دروس في تدوين السيرة النبوية الشريفة
الدرس الأول
الدرس الأول
السيرة في اللغة : الطريقة والهيئة ، يقال : سار بهم سيرة حسنة ، وسيَّر سيرة : أي حدَّث أحاديث الأوائل [ابن منظور ، لسان العرب ، مادة (سير) .].
وفي الاصطلاح : تاريخ حياة شخص معين . وقد تطورت دلالة هذا المصطلح بفضل كتابات العلماء المسلمين لسيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وأصبحت تدل على علم مستقل ، وهو علم السيرة النبوية ، وقد يستخدم لفظ ( السيرة ) مطلقًا ليدل على السيرة النبوية أيضًا [ ينظر : دائرة المعارف الإسلامية ( الترجمة العربية ) . الكردي ، راجع عبد الحميد ، شعاع من السيرة النبوية ... ، دار الفرقان ، عمان ، الأردن ، 1985 ، ص 13 .] .
ولما رُتِّبَت الأحاديث في الأبواب؛ جُمعت السيرة في أبواب مستقلة، كان أشهرها باب يسمى : ( المغازي والسير ) أو ( الجهاد والسير ) [ ينظر من كتب الحديث في هذا الشأن : البخاري ، الصحيح 4/17-54 على سبيل المثال .].
غير أنه بمرور الزمن أخذت السيرة تستقل عن الحديث ، وصارت كتب السير والمغازي تؤلَّف بمفردها في النصف الثاني من القرن الأول الهجري ، وتأكدت هذه الاستقلالية في القرن الثاني الهجري .
يروي المدائني عن ابن شهاب الزهري (ت124ﻫ) ، قال وهو يحدث عن خالد بن عبد الله بن يزيد القسري البجلي [ اليماني الأصل ، سكن دمشق ، ثم ولي مكة للوليد بن عبد الملك سنة 89 ، ثم العراقين ( الكوفة والبصرة ) سنة 105 ، وطالت ولايته حتى عزله هشام بن عبد الملك سنة 120 ﻫ ، وولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي، وسلطه عليه حتى قتله. انظر : الزركلي ، الأعلام] قال:
قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب ، فبدأت بنسب مضر ، وما أتممته ، فقال : اقطعه ... واكتب لي السيرة.. [الأصفهاني ، الأغاني 19/59 .].
ولا يمكن أن نفرق بين السيرة والمغازي؛ إذ هما مفهومان مترادفان، يستعملان بمعنى واحد، يقول ابن كثير متحدثًا عن ابن إسحاق : ( قال ابن إسحاق في المغازي) وهو يعني السيرة [ابن كثير، البداية والنهاية 3/243 .].
وقد جعل الواقدي كلمة ( المغازي ) عنوانًا لكتابه ، وشمل سيرة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المدينة فقط .
ومنذ ذلك الوقت لقيت السيرة النبوية اهتمامًا واسعًا من العلماء، خاصة علماء المدينة، الصحابة ومن بعدهم..
فقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه أنه قال :
" كنا نُعَلِّم أبناءنا مغازيَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، كما نُحَفِّظُهم الآية من القرآن.".
وجاء هذا الاهتمام ؛ لما لأقوال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأفعاله من أهمية عظيمة في حياته وبعد وفاته ؛ لأنه القدوة للمسلمين ، وأنهم بحاجة إلى معرفة تفاصيل حياته ،حيث قال تعالى : [لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً{21}] الأحزاب:21 .ومن الطبيعي أن تكون المدينة المنورة محضنًا لرواد علم السيرة النبوية ؛ لأنها موقع أحداث هذه السيرة ، ولأن أبناءها من الصحابة الكرام شهدوا تلك الأحداث، ونقلوها إلى أبنائهم ( التابعين )، والذين سافروا أو هاجروا منهم جميعًا، نقلوها إلى المسلمين في الأمصار التي دخلوها واستقروا فيها ، فكانوا رواد هذا العلم رواية، كما كانوا رواده تدوينًا .
وسوف نعرض فيما يلي أبرز هؤلاء الرواد وما اشتهروا به ، وذلك حسب تسلسلهم الزمني :
1ـ أبان بن عثمان ( ت بين 99-105 ﻫ) : وهو ابن الخليفة عثمان بن عفان، ومن كبار التابعين، ولد بالمدينة وعاش بها، وولي إدارتها سبع سنين، ومات فيها ما بين( 99-105 ﻫ ) وهو في عِداد المحدثين الذين كان لهم ميل إلى دراسة المغازي وذكره ابن سعد مع وفيات سنة 105 ﻫ. [ ينظر الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري ، نشأة علم التاريخ ، ص 21 . وابن سعد ، الطبقات 5/112 ، الذهبي ، العبر 1/129.].
أما عن تأليفه في السيرة ، فقد أورد ابن سعد إشارة عند حديثه عن : المغيرة بن عبد الرحمن إذ قال : ( كان ثقة قليل الحديث ، إلا مغازي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أخذها من أبان بن عثمان ، فكان كثيرًا ما تقرأ عليه ، ويأمرنا بتعليمها) [ابن سعد ، الطبقات 5/156 .].
وليست هذه المغازي التي رواها المغيرة عن أبان كتابًا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة ؛ وإنما هي مجموعة من الأخبار المتعلقة بحياة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ويبدو أن أبان بن عثمان يمثل مرحلة انتقال بين دراسة الحديث ودراسة المغازي ، ويبدو أنه لم يبق شيء من آثار المغازي التي دونها أبان [ ينظر : حسين نصار ، نشأة التدوين التاريخي عند العرب ، مكتبة النهضة المصرية ،. ص 29 .والدوري ، د. عبد العزيز، نشأة علم التاريخ ، ص 21 .].
2ـ عروة بن الزبير : أحد كبار الفقهاء والمحدثين المدنيين ومن رواد مدرسة السيرة والتاريخ في المدينة .
ويُعَدُّ ابنه هشام وابن شهاب الزهري أشهرَ الرواة عنه في السيرة وأخبار الأيام الأولى من تاريخ الإسلام .
أما آثاره في السيرة ؛ فقد وصلت إلينا مقتبسات من رسائله المدونة في كتب التاريخ والسيرة ، كتاريخ الطبري ، وسيرة ابن إسحاق ، ومغازي الواقدي ، وكذلك عند المتأخرين من كُتَّاب السيرة ، كابن سيد الناس ، وابن كثير ، وغيرهم، وهذه المقتبسات هي أقدم ما وصلنا من تاريخ المغازي [ ابن سعد ، الطبقات الكبرى 5/132 . ابن قتيبة ، المعارف ، ص 98 . العجلي ، معرفة الثقات 2/133 . الذهبي ، العبر 1/110 . النووي ، تهذيب الأسماء 1/331 . ابن حجر ، تهذيب التهذيب 7/181 .].
وكذلك وردت عنه معلومات تتعلق بالسيرة في كتب الصحاح ، كحديثه عن الهجرة في صحيح البخاري [ أورد البخاري حديث الهجرة عن عروة في حوالي ست صفحات كبيرة ، الصحيح 5/73-78 .].
ومن الجدير بالذكر أن معظم المقتبسات هذه كانت على شكل رسائل متبادلة بين عروة والخليفة عبد الملك بن مروان - في الغالب - أو بينه وبين ابن أبي هنيدة ، الذي وُصِف بأنه صاحب الوليد بن عبد الملك . [ابن هشام ، السيرة 2/326 .].
وهذه المقتبسات تشمل جوانب مختلفة من حياة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ كبَدء الوحي ، وبعض الغزوات ، وبعض الشؤون الخاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وبعض الأخبار المتعلقة بالصدر الأول من الإسلام ، وأحوال المسلمين الأولى ....
فمن أمثلة ذلك : ما أورده الطبري من جواب عروة للخليفة عبد الملك عن خبر الهجرة إلى الحبشة ، وتأتي بإسناد جاء في آخره :
حدثنا أبان العطار قال : ثنا هشام بن عروة عن عروة ، أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان : أما بعد ؛ فإنه ـ يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لما دعا قومه ... وعصم الله منهم من شاء ... ، أمرهم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة . [الطبري ، تاريخ 2/328 .].
ويَرِد إسناد آخر مماثل عن هجرة المسلمين إلى أرض ( يثرب) ، ولكن آخر الإسناد هو :
عن عروة أنه قال ... [الطبري ، تاريخ 2/366 .]، ولم يذكر أنه كتبه إلى عبد الملك أو غيره.
وكذلك يورد عروة بالإسناد نفسه جوابًا مكتوبًا للخليفة عبد الملك عن وقعة بدر الكبرى ، ضمَّنَه بعض الآيات القرآنية ، المتعلقة بغزوة بدر الكبرى ، ويشغل هذا النص قرابة أربع صفحات [الطبري ، تاريخ 2/421-424 .].
وثَمَّة رسائل أخرى دَوَّنَها الطبري في تاريخه ، يرويها هشام بن عروة ، عن أبيه ، منها ما يتعلق بخبر فتح مكة ، ومنها بخبرِ غزوةِ حنين ، وآخر عن غزوة الطائف وغيرها .
وكذلك أورد ابن هشام في السيرة ـ من رواية الزهري ـ : أن عروة كتب إلى ابن أبي هنيدة ، وكان يسأله عن آية المهاجرات بعد هدنة الحديبية ، وكان ابن أبي هنيدة صاحب الوليد بن عبد الملك .
وجاء السند كما يلي : ( قال ابن إسحاق : حدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، قال : دخلت عليه وهو يكتب كتابًا إلى ابن أبي هنيدة ؛ صاحب الوليد ...). [ابن هشام ، السيرة 3/326 .].
ومن يُلْقِ نظرة على المقتبسات الواردة عند كُتَّاب السيرة والمؤرخين من مغازي عروة بن الزبير يلاحظ ما يأتي :
1 - أن عروة لم يكن يلتزم الإسناد - في الغالب - وذلك لأن النظرة إلى الإسناد في زمنه كانت لا تزال مرنة ، ولم تكن القواعد الدقيقة للإسناد قد ظهرت بعد. ، كالأمثلة التي وردت سابقًا [ ينظر : الدوري ، نشأة علم التاريخ ، ص 21 ، 74 .] .
2 - وهذا لا يعني أنه لم يذكر الإسناد في كل رواياته ، فقد ذكره في بعضها ، مثل ما ذكره عن حديث هجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقد ذكر في وسط الخبر قوله :
( فأخبرتني عائشة : أنهم بينا هم ظهرًا في بيتهم ... ) [الطبري ، تاريخ 2/375 .].
وكذلك يورد الخبر نفسه برواية أخرى ؛ إذ ساقه الطبري عن : محمد بن إسحاق ، قال :
حدثني محمد بن عبد الرحمن ... قال : حدثني عروة بن الزبير، عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .فهذان الإسنادان عن السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها، وغيرهما كثير.
وكذلك أسند عروة عن عبد الله بن عباس ، فمثلاً ؛ فيما يتعلق بغزوة بدر ، جاء السند عند الطبري كما يلي : ( حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمرو بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان وغيرهم من علمائنا ، عن عروة عن عبد الله بن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث ... ).. الطبري 2/427.
3 - وأحيانًا لا يذكر من يروي عنه ، ويكتفي ( أي عروة ) بقوله : ( فأُخبِرت ) ، مثال ما أورده الطبري عن فتح مكة ، فقد جاء في وسط الجواب الذي كتبه عروة إلى الخليفة عبد الملك عن هذه الحادثة قوله : ( فَأُخبِرت أنه - أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ... الخ ) الطبري 3/55 ..
4 - وأحيانًا يورد آيات قرآنية يضمِّنها الخبر ؛ لاتصالها بالحديث الذي يرويه ، مثال ذلك ما ذكره عن أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ، فقد جاء السند كالآتي : (... محمد بن إسحاق ، قال : حدثني يحيى بن عروة ، عن أبيه قال : كان أول من جهر بالقرآن ... عبد الله بن مسعود ... ) وغيرها الطبري 2/334-335 ..
5 - وكان في بعض الأحيان يورد الشعر ضمن الخبر التاريخي ؛ ذلك لأن عروة من رواة الشعر ومحبيه ولقد أورد الذهبي رواية عن ... أبي الزناد، قال : ( ما رأيت أروى للشعر من عروة ... ) ، كما يبرز دور الشعر في الحياة آنذاك. [ تراجم رجال ، ص 46 .].
6 - لم يقتصر اهتمام عروة على السيرة النبوية الشريفة في رواياته فحسب ، وإنما امتدت إلى تاريخ الخلفاء الراشدين ، فقد وردت مقتبسات كثيرة له - على سبيل المثال - عن عزم الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه على إنفاذ بعث أسامة ، على الرغم من حرج وضع المسلمين ، وخبر ردة بعض القبائل ، وما جرى بين خالد بن الوليد وأهل اليمامة ، وكذلك فيما يتعلق بقيادة الجيوش المتوجهة لفتح بلاد الشام، وخبر أجنادين ، ومرض الخليفة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ووفاته ، وما يتعلق بواقعة القادسية ، وخبر ذهاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى (أيلة) في إحدى رحلاته إلى الشام، وخبر عن وقعة الجمل في خلافة علي رضي الله تعالى عنه ، وغيرها .
تعليق