المسيحية وحوادث أكل لحوم المسلمين[*]
عندما ابتدأ أستاذ الدراسات الدينية في جامعة نورث كارولاينا البروفسور بارت إيرمان (Bart D. Ehrman) حياته العلمية المميزة في نقد النص المسيحي المقدس، ابتدأها، وياللغرابة، في دراسة اللاهوت المسيحي، كأحد المؤمنين، في واحدة من أهم مراكز اللاهوت في الولايات المتحدة الأمريكية، معهد مودي الإنجيلي (Moody Bible Institute).
خرج بعدها البروفسور إيرمان ليكتب واحد من أهم كتبه عن النص المقدس المسيحي، العهد الجديد، بعنوان (مُزَوَّر) (Forged)، ليكشف فيه حجم التزوير الذي مارسه المسيحيون الأوائل في نصوصهم المقدسة، ثم ليتولى من مكانه كأستاذ في جامعة نورث كارولاينا، كمُحاضر وكمُناظر وكمؤلف، نقد هذا النص بشكل شامل ومركز، ثم ليُلعن أخيراً خروجه النهائي من هذا الدين.
ما يهمنا هنا هو ما كتبه بارت إيرمان تعليقاً على مقولة يسوع الإنجيلي: (لا تظنوا أني جئتُ لأُلقي سلاماً على الأرض، ما جئتُ لأُلقي سلاماً، بل سيفاً) [متى 10: 34]. فقد كتب قائلاً: "لم يقل قائلٌ كلاماً أكثر صدقاً من هذه المقولة. يعتقد الكثير من المسيحيين في عصرنا الحاضر بأن دينهم دين سلام ومحبة، تماماً كما كان في الماضي، وتماماً كما يجب أن يكون دائماً. ولكن أي شخص له أدنى وعي بالتاريخ يعلم جيداً مدى عنف المسيحيين خلال كافة العصور، تبنّوا فيها القمع (القهر)، الظلم، الحروب، الحملات الصليبية [وهي تتم بمباركة وتشجيع البابا في الفاتيكان]، هجمات العصابات التفتيشية (pogroms inquisitions)، هولوكوست متعدد [يشير الكاتب هنا إلى ما حدث للسكان الأصليين في أمريكا الجنوبية والشمالية وأستراليا باسم المسيح والمسيحية، بالإضافة إلى الأثر المسيحي الواضح في بروز وتشجيع معاداة السامية]، حدث كل هذا باسم الإيمان".
ثم يُكمل البروفسور إيرمان ملاحظته ليقول: "القليل جداً من بين الديانات في تاريخ الجنس البشري قد أظهرت ميلاً أكثر للعنف من الديانة التي تأسست حول تعاليم يسوع، الذي، تصديقاً لكلماته، قد جلب بالفعل سيفاً".
لن أتطرق في هذه المقالة إلى التاريخ الدموي للمسيحية على سعة مصادره وتعدد أشكاله وعمق تاريخه وشمول مواقعه إلى الحد أنها أبادت شعوب بأكملها في أمريكا الجنوبية، ولكنني سوف أركز هذه المقالة على أحد الصور الشاذة للممارسات الإنسانية التي تمّت تحت اسم الإيمان والعقيدة المسيحية، وهي حوادث أكل لحوم البشر في الحملات الصليبية التي شُنّت على شرق البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى وكان ضحاياها من المسلمين.
وفي سبيل هذا الاستعراض التاريخي سوف أقتصر على كتابات المؤرخين والباحثين المسيحيين فقط دون غيرهم حتى لا يُطعن في أخبارهم التي يروونها في هذا الصدد، هذا على الرغم من تعدد المصادر غير المسيحية التي روت تلك الأخبار. فالفذلكة "العقائدية" مع ما يصاحبها من ادعاءات التي تثير العجب والابتسامة في آن واحد، في محاولات إنكار الدليل الساطع، متشابهة في منطقتنا العربية عند أصحاب جميع الأديان بدون استثناء.
تطرقت في مقالة سابقة (حوادث أكل لحوم البشر في التاريخ الإسلامي) إلى تاريخية ممارسة أكل لحوم البشر الممتدة في القدم. فنحن نجد قصصها في العهد القديم ونجد أثراً لها في العهد الجديد أيضاً. ففي سفر [الملوك الثاني 6: 25-29] نقرأ: (وكان جوع شديد في السامرة (…) ثم قال لها الملكُ: ما لكِ؟ فقالت: إن هذه المرأة قد قالت لي هاتي ابنكِ فنأكله اليوم ثم نأكل ابني غداً. فسلقنا ابني وأكلناه، ثم قلت لها في اليوم الآخر هاتي ابنكِ فنأكله، فخبّأت ابنها).
بل نجد الإله اليهودي في العهد القديم يهدد بأنه سوف يجعل أعدائه يأكلون لحوم بعضهم البعض بسبب الجوع الناتج عن الحصار أو العقاب الإلهي كما في سفر [إرميا 19: 9]: (وأُطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم، فيأكلون كل واحد لحم صاحبه في الحصار والضيق الذي يضايقهم به أعداؤهم وطالبو نفوسهم)، ثم لتتكرر تلك الإشارات في أسفار لاويين [26: 29]، تثنية [28: 53 و 57]، حزقيال [5: 10]، إشعياء [49: 26]، مما يدل قطعاً على انتشار هذه الممارسة عند المجاعات في الأزمنة القديمة التي سبقت ميلاد يسوع عند شعوب المنطقة.
أما في العهد الجديد، وضمن الأناجيل الأربعة المعترف بها من الكنيسة، هناك نص على لسان يسوع الإنجيلي يجعلنا نقف أمامه متأملين على ضوء الممارسات التي أشرنا لها في العهد القديم. ففي إنجيل يوحنا نقرأ: (فقال لهم يسوع: الحقَّ الحقَّ أقول لكم، إنْ لم تاكلوا جسد ابن الإنسان و تشربوا دمه، فليس لكم حياة فيكم. من يأكل جسدي ويشرب دمي فلهُ حياة أبدية و أنا أُقِيمُهُ في اليوم الأخير. لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق. من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ، وأنا فيه) [يوحنا 6: 53-56]. هنا، فإن إصرار يسوع على (أكل لحمه) و (شرب دمه) يستدعي بالضرورة النظر في السؤال:
لماذا يُشترَط أن نأكل لحماً بشرياً ونشرب دماً بشرياً بالذات،
حتى ولو كان المقصود هو التشبيه والمجاز كما في بعض التصورات، وذلك في سبيل خلاص عقائدي من نوع ما؟
حتى ولو كان المقصود هو التشبيه والمجاز كما في بعض التصورات، وذلك في سبيل خلاص عقائدي من نوع ما؟
ما هي المفاهيم الاجتماعية والثقافية أو ربما الدينية التي استدعت من يسوع الإنجيلي، أو ممن وضع هذه العبارة على لسانه، أن يصر على أكل لحمه وشرب دمه في خطابه لتلاميذه ولا يُعتبَر هذا التشبيه أو المجاز مُنفراً أو شاذاً أو غريباً؟
وسوف أحاول أن أجيب على هذه التساؤلات في مقالة قادمة، إلا أنني أود أن أشير إلى أن هذه العبارة السابقة وما رافقها من طقس الإفخارستيا (Eucharist)، أو التناول المقدس (Blessed Sacrament)، ربما هي التي قد تسببت في اتهام المسيحيين الأوائل بأنهم من أكلة لحوم البشر
[انظر: Cults and Creeds in Gracco-Roman Egypt, H I Bell ، وانظر أيضا: Christianity in the Roman Empire, Mattingly، وانظر الترجمة العربية في كتاب: أضواء على المسيحية المبكرة، ص 12].
بل إن هذه التهمة التي قد تفاقمت بشكل كبير في القرن الثاني الميلادي
[انظر: Eating People: Accusations of Cannibalism Against Christians in Second Century, Andrew McGowan].
تعددت صور أكل لحوم البشر في أوروبا المسيحية عبر التاريخ. فقد صدر كتاب العام الماضي، مايو 2012، تحت عنوان (Medicinal Cannibalism in Early Modern English Literature and Culture, Louise Noble) يؤرخ فيه لحالات أكل لحوم أو شرب دماء أو استعمال عظام البشر في أوروبا بسبب بعض العقائد العلاجية فيها حتى بداية القرن العشرين. بل إنه يؤرخ لحالات استعمال الشحوم البشرية لعمل الشموع.
كما صدر كتاب آخر تحت عنوان (Mummies, Cannibals and Vampires: The History of Corpse Medicine from the Renaissance to the Victorians) وهو أيضاً في موضوع المعالجات الطبية من خلال اللحوم البشرية في أوروبا، مؤلفه المحاضر في جامعة دورهام البريطانية الدكتور ريتشارد سغ (Richard Sugg)، وليقول في مقابلة صحفية له عن كتابه هذا: "لم يكن السؤال آنذاك: هل يجب عليك أن تأكل لحماً بشريا؟ ولكن كان السؤال: أي نوع من اللحم البشري يجب عليك أكله"، مشيراً بذلك إلى الذهنية الدارجة في أوروبا آنذاك والتي تتقبل بشكل طبيعي أن تستهلك اللحوم البشرية لأغراض طبية. وأيضاً، ضمن هذا المحور، فإن الممارسات الجماعية لأكل لحوم البشر في المجاعات كانت معروفة أيضاً هناك.
فعلى سبيل المثال في المجاعة العظمى في أوروبا بين سنتي 1315 و 1317 تعددت قصص أكل لحوم البشر هناك. ولكن ما يهمنا في هذه المقالة هو عندما تكون لحوم البشر، المسلمين بالذات، هي المستهدفة دون سواها. ريمون دي جيل، راهب نوتردام لى بوي، رجل دين مسيحي متوسط الثقافة، ركيك الأسلوب، مع تعصب شديد لمعتقده. أهم ما يميزه هو جهله التام بأي معنى من معاني التسامح، ولذلك "سوّغ أبشع الأعمال التي اقترفها الفرنجة، مثل الإبادة الجماعية للمسلمين وأكل لحوم الموتى منهم" مثل ما وصفه الأستاذ الدكتور سهيل زكار في مقدمة الجزء السادس من موسوعته الشامية. شارك ريمون دي جيل في الحملة الصليبية الأولى (1096-1099 مـ)، وكتب مؤرخاً لحوادثها، ولهذا عُدّ كتابه (تاريخ الفرنجة الذين استولوا على القدس) على ركاكة أسلوبه عملاً وثائقياً هاماً لهذه المرحلة من تاريخ المنطقة.
كتب ريمون دي جيل في تاريخه هذا عن استعداد الجيش الصليبي لمهاجمة مدينة معرة النعمان (سنة 1098 مـ) التي يقول عنها "ذات التعداد الكبير من السكان"، وذلك بعد أن هاجم هذا الجيش مدينة البارة المسلمة و "قتل الآلاف واستعبد آلافاً غيرهم أرسلهم ليُباعوا كرقيق في إنطاكية". كتب ريمون عن سقوط المعرة وإبادة سكانها: "أعطانا الرب، الموجود دوماً، المدينة حسبما وعد رسله (...) غير أن بعض حَمَلة الصليب ممن لم يعبأ بحياته، لأن الجوع جعلهم يحتقرون الحياة، استمروا في مقاتلة أهل المعرة تحت جنح الظلام، وهكذا حصل الفقراء على حصة الأسد من الغنائم والبيوت في معرة النعمان، ولم يجد الفرسان الذين انتظروا حتى الصباح ليدخلوا سوى بقايا ليس لها قيمة. وفي هذه الأثناء كان المسلمون يختبئون في مغائر تحت الأرض. وبالفعل لم يظهر منهم أحد في الشوارع. واستولى المسيحيون على جميع السلع التي كانت فوق الأرض، ودفعتهم الآمال للحصول على ثروات المسلمين المخبأة تحت الأرض، فأطلقوا الدخان والنيران والأبخرة الكبريتية على الأعداء لإخراجهم مغائرهم. وخيب نهبهم للمغائر آمالهم. وعندها عذبوا كل واحد من المسلمين وصلت أيديهم إليه، حتى الموت (...) وقد رميت جثث المعريين في السباخ والأماكن الواقعة خلف الأسوار. وعلى العموم، ولِما تقدم أسباب، لم تمنحنا المعرة الكثير من المنهوبات"
ثم يسترسل ريمون دي جيل، فيقول بكل أريحية: "وما لبث أن أصبح شح الطعام حاداً إلى درجة أن المسيحيين كانوا يأكلون، بكل متعة وتلذذ، جثث المسلمين الجائفة التي كانوا قد رموها في السباخ قبل اسبوعين أو ثلاثة. وأثار هذا المشهد الاشمئزاز في نفوس العديد من الحجاج والغرباء، ومع تزايد الشح بالمؤن ولتردي الأوضاع فقد الكثيرون الأمل في وصول تعزيزات فرنجية، فقفلوا عائدين. وكانت ردود فعل المسلمين والأتراك وتعليقاتهم على ما شاهدوه قولهم: إن هذا العِرق العنيد الذي لا يعرف الرحمة، ولم يزحزحه الجوع أو السيف أو شتى المخاطر لمدة عام عن أسوار إنطاكية، ويتلذذ بأكل اللحم البشري، لا يُمكن أن يُقاوَم أو يُقهر، مَن الذي يستطيع فعل ذلك؟ (...) ولم ندرك وقتها وَقع ذلك وأثره، وأن الرب قد جعل منا سبباً من أسباب الرعب". [انظر الترجمة الكاملة للكتاب في: الموسوعة الشامية، ترجمة سهيل زكار، المجلد 6، ص236-247] أمين معلوف (لبناني – مسيحي)، عقد فصلاً كاملاً في كتابه (الحروب الصليبية) بعنوان (أكلة لحوم البشر في المعرة). ينقل أمين معلوف عن المؤرخ الفرنجي رادولف دي كين [يكتبه معلوف في كتابه كذا: راول دي كين] (Radulph of Caen) هذا النص من تاريخه: "كان جماعتنا في المعرة يغلون وثنيين [المقصود المسلمين] بالغين في القدور، ويشكُّونَ الأولاد في سفافيد [أسياخ] ويلتهمونهم مشويين" [ص 63].
أما المؤرخ ألبير دي آكس (Albert of Aix)، الفرنجي أيضاً، والذي كان من المشاركين في حصار المعرة وشاهد عيان على ما حدث فيها، فقد كان أكثر صراحة في وصف ما حدث. فقد كتب يقول: "لم تكن جماعتنا لتأنف وحسب من أكل قتلى الأتراك والعرب، بل كانت تأكل الكلاب أيضاً"، إلا أن ترجمة أمين معلوف بحاجة إلى إعادة نظر، لأن العبارة كما كتبها ألبير دي أكس هي (Nam Christiani non solum Turcos vel Sarracenos occisos, verum etiam canes arreptos)، وترجمتها الحرفية: "ليس فقط لم يتردد المسيحيون مِنْ أكل قتلى الأتراك والعرب، ولكن حتى الكلاب".
وما لم يذكره أمين معلوف في كتابه هو أن هناك مؤرخ آخر قد ذكر تلك الحوادث بشكل فوتغرافي، إن صح التعبير، لتصوير هذا الفعل. فقد كتب فالتشر أوف تشارترز (Fulcher of Chartres) ما يلي: "الكثير منا، بسبب مضايقات جنون الجوع، قَطَعُوا قِطَعاً من لحم مؤخرات (buttocks) العرب الموتى هناك ثم طبخوها، ولكن قبل أن تنضج بالنار، التهموها بأفواه وحشية".
أترى كل هؤلاء المؤرخين الفرنجة كلهم افتروا على هذا الجيش الذي رفع لواء العقيدة؟
لا أعتقد ذلك. وليس السبب في ذلك كثرة المؤرخين وتعدد الروايات وتواتر الأخبار، ولكن بسبب أنه في السنة التالية على هذه الحادثة أرسل بارونات الحملة الصليبية رسالة رسمية إلى البابا يخبرونه فيه: "اجتاحت الجيش مجاعة فظيعة في المعرة وألجأتهم إلى ضرورة جائرة هي التقوّت بجثث المسلمين". أعتقد بأن أفضل عبارة من الممكن أن نختم بها المقالة هي مقولة يسوع الإنجيلي: (لا تظنوا أني جئتُ لأُلقي سلاماً على الأرض، ما جئتُ لأُلقي سلاماً، بل سيفاً) [متى 10: 34].
______________[*] حسن محسن رمضان، الحوار المتمدن-العدد: 3987 - 2013 / 1 / 29.
تعليق