جاءت ذات يوم سوسة فانغرست في جذور هذه النخلة فانتبه لذلك الأمر الخادم الناصح ، فدار بينه وبين ملك الغربان حوار لطيف تدور أحداثه وكلماته حول هذه السوسة ، وما يمكن أن تحدثه من مصائب على الأمد البعيد ، يقول أحمد شوقي شارحا هذا الحوار :
كان للغربان في العصر مليك
وله في النخلة الكبرى أريك
فيه كرسي وخدر ومهودش
لصغار الملك أصحاب العهود
جاءه يوما ندور الخادم
وهو في الباب الأمين الحازم
قال : يا فرع الملوك الصالحين
أنت مازلت تحب الناصحين
سوسة كانت على القصر تدور
جازت القصر ودبت في الجذور
فابعث الغربان في إهلاكها
قبل أن نهلك في أشراكها
ضحك السلطان من هذا المقال
ثم أدنى خادم الخير وقال :
أنا رب الشوكة الضافي الجناح
أنا ذو المنقار غلاب الرياح
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
أنا لا أنظر تحتي يا ندور .
ثم لما كان عام بعد عام
قام بين الريح والنخل خصام
وإذا النخلة أهوى جذعها
فبدا للريح سهلا قلعها
فهوت للأرض كالتل الكبير
وهوى الديوان وانقض السرير
فدها السلطان ذا الخطب المهول
ودعا خادمه الغالي يقول :
يا ندور الخير أسعف بالصياح
ما ترى ما فعلت فينا الرياح
قال : يا مولاي لا تسأل ندور
« أنا لا أنظر في هذي الأمور »
وقد استخرجت من نص الشاعر بعض الفوائد السريعة فخذها هنيئا مريئا :
أولا : لابد لكل إنسان من ناصح أمين يكون قريبا منه مطلعا على بواطنه وأسراره وخفاياه ينصح له فيها ويكون مقبولا نصحه ، وكلما رأيت إنسانا يجمع حوله المنافقين والإمعات ويطرد الصادقين والنصحاء فاعلم أنه إنسان فاشل في الدنيا والآخرة .
ثانيا : في أدب النصح انظر إلى قول ندور :
يا فرع الملوك الصالحين أنت مازلت تحب الناصحين
فتعلم أن تشجع من تنصحه كي يقبل نصحك ..
قال الإمام الشافعي رحمه الله لبعض تلاميذه : إذا رأيت من أخيك زلة لم يكن لك بد من أن تنصحه فيها ، فإن واجهته بها أوحشته ، وإن كتمتها فقد خنته ، قال فكيف أفعل يا إمام ؟، قال : تعرض بها في الكلام وتجعلها في بعض حديثك ..
إنه فن معالجة الأخطاء :
• قدم شيئا من المدح والثناء عليه بالحق وبما فيه دون كذب أو مبالغة أو بخس .
• وأتبعها بذكر فوائد قبول النصح وأمثلة ممن استفاد ممن هو أصغر منه .
• ثم اعرض المسألة دون مبالغة في أهميتها ولا تضخيم لها .
• ثم التمس له بعض الأعذار وقدم له ما يمكن أن يكون من المبررات .
• استعمل أيضا الأدب في العرض والهدية البسيطة المناسبة .
• أخيرا لا تحوجه إلى اعتذار أو سوق مبررات ، بل احسم الموضوع بمجرد عرض النصيحة .
• واختم قولك بأنك قد تكون أنت المخطئ وهو المحق فسامح واعذر من أحبك .
ثالثا : إياك والكبر والغرور ، قالوا في المثل العربي : إذا كان عدوك نملة فلا تنم له ، انظر إلى قول الغراب :
أنا لا أنظر في هذي الأمور أنا لا أنظر تحتي يا ندور
ينبغي للإنسان أن ينظر تحته وفوقه وعما حوله ليدفع عن نفسه الأذى أسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمته أن نغتال من تحتنا ، قال سبحانه وتعالى حكاية عن إبليس قوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)} [الأعراف :17] .
فلا يركبنك الغرور ، وانظر في جميع الأمور ، ولا تكن كما قيل : "الزوج آخر من يعلم " .
رابعا : السوسة .. وما أدراك ما السوس ، ينخر من تحت حتى يسقط السقف من فوق ، وهذا موضع الشاهد وركيزة هذا الموقف في النصح ..
أحبتي في الله ..
كم في حياتنا من سوس ينخر في ديننا وعلاقاتنا وأعمالنا وجملة حياتنا .. كم من سوس ينخر فعلا ونحن نراه ونهمله ولا نهتم به ولا نعمل على علاجه والتخلص منه ..
أخي الحبيب .. وأنا أحبك في الله : أدرك الأمر .. أنقذ نفسك :
• هناك سوسة تنخر في دينك أدركها :
ü معصية صغيرة أو كبيرة مع الإصرار ..
ü أو سوسة أخرى : سوء الظن بالله ..
ü أو سوسة أخرى : كبر أو عجب أو رياء ..
ü أو سوسة أخرى : عدم رضا عن الله ..
ü أو سوسة أخرى : جهل وتمادي ..
ابحث عن السوس في علاقتك مع الله ، واسترشد ناصحا أمينا منك قريب ..
• وهناك سوسة أخرى تنخر في بيتك :
ü إهمال زوجتك وأولادك ..
ü خطايا الزوجات وخطيئات الأولاد ..
ü منكرات موجودة بالبيت ( تلفاز ، موسيقى ، صور ، تماثيل ، اختلاط .... )
• وهناك سوسة أخرى تنخر في علاقتك مع الناس :
ü سوء الظن بالآخرين ..
ü تعلق القلب بالآخرين ..
ü طلب الحقوق ونسيان الواجبات ..
ابحث عن السوس وانقذ بنيانك من الانهيار وأدرك نفسك قبل أن تغرق بك السفينة ، وضع خطة عامة لترميم ما أفسده السوس في قلبك وفي عباداتك وفي معاملاتك ..
وفي النهاية ثمة أمر آخر ألا وهو :
لقد قام كثير من المصلحين بواجبهم ، آمرين أمتهم بالمعروف ، ناهينها عن المنكر ، ناصحين إياها بكل خير ، ولكن نخشى أحيانا أن يحق في بعضنا قول القائل :
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رماد
أينما جال الإنسان ببصره في أرجاء هذه الأمة وجد سوسة تنخر في جسدها ، سوسة تفتك بالدين والقيم والخلق ، سوسة لا ترحم ، سوسة يبصرها أولو الأحلام والنهى ويقدرون عاقبتها .... ألا إن عاقبتها وخيمة !
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قال : « الدين النصيحة » ، قلنا : لمن ؟ ، قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » [رواه مسلم] .
ورحم الله عملاق هذه الأمة عمر بن الخطاب –رضي الله عنه حينما قال : (رحم الله رجلا أهدى إلي عيوبي) .
فهل تعي أمتنا ، حكاما ومحكومين ، أغنياء وفقراء ، وجهاء وبسطاء ، هذا الأمر العظيم ؟، وهل نعي نحن جميعا عبادة التناصح فيما بيننا ؟، وهل نذل أنفسنا للحق ونقبله مهما كان؟، نأمل ذلك والله ولي التوفيق .
و كتبه
محمد بن حسين يعقوب
يوم الاثنين الموافق 10 رجب 1426هـ
تعليق