مراتب الحجاج العقلي في القرآن الكريم
1- الحجة البرهانية:
هي الحجة القائمة على الاستدلال المباشر والقياس الصحيح، وهي تفيد اليقين الجازم، لكونها مكونة من مقدمات يقينية آيلة إلى نتائج يقينية، إذ اليقين في المقدمات والنتيجة سيان، وهي من أعلى مراتب الحجج، وتسمى بالقياس البرهاني. ومن أمثلة الحجة البرهانية في القران الكريم قياس إعادة الخلق على بدئه كما في قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)الروم: ١١. فهذا قياس برهاني للدلالة على إمكان الإحياء الأموات، وهو أنه تعالى لما كان قادرًا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سابق، فلأن يكون قادرًا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها في مظان عدة من كتابه، منها: قوله سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)يس: ٧٩. وجه الاحتجاج أن إيجاد الأحياء من العدم، هي مقدمة صحيحة عند الكفار، فالذي قدر على خلق الكائنات ابتداءً من العدم قادر على إعادة إحيائها مرة ثانية بالقياس الأولى.
2-الحجة الجدلية:
هي الحجة القائمة على مقدمات مشهورة مسلَّمة عند المخاطب، ملزمة للخصم، ومرتبتاها دون اليقين، وفوق الظن الراجح. وتسمى بالقياس الجدلي. ومن أمثلتها في القران الاستدلال المباشر بانتفاء صفة العدل عقلًا في التماثل بين الصالحين والطالحين والمحسنين والمسيئين، كما يفهم من الاستفهام الإنكاري في قوله عزّ وجل: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ،مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم: ٣٥-36. وهذا الاستفهام إنكاري نفي للمساواة بينهم، وحجة غير مباشرة على ضرورة إقام الحساب بالعدل بين الخلائق في يوم القيامة ووجه الإلزام في الآية هو أن قول المشركين: (إن الله تعالى سيفضلنا على المسلمين في الآخرة، أو يساوي بيننا)، يستلزم منه الإيمان بالوجود الآخرة والحساب، وإيمانهم هذا يستلزم الإيمان بالخالق العادل، وهذا بحد ذاته حجة عليهم في انتفاء المساواة بين محاربتهم لله، وإطاعة المسلمين له.
3-الحجة الخطابية:
هي الحجة القائمة على مقدمات مبنية على الظن الراجح لكنها غير ملزمة للخصم. والظن الراجح على مراتب أعلاها قريب من اليقين وأدناها قريب من الشك. ولم يرد في القرآن الكريم بحسب استقرائي حجج خطابية منفردة في برهنة الحقائق الإيمانية بل وردت مقترنة بالحجج البرهانية والجدلية أي أنها حجج اعتضادية ولست أصلية. ومن الحجج الواردة في القرآن الكريم مضافة إلى الحجج البرهانية، والجدلية لبرهنة حقيقة التوحيد قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الروم:28 في هذه الآية ضرب الله مثلًا للذين جعلوا له شركاء، هو: استفهامه لهم: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلِمَ رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي. ووجه الاحتجاج أن الله سبحانه احتج عليهم بأمر يستنكفون عنه ورافضين له ظنًا منهم أن ذلك تقليل من شأنهم، فاستنكر عليهم الله تكبرهم على عبيدهم من البشر مثلهم مع إرضائهم ذلك لله مع عبيده وهو خالقهم.
4- الحجة المغالطة:
هي الحجة القائمة على مقدمات غير صحيحة، وهي تموه السامع وتخدعه، وهي من الحجج المحرمة شرعًا المرفوضة عقلًا وقد صدرت مثل هذه الحجج من الكفار في جدالهم مع الأنبياءعليهم السلام، كما فعل نمرود في محاجّته لإبراهيم عليه السلام/ في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)البقرة:258. فالحجة الصادرة من نمرود حجة مغالطة؛ لأنها بنيت على مقدمة خاطئة، وهي تفسير حقيقةَ (الإحياء) بالتخلي عن المسجون و(الإماتة) بقتله. فلا يخلو حال نمرود إما أنه لم يفهم حقيقة الإحياء والإماتة، أو فهم إلا أنه قصد المصادمة والمباهتة، وكلاهما يوجب العدولَ إلى دليلٍ يفضحُ معارضته ويقطعُ حجاجه. ويبدو لي أن انتقال إبراهيم عليه السلام، إلى الحجة الثانية لم يكن إقرارًا منه على حجة نمرود، بل كان ذلك إلزامًا له بحجته في ادعائه الربوبية، مبينًا أن الذي يحي ويميت يكون قادرًا على التصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فأمره بتحويل نواميس الكون، وذلك بإتيان القمر من المغرب على خلاف العادة. فلما عجز عن ذلك تبين فساد حجته الأولى وبطلانها.
* ملحوظة: كل ما ذكرته من الحجج هي باعتبار السياق والمخاطب فإن اختلف السياق وتغير المخاطب ستتغير مرتبة الحجة.
بقلم: د. آماد كاظم
1- الحجة البرهانية:
هي الحجة القائمة على الاستدلال المباشر والقياس الصحيح، وهي تفيد اليقين الجازم، لكونها مكونة من مقدمات يقينية آيلة إلى نتائج يقينية، إذ اليقين في المقدمات والنتيجة سيان، وهي من أعلى مراتب الحجج، وتسمى بالقياس البرهاني. ومن أمثلة الحجة البرهانية في القران الكريم قياس إعادة الخلق على بدئه كما في قوله تعالى: (اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)الروم: ١١. فهذا قياس برهاني للدلالة على إمكان الإحياء الأموات، وهو أنه تعالى لما كان قادرًا على أن يخلقنا ابتداء من غير مثال سابق، فلأن يكون قادرًا على إيجادنا مرة أخرى مع سبق الإيجاد الأول كان أولى. وهذه الدلالة تقريرها في العقل ظاهر، وأنه تعالى ذكرها في مظان عدة من كتابه، منها: قوله سبحانه (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)يس: ٧٩. وجه الاحتجاج أن إيجاد الأحياء من العدم، هي مقدمة صحيحة عند الكفار، فالذي قدر على خلق الكائنات ابتداءً من العدم قادر على إعادة إحيائها مرة ثانية بالقياس الأولى.
2-الحجة الجدلية:
هي الحجة القائمة على مقدمات مشهورة مسلَّمة عند المخاطب، ملزمة للخصم، ومرتبتاها دون اليقين، وفوق الظن الراجح. وتسمى بالقياس الجدلي. ومن أمثلتها في القران الاستدلال المباشر بانتفاء صفة العدل عقلًا في التماثل بين الصالحين والطالحين والمحسنين والمسيئين، كما يفهم من الاستفهام الإنكاري في قوله عزّ وجل: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ،مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) القلم: ٣٥-36. وهذا الاستفهام إنكاري نفي للمساواة بينهم، وحجة غير مباشرة على ضرورة إقام الحساب بالعدل بين الخلائق في يوم القيامة ووجه الإلزام في الآية هو أن قول المشركين: (إن الله تعالى سيفضلنا على المسلمين في الآخرة، أو يساوي بيننا)، يستلزم منه الإيمان بالوجود الآخرة والحساب، وإيمانهم هذا يستلزم الإيمان بالخالق العادل، وهذا بحد ذاته حجة عليهم في انتفاء المساواة بين محاربتهم لله، وإطاعة المسلمين له.
3-الحجة الخطابية:
هي الحجة القائمة على مقدمات مبنية على الظن الراجح لكنها غير ملزمة للخصم. والظن الراجح على مراتب أعلاها قريب من اليقين وأدناها قريب من الشك. ولم يرد في القرآن الكريم بحسب استقرائي حجج خطابية منفردة في برهنة الحقائق الإيمانية بل وردت مقترنة بالحجج البرهانية والجدلية أي أنها حجج اعتضادية ولست أصلية. ومن الحجج الواردة في القرآن الكريم مضافة إلى الحجج البرهانية، والجدلية لبرهنة حقيقة التوحيد قوله تعالى: (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الروم:28 في هذه الآية ضرب الله مثلًا للذين جعلوا له شركاء، هو: استفهامه لهم: هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكا له في ماله وولده حتى يكون هو ومملوكه سواء، فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلِمَ رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها شركائي وهم عبيدي. ووجه الاحتجاج أن الله سبحانه احتج عليهم بأمر يستنكفون عنه ورافضين له ظنًا منهم أن ذلك تقليل من شأنهم، فاستنكر عليهم الله تكبرهم على عبيدهم من البشر مثلهم مع إرضائهم ذلك لله مع عبيده وهو خالقهم.
4- الحجة المغالطة:
هي الحجة القائمة على مقدمات غير صحيحة، وهي تموه السامع وتخدعه، وهي من الحجج المحرمة شرعًا المرفوضة عقلًا وقد صدرت مثل هذه الحجج من الكفار في جدالهم مع الأنبياءعليهم السلام، كما فعل نمرود في محاجّته لإبراهيم عليه السلام/ في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)البقرة:258. فالحجة الصادرة من نمرود حجة مغالطة؛ لأنها بنيت على مقدمة خاطئة، وهي تفسير حقيقةَ (الإحياء) بالتخلي عن المسجون و(الإماتة) بقتله. فلا يخلو حال نمرود إما أنه لم يفهم حقيقة الإحياء والإماتة، أو فهم إلا أنه قصد المصادمة والمباهتة، وكلاهما يوجب العدولَ إلى دليلٍ يفضحُ معارضته ويقطعُ حجاجه. ويبدو لي أن انتقال إبراهيم عليه السلام، إلى الحجة الثانية لم يكن إقرارًا منه على حجة نمرود، بل كان ذلك إلزامًا له بحجته في ادعائه الربوبية، مبينًا أن الذي يحي ويميت يكون قادرًا على التصرف في الوجود في خلق ذواته، وتسخير كواكبه وحركاته، فأمره بتحويل نواميس الكون، وذلك بإتيان القمر من المغرب على خلاف العادة. فلما عجز عن ذلك تبين فساد حجته الأولى وبطلانها.
* ملحوظة: كل ما ذكرته من الحجج هي باعتبار السياق والمخاطب فإن اختلف السياق وتغير المخاطب ستتغير مرتبة الحجة.
بقلم: د. آماد كاظم
تعليق