إكليمندس الروماني ... هل كان تلميذًا للرُسل؟!
يقول القمص بسيط[1]:
(3) ويتكلم القديس إكليمندس الرومانيّ، والذي كان أسقفًا لروما (من سنة92 إلى 100م)(16)، كما كان أحد مساعدي القدِّيس بولس الرسول والذي قال عنه أنَّه جاهد معه في نشر الإنجيل (في4/3)، كما تعرَّف علي الكثيرين من رسل المسيح واستمع إليهم، ويقول عنه القدِّيس إيريناؤس واحد تلاميذ الآباء الرسوليِّين وحلقة الوصل بينهم وبين من جاء بعده من آباء الكنيسة، أنَّه " رأى الرسل الطوباويِّين، وتحدَّث معهم وكانت كرازتهم لا تزال تدوي في أذنَيه وتقليدهم ماثل أمامه" (17)، في رسالته إلي كورنثوس حوالي سنة 96م، عن لاهوت المسيح بنفس أسلوب وطريقة القدِّيس بولس:
? فيتكلم عن المسيح الذي أخفي عظمته الإلهيَّة وجاء متضعًا " أنَّ صولجان جلال اللَّه، الربّ يسوع المسيح، لم يأتِ متسربلاً بجلال عظمته - كما كان في استطاعته - بل جاء متواضعًا كما تنبَّأ عنه الروح القدس " (ف 16).
? فيتكلم عن المسيح الذي أخفي عظمته الإلهيَّة وجاء متضعًا " أنَّ صولجان جلال اللَّه، الربّ يسوع المسيح، لم يأتِ متسربلاً بجلال عظمته - كما كان في استطاعته - بل جاء متواضعًا كما تنبَّأ عنه الروح القدس " (ف 16).
إكليمندس .. أحد أهم الآباء الرسوليين كما يدعي القوم وكما يُقِر الأب عبد المسيح أنه كان أسقفًا لروما من سنة 92 إلى 100, بعض المراجع تقول 101 في عصر تراجان وبعضها تذكر أن فلافيوس إكليمندس الذي قتله دوميتان (ت 96) هو نفسه إكليمندس الروماني ولكن لا بأس, ويُقال أنه الأسقف الثالث لروما [2] ويقول جيروم أنه الرابع[3] كما سيأتي, ويقول عنه ترتليانوس أن بطرس نفسه هو الذي عينه أسقفاً لروما كما أن أبيفانوس يؤكد هذا الأمر[4] وللرجل أهمية كبرى في تاريخ الكنيسة إذ يعتبر من حلقات الوصل المعروفة القليلة جدًا التي تربط بين الآباء الأولين والرسل بحسب التقليد .. فيقول القس حنا الخضري عنه وعن اغناطيوس الأنطاكي :
«إن دراسة كتابات القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية وكتابات القديس أكليمندس أسقف روما بخصوص التعاليم الكرستولوجية ( التعاليم المختصة بشخص المسيح ) في غاية الأهمية لأنهما يعتبران القنطرة المباشرة التي تربط الرسل بكنيسة القرون التالية. إذ أنه من المحتمل جدًا كما سبقت الإشارة إلى ذلك أنهما كانا فعلا على اتصال مباشر وشاهدي عيان لبعض الرسل. ولهذا السبب تحتل كتاباتهما في تاريخ العقائد المسيحية مكانة مرموقة هامة [5]
وأزيد على هذا أيضًا بأن كتاباتهما لم تكن مرموقة فقط .. بل إنها وصلت لدرجة أن بعض نصارى الكنيسة الأولى جعلوها كتابات قانونية مقدسة!
فتقول الموسوعة البريطانية عن رسالة اكليمندس الروماني الأولى إلى كورنثوس أن كثيرًا من نصارى القرن الثالث والرابع قد اعتبروها كتابًا مقدسًا [6] وخير شاهد على هذا ورودها في المخطوطة السكندرية التي تعود للقرن الخامس .. والآن لنفحص بعض الأقوال مما ذكره القمص بسيط نقلاً عن آبائه دون تحر أو تدقيق متحققًا فيه قوله تعالى «قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ [7] :
يقول القس بسيط :
كما كان أحد مساعدي القدِّيس بولس الرسول والذي قال عنه أنَّه جاهد معه في نشر الإنجيل (في4/3)
فيقول القس بسيط جازمًا بصحة قوله أن أكليمندس المذكور في رسالة فيليبي 4/3 هو نفسه أكليمندس الروماني .. ولعلنا نسأل ألكم على هذا دليل؟! ..
فلا يملك لا هو ولا أكبر كبير فيهم دليلاً على هذا .. وننقل من المصادر المسيحية ما يؤكد قولنا .. فتقول دائرة المعارف الكتابية :
« ... وحيث أن الاسم كان شائعا ، فلا يمكن الجزم بأنه هو نفسه كاتب الرسالة إلي كورنثوس المعروفة بهذا الاسم ، والذى كان أيضا الأسقف الثالث لروما (بعد بطرس وبولس كما يقول ايريناوس-كما يقول انه مات في السنة الثالثة لتراجان) وهذا القول-بالرغم من وروده في كتابات أوريجانوس ويوسابيوس وأبيفانيوس وجيروم-لا يمكن إثباته أو دحضه حتى إن السلطات الكاثوليكية نفسها تشك فيه لوجود مسافة كبيرة بين الاثنين في الزمان والمكان [8]
ويقول القس حنا جرجس الخضري :
«فالرسول يذكر عددا من الذين كانوا يتعاونون معه في الخدمة, ويُظَن بأن أكليمندس المذكور هنا - في 4/3 - هو نفس الشخص الذي صار أسقفا لروما سنة 92. على أن هذا الرأي يحتاج إلى برهان تاريخي [9]
ويؤكد نفس القول المفسر الشهير ألبرت بارنز فيقول :
« أكليمندس غير معروف. معظم القدامى قالوا أنه أكليمندس الروماني ... ولكن لا دليل على هذا, فاسم أكليمندس كان شائعًا آنذاك [10]
ويقول القس إلمر ت. مرّيل:
« ذكر بولس في فيليبي 4/3 نصرانيًا يُدعى إكليمندس , بيد أنه لا مبرر لأية محاولة للربط بينه وبين أي إكليمندس آخر معروف لدينا , ولا توجد أية إحتمالية لنجاح هكذا محاولة! [11]
وبعد هذا فماذا نقول في رجل يجزم بصحة فرضية لا يوجد أي دليل عليها؟!
فالقول بأن أكليمندس المذكور هو أكليمندس الروماني لا يوجد عليه أي دليل البتة!
وإلى فكاهة أخرى ينقلها لنا ترتليانوس وكذلك أبيفانوس كما نقلت آنفا عن القس الخضري وهي أن الذي رسم أكليمندس أسقفًا على روما هو بطرس نفسه!!
فكما يقر بسيط؛ إن أكليمندس كان أسقفًا من سنة 92 إلى سنة 101 [12] وأن الذي رسمه أسقفًا كان بطرس .. الطريف في الأمر أن التقليد يقول أن بطرس قد مات سنة 67 إذ قالت بذلك دائرة المعارف الكتابية فقالت :
« ويقول التقليد إنه مات شهيداً في رومية حوالي 67 م وهو في نحو الخامسة والسبعين من عمره. [13]
ونستنج من هذا أن بطرس رسم أكليمندس أسقفًا على روما بعد وفاته بما يقارب خمسة وعشرين عامًا .. وهذا ولا شك من الإعجاز التاريخي في تاريخ الكنيسة والتقليد الرسولي المستلم!!
والآن وبعد كل هذا هل يملك النصارى دليلاً من كلام أكليمندس نفسه أنه كان تلميذًا لبطرس أو يوحنا أو فيليبس أو أندراوس أو أي من الرسل الإثني عشر؟!!
طبيعي جدًا أنه لو كان تلميذًا لأحدهم لأخبر عنه مثلاً فيقول أخبرني الرسول فلان أن المسيح قال كذا وكذا .. أو يقول سمعت الرسول الفلاني يقول كذا وكذا .. أو أي شيء من هذا القبيل مما يثبت معاينته لهم .. فهل تملكون دليلاً على هذا؟!!
هل وردت في كتابات أكليمندس الروماني التي تقرون بصحة نسبتها إليه أدلة على معاينته للرسل يا قوم؟
بالطبع يعلم الجميع أن الرجل لم تصلنا من كتاباته إلا رسالته الأولى كما يدعي النصارى .. وبالطبع الثانية مكذوبة وهناك كتابات أخرى مكذوبة أُلِّفت في القرن الثالث تقريباً مثلها مثل الرسالة الثانية لكورونثوس ..
والآن لماذا لم يذكر إكليمندس أنه كان تلميذًا للرسل أنفسهم ويريحنا عناء البحث والتدقيق في كتابات الآباء من المتأخرين؟!!
وطبعًا نقل القس بسيط مقولة إيرناؤس في كتابه ضد الهرطقات عن معاينة أكليمندس للرسل وإلتصاقه بهم .. ولو لم يكن نقلها لنقلتها طالبًا الدليل على كلام إيرناؤس!!!
فما سنده في هذا القول الذي يقول به وهو مولود 120 بعد الميلاد تقريبا وإكليمندس مات سنة 100 تقريبًا .. أي بين وفاة إكليمندس وولادة إيرناؤس عشرين عامًا على الأقل ..
قسما بربي لو أن لدينا سندًا كان الإنقطاع فيه بين الراوي وشيخه ثوانٍ معدودة لقلنا أنه منقطع .. فما بالنا بإنقطاع دام أكثر من عشرين سنة؟!!
فمن أين أتى إيرناؤس بهذا الكلام عن إكليمندس وهو لم يره ولم يعرفه .. بل ولم يقل إكليمندس عن نفسه أنه كان تلميذاً للرسل!!
تاريخية بابا روما إكليمندس!
إذا نظرنا إلى التقليد المُستلم , رأينا أن هذا البابا كان قد ترأس عرش باباوية روما فترة من الزمن كما أسلفنا 92-100 تقريبًا, بيد أن تاريخ الكنيسة المُبكر هذا قائم على التخمين والظن فقط , لا على حقائق ووثائق تُثبت حقيقة هذه الأمور , وخير شاهد هو دعوى الآباء الأوائل على أن إكليمندس فيليبي هو نفسه إكليمندس المذكور , وكذلك دعوى إيريناؤس أن لينُس المذكور في رسالة تيموثاوس الثانية 4/21 هو الأسقف الثاني لروما[14] , وهكذا , فلا حقائق ثابتة , ولا يُمكن الجزم بأي منها ...
فماذا إذًا عن تاريخية هذا الرجل؟ وذكره في الوثائق القديمة؟!!
أقدم ذِكر لمسيحي يُدعى إكليمندس له شأن في الكنيسة في القرون الأولى يوجد في كتاب الراعي لهرماس[15] , وهذا الكِتاب طِبقًا للوثيقة الموراتورية[16] يعود لمُنتصف القرن الثاني للميلاد!
إذ تقول الوثيقة:
« ولكن هِرماس كتب الراعي في وقت قريب , في أيامنا , في روما , إذ كان الأسقف بيوس - أخوه - يشغل كرسي بابوية روما. [17]
وهذا البابا بيوس الأول , تقول الموسوعة الكاثوليكية أنه ترأس كرسي الباباوية بين 140 و 154 ميلادية[18], ويذكره إيرناؤس في قائمته لأساقفة روما [19] بعد إكليمندس وإفاريستوس وألكساندر وتليفورس وهيجينوس.
وبالتالي تعود هذه الرسالة - الراعي - إلى منتصف القرن الثاني الميلادي تقريبًا , فماذا يُذكر فيها عن إكليمندس كنيسة روما!
فنجد في رسالة الراعي:
« لذا ستكتب كتابين , وسترسل أحدهما إلى إكليمندس , والآخر إلى جرابتي[20]. وسيُرسل إكليمندس كِتابه إلى الدول الأجنبية , إذ أنه أُجِيز ليفعل هذا. وستنصح جرابتي الأرامل والأيتام. ولكنك أنت [أي هرماس] ستقرأ الكلمات في هذه المدينة , مع الشيوخ الذين يشرفون على الكنيسة [21]
وهنا في تلك الرسالة , نرى إشارة صريحة لراع في كنيسة روما , له صلاحية مُراسلة الكنائس الأخرى في الدول الأجنبية . ربّما يكون هو إكليمندس الروماني (؟) , لكن هذه الرسالة لا تجعل منه أسقفًا على روما , ولا يُمكن أن يكون كذلك في وقتها .. لماذا؟ .. لأن الرِسالة كُتبت في النصف الثاني من القرن الثاني كما أثبتنا من واقع التقرير المُقدم في الوثيقة الموراتورية , هذا بالإضافة إلى بعض القضايا التي طُرحت في نص الرسالة ولم تخرج إلى الساحة قبل القرن الثاني! , وعليه فيكون إكليمندس المذكور هذا قد عاش في النصف الثاني من القرن الثاني , معاصرًا أسقف روما بيوس الأول [140 - 154 م] , وهو ما لا يُمكن أن يكون نفس الوقت المنسوب إلى إكليمندس الروماني البابا الروماني الذي قُتِل في نهاية القرن الأول بحسب التقليد!
إذا كانت الرسالة إلى كورنثوس الخارجة من الكنيسة في روما , لم تُنسب إلى إكليمندس إلا بعد النصف الثاني من القرن الثاني , أي بعد إنتشار رسالة هرماس هذه , فهذه دلالة واضحة جدًا على أن اسم إكليمندس إنما نُسبت تلك الرسالة إليه لوروده في رسالة الراعي , المؤلفة في النصف الثاني من القرن الثاني , فما كانت الرسالة تُدعى برسالة إكليمندس قبل هذا بزمن! وإليك التفصيل من كتابات الآباء التي أشارت إلى تلك الرسالة وإلى هذا الأسقف بترتيبهم الزمني التقليدي المُتعارف عليه!
1. هيجيسبوس
من آباء القرن الثاني , أعماله ضائعة إلا ثمة ثمان عبارات إقتبسها يوسابيوس القيصري في تاريخ الكنيسة , وقد عرفه جيروم [22] وهو - جيروم - المسئول عن تلك الفكرة القائلة بأن هيجيسبوس كتب تاريخ الكنيسة منذ صلب يسوع وحتى يومه ... في خمسة مجلدات , قال عنه يوسابيوس[23] أنه استخدم إنجيل العبرانيين وكذلك التقاليد اليهودية الشفهية غير المكتوبة ..
يقول يوسابيوس القيصري:
« وتوجد بين أيدينا رسالة لإكليمندس هذا , معترف بصحتها , وهي طويلة جدًا وهامة جدًا. وقد كتبها باسم كنيسة روما إلى كنيسة كورنثوس عندما قامت فتنة في هذه الكنيسة الأخيرة . ونحن نعلم أن هذه الرسالة كانت تستعمل في كنائس كثيرة في العصور الماضية ولا زالت . أما عن قيام فتنة في كنيسة كورنثوس في الوقت المشار إليه فشهد بذلك هيجيسبوس , وشهادته صادقة [24]
ويُفهم من هذه الكلمات , وكذلك الفصل الذي تحدث فيه يوسابيوس عن هيجيسبوس [ك4 ف22] أن الأخير عرِف رسالة ثمينة قد أُرسلت من روما إلى كورنثوس حين نشأ هذا النزاع بين الكورنثوسيين , جدير بالذكر أنه عاش في كورنثوس وفي روما كذلك .. وتُعتبر شهادة هيجيسبوس هذه أقدم شهادة لوجود تلك الرسالة .. بيد أنها لم تُنسب إلى كاتب بعينه , أسقفًا كان أو غير ذلك! وتعود إلى ما بعد النصف الثاني من القرن الثاني بقليل ...
2. ديونيسيوس أسقف كورنثوس
نقل عنه يوسابيوس القيصري صراحةً إشارته إلى تلك الرسالة فقال:
« وفي نفس الرسالة تحدث [ديونيسيوس] أيضًا عن رسالة إكليمندس إلى أهل كورنثوس مبينا أنه جرت العادة منذ البداية أن تقرأ في الكنيسة. وإليك كلماته:
( اليوم قضينا يوم الرب المقدس , وفيه قرأنا رسالتكم . وكلما قرأناها استطعنا أن نستخلص منها بعض النصائح , وكذا من الرسالة السابقة التي كتبت إلينا على يد إكليمندس ). [25]
وهذه هي المرة الأولى في التاريخ الكنسي الذي تُنسب فيها الرسالة إلى شخص ما يُدعى إكليمندس! .. في خطاب ديونيسيوس أسقف كورنثوس (ت 170 م) .. ولا يبدو من النص المذكور أن ديونيسيوس كان يرى أن إكليمندس كان أسقفًا , فكتب يقول عن سوتير أسقف روما وقتها « فإنكم أيها الرومانيين تحافظون على عوائد الرومانيين الموروثة التي لم يتمسك بها أسقفكم المبارك سوتير فقط , بل أيضًا أضاف إليها مقدما إمدادات للقديسين .... [26] فلو كان يرى فيه أسقفا لأشار إليه ببعض البركة كما فعل مع سوتير قبل ذكر إكليمندس بقليل! .. فيبدو أنه كان يراه شخصًا عاديًا كتب رسالة إلى كورنثوس باسم كنيسة روما , وربمّا كان الداعي إلى ذلك ما كتبه هرماس في الراعي!
3. إيريناؤس أسقف ليون
يأتي أول ذكر على الإطلاق في الكتابات الآبائية لذكر إكليمندس كأسقف لروما في كتاب إيرناؤس ضد الهرطقات[27] وهو أول ذكر لإكليمندس كأسقف لروما , ويذكر إيريناؤس أنه في عصر ذاك الإكليمندس حدثت شقاقات بين الإخوة في كورنثوس فبُعِثت رسالة من روما إلى كورنثوس في عهد الأسقف إكليمندس الروماني ( لا يظهر من حديث إيريناؤس أن إكليمندس هو نفسه كاتبها! ) ثم ذكر بعض من أوصاف هذه الرسالة , تنطبق إلى حد كبير على الرسالة الموجودة بين أيدينا اليوم , تلك التي وُجِدت في المخطوطة السكندرية! قد يكون إيريناؤس أتى بتلك المعلومات عن هذه الرسالة من روما , وقد يكون أتى بها مما وقع في يديه من كتابات هيجيسبوس الضائعة , فلا سبيل لمعرفة الحقيقة ههنا اللهم إلا التخمينات التي يقوم عليها تاريخ الكنيسة!
4. أوريجانوس
وهذا هو الأول الذي أشار صراحةً إلى أن إكليمندس المذكور في رسالة بولس إلى فيليبي هو نفسه إكليمندس أسقف روما! .. وورد هذا صريحًا في تعليقاته على إنجيل يوحنا [28] ..
5. يوسابيوس القيصري
أما عن يوسابيوس فقد تبع ما قاله أوريجانوس أيضًا[29] من حيث أن كاتبها إكليمندس الروماني أسقف روما ..
ومن بعدهم تبعهم المتأخرون عنهم .. وهكذا .. لا نجد في كتاباتهم أي شيء عن إكليمندس هذا اللهم إلا اسمه , ملصقًا بهذه الرسالة التي نُسِبت إليه ..
وبعد هذا التطور الآبائي الذي رأيناه في إقتباسات الآباء لهذه الرسالة يُمكننا عرضه كالتالي:
ذكر هرماس في رسالته الراعي المُراسل الرسمي في كنيسة روما للكنائس الأخرى وكان يُدعى إكليمندس. وكانت الراعي ذائعة الصيت , حتى أن بعض الآباء كان قد اعتبرها كتابًا مُقدسًا كإيريناؤس مثلاً[30] . وكانت هُناك رسالة من الكنيسة في روما إلى كنيسة كورنثوس , وكانت تداني الراعي في القانونية , فقد اعتبرها بعض الآباء كتابًا مُقدسًا كإكليمندس السكندري مثلاً[31] , فنُسِبت إلى ذلك الكاتب - إكليمندس - الذي ذكره هِرماس في رسالته. وكنتيجة للوقار والتبجيل الذي لاقته هذه الرسالة في الغرب , فكان يجب على الكاتب أن يكون اسقف روما! كما أن تاريخ الكِتاب ليس بمعروف , فإنه يحتاج إلى سُلطان رسولي , لذا فإن كاتبه ينبغي أن يكون مُلاصِقًا للرسل , فقبل إكليمندس السكندري كتاباته ككتابات رسولية[32] وإدعى إيرناؤس أنه رأى الرسُل[33] , ولا زالوا في إحتياج إلى أدلة أخرى على مُلاصقته للرُسل , فكان زعم أوريجانوس بأن بولس الرسول قد ذكر هذا الإكليمندس تحديدًا في رسالته إلى أهل فيليبي واصفًا إياه بالعامل معه! .. وهكذا تطورت نظرة الآباء لهذا الشبح الذي لا يُعرف عنه شيئًا إلا اسمه الذي اصطُنِع له لتُنسب إليه هذه الرسالة والنتيجة بعد هذا التطور : هذا المدعو البابا إكليمندس الروماني صاحب رسالة روما إلى كورنثوس , هو خُرافة كنسية ليس لها أصل من الصِحة!!![34]
فمِن أين أتى هؤلاء الآباء بصلة هذا الإكليمندس بالرُسل؟! .. لا بُد أنه خيالهم الواسع الذي سمح لهم بإفتعال الأكاذيب لمُحاولة إختلاق سلاسل مُتصلة بالرسل , لتأييد مُعتقداتهم الباطلة .. وعلى هذا المِنوال يسري التاريخ الكنسي .. فيكفي أن يُخمن أحدهم تخمينا , أو يرسم له خياله صورة لموضوع ما , فيسطره في كُتُبِه , فينتشر بين الآباء إنتشار النار في الهشيم , دون أدنى تحقق من أخبار أو آراء ..
دينٌ لا رجال له!
ولو لم يتفق النصارى مع النتيجة فعليهم أن يفسروا ذلك التضارب الشديد بين تواريخ وفياتهم الآبائية .. وعدم نسبة الرسالة إلى إكليمندس .. بالإضافة إلى عدم ذكره كأسقف حتى جاء إريناؤس! عجيب أمر هذا الأسقف!!!
تضارُب قوائم الآباء في أساقفة روما الأوائل!
ليس غريبًا بعد ما سبق ذكره أن تتضارب أقوال الآباء عند ذكر أساقفة روما بعد تأسيس كنيستها على أيدي بولس وبطرس[35], وهاك بعض من هذه التضاربات ...
الأسقف الثاني خلفا لبطرس الرسول , القديس البابا كليتوس[36] , كان موضوعًا لنقاشات لا تنتهي! فالقديس ترتليانوس يحذفه تمامًا من بين الأساقفة , بينما يختلف إيريناؤس مع أوغسطينوس وأوبتاتوس في ترتيبه . فيذكر إيريناؤس لينوس ثم أنكليتوس ثم إكليمندس , بينما أوغسطينوس وأوبتاتوس يقدمان إكليمندس على أنكليتوس! وتجعل الوثائق Catalogus Liberianus و Carmen contra Marcionem وكذلك Liber Pontificalis من أناكليتوس وكليتوس شخصين مُختلفين.[37] وكذلك فعل هيبوليتوس وجعل أيضًا إكليمندس قبلهما[38] .
ومن أهم الكوارث الخاصة بالأسقف موضوع البحث , أن قائمة سيريانية قديمة لآباء روما , لا تذكر صاحبنا على الإطلاق وتقذف به خارج أساقفة روما[39] , ويبرر هذا لايتفوت قائلاً بلا شك قد حُذف خطأ لأن اسم كليتوس في بدايته نفس حروف إكليمندس , وهذه حجة أوهى من خيوط العنكبوت , فتخيل أيها القارئ أنك تكتب قائمة وفيها محمد ويتبعه مُحسن , هل تظن أنك ستُخطئ في مثل هذا لأن محمدًا ومُحسنًا تبدأ أسمائهما بنفس الأحرف؟ عجبًا!!!
هذا قد يرد في جُمل كاملة , فالكاتب أو الناسخ لن تقع عينه على أوائل الحروف ههنا بل على الكلمة كاملةً , فهذه حُجة لا تُقنع أحدًا!!!
وينقل القس إلمر ت. مرّيل عن الموسوعة الكاثوليكية تحت عنوان إكليمندس في وقته أن وجود الأساقفة كليتوس وأننكليتوس أو أناكليتوس لا وجود حقيقي لهم[40] ...
فكل هذا التضارب في قوائم آباء روما يُثبت أن هذا التاريخ لا يقوم على حجج أو أسانيد , بل كله تخمينات وتخيلات لآباء القرون الأولى , تناقلها الخلف عن السلف بلا تحقيق ولا تمحيص , فخُلِط الحابل بالنابل , ولم يعد هناك من يفرق بين غث من ثمين , ولا صحيح من ضعيف , وصار أمر الدين كله كذلك!!!
خُلاصة الموضوع
رجلُ ورد ذكره في تواريخ الكنيسة , قالت عنه الموسوعات أنه الأب الرسولي الأول , أحد أهم الحلقات التي تربط العصر الرسولي وتعاليم الرسل بآباء الكنيسة في القرون التالية , زادت المعلومات التي يكتبها الآباء عنه تدريجيًا بطريقة تُثير الريبة , فلم يكُن يعرف عنه شيئًا , ثم صار اسمًا لشخص ما , ثم صار هذا الشخص أسقفًا , ثم صار مُلاصقًا مُعاينا للرسل , وجعِل منه صاحب بولس الذي ذكره في رسالته , حتى أن البعض قال أن بُطرس نفسه هو من عينه! .. وبعد البحث والفحص والتدقيق والتمحيص , وجدناه لا يُعرف عنه إلا اسمه , وربما لم يكن له وجود في هذه الدُنيا أصلاً! فحدث خلط لدى آباء القرن الثاني وما بعده بين إكليمندس المذكور في رسالة الراعي , وكاتب رسالة روما إلى كورنثوس , فصار هذا هو ذاك , ولم يكُن لديهم علم بالفارق الزمني الكبير الذي يُكذِّب هذا الزعم , فصار الحديث عن رجل وهمي , مجهول الهوية , وعِند عمل قوائم لأساقفة روما تضاربت الآراء حوله , فهذا يقدمه وهذا يؤخره وهذا يقذف به خارج قائمته! والسؤال الذي يطرح نفسه , هل شخصية كهذه يُمكن أن يحتج بها عاقل على صحة دين وجعلها أحد الحلقات الأساسية في الربط بين العصر الرسولي وعصور الآباء بعد ذلك؟!!
[1]هل آمنت الكنيسة الأولى بأن المسيح هو الله؟ - ص 27
[2]Adv. Her. 3:3:3
[3]Catholic Encyclopedia, Pope Saint Clement I
[4] تاريخ الفكر المسيحي - القس الدكتور حنا الخضري - المجلد الأول - الجزء الثالث - الفصل الثالث - ص 421.
[5]Ibid pp 424 - 425
[6]"Clement I, Saint." Encyclopedia Britannica. Encyclopædia Britannica 2007 Ultimate Reference Suite. Chicago: Encyclopedia Britannica, 2007.
[7]البقرة : 170
[8]دائرة المعارف الكتابية - حرف الألف - أكليمندس
[9]تاريخ الفكر المسيحي - القس الدكتور حنا الخضري - المجلد الأول - الجزء الثالث - الفصل الثالث - ص 421.
[10]Albert Barnes' Notes on the Bible - Notes on Phil 4:3
[11] Elmer Truesdell Merrill, On "Clement of Rome" , The American Journal of Theology, Vol. 22, No. 3. (Jul., 1918), p. 426.
[12] يوسابيوس - تاريخ الكنيسة 3 : 15 , 34
[13]دائرة المعارف الكتابية - حرف الباء - بطرس الرسول
[14]Adv. Her. 3:3:3
[15]http://www.earlychristianwritings.com/shepherd.html
[16]http://www.earlychristianwritings.com/muratorian.html
[17]مأخوذ عن ترجمة بروس متزجر للقائمة الموراتورية , من كتابه The Canon of the New Testament , appendix IV, pp. 305-7
[19]Adv. Her. 3:3:3
[20] شماسة في كنيسة روما مُختصة بأمر الأرامل والأيتام.
[21]Schaff, Philip, ANF02. Fathers of the Second Century, The Pastor of Hermas, Book I, Vis. II, Chap. IV, p. 12 :
[22]Jerome, De viris illustribus 22.
[23] تاريخ الكنيسة - 4/22
[24] يوسابيوس القيصري - تاريخ الكنيسة - 3/16 - ص117 - تعريب القمص مرقس داود - مكتبة المحبة
[25] يوسابيوس القيصري - تاريخ الكنيسة - 4/23/11
[26]Ibid. 10
[27]Adv. Her. 3:3:3
[28]Origen's commentary on the gospel of John, Book iv, Chap 36
[29] تاريخ الكنيسة - 3/15-16
[30] راجع كتاب ضد الهرطقات الكتاب الرابع , الفصل 20 http://www.ccel.org/ccel/schaff/anf01.ix.vi.xxi.html
[31]Metzger, Bruce M. The Canon of the New Testament: Its Origin, Development, and Significance. Clarendon Press. Oxford. 1987. p.134
[32]Ibid
[33]Adv. Her. Op. Cit.
[34]Elmer Truesdell Merrill, Op. Cit., pp. 435-436 بتصرف
[35] بولس وبطرس المؤسسان التقليديان لكنيسة روما بحسب التقليد
[36] يُدعى أيضًا أننكليتوس وأناكليتوس في كتابات ايريناؤس ويوسيبيوس وأوغسطينوس وأوبتاتوس
[37]Catholic Encyclopedia, Pope Saint Cletus
[38]Ibid, Pope St. Clement I
[39]Saint Paul's Epistle to the Philippians. 1913 (J. B. Lightfoot, bp. of Durham, Ed.). Macmillan and co., limited: London.
[40]Elmer Truesdell Merrill, Op. Cit., p. 435
تعليق