من المسَلّم لمن له إلمام باللغة العربية وبلاغتها أن علماء اللغة والكلام برهنوا إعجاز لغة القرآن الكريم وعجز فصحاء العرب كلهم مجتمعين عن الإتيان بأقصر سورة من مثله، إلا أنه وقع الاختلاف في تحديد وجه الإعجاز، وأين يكمن هذا الإعجاز؟ ولذا نرى من الضروري بيان الشبهات التي أُثيرت حول (الإعجاز اللغوي) للقرآن الكريم، ونذكر منها شبهة (الصَّرفة)، وقبل أن نشرع في دراستها وتحليلها، نوضح الدلالة المعجمية والإصلاحية للفظة (الصَّرفة).
وبعد التتبع والاستقراء لآراء العلماء توصلنا إلى أنَّ أوّل مَن بدأ القول بالصرفة هو النظّام البصري (ت221ه) من المعتزلة ، وتبعه في ذلك بعض مـــن العلماء ، وقد اختلفوا فيما بينهم على مفهومها إلا أنَّ القاسم المشترك بينهم هو أن الله سبحانه - لأجل إثبات التحدي - حالَ بين فصحاء العرب وبلغائهم وبين الإتيان بمثل القرآن، ويمكن التوفيق بين أقوالهم بأنَّ العرب كانوا قادرين على المعارضة والإتيان بسورة من مثل القرآن، إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى صرفهم عن القيام بذلك، إذ سلبهم علمهم وقدرتهم، ومنعهم جبراً من المعارضة مع أنهم كانوا قادرين على ذلك، فعجزوا عن المواجهة لهيمنة القدرة الإلهية على قدرتهم
ووجهُ احتجاجهم للصَّرفة: "أنَّه إذا جاز عقلاً عدم تعذر المعارضة، ثم عجز بلغاء العرب -فضلاً عمّن دونهم - عن معارضته وانقطعوا دونه، فذلك برهان على المعجزة؛ لأن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجرى العادات صار كسائر المعجزات".
وقد تناول علماء الكلام واللغة قضية (الصّرفة) عند المعتزلة القائلين بها، وعدَّوها وجهاً مرجوحاً لا يمكن الاعتماد عليه، وأثبتوا أن لغة القرآن وبلاغته ونظمه وتركيبه وتشكيله معجزةٌ بحد ذاتها، وأن قدرة البشر لا تصل إلى درجة نظمه العالي، وأكَّدوا أنَّ أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه
ونرى أن نظم القرآن معجزةٌ بحدِّ ذاته كما ذهب إليه جمهور العلماء، وأن القول بالصرفة فيه مجانبة للصواب، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها:
وبعد أن انتهينا من ذكر هذه الشبهة التي تمس الإعجاز اللغوي والبلاغي للقرآن الكريم نتوقف عند اختلاف العلماء القائلين بإعجازه اللغوي المختلفين في تحديد مكمنه الدقيق، فمنهم من ذهب إلى أنه معجز بلفظه واختيار كلماته، ومنهم من رأى أنه معجز بمعناه ومضامينه، ورجّح الشيخ عبد القاهر الجرجاني أن مكمن الإعجاز لا يكمن في الكلمات المفردة، والمضامين وحدها، بل في ذلك الربط والتعالق بين الكلمات المشكلة لبنية النص القرآني الخاصة، ذلك التعالق الحاصل من الارتباط بين أجزاء الكلام، الذي يكون الألفاظ دليلاً عليه ومفسراً لبنيته القائمة بالذات الإلهية، هذه البنية اللفظية التي تعالقت وارتبطت بوساطة قوانين النحو وأنظمته تميزه عن سائر البنى والتراكيب والقوالب اللفظية، من خلال النظم والارتباط المؤدي لأدق المعاني والخواص التي يتطلبها مقتضى الحال والموقف والسياق بالقدر المناسب كماً وكيفاً وتخفيفاً وتثقيلاً.
بقلم: د. أماد كاظم
المراجع
لسان العرب، ابن منظور: 4/ 2434.البرهان في علوم القرآن، الزركشي 2/ 93-94، مناهل العرفان، الزرقاني: 2/:320، الملل والنحل، الشهرستاني 1/52. المعجزة الكبرى القرآن، محمد أبو زهرة:59. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم:21 معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي 1/ 5-6. سر الفصاحة، الخفاجي:89.الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، عائشة بنت الشاطئ :83.المكتوبات، النورسي:228 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:1/75
- الدلالة المعجمية للفظة (الصَّرفة): الصَّرْفة على وزن فَعْلَة، يقال: صرفه يصرفه، صرفًا، فانصرف، ويقصد بها صرفُ الشيء عن وجهه، وأن تصرف شخصاً عن شيء يريده إلى مصرف آخر (لسان العرب).
- الدلالة الاصطلاحية للفظة (الصرفة): إن الله تعالى صرف دواعيَ العرب عن معارضة القرآن، وسلبهم القدرة عن الإتيان بمثله، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك، لجاؤوا بمثله.
وبعد التتبع والاستقراء لآراء العلماء توصلنا إلى أنَّ أوّل مَن بدأ القول بالصرفة هو النظّام البصري (ت221ه) من المعتزلة ، وتبعه في ذلك بعض مـــن العلماء ، وقد اختلفوا فيما بينهم على مفهومها إلا أنَّ القاسم المشترك بينهم هو أن الله سبحانه - لأجل إثبات التحدي - حالَ بين فصحاء العرب وبلغائهم وبين الإتيان بمثل القرآن، ويمكن التوفيق بين أقوالهم بأنَّ العرب كانوا قادرين على المعارضة والإتيان بسورة من مثل القرآن، إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى صرفهم عن القيام بذلك، إذ سلبهم علمهم وقدرتهم، ومنعهم جبراً من المعارضة مع أنهم كانوا قادرين على ذلك، فعجزوا عن المواجهة لهيمنة القدرة الإلهية على قدرتهم
ووجهُ احتجاجهم للصَّرفة: "أنَّه إذا جاز عقلاً عدم تعذر المعارضة، ثم عجز بلغاء العرب -فضلاً عمّن دونهم - عن معارضته وانقطعوا دونه، فذلك برهان على المعجزة؛ لأن العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجرى العادات صار كسائر المعجزات".
وقد تناول علماء الكلام واللغة قضية (الصّرفة) عند المعتزلة القائلين بها، وعدَّوها وجهاً مرجوحاً لا يمكن الاعتماد عليه، وأثبتوا أن لغة القرآن وبلاغته ونظمه وتركيبه وتشكيله معجزةٌ بحد ذاتها، وأن قدرة البشر لا تصل إلى درجة نظمه العالي، وأكَّدوا أنَّ أساس إعجاز القرآن الكريم في بلاغة نظمه
ونرى أن نظم القرآن معجزةٌ بحدِّ ذاته كما ذهب إليه جمهور العلماء، وأن القول بالصرفة فيه مجانبة للصواب، والأدلة على ذلك كثيرة نذكر منها:
- قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾ (الإسراء:88)، وجه الاستدلال: أن الآية تدلُّ على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدةٌ لاجتماعهم؛ لمنزلته منزلة اجتماع الموتى، وأنها تشير إلى أمر طريقه التكلُّف والاجتهاد، وسبيله التأهب والاحتشاد، والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة، فدلَّ على أنَّ المراد غيرها
- الإجماع: إذ أجمعت الأمة على أن إعجاز القرآن ذاتيٌّ قبل ظهور القول بالصَّرفة، وقد قال الإمام القرطبي (ت684هـ) بعد أن ذكر قول القائلين بالصَّرفة: "وهذا فاسد؛ لأنّ الإجماع قبل حدوث المخالف، أنَّ القرآن هو المعجز، فلو قلنا: إن المنع والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزاً، وذلك خلاف الإجماع"
- الدليل العقلي: إذا سلَّمنا جدلاً أنهم كانوا قادرين على معارضة القرآن إلا أنَّ الله تعالى سلب منهم القدرة، ومنعهم عن المعارضة، فإنه يستلزم من ذلك أن يدرك بلغاء العرب وفصحاؤهم أنهم قد سلبت منهم القدرة، وأن يعلموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأن يميزوا بين أوقات المنع والتخلية، ولو علموا ذلك لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجب، ولو تذاكروا لظهر وانتشر على حدِّ التواتر، فلما لم يكن ذلك دلَّ على بطلان الصّرفة، وكذلك لو كان الوجه في إعجازه هو الصَّرفة؛ لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، ولما ظهر منهم التعجب لبلاغته وحسن فصاحته، كما أُثر عن الوليد بن المغيرة ، أنه قال بعد ما سمع القرآن: "والله إنَّ له لحلاوة وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر وإنَّ أسفله لمغدق، وما يقول هذا بشر ... والله إنَّه ليعلو وما يعلى، وإنَّه ليحطم ما تحته" فإن من المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه، فإنه يدهش عقله، فلو كان إعجاز القرآن صرفةً، لمَا تعجّبوا من بلاغته وفصاحته، فلمَّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة دلَّ على فساد هذه المقالة.
وبعد أن انتهينا من ذكر هذه الشبهة التي تمس الإعجاز اللغوي والبلاغي للقرآن الكريم نتوقف عند اختلاف العلماء القائلين بإعجازه اللغوي المختلفين في تحديد مكمنه الدقيق، فمنهم من ذهب إلى أنه معجز بلفظه واختيار كلماته، ومنهم من رأى أنه معجز بمعناه ومضامينه، ورجّح الشيخ عبد القاهر الجرجاني أن مكمن الإعجاز لا يكمن في الكلمات المفردة، والمضامين وحدها، بل في ذلك الربط والتعالق بين الكلمات المشكلة لبنية النص القرآني الخاصة، ذلك التعالق الحاصل من الارتباط بين أجزاء الكلام، الذي يكون الألفاظ دليلاً عليه ومفسراً لبنيته القائمة بالذات الإلهية، هذه البنية اللفظية التي تعالقت وارتبطت بوساطة قوانين النحو وأنظمته تميزه عن سائر البنى والتراكيب والقوالب اللفظية، من خلال النظم والارتباط المؤدي لأدق المعاني والخواص التي يتطلبها مقتضى الحال والموقف والسياق بالقدر المناسب كماً وكيفاً وتخفيفاً وتثقيلاً.
بقلم: د. أماد كاظم
المراجع
لسان العرب، ابن منظور: 4/ 2434.البرهان في علوم القرآن، الزركشي 2/ 93-94، مناهل العرفان، الزرقاني: 2/:320، الملل والنحل، الشهرستاني 1/52. المعجزة الكبرى القرآن، محمد أبو زهرة:59. الفصل في الملل والأهواء والنحل، ابن حزم:21 معترك الأقران في إعجاز القرآن، السيوطي 1/ 5-6. سر الفصاحة، الخفاجي:89.الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق، عائشة بنت الشاطئ :83.المكتوبات، النورسي:228 الجامع لأحكام القرآن، القرطبي:1/75