس أسوأ من مجرد الاتفاق عليها ولا يكون لتجنب ارتكابها والعدول عن اقترافها فائدة ما، وهو ما يعني عدم تحقيق النص المطعون عليه للمقاصد التي ابتغاها المشرع.
                                وحيث إن الرقابة القضائية التي تباشرها هذه المحكمة في شأن دستورية النصوص العقابية، تضبطها مقاييس صارمة، ومعايير حادة تلتئم وطبيعة هذه النصوص في اتصالها المباشر بالحرية الشخصية التي أعلى الدستور قدرها، مما يفرض على المشرع الجنائي أن ينتهج الوسائل القانونية السليمة سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية لضمان ألا تكون العقوبة أداة عاصفة بالحرية، وأن تكون العقوبة التي يفرضها في شأن الجريمة تبلور مفهوما للعدالة يتحدد على ضوء الأغراض الاجتماعية التي تستهدفها، فلا يندرج تحتها مجرد رغبة الجماعة في إرواء تعطشها للثأر والانتقام، أو سعيها للبطش بالمتهم، كما لا يسوغ للمشرع أن يجعل من نصوصه العقابية شباكا أو شراكا يلقيها ليتصيد باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وكان الجزاء الجنائي لا يعد مبررا إلا إذا كان واجبا لمواجهة ضرورة اجتماعية لها وزنها، ومتناسبا مع الفعل المؤاثم فإن جاوز ذلك كان مفرطا في القسوة مجافيا للعدالة، ومنفصلا عن أهدافه المشروعة؛ متى كان ما تقدم جميعه فإن المادة 48 المشار إليها تكون قد وقعت في حمأة المخالفة الدستورية لخروجها على مقتضى المواد 41 و65 و66 و67 من الدستور.
                                فلهذه الأسباب
                                حكمت المحكمة بعدم دستورية نص المادة 48 من قانون العقوبات، وألزمت الحكومة المصروفات ومبلغ مائة جنيه مقابل أتعاب المحاماة.
                                ولعل تكييف ما قام به إخوة سيدنا يوسف من أفعال يندرج ضمن المفهوم العام للتحضير للجريمة وهي تشكل في المفهوم القانوني ما يسمي بسبق الإصرار الذي يعتبر ظرفا مشددا للعقوبة.

                                تعليق

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                مواضيع من نفس المنتدى الحالي

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة المهندس زهدي جمال الدين, 11 أغس, 2020, 09:40 ص
                                ردود 58
                                2,180 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة المهندس زهدي جمال الدين
                                ابتدأ بواسطة السهم, 10 ينا, 2008, 12:34 ص
                                ردود 53
                                35,272 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة صالح بلقيس
                                بواسطة صالح بلقيس
                                ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 9 يول, 2019, 05:31 ص
                                ردود 37
                                2,643 مشاهدات
                                4 ردود الفعل
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 18 ديس, 2007, 10:49 ص
                                ردود 28
                                17,706 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفضة
                                بواسطة الفضة
                                يعمل...