حقائق في قضية المسيح
من سورة الفرقان
من سورة الفرقان
الفرقان هو موضوع السورة كما هو اسمها، ولذلك تضمنت أهم حقائق الفرقان.. وهي الفرقان بين مقام الله الخالق.. والعباد المخلوقين..
فالله الذي أنزل الفرقان.. هو سبحانه الذي لم يتخذ ولدًا..
ولما كان الفرقان هو موضوع السورة وكان نفي الولد عن الله هو مضمون هذا الفرقان ... ارتبطت آيات السورة بهذا المضمون
حيث يكشف هذا الإرتباط[1] عن أخطر حقائق قضية المسيح عيسى ابن مريم باعتباره موضوع هذا الإدعاء
و أول آية في السورة أثبتت أن مقام النبوة -الذي هو أعلى مقامات البشر- لا يخرج به عن حد العبودية..
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1].
وذلك حتى لايضيع الفرقان بين مقام الألوهية ومقام العبودية بالمغالاة في النبوة
حيث كانت هذه هي بداية التحريف في قضية المسيح
{الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2].
هذا هو مقام الله " الذي له ملك السماوات والأرض"
"ولم يتخذ ولدا" فنفي الولد جاء قبل نفي الشريك لأن زعم الولد لله شرك في ذات الله سبحانه وتعالى تبعه نفي الشريك في الملك
"ولم يكن له شريك في الملك"
"وخلق كل شيء فقدره تقديرا" فالله هو الخالق وكل مادون الله سبحانه فهو مخلوق
ولاسبيل للخلط بين المقامين
ومن هنا كان أول وصف للأنداد الذين اتخذهم الناس من دون الله هو أنهم لايخلقون شيئا وهم يخلقون
{واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا} [الفرقان: 3].
ومن أهم حقائق الفرقان في القرآن.. أن الله سبحانه الذي أنزل القرآن هو الذي يعلم السر في السموات والأرض
{قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما}الفرقان6
والتعامل مع قضايا الغيب من منطلق هذه الآية هو الذي يحسمها أمام العقل البشري، والمسيح من أخطر هذه القضايا
فيكون فهم كل حقائق هذه القضية من خلال هذه الآية أمرًا سهلاً ويسيرًا، فالله الذي يعلم السر في السموات والأرض هو سبحانه الذي أخبرنا بأن المسيح ولد من غير أب وأنه شبه لهم وأنه رفع وأنه سينزل في آخر الزمان كل ذلك أخبر به الله الذي يعلم السر في السموات والأرض في الكتاب الذي نزله على عبده ولادليل عندنا لتلك الحقائق إلا هذا الإخبار
***
{قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما}الفرقان6
}وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ{ 17
}قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا {18
والبوار هو صفتهم بباطلهم الذي لايتحقق به أي منفعة كونية
}فَقَدْ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا{ 19
ومع إقرار أهل الباطل تكون مُساءلة أهل الحق، ومنها مُساءلة كل من عُبد من دون الله:
وهذا الإقرار من أعلى معاني الفرقان
والحكمة من هذا الموقف ترجع إلى قاعدة عامة، وهي:
الإظهار الكامل للحق يوم القيامة؛ لأنه يوم كمال الإظهار لأسماء الله وصفاته.
وفي إطار إظهار الحق يوم القيامة كانت مُساءلة المرسلين..
لتأتي مع مُساءلة المرسلين.. مُساءلة عيسى عليه السلام..
مثل قول الله }وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ{ (المائدة:116)
فأكمل درجات الإقرار أن يكون بالأطراف التي يتعلق بها موضوع هذا الإقرار
وكان إقرار عيسى بالعبودية بمجرد ولادته" قال إني عبد الله"
ثم إقراره يوم القيامة تحقيقاً للفرقان الكامل في قضيته
***
}وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا{ 21
وأصحاب هذا الطلب هم الذين يريدون الخروج عن الفرقان في الغيب ولابد أن يبقى هذا الغيب حتى يكشفه الله بحكمته فيرون الملائكة فعلا ولكن لتعذبهم
فعندما يطلب الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله في الدنيا يكون ذلك مستحيلا..
لأن الفرقان الزمني معناه أن الحدث الواحد يكون مستحيلاً في وقت.. وممكنًا في وقت آخر..
فهذا الحدث المستحيل في الدنيا سيكون حتمًا حين يرى الكافرون الملائكة.. ولكن في الآخرة.. {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}25
{الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوماً على الكافرين عسيراً} [الفرقان: 26].
ولهذا قال سبحانه في سورة غافر: { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} [غافر: 16]
}ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا{ وعندئذ يري الناس ربهم وليس قبل ذلك وهذا الفرقان الزمني يمثل أساسًا في مناقشة قضية المسيح من ناحية الرؤية الإلهية، فعندما يدعي النصارى بدعة التجسد إنما يدَّعون إمكانية الرؤية الإلهية في الحياة الدنيا، وهو الأمر المستحيل، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن تروا ربكم حتى تموتوا)[2 ].
وشرط الموت لرؤية الله يوم القيامة ضروري للفرقان لأنه بموت الإنسان تتحقق أقوى دلائل العبودية فيرى العباد ربهم في الآخرة وقد قام عليهم أقوي دلائل العبودية فيكون الفرقان في رؤية العباد لله سبحانه وتعالى
ويضاف إلى دليل الموت دليل آخر في تحقيق الفرقان في هذا اليوم وهو
أن يكون أهل الصليب هم أول من يتبعون صليبهم إلي النار
عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: (هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر إذا كانت صحوًا؟) قلنا: لا، قال: (فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما) ثم قال: (ينادي مناد: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم..) ([3]).
وهو تفسير قول الله {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا}
وبذلك يكون أمر الله المحكم ويكون الفرقان
فإما الإيمان بإحكام الله وإما الهوى الذي يبلغ من الإنسان مكان الألوهية
{أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا } [الفرقان: 43 ]
وكل من اتخذ إلهه هواه لا يسمع ولا يعقل ويكون كالأنعام
{أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [الفرقان: 44 ]
فالإنسان في حاجة إلى فرقان الله ولولا ذلك لضل، فالنفس والهوى وكل الحواس لا تهتدي إلا بهدى الله.
وإذا كان التصور الإسلامي يثبت النظام الكوني الذي يحدد العلاقة الكونية بين الخلائق، فإن الفرقان بين جميع الخلائق وذات الله «الخالق» سبحانه وتعالى يجب أن تكون الحقيقة الأولى التي تعلو قواعد وأحكام هذا النظام، ولذلك كان فهم الفرقان بين عناصر الخلق وبعضها البعض بضوابطه وأحكامه يساعدنا على تصور الفرقان الواجب بين الخلق والخالق سبحانه وتعالى.
و لذلك انتقلت الآيات من الفرقان في النفس إلى الفرقان في الكون
{ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا*ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا} [الفرقان: 45، 46]..
فالإنسان ينظر إلى الظل بعينه وهو أمامه ممدود في الأرض، ثم لا يعلم أين يتجه هذا الظل؛ لأنه يسير سيرًا ضئيلاً يكاد يكون ساكنًا ولكنه ليس ساكنًا.. ولو شاء الله لجعله ساكنًا، ولذلك لا تعرف اتجاه الظل إلا إذا نظرت إلى الشمس، فمن موضع الشمس بالنسبة للظل تعلم اتجاه الظل.
وإذا علمنا أن الشمس دليل على الظل تعلمنا الرجوع في هدايتنا كلها إلى فرقان القرآن؛باعتباره الحجة الإلهية القائمة على الخلق حتى قيام الساعة وخصوصا في قضايا الغيب التي لا نملك فيها إلا تلقى النقل عن القران كمرجعية ثابتة لم يتطرق إلها التحريف
ومن ظاهرة مد الظل.. إلى ظاهرة مرج البحرين
{وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا} [الفرقان: 53].
و ظاهرة مَرْجِ البحرين تناقش الفرقان بين الأشياء ذات الطبيعة الواحدة، فمع أن الماء واحدٌ.. إلا أن العذب الفرات لا يتداخل في الملح الأجاج.
وفي الوقت الذي يحسم فيه القرآن أمر التداخل بين صفات العنصر الكوني ذو الطبيعة الواحدة يشتد الاختلاف بين النصارى في ذات الله الواحد
تتداخل أفكار الأقانيم والطبيعة الواحدة والطبيعيتين والمشيئة الواحدة والمشيئتين
ثم ينتقل السياق من أكبر الظواهر الكونية الدالة على الفرقان «الشمس و الأدلة على حركة الظل والبحار التي لا يتداخل ماؤها».. إلى أدقِّها..
{وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديرا} [الفرقان: 54].
وفي الوقت الذي يثبت فيه القرآن الفرقان والإحكام في النسب والمصاهرة بين البشر أنفسهم يخلط النصارى مقام الله سبحانه وتعالى مع البشر
***
{وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا} [الفرقان: 58].
فوصف الله بأنه {الحي الذي لا يموت} يقتضي التوكل عليه، ، كما يشير إلى الموت كفرقان بين الله والعباد ، ولذلك جاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك.. لا إله إلا أنت.. أن تُضِلَّني.. أنت الحيُّ الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)[4].
" وسبح بحمده " فتح القدير - (ج 5 / ص 287)
{ وَسَبّحْ بِحَمْدِهِ } أي : نزّهه عن صفات النقصان وليس أكبر من تنزيه الله عن النقصان من نفي الولد عنه سبحانه وتعالى
{ وكفى به بذنوب عباده خبيرا} يعلم ذنوب العباد
الله ربهم.. هو أعلم بهم.. يحكم فيهم.. يغفر لمن يشاء ..
ومغفرة الذنوب هي أخص خصائص الألوهية التي لا يمكن أن تكون لغيرالله
وكفى به سبحانه وتعالي بذنوب عباده خبيرا..
وهذا هو الفرقان في ذنوب العباد ومغفرتها
إن رسولنا الكريم يبين لنا أن رجلا أقسم ألا يغفر الله لعبد فقال الله من ذا الذي يتأله علي.. فالذي تدخل بين العبد وربه بالقسم.. تأله على الله فماذا يكون معنى
زعم هذه الخصيصة لأحد من البشر والإعتراف بالذنب أمامه
إنه الهوى
أما الفرقان فهو { وكفى به بذنوب عباده خبيرا}
هوامش
--------------------------------------------------------------------------------
[1] وهذا الارتباط المقصود هنا هو توجيه الحقائق التي تضمنتها السورة في اتجاه قضية المسيح وهو الأمر الذي يختلف عن تفسير السورة من منظور علم المناسبة
<fot>أخرجه أحمد (5/324)، والحاكم في المستدرك (4/580).
[3]أخرجه البخاري (7001).
<fot>أخرجه البخاري (6948)، ومسلم (2717) عن ابن عباس

تعليق