السؤال
السلام عليكم.
أنا إنسان طبيعي، لست متخصصاً في علوم الدين، ولكن وجهة نظري -باعتباري مسلماً ومرت علي آيات قرآنية- لماذا لا تكون الأنعام أنزلت من عند الله ولم تخلق على الأرض مثل نزول الحديد؟ والدليل على ذلك أن الله أنزل الناقة على سيدنا صالح، وأنزل الكبش على سيدنا إبراهيم، وإننا ننتظر حتى يكتشف هذه الحقيقة غيرنا، وللأسف كل اكتشاف جديد نقول بأنه موجود في القرآن، ونسارع بقولنا هذا دون النظر إلى أمور غيبية لا نعلمها، وكأننا نطلب شهادة الكفرة بأن ديننا هو من عند الله، الموضوع طويل وأكتفي بهذا. والسلام عليكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
جواباً على السؤال: لماذا لا يكون "إنزال الأنعام" في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" [الزمر 6]؛ دلالة على تكونها خارج الأرض دون بقية الأحياء؟, وأجيب مستعيناً بالله العلي القدير سائلاً العون والتوفيق:
الأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره، إلا بقرائن صارفة تبيح حمله على ضرب المثل, وقد أكثر القرآن الكريم من التمثيل كأبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ"[النور: 35]، وقوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ"[الحشر: 21]، وقوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ" [إبراهيم: 25]، وأما قوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ" [العنكبوت: 43]؛ فيقصر الانتفاع بتلك الأمثال على العالم بالله عن تفكر وإدراك.
وفي قوله تعالى: "يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً" [النساء: 174], ظاهر التعبير (وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً) انتقال ضوء الشمس نحو الأرض, ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير (يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ).
ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور)، وصرفه عن ظاهر دلالته وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم.
قال البيضاوي: "عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة"[تفسير البيضاوي (ج2ص285)].
وقال الثعالبي: "البرهان الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام, والنور المبين يعني القرآن"[ تفسير الثعالبي (ج1ص435)].
وقال السعدي: "يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة؛ فقال (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) أي حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه وتبين ضده، وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية والآيات الأفقية والنفسية، لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ),.. (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)، وهو هذا القرآن العظيم الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره" [تفسير السعدي (ج1ص217)].
فإنزال القرآن –إذن- بلفظ النور تصوير للتشريف بجامع جلاء الطريق والاهتداء, وهكذا ترى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
وقد ورد فعل (الإنزال) ليفيد الانتقال من الأعلى نحو الأسفل، كما في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً"[البقرة: 22], وأما قوله تعالى: "وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ"[الحديد: 25]؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتفاء ما يصرف عن الظاهر, ولا يجادل اليوم أحد بالفعل أن معظم لب الأرض حديد, فطابقت شهادة الواقع صريح التعبير, ولكن القرائن الصارفة قد تمنع حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: "هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ"[الفتح: 4], والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكويناً مادياً, ولذا عن ابن عباس -- أنه صرف النزول إلى (الجعل) بقوله: "( أَنزَلَ السّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة"[تفسير ابن كثير (ج4ص185)].
ومثلها (النعاس) في قوله تعالى: "ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَائِفَةً مّنْكُمْ"[آل عمران:154]. فليس النعاس بالمثل جسماً مادياً ليصح وصفه بالنزول الحسي، وإنما يصح التمثيل بالمطر ينقذ الأرض العطشى خاصة مع العدول عن التعبير بفعل الإنزال إلى التصوير بالتغشية في قوله تعالى: "إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَاءِ مَاءًَ"[الأنفال:11], فتأمل الجناس بين النزول المعنوي للنعاس، والحسي للمطر بجامع النصرة والتثبيت, وكأن وقوع النعاس بما صاحبه من زوال الخوف غيثًا أحاط بهم فأزال خوفهم من الهلاك, ومثله قوله تعالى: "وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماًُ"[النساء: 113]. فليست الحكمة جسما لتنزل حسياً، ولم ينزل الكتاب صفحات ورقية؛ وإنما الإنزال بياناً للفضل ويفسره التعليم.
وفي وصف بعثة النبيين -عليهم السلام أجمعين- في قوله تعالى: "كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ"[البقرة: 213]، لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفاً لهم وبياناً لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب, ومثله قوله تعالى: "فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157].
وأما قوله تعالى: "يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ"[الأعراف: 26]؛ فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض, ولذا اجتهد المفسرون في صرف (أنزلنا) عن معنى الهبوط, قال الشوكاني: "عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق أي خلقنا لكم لباساً"[ تفسير فتح القدير للشوكاني (ج2ص197)].
وقال الجصاص: "وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء"[أحكام القرآن للجصاص (ج4ص203)].
وقال السمعاني: "وفي معنى (أنزلنا عليكم) ثلاثة أقوال، أحدها: خلقنا لكم, والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه, والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباس"[تفسير زاد المسير لابن الجوزي (ج3ص181)].
وقد يصح أن معنى (الإنزال) في الملابس باعتبار الأصل وهي ترجع للمطر, وقد يصح نزول القرآن باعتبار العلاء المعنوي تشريفا, ويصح الجمع بين الحالتين بالتمثيل بالغيث ينزل ليغشي الأرض العطشى وينقذها من الهلاك.
ومن نعم الله –تعالى- على العرب الأولين أن هيأ لهم حيوانات الرعي التي كانت عماد حياتهم في البادية خاصة الأغنام والمعز والإبل والبقر, ولكنهم ضيقوا على أنفسهم بتقاليد تمنع الانتفاع ببعضها, ومن بالغ الرحمة إذن أن يشدد القرآن على تحريرهم من تلك التقاليد وإباحة تلك الأنعام لهم في بيان مستفيض حاسم؛ يقول تعالى: "وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ. ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ"[الأنعام: 142-144].
ولفظ (الأنعام) اسم صفة لا اسم ذات ومنه (النعمة), لذا سميت أيضا بلفظ (النّعَمِ) في قوله تعالى: "يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ"[المائدة: 95], ووصفها بالأنعام والنّعَمِ والرزق المباح للأكل يجسد بالتسمية نعمة الله تعالى عليهم, ويؤكد الإنعام وصف إيجاد الأنعام بلفظ (الإنزال) في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ"[الزمر: 6].
وقد يصح أن يكون فعل الإنزال في حالة النعمة أو النقمة باعتبار العلاء المعنوي بيانا لمشيئة الله تعالى وتقديره.
ويصح التمثيل بالمطر بلفظ (الإنزال) تجسيداً للنعمة؛ لأن نزوله هو أول مشهد متبادر لفعل الإنزال يبش له العربي الأول، ويشعره بالامتنان، ويجسد له رحمة الله تعالى, وهم محتاجون للأنعام تماما كاحتياج الأرض العطشى للمطر, واستبدال فعل (الإنزال) بأفعال (الخلق) و(الجعل) و(الإمداد) في بيان سبق التهيئة بالأنعام قرينة جلية تصرفه عن الظاهر الحسي إلى معنى الإيجاد؛ كما في قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ"[يس: 71], وقوله تعالى: "اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ"[غافر: 79], وقوله تعالى: "أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ"[الشعراء: 133], وتسمى الكوارث نوازل، وتوصف الأحداث تصويرًا بالوقوع والمجيء والإتيان، ولا يعني شيء من ذلك بالضرورة هبوطها من السماء.
قال البغوي: "(وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) معنى الإنزال هاهنا الإحداث والإنشاء، كقوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا)"[ تفسير البغوي (ج4ص72)].
وقال السمعاني: "أي وخلق لكم من الأنعام.., وهو مثل قوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا) أي خلقنا"[ تفسير السمعاني (ج4ص458)].
وقال الكلبي: "وأما (أنزل) ففيه ثلاثة أوجه الأول:.. خلق, الثاني:.. قضى,.. الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات، فتعيش منه هذه الأنعام، فعبر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد"[ التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي (ج3ص191)].
ولا يعني تعبير (الإنزال) إذن هبوط الأنعام من السماء دون كافة الأحياء, والتمثيل بالغيث يجمع كل ما قيل من معان، فيجسد عناية الله –تعالى- ويتضمن معنى التنزيه وسبق التهيئة والإنعام على العباد المحتاجين, ولكن قد تتحول النعمة نقمة بيانا لمشيئته تعالى ويصبح النزول غضب والمطر عقوبة, والواجب التوجيه اللائق لكل لفظ بما لا يخالف الواقع والنظرة الشاملة لكل الآيات وتقصي القرائن في كل سياق, وهو منهج الأعلام على مر الأيام, والله تعالى
السلام عليكم.
أنا إنسان طبيعي، لست متخصصاً في علوم الدين، ولكن وجهة نظري -باعتباري مسلماً ومرت علي آيات قرآنية- لماذا لا تكون الأنعام أنزلت من عند الله ولم تخلق على الأرض مثل نزول الحديد؟ والدليل على ذلك أن الله أنزل الناقة على سيدنا صالح، وأنزل الكبش على سيدنا إبراهيم، وإننا ننتظر حتى يكتشف هذه الحقيقة غيرنا، وللأسف كل اكتشاف جديد نقول بأنه موجود في القرآن، ونسارع بقولنا هذا دون النظر إلى أمور غيبية لا نعلمها، وكأننا نطلب شهادة الكفرة بأن ديننا هو من عند الله، الموضوع طويل وأكتفي بهذا. والسلام عليكم.
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:
جواباً على السؤال: لماذا لا يكون "إنزال الأنعام" في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" [الزمر 6]؛ دلالة على تكونها خارج الأرض دون بقية الأحياء؟, وأجيب مستعيناً بالله العلي القدير سائلاً العون والتوفيق:
الأصل هو حمل التعبير في القرآن الكريم على ظاهره، إلا بقرائن صارفة تبيح حمله على ضرب المثل, وقد أكثر القرآن الكريم من التمثيل كأبلغ سبيل لبيان المراد بحالة مماثلة، نحو ما يصرح به قوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ وَاللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ"[النور: 35]، وقوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ"[الحشر: 21]، وقوله تعالى: "وَيَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ لِلنّاسِ لَعَلّهُمْ يَتَذَكّرُونَ" [إبراهيم: 25]، وأما قوله تعالى: "وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاّ الْعَالِمُونَ" [العنكبوت: 43]؛ فيقصر الانتفاع بتلك الأمثال على العالم بالله عن تفكر وإدراك.
وفي قوله تعالى: "يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً" [النساء: 174], ظاهر التعبير (وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً) انتقال ضوء الشمس نحو الأرض, ولكن السياق يتعلق بإقامة البرهان في مجال الدين بقرينة التعبير (يَا أَيّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مّن رّبّكُمْ).
ولذا لم يختلف المفسرون في تأويل لفظ (النور)، وصرفه عن ظاهر دلالته وبيان أن المراد به هو القرآن الكريم.
قال البيضاوي: "عنى بالبرهان المعجزات وبالنور القرآن أي قد جاءكم دلائل العقل وشواهد النقل ولم يبق لكم عذر ولا علة"[تفسير البيضاوي (ج2ص285)].
وقال الثعالبي: "البرهان الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام, والنور المبين يعني القرآن"[ تفسير الثعالبي (ج1ص435)].
وقال السعدي: "يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة والأنوار الساطعة، ويقيم عليهم الحجة ويوضح لهم المحجة؛ فقال (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) أي حجج قاطعة على الحق تبينه وتوضحه وتبين ضده، وهذا يشمل الأدلة العقلية والنقلية والآيات الأفقية والنفسية، لقوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وَفِيَ أَنفُسِهِمْ حَتّىَ يَتَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُ الْحَقّ),.. (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)، وهو هذا القرآن العظيم الذي قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين والأخبار الصادقة النافعة، والأمر بكل عدل وإحسان وخير، والنهي عن كل ظلم وشر، فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا بأنواره" [تفسير السعدي (ج1ص217)].
فإنزال القرآن –إذن- بلفظ النور تصوير للتشريف بجامع جلاء الطريق والاهتداء, وهكذا ترى أن التصوير يجسد الدلالة ويطلق العنان لتوارد فيض من المضامين، فيبلغ بالتعبير أعلى المراتب في البيان.
وقد ورد فعل (الإنزال) ليفيد الانتقال من الأعلى نحو الأسفل، كما في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً"[البقرة: 22], وأما قوله تعالى: "وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ"[الحديد: 25]؛ فيمكن حمله على النزول إلى لب الأرض لانتفاء ما يصرف عن الظاهر, ولا يجادل اليوم أحد بالفعل أن معظم لب الأرض حديد, فطابقت شهادة الواقع صريح التعبير, ولكن القرائن الصارفة قد تمنع حمل (الإنزال) على الظاهر، كأن يكون الموصوف من المعنويات، كما في قوله تعالى: "هُوَ الّذِيَ أَنزَلَ السّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ"[الفتح: 4], والقرينة أن السكينة حالة شعورية وليست تكويناً مادياً, ولذا عن ابن عباس -- أنه صرف النزول إلى (الجعل) بقوله: "( أَنزَلَ السّكِينَةَ) أي جعل الطمأنينة"[تفسير ابن كثير (ج4ص185)].
ومثلها (النعاس) في قوله تعالى: "ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَائِفَةً مّنْكُمْ"[آل عمران:154]. فليس النعاس بالمثل جسماً مادياً ليصح وصفه بالنزول الحسي، وإنما يصح التمثيل بالمطر ينقذ الأرض العطشى خاصة مع العدول عن التعبير بفعل الإنزال إلى التصوير بالتغشية في قوله تعالى: "إِذْ يُغَشّيكُمُ النّعَاسَ أَمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَيْكُم مّن السّمَاءِ مَاءًَ"[الأنفال:11], فتأمل الجناس بين النزول المعنوي للنعاس، والحسي للمطر بجامع النصرة والتثبيت, وكأن وقوع النعاس بما صاحبه من زوال الخوف غيثًا أحاط بهم فأزال خوفهم من الهلاك, ومثله قوله تعالى: "وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماًُ"[النساء: 113]. فليست الحكمة جسما لتنزل حسياً، ولم ينزل الكتاب صفحات ورقية؛ وإنما الإنزال بياناً للفضل ويفسره التعليم.
وفي وصف بعثة النبيين -عليهم السلام أجمعين- في قوله تعالى: "كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ"[البقرة: 213]، لا تدل المعية بنزول الكتاب معهم على هبوطهم من السماء، وإنما فعل البعث يصرف (الإنزال) إلى التصوير تشريفاً لهم وبياناً لوحدة الرسالة لتوحيد الكتاب, ومثله قوله تعالى: "فَالّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتّبَعُواْ النّورَ الّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" [الأعراف: 157].
وأما قوله تعالى: "يَابَنِيَ آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ"[الأعراف: 26]؛ فلا يفيد بالمثل أن ما نلبسه هبط من السماء، لأن مصدره معلوم كالصوف من الحيوان والقطن من نبات الأرض, ولذا اجتهد المفسرون في صرف (أنزلنا) عن معنى الهبوط, قال الشوكاني: "عبر سبحانه بالإنزال عن الخلق أي خلقنا لكم لباساً"[ تفسير فتح القدير للشوكاني (ج2ص197)].
وقال الجصاص: "وإنما قال أنزلنا لأن اللباس يكون من نبات الأرض أو من جلود الحيوان وأصوافها، وقوام جميعها بالمطر النازل من السماء"[أحكام القرآن للجصاص (ج4ص203)].
وقال السمعاني: "وفي معنى (أنزلنا عليكم) ثلاثة أقوال، أحدها: خلقنا لكم, والثاني: ألهمناكم كيفية صنعه, والثالث: أنزلنا المطر الذي هو سبب نبات ما يتخذ لباس"[تفسير زاد المسير لابن الجوزي (ج3ص181)].
وقد يصح أن معنى (الإنزال) في الملابس باعتبار الأصل وهي ترجع للمطر, وقد يصح نزول القرآن باعتبار العلاء المعنوي تشريفا, ويصح الجمع بين الحالتين بالتمثيل بالغيث ينزل ليغشي الأرض العطشى وينقذها من الهلاك.
ومن نعم الله –تعالى- على العرب الأولين أن هيأ لهم حيوانات الرعي التي كانت عماد حياتهم في البادية خاصة الأغنام والمعز والإبل والبقر, ولكنهم ضيقوا على أنفسهم بتقاليد تمنع الانتفاع ببعضها, ومن بالغ الرحمة إذن أن يشدد القرآن على تحريرهم من تلك التقاليد وإباحة تلك الأنعام لهم في بيان مستفيض حاسم؛ يقول تعالى: "وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مّبِينٌ. ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الاُنثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الاُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ"[الأنعام: 142-144].
ولفظ (الأنعام) اسم صفة لا اسم ذات ومنه (النعمة), لذا سميت أيضا بلفظ (النّعَمِ) في قوله تعالى: "يَـَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مّتَعَمّداً فَجَزَآءٌ مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ"[المائدة: 95], ووصفها بالأنعام والنّعَمِ والرزق المباح للأكل يجسد بالتسمية نعمة الله تعالى عليهم, ويؤكد الإنعام وصف إيجاد الأنعام بلفظ (الإنزال) في قوله تعالى: "وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ"[الزمر: 6].
وقد يصح أن يكون فعل الإنزال في حالة النعمة أو النقمة باعتبار العلاء المعنوي بيانا لمشيئة الله تعالى وتقديره.
ويصح التمثيل بالمطر بلفظ (الإنزال) تجسيداً للنعمة؛ لأن نزوله هو أول مشهد متبادر لفعل الإنزال يبش له العربي الأول، ويشعره بالامتنان، ويجسد له رحمة الله تعالى, وهم محتاجون للأنعام تماما كاحتياج الأرض العطشى للمطر, واستبدال فعل (الإنزال) بأفعال (الخلق) و(الجعل) و(الإمداد) في بيان سبق التهيئة بالأنعام قرينة جلية تصرفه عن الظاهر الحسي إلى معنى الإيجاد؛ كما في قوله تعالى: "أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّا خَلَقْنَا لَهُم مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ"[يس: 71], وقوله تعالى: "اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ"[غافر: 79], وقوله تعالى: "أَمَدّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ"[الشعراء: 133], وتسمى الكوارث نوازل، وتوصف الأحداث تصويرًا بالوقوع والمجيء والإتيان، ولا يعني شيء من ذلك بالضرورة هبوطها من السماء.
قال البغوي: "(وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) معنى الإنزال هاهنا الإحداث والإنشاء، كقوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا)"[ تفسير البغوي (ج4ص72)].
وقال السمعاني: "أي وخلق لكم من الأنعام.., وهو مثل قوله تعالى (أنزلنا عليكم لباسا) أي خلقنا"[ تفسير السمعاني (ج4ص458)].
وقال الكلبي: "وأما (أنزل) ففيه ثلاثة أوجه الأول:.. خلق, الثاني:.. قضى,.. الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات، فتعيش منه هذه الأنعام، فعبر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد"[ التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي (ج3ص191)].
ولا يعني تعبير (الإنزال) إذن هبوط الأنعام من السماء دون كافة الأحياء, والتمثيل بالغيث يجمع كل ما قيل من معان، فيجسد عناية الله –تعالى- ويتضمن معنى التنزيه وسبق التهيئة والإنعام على العباد المحتاجين, ولكن قد تتحول النعمة نقمة بيانا لمشيئته تعالى ويصبح النزول غضب والمطر عقوبة, والواجب التوجيه اللائق لكل لفظ بما لا يخالف الواقع والنظرة الشاملة لكل الآيات وتقصي القرائن في كل سياق, وهو منهج الأعلام على مر الأيام, والله تعالى