الحوار الدعوي، أصوله وضوابطه
المقدمة
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أنبياء الله أجمعين، عليهم وعلى نبينا أزكى الصلاة والتسليم، وبعد:
فقد خلق الله آدم عليه السلام، وندبه من بعده إلى عمارة الأرض بمنهج الله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]، ودعاهم تبارك وتعالى إلى التمسك بهديه الذي أرسل به أنبياءه: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: ٣٨].
وشاء الله بحكمته البالغة أن يختلف البشر في اتباعهم لأنبياء الله ورسله، فمنهم شقي وسعيد، وأرسل الله الأنبياء يقيمون حجته على خلقه، يدعونهم إلى دين الله الذي ارتضاه لخلقه ديناً ليكونوا من السعداء، ويحذرونهم من عصيان أمره حتى لا يكونوا من الأشقياء، ولكن إرسالهم لن يمنع تحقق ما قد سبق في علم الله، فإن أكثر الناس لا يؤمنون ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ [يوسف: ١٠٣].
وأمام هذه السنة الكونية فإن المسلم مطالب بدعوة الآخرين إلى الحق الذي شرح الله به صدره، وهو على يقين بأن هداية الله قد لا تكتب لكثيرين ممن يدعوهم، فلا يمنعه ذلك من بلاغهم: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: ٤٨].
وحين يعرض الناس عن دعوة الله ولا يؤمنون بها، فإن المسلم لا يتوقف عن التفاعل مع الآخرين اجتماعياً وحضارياً، رائده في ذلك كتاب ربه، وأسوته نبيهe، إذ القرآن أمر بالإحسان إلى الوالدين والجار، ولو كانوا على غير دين الإسلام، كما حثّ على البر وحسن العشرة مع الذين لم يتصدوا لمقاتلة المسلمين والاعتداء عليهم، كما كانت حياته e نبراساً في التسامح وحسن التعايش مع الآخرين، ممن اختاروا إلفهم من العقائد والأديان.
واليوم وقد أصبح العالم قرية صغيرة تتلاقح فيها الثقافات عبر وسائل الإعلام المختلفة، تزداد الحاجة إلى الحوار، وإلى ضرورة تأصيله من الناحية الشرعية، والمسلمون حين يمارسونه هم بأمسِّ الحاجة إلى معرفة مسوغاته الشرعية وآدابه ومحظوراته.
وإسهاماً منا في هذا الباب نضع بين يدي القارئ الكريم هذا الجهد المتواضع، والذي نرجو أن يعالج بموضوعية علمية هذه المسالة الشائكة، التي كثر الجدال حولها بين مؤيد مندفع ومعارض متشكك.
والله نسأل أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
التمهيد
الحمد لله الذي أمر المؤمنين بالدعوة إليه حيث قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل: ١٢٥].
وإذا كانت الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة هي الأسلوب الأمثل، فإن الحوار هو الصورة الأفضل الذي يتجسد فيه هذا الأسلوب، حيث يعتبر من أفضل الوسائل لإقناع الآخرين وتغيير سلوكهم وإيصال فكرة الإسلام إليهم، كما أنه يعد الوسيلة العلمية والحضارية في الرد على الذين يشغِّبون على الإسلام ويثيرون حول قضاياه ومسائله الشبهات، كما أنه يفيد في تلاقح الأفكار وبيان الخطأ فيها من الصواب، لهذا كله كان هذا البحث بهذا العنوان: (الحوار الدعوي، أصوله وضوابطه), والذي بينت فيه أصول الحوار وأهم الضوابط والآداب التي يجب أن يلتزمها كل من انبرى لحوار الآخر، حتى يكون الحوار ناجحًا محققًا الهدف المنشود منه .
وأسأل الله المولى القدير أن يعلمني ما ينفعني، وأن ينفعني بما علمني، وأن يزيدني علماً، ويهديني إلى الصراط المستقيم.
- أهمية موضوع الحوار الدعوي -
أولى الإسلامُ مَوضوعَ الحوار الدعوي أهميّة فريدة، ويُراد بالحوار النقاش الّذي يدور بين أشخاص مُختلفين في فكرةٍ ما، أو في معتقدٍ وآخر؛ حيث إنّ كيفية الحوار وطريقته تنعكس على المُتحاورين إمّا سلباً أو إيجاباً، وتأتي أهميّة الحوار وتظهر من عدّة أمور منها:
1.الحوار هو الطريق الوحيد الذي من خلاله يتمّ الوصول إلى إقناع المُخالف بالفكرة الصحيحة وصولاً إلى الحق.
2.هو الأسلوب الأمثل للتواصل والتفاهم والتخاطب بين الناس، فلا ينبغي أن يتعامل الناس بغير الحوار البنّاء كفرض ما يرونه من أفكار ومُعتقدات ومبادئ، وهو الوسيلة الأمثل التي من خلالها يتعارف الناس ويتآلفون.
3.هو المنهج الأصوب لتفادي الحروب والكوارث؛ فلولا التحاور العقلاني لكثرت الحروب، واقتتل الناس فيما بينهم، ولهاجت أفعالُ الجاهلية، وحرب البسوس خير شاهدٍ على ذلك، فبعد أن اقتتلت قبيلتا داحس والغبراء مدّة أربعين سنة كاملة لم ينتجْ عنها إلا الدماء والقتل والتنكيل، فلّما جلَسوا للتحاور الهادئ أصلح الله بينهم، ولو جلسوا للحوار قبل بدء الحرب لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القتال.
4.إقامة الحجة: إنّ الغاية من الحِوار بالدرجة الأولى هي إقامة الحجّة ودفع الشبهات وبيان الرأي الفاسد من الرأي الصائب، ويكون ذلك بطريق الاستدلال الصحيح والاستشهاد بالشواهد المُناسبة حتى يتمكّن المتحاوران من الوصول إلى الحق، فغاية الحوار الأولى ووظيفته المثلى هي إظهار الحق.
5.الدعوة: إنّ المقصود الأعظم من الحوار في الإسلام هو دعوة المُخالف وإرشاده للصواب حتى يقتنع بعقله بمنطق الإسلام وصدقه، ويعتقد بطريق الحوار الهادئ أنّه الصواب، فالحوار الهادئ هو مفتاح القلوب ومن خلاله يتوصّل إلى العقول وبه ترتاح النفوس وتقر، قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
6.تقريب وجهات النظر: إنّ من أهمِّ ثمرات الحوار في الإسلام تضييق هوّة الخلاف بين المتحاورَين، وتقريب وجهات النظر بينهما حتى لا يبقى في صدورهما شيءٌ ضدّ بعضهما؛ حيث يُمكن من خلال الحوار الهادئ الوصول إلى حلِّ وسطٍ يرضي جميع المتحاورين ويُقنعهم إن كان الخلاف بين جماعتين أو شخصين في فكرة ما، وبالتحاور يُستبدل التباغض والتناحر إلى تحاببٍ وتواد.
7.كشف الشبهات والردّ على الأباطيل: إنّ الحوار السليم يوصل المُتحاورين إلى كشف ما يُلصق بالأفكار والمُعتقدات من شبهات وأباطيل اختلقها أعداء المَنطق لإرضاء رغباتهم، ممّا يوصل بالنتيجة إلى إظهار الحقّ وبيانه، وإبطال الباطل وإزهاقه.
- تعريف الحوار لغة واصطلاحا -
أولاً الحوار لغة: تراجع الكلام، "وهم يتحاورون" أي: يتراجعون الكلام، والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة.
ثانياً الحوار اصطلاحاً: هو المعنى اللغوي السابق نفسه، فهو إذاً: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة، أما الجدل: فهو: " إظهار المتنازعين مقتضى نظرتهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامهما من الإشارة والدلالة " .
والحوار والجدال ذو دلالة واحدة، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى:﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾[المجادلة: ١].
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس: مناقشة بين طرفين أو أطراف، يُقصد بها تصحيح كلامٍ، وإظهار حجَّة، وإثبات حقٍ، ودفع شبهةٍ، وردُّ الفاسد من القول والراي.
والحوار كلمة تستوعب كل أنواع أساليب التخاطب، سواء كانت منبعثة من خلاف المتحاورين أو عن غير خلاف؛ لأنها تعني المراجعة في المسالة موضوع التخاطب، وعلى هذا فالحوار يدلل على التقارب والصداقة.
- تعريف الدعوة لغة واصطلاحا -
أولاً: الدعوة لغةً:
مشتقة من الفعل الثلاثي دعا يدعو دعوة، والاسم: الدعوة، والقائم بها يسمى داعية، والجمع: دعاة.
ولكلمة الدعوة في اللغة عدة معان:
النداء، والطلب، والتجمع، والدعاء، والسؤال، والاستمالة.
قال الزمخشري: دعوت فلاناً وبفلان ناديته وصحت به.
وقال الرازي: والدَّعوة إلى الطعام بالفتح يقال: كنا في دعوة فلان ومدعاة فلان وهو مصدر والمراد بهما: الدعاء إلى الطعام.
والدِّعوة بالكسر في النسب والدعوى أيضاً هذا أكثر كلام العرب وعدي الرباب يفتحون الدال في النسب ويكسرونها في الطعام.
والدِّعي من تبنيته ومنه قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ﴾] الأحزاب: 4.[
وادعى عليه كذا والاسم: الدعوى وتداعت الحيطان للخراب تهادمت.
ودعاه صاح به واستدعاه أيضاً ودعوت الله له وعليه أدعوه دعاء.
والدعوة المرة الواحدة والدعاء أيضاً واحد الأدعية وتقول للمرأة أنت تدعين وتدعوين وتدعين بإشمام العين الضمة وللجماعة أنتن تدعون مثل الرجال سواء وداعية اللبن ما يترك في الضرع ليدعو ما بعده.
وفي الحديث: "دع داعي اللبن".
وقال ابن منظور: الدعوة: المرة الواحدة من الدعاء ومنه الحديث: "فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"، أي تحوطهم وتكنفهم وتحفظهم يريد أهل السنة دون البدعة. والدعاء: واحد الأدعية، وأصله دعاو لأنه من دعوت، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف همزت... ودعا الرجل دعوا ودعاء: ناداه، والاسم: الدعوة. ودعوت فلاناً أي صحت به واستدعيته...
والدعاة: قوم يدعون إلى بيعة هدى أو ضلالة، وأحدهم داع. ورجل داعية إذا كان يدعو الناس إلى بدعة أو دين، أدخلت الهاء فيه للمبالغة.
وقال الزبيدي: (الدّعاءُ)، بالضّمِّ مَمدوداً؛ (الرَّغبَةُ إلى اللّهِ تعالى) فيما عندَه من الخيرِ والابْتهال إليه بالسّؤَالِ؛ ومنه قوْله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ ]الأعراف: 55[
(دعا) يَدْعو (دعاءً ودَعوَى)؛ وأَلِفها للتَّأْنيثِ.
وقالَ ابنُ فارسَ: وبعضُ العرَبِ يُؤَنّثُ الدّعْوَة بالأَلفِ فيقولُ الدّعْوَى.
ومن دعائهم: اللهمَّ أَشْركْنا في دعْوَى المُسلمين، أي في دُعائهم، ومنه قولُه تعالى: ﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾] يونس: 10[
ثانياً: الدعوة اصطلاحاً:
كلمة الدعوة من الألفاظ المشتركة، فإنه يراد بها في الغالب معنيان:
الأول: الدعوة بمعنى الإسلام أو الرسالة.
الثاني: الدعوة بمعنى عملية نشر الإسلام وتبليغ الرسالة.
وعلى المعنى الأول:(الدعوة بمعنى الإسلام أو الرسالة) جاءت تعريفات اصطلاحية كثيرة، ومنها:
قيل: هي دين الله الذي بعث به الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جميعاً، تجدد على يد محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين، كاملاً وافياً لصلاح الدنيا والآخرة.
وقيل: هي دين الله الذي ارتضاه للعالمين؛ تمكيناً لخلافتهم، وتيسيراً لضرورتهم، ووفاءً بحقوقهم، ورعايةً لشؤونهم، وحمايةً لوحدتهم، وتكريماً لإنسانيتهم، وإشاعة للحق والعدل فيما بينهم.
وقيل: هي الضوابط الكاملة للسلوك الإنساني، وتقرير الحقوق والواجبات.
وهي قبل ذلك وبعده: الاعتراف بالخالق، والبر بالمخلوق.
وقيل: هي نداء الحق للخلق؛ ليوحدوا المعبود، ويعبدوا الواحد، حنفاء لله غير مشركين به، متبعين غير مبتدعين.
وأما على المعنى الثاني: (الدعوة بمعنى عملية نشر وتبليغ الإسلام) فجاءت أيضاً على تعريفات كثيرة، ومنها:
عرَّفها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بقوله الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره والدعوة إلى أن يعبد العبد ربه كأنه يراه.
وقيل: هي تبليغ الإسلام للناس، وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة.
وقيل: هي الحث على فعل الخير واجتناب الشر والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتحبيب بالفضيلة، والتنفير من الرذيلة واتباع الحق ونبذ الباطل.
وقيل: هي الدعوة إلى توحيد الله، والإقرار بالشهادتين، وتنفيذ منهج الله في الارض قولاً وعملاً، كما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليكون الدين كله لله.
وقيل: هي قيام من له أهليه، بدعوة الناس جميعاً، في كل زمان ومكان، لاقتفاء أثر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والتأسي به، قولاً وعملاً وسلوكاً.
وقيل: هي إبلاغ الناس دعوة الإسلام، في كل زمان ومكان، بالأساليب والوسائل، التي تتناسب مع أحوال المدعوين.
وقيل: هي فن يبحث في الكيفيات المناسبة، التي يجذب بها الآخرين إلى الإسلام أو يحافظ على دينهم بواسطتها.
وقيل: هي إنقاذ الناس من ضلالة أو شر واقع بهم، وتحذيرهم من أمر يخشى عليهم الوقوع في بأسه.
وقيل: هي عملية إحياء لنظام ما؛ لتنتقل الأمة بها من محيط إلى محيط.
وقيل: هي قيام الداعية المؤهل بإيصال دين الاسلام إلى الناس كافة، وفق المنهج القويم، وبما يتناسب مع أصناف المدعوين، ويلائم أحوال وظروف المخاطبين في كل زمان ومكان.
وهذه التعاريف لا منافاة بينها، فليست من باب اختلاف التضاد، لكنها من باب اختلاف التنوع، فكل تعريف للدعوة من هذه التعاريف عني بجانب من جوانب الدعوة وركز عليه.
- تعريف مصطلح الحوار الدعوي -
الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة وهي الأسلوب الأمثل، والحوار هو الصورة الأفضل الذي يتجسد فيه هذا الأسلوب، حيث يعتبر من أفضل الوسائل لإقناع الآخرين وتغيير سلوكهم وإيصال فكرة الإسلام إليهم، كما أنه يعد الوسيلة العلمية والحضارية في الرد على الذين يشغِّبون على الإسلام ويثيرون حول قضاياه ومسائله الشبهات، كما أنه يفيد في تلاقح الأفكار وبيان الخطأ فيها من الصواب.
الغاية من الحوار الدعوي إقامة الحجة، ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي.
فهو تعاون من المتناظرين على معرفة الحقيقة والتوصل إليها، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق.
هذه هي الغاية الأصلية، وهي جليّة بيّنة، وثمّت غايات وأهداف فرعية أو ممهدة لهذه الغاية منها:
ـــــ إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.
ـــــ التعرف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى، وهو هدف تمهيدي هام.
- البحث والتنقيب، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرؤى والتصورات المتاحة، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن، ولو في حوارات تالية.
يكتسب الحوار الدعوي أهمية بالغة في منظومة الدعوة الإسلامية، فهو أسلوب أصيل من أساليب الدعوة ومعلم بارز في منهجها الرشيد.
وللحوار دوره الكبير في تأصيل الموضوعية ورد الفكرة المغرضة كالفكرة القائلة إن الإسلام دين القهر، وإنه انتشر بالسيف كما روجه أعداء الإسلام من ضلال المستشرقين والمنصرين، وكيف يصح ذلك والإسلام دين الحوار وفي التنزيل الحكيم: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٦]
فلو كان صحيحا أن الإسلام دين السيف لما كان للحوار معنى، وقد حفل القرآن الكريم بعشرات النصوص حول الحوار تأمر به وتحض عليه وتنوه بقيمته وتقدم نماذج من حوارات الأنبياء والمرسلين، وتقدم نماذج من الحوارات التي ينبغي أن يسلكها الدعاة إلى الله مع مختلف أصناف المدعوين من أهل الكتاب والمشركين والملاحدة ومنكري البعث وغيرهم.
والحوار قديم قدم البشرية فهو نابع من أعماق النفس البشرية، ومما ورد في القرآن الكريم الحوار الذي كان بين آدم وزوجه حوار وهما في الجنة، وكذلك ما أمر الله به الملائكة من السجود لآدم لما خلقه قال تعالى:﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾[البقرة: ٣٠].
- أهداف الحوار الدعوي -
أرسى الإسلام دعائم الحوار الدعوى البناء، ووضع معالمه ومبانيه في أرقى صورة، وجعل منه وسيلة هادفة ذات قواعد وآداب ورسالة شريفة، تخدم الحق، ً وتأكيدا على هذه الغاية السامية أمر الإسلام بالمحاورة بالتي هي أحسن مع أصحاب في الدين ، فالغاية من الحوار إقامة الحجة ودفع الشبهة والفاسد من القول والرأي، ً الديانات والثقافات الأخرى، فضلا عن مراعاة هذا المعيار الراقي مع من هم إخوة فهو تعاون من المتناظرين على معرفة الحقيقة، والتوصل إليها، ليكشف كل طرف ما خفى على صاحبه منها، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق. وهذه هي الغاية الأصلية وهي جلية بينة، وثمة غايات وأهداف فرعية أو ممهدة لهذه الغاية منها:
- إيجاد حل وسط يرضي الطرفين.
- التعرف على وجهات النظر وهو هدف تمهيدي هام.
- البحث والتنقيب من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنوع الرؤى والتصورات المتاحة، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمكن ولو في حوارات تالية.
ويجب البعد عن الحوار الذي أبعد ما يكون عن غايته أو ما يوصل ويمهد ً إليها، وقال الدكتور محسن الخضيري: "يجب أن يكون الحوار متجها إلى هدف ً معين، يسعى إلى تحقيقه، وبالتالي يكون بعيدا عن الجدل العقيم الذي لا يثري، بل والذي لا يحقق عائدا وطائلا من ورائه، ومن ثم فإنه من المتعين وضع الهدف من التفاوض وتوضيحه، ووضع برنامج زمني لتحقيقه، بل وتحديد اتجاهات معينة لهذا التحقيق".
الفصل الأول:أصول الحوار الدعوي وضوابطه
المبحث الأول: الدعوة للإنصاف والعدل.
المبحث الثاني: المجادلة بالتي هي أحسن.
المبحث الأول:
ــــ الدعوة للإنصاف والعدل:
قال تعالى:﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾[آل عمران: ٦٤].
تقدم هذه الآية الكريمة عرضاً للدلائل التي عرضها النبي e على وفد نصارى نجران، فإنه e لما قطعهم بالدلائل الواضحة فلم يذعنوا، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا، عدل إلى نوع من التلطف معهم، فكأن الله سبحانه وتعالى قال لرسوله e: يا محمد اترك ذلك المنهج من الكلام وادل عنه إلى منهج آخر يشهد كل عقل سليم وطبع مستقيم أنه كلام مبني عل الإنصاف وترك الجدال، ومعنى "تعالوا" أي هلموا إلى كلمة فيها إنصاف من بعضنا لبعض، ولا ميل فيه لأحد على صاحبه.
ففي هذه الآية الكريمة دعوة للحوار مع أهل الكتاب في كل زمان ومكان، ذلك أن كل من استجاب لمبدأ الحوار لن يكون أشد عنادا من الذين تدعوهم هذه الآية الكريمة للحوار فأنهم عاندوا وكابروا، وعرض عليهم النبي e المباهلة فأبوا فلم يمنعه e كل ذلك من استمرار الحوار معهم بل إن الآية تقدم دروسا في الحوار يحتاج المتحاورون في عالمنا المعاصر إليها كثيراً، ومن تلك الآداب الاحترام والتلطف الكبيران بالطرف الآخر مهما كانت درجة الاختلاف معه؛ فإن النبي e خاطب وفد نصارى نجران قائلاً: "يا أهل الكتاب" ترغيباً لهم في ما يلقى إليهم، وهذا الاسم الذي ناداهم به e من أحسن الأسماء وأكمل الألقاب فإن هذا اللقب يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطب وفي تطييب قلبه، وذلك إنما يقال عند عدول الإنسان مع خصمه عن طريق اللجاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنصاف.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمناظرة والمحاجة لا تنفع إلا مع العدل والإنصاف وإلا فالظالم يجحد الحق الذي يعلمه، فهو المسفسط والمقرمط أو يمتنع عن الاستماع والنظر في طريق العلم وهو المعرض عن النظر والاستدلال".
المبحث الثاني:
ــــ المجادلة بالتي هي أحسن:
قال تعالى:﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾[العنكبوت: ٤٦].
أي لا تخاصموا أهل الكتاب ولا تجادلوهم بالسيف، وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا وحاربوا.
" إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته وحججه، وإيضاح الحق بالرفق واللين، ومعارضة الخشونة باللين، والغضب بالكظم، والمشاغبة بالنصح، رجاء إجابتهم إلى الإيمان، " إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ " ممن لم يؤد جزية ونصب الحرب، وصرح بان لله ولداً أو شريكاً.
والمجادلة بالتي هي أحسن هي المناظرة التي يبتغى فيها الوصول إلى الحق بطريق صحيح.
قال ابن القيم - رحمه الله- في فقه قصة وفد نجران: (وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم بل استحباب ذلك بل وجوبه إذا اضطرت مصلحة من إسلام من يرجى إسلامه منهم وإقامة الحجج عليهم.
الفصل الثاني: آداب الحوار الدعوي وأخلاقياته.
المبحث الأول: آداب الحوار الدعوي وأخلاقياته.
المبحث الثاني: وثماره.
المبحث الأول: آداب الحوار الدعوي وأخلاقياته.
المبحث الثاني: وثماره.
المبحث الأول:
ــــآداب الحوار الدعوي وأخلاقياته:
تنقسم آداب الحوار إلى أربعة أقسام:
أولاً: آداب الحوار النفسية: وهي الآداب التي تتعلق بنفسية المحاور وشخصه، وبنفسية الخصم كذلك، فهناك ظروف نفسية تطرأ على الحوار فتؤثر عليه سلبياً، فينبغي مراعاة ذلك حتى ينتج الحوار وتتحقق غايته.
- تهيئة الجو المناسب للحوار.
- الإخلاص وصدق النية.
- الإنصاف والعدل والتفريق بين الفكرة وصاحبها.
- التواضع وحسن الخلق.
- الحلم والصبر.
- الرحمة والشفقة بالخصم والحرص على إقناعه.
- العزة والثبات على الحق.
- حسن الاستماع.
- المحبة رغم الخلاف.
11. احترام الطرف الاخر.
12. الجرأة والغضب لنصرة الحق.
ثانياً: آداب الحوار العلمية: وهي الآداب التي تتعلق بمادة الحوار الأصلية، وموضوعاته الأساسية، والضوابط والصول العلمية، من حيث إيراد المعلومات وترتيبها وتقريرها أو ردها، وما يتعلق بذلك من أسس يجب أتباعها أو محاذير يجب اجتنابها حتى ينضبط الحوار ويحقق نتيجته.
- العلم.
- البدء بالنقاط المشتركة وتحديد مواضع الاتفاق.
- التدرج والبدء بالأهم.
- الدليل.
- الوضوح والبيان.
- الصدق والأمانة.
- التثبت.
- الرد على الشبه بما يناسبها.
- ضرب الأمثال.
11. تأكيد القضية وتقريرها.
12. الرجوع إلى الحق والتسليم بالخطأ.
13. الاحتمالات.
14. التحدي والإفحام وإقامة الحجة على الخصم.
ثالثاً: آداب الحوار اللفظية:
- العبارة المناسبة وحسن العتاب.
- التذكير والوعظ.
- التعريض والتلميح بدل التصريح.
- أدب السؤال.
- ذكر المبررات عند الاعتراض.
- طلب الإنظار وعدم الاستعجال.
- الوقت المناسب.
- التزام المحاور بما يدعو إليه.
- الفراسة وحسن التصرف.
- مراعاة الأفهام والعقول.
- الحذر والمداراة.
- توقع المخالفة برغم الاقتناع.
ــــ الإيمان بالله رب العالمين.
ـــــ الإيمان بوحدة الأصل بين البشرية.
ـــــ الإيمان بالكرامة الإنسانية.
ــــــ الإيمان بمهمة الاستخلاف في الأرض.
ــــــ الإيمان بضرورة التعايش المنصف والآمن بين المجتمعات.
المبحث الثاني:
ــــ ثمار الحوار الدعوي:
1/ نبذ التفرقة العنصرية، والتخلي عن فكرة أن هناك جنساً أسمى من آخر فالناس كلهم سواسية، أي أنهم لا يتفاضلون فيما بينهم بالعرق أو اللون أو الجنس.
2/ التفاهم والتعاون برغم التنوع والاختلاف في الأعراق والطوائف البشرية.
3/ تباين الطوائف الإنسانية وتنوعها بحسب الأصل والدين هو أمر قد قدره الله سبحانه وتعالى وقضى به.
4/ تعريف الآخرين بالإسلام وإظهار سماحته ووسطيته وإنسانيته واحترامه للأديان الأخرى.
الفصل الثالث: معوقات الحوار الدعوي.
المبحث الأول: المعوقات الشخصية
المبحث الثاني: المعوقات الموضوعية
المبحث الأول: المعوقات الشخصية
المبحث الثاني: المعوقات الموضوعية
يتعرض الحوار شأنه شأن أي عمل فكري أو نشاط اجتماعي لمعوقات تصادفه وصعوبات يصنعها بعض المتحاورين، وهذه العوائق والصعوبات قد تكون شخصية وقد تكون موضوعية، وفيما يلي عرض لأبرز تلك المعوقات.
المبحث الأول:
المعوقات الشخصية:-
ونقصد بها: بعض التصرفات التي تصدر من أحد أطراف الحوار وتؤدي إلى إفقاد الحوار جدواه وفائدته بحيث لا يصل إلى أهدافه المرجوة منه.
وتشمل تلك التصرفات: الثرثرة، والإطناب في الكلام، واللف والدوران، والابتعاد عن الوضوح في العرض، وغياب الأدلة والبراهين، وإخفاء جزء من الحقيقة، والغضب والانفعال، والتعصب الشديد.
وفيما يلي بيان موجز لكل من هذه المعـوقات:
1.الثرثرة:
وتعني الرغبة في الكلام من أجل الكلام دون هدف محدد، والثرثار هو الذي لا يهدف إلا إلى إبراز شخصيته أو فرضها على (الغير)، وكأنه يحكم على الطرف (الآخر) بعقوبة الإصغاء الكامل للكلام الفارغ الذي يشتت الحقيقة ويذهب مذاهب شتى، فمن موضوعات سياسية إلى اجتماعية إلى اقتصادية دون أن يتطلب الحوار هذا الانتقال في الكلام.
ومن سلبيات الثرثرة أن الشخص الذي يدخل في حوار مع آخر ثرثار فإنه يجد نفسه في مأزق لا يحسد عليه، لأن الثرثرة من الناحية الفسيولوجية مرض عقلي لا يخدم الجوانب المعرفية، فإذا استطاع المحاور إيقاف الثرثار عند حده وإبقائه في صلب موضوع المحاورة أمكنه المواصلة معه، أما إذا أخفق في الحد من الثرثرة فإن الحوار معه يصبح غير مجد.
ولذلك فإنه يجب على المحاور أن يقتصر في حديثه على القليل الجميل النافع، فحديث الإنسان ترجمان عقله ودليل فضله، ولا يوجد أفضل من حبس اللسان الذي يعجز عن الصـواب، ولهذا ورد عن النبي e أنه قال: «البلاء موكل بالمنطق» كما ورد في الأثر: «ولا تكونن مكثاراً بالمنطق مهذاراً، إن كثرة المنطق تشـين العلماء» وفي مناسـبة أخرى يقول النبي :e «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ »، وفي هذا المعنى يدعو الشاعر العربي إلى وزن الكلام قبل النطق به فيقول:
وَزن الكَلامِ اِذا نَطَقت فَإِنَّما يُبدي عُقول ذَوي العُقولِ المنطِق
2.الإطناب في الكلام:
وهو الاهتمام بالصياغة اللفظية للفكرة أو الرأي على حساب المعنى والجوهر، بحيث يولي المحاور عناية خاصة بالبيان والبديع والطباق والجناس، فيهمل أصل الفكرة وجوهرها والمقصود منها، ويروح يلهث وراء شكلياتها.
ومما لا شك فيه، فإن هناك تناسباً حقيقياً في الأفكار والحقائق بين الشكل والمضمون، ولا يمكن أن يختل أي منهما على حساب الآخر، فإذا طغى أحدهما على الآخر فإنه يشكل مساساً بحق الجانب الثاني، وذلك أن للمضمون لباسه الملائم لخصائصه النوعية، كذلك لكل شكل مضمونه النوعي الخاص به.
فإذا حصل أن كان في الحوار من يطنب في الكلام فاعلم أنه يهتم بشكل الفكرة أكثر من اهتمامه بمضمونها وموضوعها، والحقيقة أن الإطناب لا ينصرف فقط لاستخدام الألفاظ الطنانة والمصطلحات الرنانة، وإنما يمتد إلى استخدام الصوت الجهـوري والتعمد بالضغـط على بعض الكلمات، أو تجسيم صوتي للكلمات الأخيرة من الجملة فيبدو الافتعال في الكلام واضحاً.. ونظراً لأن البشر يختلفون في الطباع والسلوك فإن من يدخل عالم الحوار سيجد أمامه أحياناً من يطنب في الكلام لغرض تزويقه وتنميقه، وهو أمر إذا كان يلائم عالم الأدب فإنه لا يلائم العلم.
3.اللف والدوران:
وهو عبارة عن الكلام في أمور جانبية لا علاقة لها بموضوع الحوار، وعدم الدخول في صلب الموضوع وحقيقته قصداً، لغرض التهرب من مواجهة حقائق معينة أو الاعتراف بشيء لابد من الاعتراف به.
وفي هذه الحالة يجب على المحاور إعادة الطرف (الآخر) إلى جادة الصواب والكف عن تضييع الوقت بمثل هذا الأسلوب.
والحقيقة أن مثل هذا النهج لا يخلو من أغراض سـيئة، لأن من يتـّبعه يهدف إلى تحقيق غاية معينة، هي: التعمية عن الحقيـقة، والبعد عن الصواب، أو إيصال معلومات ناقصة تؤثر سلباً على طبيعة الحوار ومنهجيته.
4.عدم الوضوح في العرض:
ويكون ذلك عندما يلجأ المحاور إلى الغموض والإبهام لكي يُشعر الآخرين بأهميته الفكرية أو لزيادة وزنه الثقافي دون وجه حق.
وهذا النهج يشبه كثيراً اللف والدوران من حيث الهدف، ولكنه يختلف عنه من حيث الوسيلة والشكل، لأن من يفتقر إلى العمق في التفكير أو الكثافة في المعلومات هو الذي يلجأ إلى العرض المبهم الذي يثير اللبس والشكوك.
إن الغموض العلمي نوعان، الأول: غموض حقيقي ناتج عن عمق الأفكار وقوة الرأي، من خلال عرض الجوانب غير البارزة والتي تحتاج إلى شيء من التفكير لإدراكها وتصورها، وهذا هو الفكر الفلسفي الذي يعني الغور في دهاليز الفكرة وزواياها المتعددة. والثاني: غموض مفتعل، يلجأ إليه العاجزون عن تقديم المعلومة من أنصاف المتعلمين الذين تخيّـل لهم عقولهم أنهم على درجة كبيرة من العلم والإدراك، فيحاولون امتطاء الإبهام والغموض لتغطية عجزهم وقصورهم العلمي.. وهذا النفر من الباحثين والكتاب يصعب على المحاور الموضوعي والعالم أن يتحاور معهم، لعدم مقدرتهم على عرض أفكارهم بوضوح وجلاء، فالأفكار إما أن تكون محدّدة وجليّة يمكن التعامل معها وإجراء الحوار فيها، وإما أن تكون غامضة غموضاً مفتعلاً، وعندئذ تصبح غير قابلة للحوار العلمي الفعال، وفي هذه الحالة تصبح عائقاً من معوقات الحوار.
5.غياب الأدلة والبراهين:
ونعني بذلك: إطلاق الكلام من دون أدلة وبراهين، ومن غير مستند علمي أو حجة منطقية.
فالكلام عملية سهلة إذا نظرنا إليها كحركة ميكانيكية للسـان، ولكنه إنما يوزن ويقاس في الحقيقة بجوهره، فإذا تضمن رأياً أو فكرة أو وجهة نظر شاذة فإن من حق المحاور (لآخر) أن يطلب منه ما يحوّل ذلك الكلام إلى حقيقة علمية أو واقع مشاهد، فإذا عجز عن ذلك أصبح عائقاً للحوار والمناظرة.
إن الأدلة والبراهين تعد بمثابة ضوابط نظامية للفكرة أو الرأي تحوله من كلام عادي إلى معلومة حقيقية تعتمد على دليل عملي وبرهان منطقي، فإذا غابت تلك البراهين كان من حق المحاور أن يطالب الطرف (الآخر) بما يدعم أفكاره ويؤيد آراءه، لكي تتم المحاورة على أرض صلبة من الحقائق والوقائع.
6.إخفاء الحقيقة:
ويتم ذلك من خلال التستر على جزء من الحقيقة لأغراض التعمية على الطرف (الآخر) والتضبيب عليه.
فقد يعمد بعض المتحاورين إلى عدم ذكر جميع عناصر الموضوع وحيثياته حتى لا ترى الفكرة بوضوح، ولا تدرك عناصرها الداخلية بدقة.
إن هذا الأسلوب له علاقة كبيرة بالنزاهة العلمية والمبدئية الفكرية، فمن لا يملك تلك النزاهة وليس لديه مبدئية فكرية، لا يمكن إقامـة حوار علمي معه؛ لأنه يفتقد أخلاقيات المهنة التي تتطلب الدقة والأمانة العلمية.
إن الكلام في العموميات والتعريج على الأطر العامة يضفي على الحوار نوعاً من الغموض، ويزيد الضبابية فيه، فتضيع الفكرة الصادقة وتختفي المعلومة الدقيقة، ومن هنا فإن إخفاء الحقيقة أو جزء منها يكون عائقاً من معوقات الحوار وعاملاً من عوامل فشله.
7.الغضب والانفعال:
ويعني ذلك: أن يتحلى المحاور برباطة الجأش وهدوء الأعصاب والسيطرة على انفعالاته، لأن الهدوء يعد من الأمور الضرورية لتحقيق مناخ طبيعي للحوار والمناظرة.
إن الحوار العلمي بحاجة قصوى إلى ضبط النفس والتحكم بالأعصاب والهيمنة على الانفعالات، وهذا لن يتحقق في حالة غضب المحاور أو انفعاله دون مبرر، ومن هنا يتحتم على طرفي الحوار أن يوقف حواره ويؤجله إلى وقت آخر حيث تبرد الأعصاب وتهدأ الخواطر وتزول الانفعالات.
8.التعصب الشديد:
ويعد هذا أشد معوقات الحوار وأكثرها ضرراً، ذلك أن المعوقات الأخرى قد تكون مما يمكن معالجتها أو التغلب عليها، أما التعصب فهو آفة فكرية واجتماعية يصعب السيطرة عليها أو معالجتها.
إن الحوار مع المحاور المتعصب لأفكاره والمتمسك برأيه يحوّل جو المناظرة إلى مناخ مشحون بالتفكير العقيم البعيد عن الموضوعية، لأن المتعصب يكون جامداً عند أفكاره، رافضاً لكل فكر نقيض، إذ هو يستخدم مفاهيم غير مقبولة في الأفكار الأخرى، كما أنه يستعمل معايير ومقاييس خاصة به لا تلقى قبولاً إلا في ظل فكر المتعصب ورأيه.
ومن المنطقي أنه إذا أصر المحاور على رأيه فليس هناك مجال لاستمرار الحوار معه، بل يصبح من الضرورة قطعـه أو تأجيله، لأنه لا طائل من الحوار مع هذا الصنف من المحاورين.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن التعصب في الحوار إنما ينطلق من موقع الاستبداد بالرأي ، أو ربما يكون ناتجاً عن الأفكار التي ترفض الشريعة الإسلامية كنظام متكامل وفلسفة للحياة، وهذا كله يشكل بالنتيجة معوقات للحوار تؤدي إلى فشله وعدم تحقيق أهدافه.
المبحث الثاني:
المعوقات الموضوعية:-
وهي عبارة عن الصعوبات والمعوقات التي لا تكون مرتبطة بأحـد أطراف الحوار، وإنما تتعلق بالجـو المحيط بالمحاورة، أو بالمصطلحات والمفاهيم التي يتم استعمالها، أو باختلاف العقليات والأفكار التي يتم تبادلها. وتشمل هذه المعوقات الضوضاء والتشويش، وتباين المفاهيم، واختلاف الأجيال.
1.الضوضاء والتشويش:
ويحصل الضوضاء بسبب قاعة المحاورة أو من قبل الأشخاص القائمين فيها، أو من خلال تدخلات خارجية تؤثر على سير المحاورة، فقد يعمد بعض الحاضرين من الجهلة أو المتنفذين إلى إيقاف عملية الحوار السـياسي أو الاجتماعي لأسباب واهية أو لحجج غير منطقية، وربما تكون قاعة الحوار غير مهيأة بشكل صحيح لإقامة المحاورة فيها بسبب خلل في جهاز المذياع أو أجهزة التصوير، أو بسبب تأثير أجهزة جانبية أخرى كالتكييف مثلاً.. وقد يحصل الضوضاء والتشويش من جراء تحدّث أحد المحاورين مع شخص آخر لا علاقة له بموضوع المحاورة أو الاتصال به هاتفياً، مما يؤثر سلباً على عملية استمرار الحوار.
ومما لا شك فيه، فإن وجود واحد من الأسباب التي ذكرناها أو غيرها من عوامل التشويش والضوضاء يعد معوقاً من معوقات الحوار ويؤثر على العملية الحوارية تأثيراً مباشراً.
2.تباين المفاهيم:
يتطلب الحـوار أن يقوم كل طرف بتحديد مفاهيمه قبل الدخول في صلب المحاورة وجوهرها، لغرض أن يعرف الطرفان أسلوب تفكير بعضهما والغايات الفكرية والعلمية التي يسعى إليها.
إن لكل علم مفاهيمه الخاصة به، ولكل فن مصطلحاته المميزة، ومن هنا فإن كل مصطلح يختلف مضمونه من علم لآخر، يضاف إلى ذلك أن بعض الباحثين يلتزم معاني خاصة ومفاهيم محددة لبعض المصطلحات، لذلك فإن مجموع هذه المداخلات تتطلب أن يقوم كل طرف بتحديد مفاهيمه ومصطلحاته حتى لا يكون التباين في ذلك مؤثراً سلبياً على سير عملية الحوار واستمرارها.
3.اختلاف الأجيال:
إذا اسـتند الحوار إلى أسس موضوعية، وجرى الالتزام فيه بأخلاقيات الحوار العلمي وآدابه، كان ذلك الحوار مفيداً ونافعاً لجميع الأجيال والمستويات الثقافية، حيث يزداد كل جيل منه معرفة ومعلومات وخبرات، أما إذا كان حواراً منعزلاً قائماً على تبادل الاتهامات، وعدم الشعور بالمسؤولية، فإن هذا الحوار لن يتعدى مجال الاتهامات التي سيكون من الصعوبة التغلب عليها وتجاوزها.
إن تباين عقلية الأجيال واختلاف مصالحها وتباعد فلسفاتها نحو الحياة يجعل من الحوار بينها وكأنه معركة بين متحاربين، كل منهم يحاول إخماد أنفاس الآخر والتغلب عليه، وهذا أمر يعني أن الحوار بات في بؤرة خانقة ومناخ سـقيم لا يستطيع بناء تواصل علمي ومنطقي سليم.
الخاتمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد تم بحمد الله وتوفيقه ما أردت جمعه وكتابته في هذا البحث، الذي بذلت فيه جهداً لا أدعي كماله، بل جهد مقل، وبضاعة مزجاة، هذا البحث الذي لا أقول إنني أصبت فيه ووفيت، لكن ما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ فمن نفسي والشيطان، وأسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، أنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
المراجع
- القرآن الكريم
- أصول الحوار وآدابه في الإسلام، صالح بن عبد الله بن حميد، دار المنارة، جدة ـ مكة، ط 1.
- البحر المحيط، محمد بن يوسف بن حيان، دار الفكر، بيروت، 1420هـ.
- الحوار وآدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، يحيى محمد زمزمي، دار التربية والتراث، مكة المكرمة، ط1.
- دراسة قرآنية في الحوار بين أتباع الأديان والثقافات، عادل علي الشدي.
- زاد المعاد، محمد بن أبي بكر ابن القيم الجوزية، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط27.
- ضوابط الحوار مع الآخر، سعد عبد الله عاشور، مجلة الجامعة الإسلامية، غزة، فلسطين، العدد الأول، 2008م.
- الكافية في الجدل، إمام الحرمين الجويني، تحقيق: فوقية محمود، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة، 1300هـ.
- لسان العرب، محمد بن مكرم بن منظور، دار صادر، بيروت، ط 1.
- مجموع الفتاوي، تقي الدين أحمد بن تيمية، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، 1426هـ.
- مفاتيح الغيب، فخر الدين محمد بن عمر الرازي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط3.
- وسطية الإسلام ودعوته إلى الحوار، عبد الرب آل نواب، موقع وزارة الأوقاف السعودية.
تعليق