المقدمة
الحمد لله أنزل على نبيه الكتاب والحكمة، وأقام بهما على العباد الحجة، وضمن فيهما السداد والعصمة، فمن اتبع فقد اهتدى، ومن أعرض فقد ضلّ وغوى.
وأصلِّي وأسلِّم وأبارك على عبد الله ورسوله الصادق الأمين، نبينا محمد المرسل رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فإن السنة النبوية المطهرة تمثِّل - ولا شك - إلى جانب القرآن الكريم أسس الدين الإسلامي وقاعدته الأساسية، التي لا يستقيم للدين أمر، ولا فهم، ولا فقه دونها، فبدون السنة النبوية المطهرة تضيع السيرة، وتفقد القدوة، وتنقطع الرسالة، وتبهم معاني الكتاب، ويقضى على فقه الدين.
وإذا كان الأمر كذلك فإن البحث في السنة وحجّيّتها ومنزلتها ومكانتها يعدّ أمرًا بالغ الأهمية في بنية الفكر الإسلامي، وتكوين العقلية المميزة للأمة الإسلامية، خصوصًا إذا ما تصوّرنا حجم الهجمة الشرسة وما ينصبه أعداء الأمة في الداخل والخارج من مكائد، وما يراد للأمة من مسخ لشخصيتها، ومحاولات لا تتوقف يراد بها صرف الناس وإعراضهم عن هدي النبوة، والتخلّص من الأحكام الثابتة بها، والبعد عن أضوائها وأنوارها، مرةً بادعاء عدم حجية بعض أنواعها، ومرةً بزعم أن ما ورد فيها - غير مبين للكتاب - فإن الناس ليسوا مطالبين به، ومرةً بالطعن بِحَمَلَتِهَا الأَوَّلِين ورواتها الأقدمين، ونفي العدالة عنهم، ومرةً بادعاء أنها - أي السنة - لا تعدو أن تكون توجيهات، ونصائح، وآداباً غير ملزمة للمسلم أن يعمل بها، وله أن يتخلى عنها، مستدلين لمذاهبهم الفاسدة، وآرائهم الخبيثة الكاسدة بأوهى المقالات، وأضعف الشبهات، وأتفه الخيالات.
وبعضهم يزعم: أن ما جاءت به السنة لا ينبغي أن يعمل به إلا بعد معرفة سائر ظروف وروده، وأسباب ظهوره، وسائر ما يمكن أن يكون له أثر في دلالته عندهم، وأن السنة إذا دلت على حكم لم يدل القرآن عليه لم يؤخذ بها، وأن الحديث يجب أن يعرض على عقولهم الجامدة، فإن تلقته تلك العقول القاصرة، والأفئدة المريضة بالقبول صحّ وعمل به، وإن أغلقت عقولهم الكليلة دونه أبوابها فليترك وليهمل.
لقد نسي هؤلاء الحمقى - أو تناسوا - أن سنة رسول الله أصل دلّ عليه كتاب الله, وأن الأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ بل يحكّمه المؤمنون ويقبلونه، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما دل عليه، ويسلِّمون له تسليمًا تامًا، وينقادون لدلالته انقيادًا كاملاً"(1).
إن هؤلاء بموقفهم هذا يظلمون أنفسهم، ويظلمون الناس؛ لأنهم خالفوا وشرعوا المخالفة، إذ بدل أن يكونوا محكومين جعلوا من أنفسهم حاكمين، بل ومشرعين؛ لأنهم شرعوا لأنفسهم - حين رفضوا السنة أو شككوا فيها - رفض الدين، وقبول إيحاء الشيطان الرجيم، وهذا هو الضلال المبين.
قال تعالى: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا)) [الأحزاب:36].
وقال تعالى: (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا))[ النساء:65].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)(2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلّتت منهم فلم يعوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا"(3).
لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟.
إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل على حفظ كيان الإسلام، وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام(4).
إذ السنـة بما تضمنته من أقوال وأفعال وتقريرات وصفـات للنبي - صلى الله عليه وسـلم - ترسـم " المنهاج التفصيلي" للحياة الإسلامية: حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، في الدولة المسلمة.
وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة، والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بدّ منها، فإن السنة تفصِّل ما أجمله القرآن الكريم، وتبيِّن ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته.
ومن هنا نجد في السنة تفصيلات الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والحياة البرزخية مما يتعرض له المكلفون بعد الموت في قبورهم من سؤال وامتحان، ونعيم أو عذاب، وأهوال البعث والنشور، والموقف في الشفاعة العظمى، والحساب الإلهي، وما يتبعه من أخذ الصحف، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وإقامة الصراط، وما أعد الله في الجنة لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أعدّ في النار لمن عصاه من ألوان العذاب الحسّي والمعنوي، كل هذا قد فصّلته السنة حتى كأنه رأي عين.
ونجد في السنة تفصيلات العبادات الشعائرية التي تمثِّل جوهر التدين العملي كالعبادات الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج، سواء ما كان منها فرضًا لازمًا كالصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة من كل أسبوع، والزكاة المفروضة كل حول أو كل حصاد، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت مرةً في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً... وما كان منها من باب التطوع.
فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة، نجد السنة حافلةً بكتبها وأبوابها الجَمَّة، من مقدماتها: الطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، ومسح الخفين... الخ... ولواحقها: الأذان، والإقامة، والجماعة، والإمامة، وبيان مواقيتها، وأعدادها، وكيفيتها، وأركانها، وسننها ومبطلاتها، وبيان أنواعها مما هو فرض، وما هو نفل مؤكد كالسنن الرواتب، والوتر، وما ليس كذلك كقيام الليل وصلاة الضحى، وما يصلى في جماعة وما ليس كذلك، وما يؤدى مرةً أو مرتين في السنة كصلاة العيدين، وما يؤدى بأسباب عادية كالكسوف والاستسقاء، أو خاصةً كالاستخارة.
وإذا جئنا إلى الزكاة نجد بيان الأموال التي تجب فيها، ونُصبها، ومقادير الواجب في كل منها، ومتى تجب، ولمن تجب؟.
ومثل ذلك يقال في الصيام والحج والعمرة، فالسنة هي التي فصّلت أحكامها تفصيلاً.
وهذه العبادات قد احتلّت من كتب السنة حيزًا كبيرًا، حتى إنها في كتاب مثل: " الجامع الصحيح للبخاري" تقدّر بنحو الربع.
فإذا أضفنا إليها ما يتعلق بالأذكار والدعوات وتلاوة القرآن - وهي لا شك جزء من العبادات - تبيّن لنا مقدار احتفال السنة بها، وقد ختم البخاري جامعه بحديث منها(5).
ونجد في السنة توجيهات مفصلة للأخلاق الإسلامية، التي بعث الله رسوله ليتمِّمَها وهي تشمل الأخلاق الإنسانية التي لا تقوم الحياة الفاضلة إلا بها، وقد اعتبرتها السنة من شعب الإيمان، ومن فضائل المؤمنين، كما اعتبرت أضدادها من آيات النفاق، ورذائل المنافقين، وذلك كالصدق والأمانة، والسخاء والشجاعة، والوفاء والحياء، والرفق والرحمة، والعدل والإحسان، والتواضع والصبر، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، وبِرّ الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، ورعاية اليتيم، والمسكين، وابن السبيل.
كما تشمل ما نسمِّيه " الأخلاق الربانية" التي هي قوام الحياة الروحية كمحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والورع عن المحارم والزهد فيها عند الناس، والرغبة فيما عند الله... إلى غير ذلك من الأخلاق والمقامات التي عني بها الصادقون من رجال التصوف، حتى قالوا: التصوف هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، فقد زاد عليك في التصوف.
ونجد في السنة كذلك تفصيلات الآداب الإسلامية، التي تتصل بالحياة اليومية للإنسان المسلم، ويتكوّن منها الذوق المشترك، والأدب المشترك للأمة الإسلامية.
وذلك مثل أدب الأكل والشرب، والجلوس والمشي، والتحية والسلام، والزيارة والاستئذان، والنوم واليقظة، واللباس والزينة، والكلام والصمت، والاجتماع والافتراق.
فالمسلم عندما يأكل أو يشرب يُسمِّي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، ويأكل مما يليه، ويقتصد في أكله، ويحمد الله إذا فرغ من طعامه.
وهكذا نجد السنة النبوية تضع للمسلم مجموعةً مفصّلةً من الآداب المحدَّدة في سلوكه اليومي، تنشأ منها تقاليد مشتركة، تميِّز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، كما تجعل للفرد المسلم شخصية مستقلة متميزة في مظهرها ومخبرها تستعصي على الذوبان في غيرها.
ونجد في السنة كذلك تفصيلاتٍ لتكوين الحياة الأسرية على أساس مكين، وتنظيم علاقاتها، وضبط سيرها، وحمايتها من عوامل التفكك والانهيار، والتوجيه إلى الوسائل اللازمة للمحافظة عليها، وما يلزم كِلا الطرفين عند تعذر الوِفاق، ووقوع الطلاق، فنجد في السُنّة عنايةً بالغةً بحسن اختيار الزوج أو الزوجة، والخطبة وأحكامها، والزواج وآدابه، وحقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والنفقات، وحق الأولاد على والديهم، وحق الوالدين على أولادهم، وحق ذوي القربى من المحارم والعصبات... إلى غير ذلك مما يقوم عليه " فقه الأسرة"، أو ما يسمى " الأحوال الشخصية".
ونجد في السنة كذلك أحكامًا وفيرةً تتعلق بالمعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم وبعض، مثل أحكام البيع والشراء، والهبة والقرض، والمشاركة والمضاربة، والإجارة والإعارة، والكفالة والحوالة، والرهن والشفعة، والوقف والوصية، والحدود والقصاص والشهادات وغيرها، مما استند إليه فقه " المعاملات".
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الحكّام والمحكومين، في الشؤون الإدارية والمالية والقضائية وغيرها، مما استمدت منه كتب " السياسة الشرعية"، وكتب " الأموال"، و"الخراج" ونحوها.
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرسم الإطار لعلاقة المسلمين بغير المسلمين في السِّلم وفي الحرب. وهذا ما يقوم عليه فقه " السير" أو " الجهاد"(6).
وللإمام ابن القيم كلام نفيس رائع عن الهدي النبوي الذي جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " وتُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر للأمة منه علمًا، وعلَّمَهم كل شيء حتى آداب التخلي - أي آداب قضاء الحاجة - وآداب الجماع، والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأي عين، وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم، وما جرى عليهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر، دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب، للروح والبدن، ما لم يُعرِّف به نبي غيره، وكذلك عرَّفهم من أدلة التوحيد، والنبوة، والمعاد، والردّ على جميع أهل الكفر والضلال، وعرَّفهم من مكايد الحروب، ولقاء العدو، وطرق النصر والظفر، ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته، لم يقم لهم عدو أبدًا - أي لم يثبت أمامهم عدو - وكذلك عرَّفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها، وما يتحرزون به من مكره وكيده، وما يدفعون به شره عن أنفسهم ما لا مزيد عليه.
وبالجملة: فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بأكمله، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فشريعته كاملة، ما طرق العالمَ شريعة أكمل منها"(7).
الهوامش:
(1) حجية السنة، ص: 13-14.
(2) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم: (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه...، رقم: (1401).
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم، رقم: (1924، 2003، 2005)، اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد, (1/ 123).
(4) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، ص: 87.
(5) هو حديث: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" عن أبي هريرة.
(6) انظر: المدخل إلى دراسة السنة، ص: 63- 67.
(7) إعلام الموقعين، (4/ 375).
وأصلِّي وأسلِّم وأبارك على عبد الله ورسوله الصادق الأمين، نبينا محمد المرسل رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد
فإن السنة النبوية المطهرة تمثِّل - ولا شك - إلى جانب القرآن الكريم أسس الدين الإسلامي وقاعدته الأساسية، التي لا يستقيم للدين أمر، ولا فهم، ولا فقه دونها، فبدون السنة النبوية المطهرة تضيع السيرة، وتفقد القدوة، وتنقطع الرسالة، وتبهم معاني الكتاب، ويقضى على فقه الدين.
وإذا كان الأمر كذلك فإن البحث في السنة وحجّيّتها ومنزلتها ومكانتها يعدّ أمرًا بالغ الأهمية في بنية الفكر الإسلامي، وتكوين العقلية المميزة للأمة الإسلامية، خصوصًا إذا ما تصوّرنا حجم الهجمة الشرسة وما ينصبه أعداء الأمة في الداخل والخارج من مكائد، وما يراد للأمة من مسخ لشخصيتها، ومحاولات لا تتوقف يراد بها صرف الناس وإعراضهم عن هدي النبوة، والتخلّص من الأحكام الثابتة بها، والبعد عن أضوائها وأنوارها، مرةً بادعاء عدم حجية بعض أنواعها، ومرةً بزعم أن ما ورد فيها - غير مبين للكتاب - فإن الناس ليسوا مطالبين به، ومرةً بالطعن بِحَمَلَتِهَا الأَوَّلِين ورواتها الأقدمين، ونفي العدالة عنهم، ومرةً بادعاء أنها - أي السنة - لا تعدو أن تكون توجيهات، ونصائح، وآداباً غير ملزمة للمسلم أن يعمل بها، وله أن يتخلى عنها، مستدلين لمذاهبهم الفاسدة، وآرائهم الخبيثة الكاسدة بأوهى المقالات، وأضعف الشبهات، وأتفه الخيالات.
وبعضهم يزعم: أن ما جاءت به السنة لا ينبغي أن يعمل به إلا بعد معرفة سائر ظروف وروده، وأسباب ظهوره، وسائر ما يمكن أن يكون له أثر في دلالته عندهم، وأن السنة إذا دلت على حكم لم يدل القرآن عليه لم يؤخذ بها، وأن الحديث يجب أن يعرض على عقولهم الجامدة، فإن تلقته تلك العقول القاصرة، والأفئدة المريضة بالقبول صحّ وعمل به، وإن أغلقت عقولهم الكليلة دونه أبوابها فليترك وليهمل.
لقد نسي هؤلاء الحمقى - أو تناسوا - أن سنة رسول الله أصل دلّ عليه كتاب الله, وأن الأصل لا يقال له: لِمَ وكيف؟ بل يحكّمه المؤمنون ويقبلونه، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجًا مما دل عليه، ويسلِّمون له تسليمًا تامًا، وينقادون لدلالته انقيادًا كاملاً"(1).
إن هؤلاء بموقفهم هذا يظلمون أنفسهم، ويظلمون الناس؛ لأنهم خالفوا وشرعوا المخالفة، إذ بدل أن يكونوا محكومين جعلوا من أنفسهم حاكمين، بل ومشرعين؛ لأنهم شرعوا لأنفسهم - حين رفضوا السنة أو شككوا فيها - رفض الدين، وقبول إيحاء الشيطان الرجيم، وهذا هو الضلال المبين.
قال تعالى: ((وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينًا)) [الأحزاب:36].
وقال تعالى: (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا))[ النساء:65].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (فمن رغب عن سنتي فليس مني)(2).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: " أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلّتت منهم فلم يعوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا"(3).
لقد كانت السنة مفتاحًا لفهم النهضة الإسلامية منذ أكثر من أربعةَ عشرَ قرنًا، فلماذا لا تكون مفتاحًا لفهم انحلالنا الحاضر؟.
إن العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمل على حفظ كيان الإسلام، وعلى تقدمه، وإن ترك السنة هو انحلال الإسلام(4).
إذ السنـة بما تضمنته من أقوال وأفعال وتقريرات وصفـات للنبي - صلى الله عليه وسـلم - ترسـم " المنهاج التفصيلي" للحياة الإسلامية: حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، في الدولة المسلمة.
وإذا كان القرآن الكريم يضع القواعد العامة، والمبادئ الكلية، ويرسم الإطار العام، ويحدد بعض النماذج لأحكام جزئية لا بدّ منها، فإن السنة تفصِّل ما أجمله القرآن الكريم، وتبيِّن ما أبهمه، وتضع الصور التطبيقية لتوجيهاته.
ومن هنا نجد في السنة تفصيلات الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
والحياة البرزخية مما يتعرض له المكلفون بعد الموت في قبورهم من سؤال وامتحان، ونعيم أو عذاب، وأهوال البعث والنشور، والموقف في الشفاعة العظمى، والحساب الإلهي، وما يتبعه من أخذ الصحف، ونشر الدواوين، ونصب الموازين، وإقامة الصراط، وما أعد الله في الجنة لمن أطاعه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما أعدّ في النار لمن عصاه من ألوان العذاب الحسّي والمعنوي، كل هذا قد فصّلته السنة حتى كأنه رأي عين.
ونجد في السنة تفصيلات العبادات الشعائرية التي تمثِّل جوهر التدين العملي كالعبادات الأربع: الصلاة والزكاة والصيام والحج، سواء ما كان منها فرضًا لازمًا كالصلوات الخمس اليومية، وصلاة الجمعة من كل أسبوع، والزكاة المفروضة كل حول أو كل حصاد، وصوم رمضان من كل عام، وحج البيت مرةً في العمر لمن استطاع إليه سبيلاً... وما كان منها من باب التطوع.
فإذا نظرنا إلى فريضة كالصلاة، نجد السنة حافلةً بكتبها وأبوابها الجَمَّة، من مقدماتها: الطهارة، والوضوء، والغسل، والتيمم، ومسح الخفين... الخ... ولواحقها: الأذان، والإقامة، والجماعة، والإمامة، وبيان مواقيتها، وأعدادها، وكيفيتها، وأركانها، وسننها ومبطلاتها، وبيان أنواعها مما هو فرض، وما هو نفل مؤكد كالسنن الرواتب، والوتر، وما ليس كذلك كقيام الليل وصلاة الضحى، وما يصلى في جماعة وما ليس كذلك، وما يؤدى مرةً أو مرتين في السنة كصلاة العيدين، وما يؤدى بأسباب عادية كالكسوف والاستسقاء، أو خاصةً كالاستخارة.
وإذا جئنا إلى الزكاة نجد بيان الأموال التي تجب فيها، ونُصبها، ومقادير الواجب في كل منها، ومتى تجب، ولمن تجب؟.
ومثل ذلك يقال في الصيام والحج والعمرة، فالسنة هي التي فصّلت أحكامها تفصيلاً.
وهذه العبادات قد احتلّت من كتب السنة حيزًا كبيرًا، حتى إنها في كتاب مثل: " الجامع الصحيح للبخاري" تقدّر بنحو الربع.
فإذا أضفنا إليها ما يتعلق بالأذكار والدعوات وتلاوة القرآن - وهي لا شك جزء من العبادات - تبيّن لنا مقدار احتفال السنة بها، وقد ختم البخاري جامعه بحديث منها(5).
ونجد في السنة توجيهات مفصلة للأخلاق الإسلامية، التي بعث الله رسوله ليتمِّمَها وهي تشمل الأخلاق الإنسانية التي لا تقوم الحياة الفاضلة إلا بها، وقد اعتبرتها السنة من شعب الإيمان، ومن فضائل المؤمنين، كما اعتبرت أضدادها من آيات النفاق، ورذائل المنافقين، وذلك كالصدق والأمانة، والسخاء والشجاعة، والوفاء والحياء، والرفق والرحمة، والعدل والإحسان، والتواضع والصبر، والحلم عند الغضب، والعفو عند المقدرة، وبِرّ الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الجار، ورعاية اليتيم، والمسكين، وابن السبيل.
كما تشمل ما نسمِّيه " الأخلاق الربانية" التي هي قوام الحياة الروحية كمحبة الله تعالى، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والإخلاص له، والرجاء في رحمته، والخشية من عذابه، والرضا بقضائه، والصبر على بلائه، والشكر لنعمائه، والحب فيه، والبغض فيه، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، والورع عن المحارم والزهد فيها عند الناس، والرغبة فيما عند الله... إلى غير ذلك من الأخلاق والمقامات التي عني بها الصادقون من رجال التصوف، حتى قالوا: التصوف هو الخُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق، فقد زاد عليك في التصوف.
ونجد في السنة كذلك تفصيلات الآداب الإسلامية، التي تتصل بالحياة اليومية للإنسان المسلم، ويتكوّن منها الذوق المشترك، والأدب المشترك للأمة الإسلامية.
وذلك مثل أدب الأكل والشرب، والجلوس والمشي، والتحية والسلام، والزيارة والاستئذان، والنوم واليقظة، واللباس والزينة، والكلام والصمت، والاجتماع والافتراق.
فالمسلم عندما يأكل أو يشرب يُسمِّي الله تعالى، ويأكل بيمينه، ويشرب بيمينه، ويأكل مما يليه، ويقتصد في أكله، ويحمد الله إذا فرغ من طعامه.
وهكذا نجد السنة النبوية تضع للمسلم مجموعةً مفصّلةً من الآداب المحدَّدة في سلوكه اليومي، تنشأ منها تقاليد مشتركة، تميِّز المجتمع المسلم عن غيره من المجتمعات، كما تجعل للفرد المسلم شخصية مستقلة متميزة في مظهرها ومخبرها تستعصي على الذوبان في غيرها.
ونجد في السنة كذلك تفصيلاتٍ لتكوين الحياة الأسرية على أساس مكين، وتنظيم علاقاتها، وضبط سيرها، وحمايتها من عوامل التفكك والانهيار، والتوجيه إلى الوسائل اللازمة للمحافظة عليها، وما يلزم كِلا الطرفين عند تعذر الوِفاق، ووقوع الطلاق، فنجد في السُنّة عنايةً بالغةً بحسن اختيار الزوج أو الزوجة، والخطبة وأحكامها، والزواج وآدابه، وحقوق الزوجة على زوجها، والزوج على زوجته، وأحكام الطلاق، والرجعة، والعدة، والإيلاء، والظهار، والنفقات، وحق الأولاد على والديهم، وحق الوالدين على أولادهم، وحق ذوي القربى من المحارم والعصبات... إلى غير ذلك مما يقوم عليه " فقه الأسرة"، أو ما يسمى " الأحوال الشخصية".
ونجد في السنة كذلك أحكامًا وفيرةً تتعلق بالمعاملات والعلاقات الاجتماعية بين المسلمين بعضهم وبعض، مثل أحكام البيع والشراء، والهبة والقرض، والمشاركة والمضاربة، والإجارة والإعارة، والكفالة والحوالة، والرهن والشفعة، والوقف والوصية، والحدود والقصاص والشهادات وغيرها، مما استند إليه فقه " المعاملات".
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الحكّام والمحكومين، في الشؤون الإدارية والمالية والقضائية وغيرها، مما استمدت منه كتب " السياسة الشرعية"، وكتب " الأموال"، و"الخراج" ونحوها.
ومنها ما ينظِّم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرسم الإطار لعلاقة المسلمين بغير المسلمين في السِّلم وفي الحرب. وهذا ما يقوم عليه فقه " السير" أو " الجهاد"(6).
وللإمام ابن القيم كلام نفيس رائع عن الهدي النبوي الذي جاء به الرسول- صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: " وتُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما طائر يقلب جناحيه في السماء، إلا ذكر للأمة منه علمًا، وعلَّمَهم كل شيء حتى آداب التخلي - أي آداب قضاء الحاجة - وآداب الجماع، والنوم والقيام والقعود، والأكل والشرب، والركوب والنزول، والسفر والإقامة، والصمت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي، والملائكة والجن، والنار والجنة، ويوم القيامة وما فيه، حتى كأنه رأي عين، وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف، حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله، ونعوت جلاله، وعرفهم الأنبياء وأممهم، وما جرى لهم، وما جرى عليهم، حتى كأنهم كانوا بينهم، وعرفهم من طرق الخير والشر، دقيقها وجليلها، ما لم يعرفه نبي لأمته قبله، وعرفهم - صلى الله عليه وسلم - من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب، للروح والبدن، ما لم يُعرِّف به نبي غيره، وكذلك عرَّفهم من أدلة التوحيد، والنبوة، والمعاد، والردّ على جميع أهل الكفر والضلال، وعرَّفهم من مكايد الحروب، ولقاء العدو، وطرق النصر والظفر، ما لو علموه وعقلوه ورعوه حق رعايته، لم يقم لهم عدو أبدًا - أي لم يثبت أمامهم عدو - وكذلك عرَّفهم من مكايد إبليس وطرقه التي يأتيهم منها، وما يتحرزون به من مكره وكيده، وما يدفعون به شره عن أنفسهم ما لا مزيد عليه.
وبالجملة: فقد جاءهم بخير الدنيا والآخرة بأكمله، ولم يحوجهم الله إلى أحد سواه، فشريعته كاملة، ما طرق العالمَ شريعة أكمل منها"(7).
الهوامش:
(1) حجية السنة، ص: 13-14.
(2) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح، رقم: (5063)، ومسلم، كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه...، رقم: (1401).
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم، رقم: (1924، 2003، 2005)، اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد, (1/ 123).
(4) انظر: الإسلام على مفترق الطرق، ص: 87.
(5) هو حديث: " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" عن أبي هريرة.
(6) انظر: المدخل إلى دراسة السنة، ص: 63- 67.
(7) إعلام الموقعين، (4/ 375).
http://www.alssunnah.com/main/articl...2&menu_id=1294
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، باب من فضائل أبي عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه -، رقم ( 6253) .
(3) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة ، باب التشهد في الصلاة ، رقم ( 904) .
(4) أخرجه أبو داود ، كتاب الأقضية ، باب اجتهاد الرأي في القضاء ، رقم ( 3592) ، والترمذي ، كتاب الأحكام ، باب ما جاء في القاضي كيف يقضي ، رقم ( 1327) ، وأحمد في المسند ( 5/230) ، والدارمي في سننه ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيها من الشدة ، رقم (170) والبيهقي في الكبرى، كتاب أدب القضاء، باب ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي 10/114، وصححه ابن القيم في " إعلام الموقعين " ( 1/243-244) ، وقال ابن كثير في تفسيره ( 1/3) ، وهذا الحديث في المسند والسنن بسند جيد، وضعفه البخاري وابن الجوزي وابن حزم وغيرهم .
(5) أخرجه ابن ماجه ، كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة من الأموال ، رقم ( 1815) .
(6) أخرجه أحمد في المسند ( 5/165) ، والدارمي ، المقدمة ، باب البلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليم السنن ، رقم ( 549) .
(7) أخرجه أبو داود ، كتاب الفرائض ، باب في الجدة، رقم ( 2894) ، والترمذي، كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، رقم ( 2100) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(8) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب المطلقة البائن لا نفقة لها، رقم ( 3710) .
(9) أخرجه ابن ماجه ، كتاب المناسك ، باب من قرن الحج والعمرة ، رقم ( 2970) .
(10) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 119) .
(11) أخرجه الدرامي، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 167) .
(12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب التورع عن الجواب فيما ليس فيه كتاب ولا سنة ، رقم ( 101) .
(13) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 169) .
(14) أخرجه أحمد في مسنده ( 2/95) .
(15) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم ( 164) .
(16) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب الجمع بين الصلاتين بعرفة ، رقم ( 1662) .
(17) تدريب الراوي 1/189.
(18) الشرح والإبانة ص 126.
(19) خرجه الدارمي، المقدمة، باب البلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعليم الناس السنن ، رقم ( 559) .
(20) البدع لابن وضاح ص 38.
(21) الشرح والإبانة ص 122.
(22) أخرجه أبو نعيم في الحلية ( 1/352-353 ) واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد ( 1/54رقم 10 ) .
السنة في لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - ومفهوم السلف (4-4)
1- قال غضيف بن الحارث - رحمه الله - (ت 65هـ): (لا تظهر بدعة إلا ترك من السنة مثلها)(1).
2- وقال عبد الله بن الديلمي - رحمه الله – من كبار التابعين: (بلغني أن أول ذهاب الدين ترك السنة، يذهب الدين سنة سنة ، كما يذهب الحبل قوة قوة)(2).
3- وقال أبو إدريس الخولاني - رحمه الله - (ت 80هـ): (وما أحدثت أمة في دينها بدعة إلا رفع الله عنهم بها سنة)(3).
4- وقال شريح القاضي - رحمه الله - (ت 80هـ): (إن السنة سبقت قياسكم، فاتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر)(4).
5- وقال أبو العالية - رحمه الله - (ت 90هـ): (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ، ولا تحرفوا الإسلام يمينا ولا شمالا، وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء)(5).
6- وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن (ت 94هـ) للحسن البصري (ت 110هـ) - رحمهما الله -: (بلغني أنك تفتي برأيك فلا تفت برأيك إلا أن تكون سنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو كتاب منـزل)(6).
7- وقال عروة بن الزبير - رحمه الله - (ت 92، 94، 95هـ): (السنن السنن فإن السنن قوام الدين)(7).
8- وقال عمر بن العزيز - رحمه الله - (101هـ): (السنة إنما سنها من علم ما جاء في خلافها من الزلل)(8).
وقال أيضا: (إنه لا رأي لأحد مع سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- )(9).
وقال أيضا: (لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى)(10).
وقال أيضا: (سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الأمر بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله - عزَّ وجلَّ -، واستكمال لطاعته، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنوا اهتدى، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله - عزَّ وجلَّ - ما تولاه وأصلاه جهنم وساءت مصيرا)(11).
9- وقال ابن سيرين - رحمه الله - (ت 110هـ): (ما أخذ رجل ببدعة فراجع سنة)(12).
10- وقال مكحول - رحمه الله - (ت 113هـ): (السنة سنتان: سنة الأخذ بها فريضة وتركها كفر ، وسنة الأخذ بها فضيلة وتركها إلى غيرها حرج)(13).
وهذا يشمل أصول الدين وفروعه ، وقد قسمها إلى واجبة ودونها، وما دون الواجب هو المقصود عند بعض الفقهاء حين عرفوا السنة بأنها: (ما ثبت عن النبي - صلى الله وعليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب) (14).
وقال مكحول أيضا: (القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن)(15).
يقصد أن القرآن لا يمكن فهمه وتطبيقه من غير السنة لأنه يعني بالقواعد الكلية والأصول العامة للأحكام، ولذا فقد أحال القرآن الكريم على السنة لتبين الأحكام على وجه الابتداء ، أو التفريع أو النسخ.
11- وقال حسان بن عطية - رحمه الله - (ت 120هـ): (كان جبريل ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن)(16).
12- وقال عون بن عبد الله - رحمه الله - (120هـ): (من مات على الإسلام والسنة فله بشير بكل خير)(17).
13- وقال يحيى بن أبي كثير - رحمه الله - (ت 129هـ): (السنة قاضية على الكتاب وليس الكتاب قاضيا على السنة)(18).
ومعنى قضاء السنة على الكتاب أنها تفسره وتفصل أحكامه، فتخصص عامه وتقيد مطلقه، وتوضح مشكله وهكذا.
14- وقال الزهري - رحمه الله - (ت 135هـ): (كان من مضى من علمائنا يقول: (الاعتصام بالسنة نجاة)(19).
15- وقال الأعمش - رحمه الله - (ت 148هـ): (لا أعلم قوما أفضل من قوم يطلبون هذا الحديث ويحيون هذه السنة ، وكم أنتم في الأرض ؟ والله لأنتم أقل من الذهب)(20).
16- وقال عبد الله بن عون البصري - رحمه الله - (ت 151هـ): (ثلاث أرضاها لنفسي ولإخواني: أن ينظر هذا الرجل المسلم القرآن فيتعلمه ويقرأه ويتدبره وينظر فيه ، والثانية: أن ينظر ذاك الأثر والسنة فيسأل عنه ويتبعه جهده ، والثالثة: أن يدع هؤلاء الناس إلا من خير)(21).
17- وقال الأوزاعي - رحمه الله - (ت 157هـ): (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة ، واتباع السنة ، وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل الله...)(22).
18- وقال سفيان الثوري - رحمه الله - (ت 161هـ): (اتبع السنة ودع البدعة)(23).
19- وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله - (ت 187هـ): (أدركت خيار الناس كلهم أصحاب سنة ينهون عن أصحاب البدع)(24).
20- وقال أبو الخلال - رحمه الله -: (إنه سيأتي على الناس زمان يقوم الرجل يسأل عن سنة محمد - صلى الله عليه وسلم- فلا يجد أحداً يخبره بها)(25).
والنصوص في هذا المعنى كثيرة ، وظاهر منها جميعا أن السنة في الحديث النبوي وكلام الصحابة والتابعين معناها: الطريقة المشروعة المتبعة في الدين ، لا ما يقابل الفرض أو الواجب، وفي ذلك يقول ابن حجر. (تقرر أن لفظ السنة إذا ورد في الحديث ، لا يراد به التي تقابل الواجب)(26).
ويقول ابن رجب: (والسنة: هي الطريق والسلوك، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو – يعني الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه الراشدين – من الاعتقادات والأعمال والأقوال ، وهذه هي السنة الكاملة ، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله، روي معنى ذلك عن الحسن والأوزاعي والفضيل بن عياض)(27).
وقال السيوطي عن الصحابة والتابعين: (إنهم إذا أطلقوا " السنة " لا يريدون بذلك إلا سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- )(28).
فهذه نصوص صريحة واضحة على المراد بالسنة إذا وردت في الحديث أو في كلام الصحابة والتابعين.
(2) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب اتباع السنة ، رقم (97).
(3) البدع لابن وضاح ص 36.
(4) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب تغير الزمان وما يحدث فيه ، رقم (202).
(5) شرح أصول الاعتقاد (1/62 رقم 17).
(6) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب الفتيا وما فيه من الشدة ، رقم (163).
(7) أخرجه المروزي في (السنة) رقم (110).
(8) البدع لابن وضاح ص 38.
(9) السنة للمروزي رقم (94).
(10) السنة للمروزي رقم (95).
(11) أخرجه الآجري في الشريعة (1/48، 65، 307) اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد(1/106رقم 135) والخطيب في الفقيه والمتفقه (1/73)
(12) أخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب في كراهية أخذ الرأي، رقم (212).
(13) السنة للمروزي ، رقم (105).
(14) إرشاد الفحول ص 31.
(15) السنة للمروزي ، رقم (104).
(16) السنة للمرزوي ، رقم (102).
(17) شرح أصول الاعتقاد (1/67).
(18) السنة للمروزي ، رقم (103).
(19) شرح أصول الاعتقاد (1/106 رقم 137) ، وأخرجه الدارمي ، المقدمة ، باب اتباع السنة ، رقم (96).
(20) أخرجه عياض في الألماع ص 27، المحدث الفاصل ص 177.
(21) السنة للمروزي ، رقم (106) ، شرح أصول الاعتقاد (1/ 68 رقم 36).
(22) شرح أصول الاعتقاد (1/71 رقم 48) ، شرح السنة للبغوي (1/209).
(23) شرح السنة للبغوي (1/217).
(24) الشرح والإبانة لابن بطة ص 153.
(25) السنة للمروزي ، رقم (111).
(26) فتح الباري (10/340).
(27) جامع العلوم والحكم ص230.
(28) تدريب الراوي (1/189).