عبد المسيح بسيط والتحدي !
الرد على كتاب القس بسيط : " الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه "
الرد على كتاب القس بسيط : " الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه "
يقول القس عبد المسيح بسيط في كتابه : " الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه " : ( إننا نتحدّى أي إنسان يقول لنا أن القرآن أشار من بعيد أو قريب لتحريف الإنجيل بأي صورة من الصور ، ونتحدى أن يقول لنا أحد أنه أشار لتحريف التوراة بمعني التغيير أو التبديل أو الإضافة أو الحذف !!!! ) ( الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص 179 ) .
الإعجاز اللفظي والمعنوي في القرآن الكريم في بيان وقوع التحريف اللفظي والمعنوي في الكتاب المقدس !
أود من خلال هذا العنوان أن أعرض بعض الإعجاز في كلام الله تعالى , وذلك من خلال آيتين تحدثتا عن تحريف اليهود والنصارى لكتبهم ، الآية الأولى من سورة المائدة , قال تعالى : {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }المائدة13 .
والآية الثانية من نفس السورة أيضًا , قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة41.
يقول الإمام /فخر الدين الرازي مبينًا إعجاز القرآن الكريم في هذا الباب : ( قوله تعالى " يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ " إشارة إلى أن أهل الكتاب يذكرون التأويلات الفاسدة للنصوص التي عندهم وليس فيه بيان أنهم يخرجون اللفظة من الكتاب ، أما في الآية الثانية فقوله تعالى " مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ " فهى دالة على أنهم جمعوا بين الأمرين فكانوا يذكرون التأويلات الفاسدة وكانوا يخرجون اللفظة من الكتاب ) ( التفسير الكبير للرازي 10/ 118 ) .
وهذا ما يعرف إصطلاحًا بين الباحثين بنوعي التحريف :
1- التحريف اللفظي ، أي إخراج وإدخال الكلمات من وإلى النص .
2- التحريف المعنوي , أي تأويل وتفسير النصوص على غير معناها الصحيح .
والملاحظة الثانية التي أود أن أشير إليها تظهر في قوله تعالى : " وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ " إن استخدام صيغة المضارع في الآيات لهو بحق أمر عجيب يُشعرك أن الأمر لا يتوقف أو ينحصر في وقت أو مكان معين , بل يمتد فيشمل كل الأوقات والأماكن , فالآية الكريمة ترد على علماء الكتاب المقدس حين يسألوننا : متى وأين حدث التحريف ؟!
كما أود أن أشير إلى قوله تعالى : {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ }البقرة79 .
إن هذه الآية الكريمة نزلت في أحبار السوء من أهل الكتاب , والغريب أن الإشارة إلى تلك الحادثة في الآية جاءت على العموم وذلك ظاهر فى قوله تعالى " الْكِتَابَ " , فلم يقل الله تبارك وتعالى : "فويل للذين يكتبون التوراة بأيديهم" , ولم يقل تبارك وتعالى : "فويل للذين يكتبون الإنجيل بأيديهم" , بل جاء اللفظ على العموم : " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ " لكي ينبهنا المولى تبارك وتعالى أنه سوف يأتي أُناس يدعون أنه توجد كتب وأسفار منسوبة إليه جل وعلا , وهم في الحقيقة قد كتبوها بأيديهم من عند أنفسهم من أجل أغراض رخيصة .
فقديمًا كان اليهود , إدعوا أن التوراة المحرفة ( العهد القديم ) كتاب الله ثم أعادوا الكَرَّة بكتاب أخر ادعوا أيضًا أنه وحي من عند الله وهو " التلمود " ، ثم جاء من بعدهم النصارى بنسخ وترجمات لا يعلم عددها إلا الله وأطلقوا على كل واحدة منها كتاب الله بداية من " الفولجاتا " ومرورًا بنسخة "الملك جيمس" وانتهاءً بالنسخ والترجمات الحديثة ، مثل " النسخة القياسية المنقحة " و " النسخة الدولية الحديثة " و" ترجمة الأباء ******يين " و " كتاب الحياة " ...إلخ ، ولهذا لم يذكر القرآن الكريم اسم الكتاب على وجه الخصوص بل كان التعبير عنه بصيغة العموم " الْكِتَابَ " علمًا منه تبارك وتعالى بأن تلك الكتب والترجمات والنسخ سوف تكتب بأيدي البشر ثم تنسب إليه تبارك وتعالى بلا سند أو دليل !
وقوله تعالى " بِأَيْدِيهِمْ " إشارة منه سبحانه وتعالى إلى وقوع التحريف اللفظي بمختلف أنواعه كمحو وإضافة نصوص إلى الكتاب , فالكتابة لا تكون إلا باليد وهذا معلوم لمن له مسحة من عقل , فما الجديد الذي يريد الله تبارك وتعالى أن يشير إليه ؟! هذه إشارة منه تبارك وتعالى بوقوع التحريف اللفظي الذي لا يحدث إلا باستخدام اليد أثناء الكتابة , ولهذا قال المولى سبحانه وتعالى : " فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ " فكانت كتابتهم لهذه الكتب بأيديهم محل ذم ووعيد من الله لوقوع التحريف اللفظي والمعنوي بها , وإلا أصبح الذم والوعيد لا معنى له , لأنه معلوم لمن له مسحة من عقل أن الكتابة لا تكون إلا باليد , فلم الذم والوعيد لهم إلا أذا كانت هذه الكتابة اليدوية حرفت وبدلت ومحت وأضافت ؟!
وهكذا جرى القرآن الكريم على طريقته الفذة في الإحتفال بالمعاني والمدلولات أكثر من الإحتفال بالألفاظ والأسماء التي قد يختلف فيها الناس .
وفي هذا أيضًا يقول اللواء /أحمد عبد الوهاب رحمه الله : ( لم تعد أسفار المسيحيين الدينية كتابًا مقدسًا , فهذا هو واقع الحال الأن . فبعد أن كانت طبعات تلك الأسفار تصدر معنونة باسم : " الكتاب المقدس " , إذ بها تصدر الأن وقد جردت من القداسة فصار عنوانها : " الكتاب " !
فمثلاً صدرت ترجمة الملك جيمس الإنجليزية , التي اعتمدت عام 1611م هكذا :
الكتاب المقدس THE HOLY BIBLE
ولكن صدرت الترجمة الإنجليزية التي شارك فيها اثنان وثلاثون عالمًا في منتصف هذا القرن (1952م) بعنوان :
الكتاب : ترجمة قياسية مراجعة THE BIBLE : Revisd Standard Version
وحدث مثل ذلك في التراجم الفرنسية , فبعد أن صدرت تحت اسم :
الكتاب المقدس LA SAINTE BIBLE
إذا بالتراجم اللاحقة تصدر هكذا :
الكتاب الأورشليمي LA BIBLE de JERUSALEM
وكذلك :
الترجمة المسكونية للكتاب TRADUCTION OECUMENIQU de LA BIBLe
ومثل ذلك في اللغة الألمانية , فبعد أن كان العنوان هو :
الكتاب المقدس DIE HEILIGE BIBLE
صار الأن :
الكتاب DIE BIBLE
( وفي العربية بعد أن كان التقليد المعروف في تسمية الأسفار الدينية بـ"الكتاب المقدس " صدرت العديد من الترجمات الحديثة فجردت الأسفار من القداسة واكتفت بذكر " الكتاب " , وأذكر منها ترجمة " كتاب الحياة " ) .
إن السبب في هذا التغيير الهام لعنوان الأسفار الدينية واضح ومعروف لدى العلماء , وهو أن هذا "الكتاب" يحتوي في جملته , أسفارًا مؤلفة بكل معنى الكلمة . وهى ككل مؤلفات بشر لا عاصم لها من الخطأ .
والحق أن إطلاق اسم "الكتاب" فقط على أسفارهم الدينية , بعد تجريده من صفة المقدس لهو آية من آيات الله . فهذا ما خاطبهم به القرآن منذ 14 قرنًا في مثل قوله :" يَا أَهْلَ الْكِتَاب " ولم يقل لهم أبدًا : " يا أهل الكتاب المقدس " ...وها هم قد عادوا مُسلِّمين بتسمية القرآن العظيم . { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }النمل52 ) ( البرهان المبين في تحريف أسفار السابقين ص 49 , 50 ) .
بل إن الناظر إلى الآية بتمعن يجد أنها تشير إلى النصارى أصحاب "الكتاب" "المقدس" , فقوله تعالى : "فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ " إشارة إلى قول النصارى "الكتاب" . وقوله تعالى : "ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ" إشارة إلى وصفهم "الكتاب" بأنه : "المقدس" !
وفي السنة المطهرة : عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال إنه أتى الشام فرأى النصارى يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فقال : لأي شيء تصنعون هذا , قالوا : هذا كان تحية الأنبياء قبلنا , فقلت نحن أحق أن نصنع هذا بنبينا , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنهم كذبوا على أنبيائهم كما حرفوا كتابهم , إن الله عز وجل أبدلنا خيرًا من ذلك السلام تحية أهل الجنة . ( أخرجه أحمد في مسنده " مسند الكوفيين " برقم 18591 ) .
إن القس يجادل فيما هو معلوم في دين محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة , قال تعالى : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }البقرة75 .
ونقول على سبيل الإجمال : إن كل ما جاء في القرآن الكريم يخالف ما جاء في الكتاب المقدس خاصة في العقائد والأخبار والسير , هو شهادة صريحة من القرآن الكريم بوقوع التحريف اللفظي والمعنوي في أسفار الكتاب المقدس , لقوله تعالى : {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }المائدة48 .
الإحتكام إلى التوراة !
يقول القس بسيط : ( هل رأى نبي المسلمين التوراة مع اليهود واستشهد بها وأحتكم بأحكامها ؟ ) . ثم ساق قصة رجم الزاني والزانية كما جاء في سبب نزول قوله تعالى : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } المائدة 43 . ثم قال : ( إن استشهاد نبي المسلمين بحكم التوراة هو دليل أكيد على اقتناعه بسلامتها وعدم تحريفها ولأنه لم يكن لديه أية شبهة أو شك في ذلك ) ( الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص 179 , 190 ) .
يقول الله تبارك وتعالى في محكم كلامه : ( يا َأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هِادُواْ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الاَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم * سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَآ أُوْلَـَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * إِنّآ أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ وَالرّبّانِيّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لّهُ وَمَن لّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ ) ( المائدة 41-45 ) .
لقد أثبت الله تبارك وتعالى في مقدمة الآيات التي استدل بها القس بسيط تحريف اليهود لكلام الله , لكن القس جرى على عادته في إخفاء الحقائق !
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فتبين أنهم ( أي النصارى ) يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة , وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية من جنس واحد ) ( الجواب الصحيح 1/ 115 ) .
ونعود لآيات سورة المائدة التي استدل بها القس على صحة دعواه , أما سبب نزولها فهو : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بيهودي محممًا مجلودًا فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال : هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قالوا نعم , فدعا رجلاً من علمائهم فقال : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟ قال : لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك , نجده الرجم , ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه , فأمر به فرجم فأنزل الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}المائدة41. إلى قوله { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ } يقول ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}{وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ) ( رواه مسلم في كتاب "الحدود " برقم 3212 ) .
وأخرج أبو داود في كتاب " الحدود " عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( زنى رجل من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله قلنا فتيا نبي من أنبيائك قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا : يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال : أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن ؟ قالوا : يحمم ويجبه ويجلد والتجبيه أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة فقال : اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فما أول ما ارتخصتم أمر الله , قال : زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في أسرة من الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما , قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ }المائدة44.كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم ) (رواه أبو داود في كتاب " الحدود " برقم 3860 ) .
والشاهد من هذا الخبر أن أهل الكتاب على عادتهم حرفوا حكم الله الثابت عندهم من رجم الزاني والزانية رغم ثبوته عندهم إلى يومنا هذا بالعهد القديم : ( وإِن أُخِذَ رَجُلٌ يُضاجعُ امرَأَةً مُتَزَوِّجَة، فلْيَموتا كِلاهُما، الرَّجُلُ المُضاجعُ لِلمَرأَةِ والمرأة، واَقلعٍَ الشَّرَّ مِن إِسْرائيل. وإِذا كانت فَتاةٌ عَذْراءُ مَخطوبةً لِرَجُلٍ ، فصادَفَها رَجُل في المَدينَةِ فضاجَعَها ، فأَخرِجوهُما كِلَيهِما إِلى بابِ تِلك المَدينة واَرجُموهما بالحِجارةِ حتَّى يَموتا. أَمَّا الفَتاة، فلأَنَّها لم تَصرُخْ وهي في مَدينة، وأَمَّا الرَّجُل، فلأَنَّه اَغتصَبَ امرأَةَ قَريبِه، فاَقلعَِ الشَرَّ مِن وَسْطِكَ ) تثنية 22- 22 :24 . واستبدلوه بالجلد على عهده صلى الله عليه وسلم , ولما كان نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم هو صاحب الشريعة الخاتمة الشاملة لكل ما سبقها من الشرائع والمبينة والمفصلة لها , والمهيمنة عليها , جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بالحجج الباهرة بوحي من الله جل وعلا , مذكرًا إياهم بحكم الله فيما تبقى من التوراة التي بين أيديهم بعد الضياع والتحريف والتبديل .
بل إن مصداق هذا في اعترافات علماء الكتاب المقدس , فعلى سبيل المثال يقول علماء الكتاب المقدس في تعليقهم على إحدى فقرات سفر الخروج : ( وإذا تخاصَمَ أُناسٌ فَصَدَموا آمرَأَةً حامِلاً فسَقَطَ الجَنينُ ولم يَتَأَتَّ ضَرَر، فلْيَدفَعِ الصَّادِمُ غَرامةً كَما يَعْرِضُ علَيه زَوجُ المرأة، وُيؤَدِّيها عن يَدِ القُضاة. وإِن تأَتَّى ضَرَر، تَدفَعُ نَفْساً بِنَفْس ، وعَيناً بِعَين وسِنّاً بِسِنّ وَيداً بِيَد ورِجْلاً بِرِجْل ، وحَرْقاً بِحَرْق وجُرْحاً بِجُرْح ورَضَّاً بِرَضَّ ) ( سفر الخروج 21 : 22 – 25 ) .
يقولون ما نصه عن هذه الأحكام : ( تهدف إلى وضع حد للإفراط في الإنتقام , وأوضح الحالات فيها اعدام القاتل , ولكن يبدوا في الواقع أن هذه القاعدة قد خفت حدة شراستها القديمة في وقت مبكر , فتنقت واجبات " الثأر بالدم " تدريجيًا حتى اقتصرت أساسًا على الفدية والحماية , مع الحفاظ على نص المبدأ لكن في أشكال مخففة ) ( هامش الترجمة الكاثوليكية للرهبنة ******ية ص 190 ) .
وهكذا يُتحفنا علماء الكتاب المقدس بهذا الإعتراف الصريح في أن الأحكام قد استبدلت وغُيرت مع تطور الزمن وفقًا للظروف , ولهذا بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم يا جناب القس بسيط ليجدد الدين ويعيد ما أضعتموه , ويثبت ما أبدلتموه , ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه ) (رواه مسلم في كتاب " الحدود " برقم 3212 , وابن ماجة في سننه " كتاب الأحكام " برقم 2318 , وأحمد في مسند الكوفيين برقم 1779 ) .
وفي رواية لأبي داود : ( اللهم إني أول من أحيا ما أماتوه من كتابك ) ( رواه أبو داود في " الحدود " برقم 3857 ) .
وفي رواية لأحمد في مسنده : (اللهم اشهد أني أول من أحيا سنة قد أماتوها ) ( رواه أحمد في مسند الكوفيين برقم 17827 ) .
فهذا من جملة الأحكام التي شهد لها القرآن الكريم أنها من توراة موسى عليه السلام وأنها من وحى الله له عليه السلام , ولهذا قال تعالى : ( وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) أي عندهم فيما يزعمون أنها التوراة لا يزال حكم الله فيها وهو حد الرجم للزاني والزانية , ولم يقل جل في علاه : " أحكام الله " بل جاء اللفظ مفردًا فقال سبحانه : " حُكْمُ اللّهِ " . فهذه شهادة من القرآن المهيمن على ما قبله من الرسالات على أن هذا الحكم فقط من وحي الله لنبيه موسى عليه السلام , فهي شهادة خاصة وليست عامة , وهكذا يظهر دور القرآن الكريم في بيان الحق والباطل في أسفار السابقين .
قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : ( والصحيح أن هذه التوراة والإنجيل الذي بأيدي أهل الكتاب فيه ما هو حكم الله , وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما لقوله تعالى ( يَأَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوَاْ آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هِادُواْ سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ ) إلى قوله ( وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ) المائدة 41 : 43 ) ( الجواب الصحيح 1 / 320 ) .
ويقول الشارح لـ " عمدة الأحكام " : ( ويستفاد من هذا الحديث ... أن شريعتنا حاكمة على غيرها من الشرائع , ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم عن حكم التوراة في الرجم , ليقيم عليهم الحجة من كتابهم الذي أنكروا أن يكون فيه رجم المحصن , وليبين لهم أن كتب الله متفقة على هذا الحكم الخالد , الذي فيه ردع المفسدين ) ( تيسير العلاّم شرح عمدة الأحكام 2/280 ) .
فكيف يستدل القس بسيط من هذه القصة على أن التوراة صحيحة وخالية من أي تحريف , بل إن واقع القصة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن اليهود كان دأبهم تحريف التوراة وفقًا للأهواء والأغراض , لكن الله كشف تحريفهم وباطلهم برسالة محمد صلى الله عليه وسلم , وببقاء بعض النصوص التي تقيم الحجة عليهم وتكشف تحريفهم لكلام الله !
والقس بسيط يستدل من هذه القصة أيضًا وغيرها كما سنبين إن شاء الله على أن القرآن الكريم أشار إلى أن تحريف اليهود لكلام الله في التوراة تحريف معنوي , وليس له علاقة بتحريف اللفظ نفسه , فيقول القس بسيط : ( فالتحريف المقصود هو في تفسير حكم الرجم بالجلد ، وليس تغيير نصوص الكتاب المقدس ) ( الكتاب المقدس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص 190 ) .
وهذا من توهمه , فالقرآن الكريم أشار إلى جميع أصناف التحريف في أسفار اليهود والنصارى كما بيّنا وسنبين , كما أن الظاهر من كلامه أنه يريد أن يوحي أن الكتاب المقدس يحتوي على التوراة التي كانت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم , وهذا أيضًا من توهمه , وسنيبن حقيقة كل ذلك بوضوح لا لبس فيه ولا توهم .
يتبع ....
تعليق