رابِعاً : الرد على فرية ابن أبي سرح والنصراني و إثبات ان ما قالهُ ابن أبي سرْح كان محْض افتِراء :
واعلم أن افتراء ابن أبي سرح والكاتب الآخر النصراني على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان يتعلم منهما افتراء ظاهر. وكذلك قوله: "إني لأصرفه كيف شئت، إنه ليأمرني أن أكتب له الشيء فأقول له: أو كذا وكذا؟ فيقول: نعم" فهذه فرية ظاهرة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يُكْتِبه إلا ما أنزله الله، ولا يأمره أن يُثْبتَ قرآناً إلا ما أوحاه الله [إليه]، و لا ينصرف له كيف شاء، بل يتصرف كما يشاء الله. وكذلك قوله: "إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إليَّ كما يوحى إلى محمد، وإن محمداً إذا كان يتعلم مني فإني سأنزل مثل ما أنزل [الله] فرية ظاهرة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يُكتبه ما شاء و لا كان يُوحى إليه شيء. [1]
الأدِلّة على أن ابن أبي سرْح والنصراني قد افتريا على الله الكذِب :
1- الدليل الأول : أن النصراني وابن أبي سرح حين افتريا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كُلّه لم يحدُث أي ردة جماعية نتاجاً لهذا الأمر , خاصة وأن الوحي كان عياناً بياناً بين المُسلِمين , ولو ظهر أي قدح جلي طعن في نُبُوّتِهِ صلى الله عليْهِ وسلم لكان ذلِك مُعوِّلاً لافتِضاح أمره وانتِهاء نُبُوّتِهِ , واشتِهار الرِّدة بين الناس
2- الدليل الثاني : لو أنهما هما من كانا يكتُبان الوحي بإملائِهِما .. فلِما لم يتوقّف الوحي على رسول الله برِدّتِهِما , ولما لم يرتد إثْر ذلِك المُسلِمون من الأنصار و المهاجِرة ؟!!....
3- الدليل الثالِث : لو كان ابن أبي سرْح صادِقاً , لكان أولى الناس بتصديقِهِ هو أخوه وهب بن سعد بن أبي سرْح , بل إنه هاجر من مكة إلى المدينة , و شهِد أحدا والخندق والحديبية وخيبر وقتل يوم مؤتة شهيدا في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان يوم قُتِل بن أربعين سنة. [2]
4- الدليل الرابِع : افتِرائه حين يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له ... وهذا كاف لإنهاء الشُبْهة أصلاً , لأن :
1- الدليل الأول : أن النصراني وابن أبي سرح حين افتريا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كُلّه لم يحدُث أي ردة جماعية نتاجاً لهذا الأمر , خاصة وأن الوحي كان عياناً بياناً بين المُسلِمين , ولو ظهر أي قدح جلي طعن في نُبُوّتِهِ صلى الله عليْهِ وسلم لكان ذلِك مُعوِّلاً لافتِضاح أمره وانتِهاء نُبُوّتِهِ , واشتِهار الرِّدة بين الناس
2- الدليل الثاني : لو أنهما هما من كانا يكتُبان الوحي بإملائِهِما .. فلِما لم يتوقّف الوحي على رسول الله برِدّتِهِما , ولما لم يرتد إثْر ذلِك المُسلِمون من الأنصار و المهاجِرة ؟!!....
3- الدليل الثالِث : لو كان ابن أبي سرْح صادِقاً , لكان أولى الناس بتصديقِهِ هو أخوه وهب بن سعد بن أبي سرْح , بل إنه هاجر من مكة إلى المدينة , و شهِد أحدا والخندق والحديبية وخيبر وقتل يوم مؤتة شهيدا في جمادى الأولى سنة ثمان من الهجرة، وكان يوم قُتِل بن أربعين سنة. [2]
4- الدليل الرابِع : افتِرائه حين يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له ... وهذا كاف لإنهاء الشُبْهة أصلاً , لأن :
1- الأصل في القرآن هو الحِفظ في الصدور , فأمة مُحمّد ليس كغيْرِهِم من الأمم بل أناجيلُهُم في صُدورِهِم , وكِتابُهُم لا يغْسِلُهُ الماء ... لأنه منقول شِفاهاً و حِفظاً في الصدور , ولأن المُعوّل عليْه هو المنطوق و المحفوظ في الصدر , وليس المكتوب المحفوظ في الكُتُب . وهكذا ينتقِل القرآن من صدر الحافِظ المُتقِن لمن يخلُفُه من الحفظة المُتقِنين . ولِذا فلو ضاعت كل المصاحِفِ وكُل الكِتابات وفُقِدت أو تلاعب بها أحد مهما فعل , يظل القرآن الكريم باقٍ لا يضيع , يقول الإمام العلامة ابن الجزري[3] رحِمهُ الله:
" إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور لا على حفظ المصاحف والكتب وهذه أشرف خصيصة منّ الله تعالى لهذه الأمة ففي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"إن ربي قال لي قم من قريش فانذرهم فقلت له رب إذاً يثلغوا[4] رأسي حتى يدعوه خبزة فقال : إني مبتليك ومبتلٍ بك ومُنْزِلٌ عليك كِتاباً لا يغسله الماء تقْرؤه نائماً ويقظان فابعث جنداً أبعث مثلهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق ينفق عليك"[5].[6]
وهكذا فقد شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد من أهل الْملل قبلهم ، فأخبر تعالى أن القرآن محفوظ في صدورِهِم لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤوه في كل حال كما جاء في نعت أمته عن وهب بن منبه [7]"أناجيلهم في صدورهم" [8] . وذلك بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه لا في الكتب ولا يقرؤونه كله إلا نظراً - من الصُحُف والأوراق المخطوطة - لا عن ظهر قلب.[9]
و قد حصل في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث حفظ القرآنَ الكريمَ عن ظهر قلبٍ النبيُّ صلى الله عليه وسلم , وجمعٌ من أصحابه ، وحفِظوه جميعاً بالسماع وليس من المكتوب .. وهذا أمر قد ضمنه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى :"إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ"[10]. , و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِه تعالى " لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ! إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ "[11]، قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ.[12] كل هؤلاء تلقوا القرآن الكريم بالسماع و الحِفظ في الصدور وليس بالكتابة والتأليف في الأوراق.
وراجِع في ذلِك هذا الرابِط :
2- و لأن الله عزّ وجل وعد رسوله بأن يُقْرِئه القرآن فلا ينساه , قال تعالى "سنُقْرِئُك فَلا تنْسَى"
3- ولأن الله عزّ وجل هباه بعرض القرآن عليْه كل عام ليطمئِن به , ولينسخ ما نُسِخ منه , فكانت العُرضة كل عام إلى أن كان عام وفاتِه عرض جبريل عليْهِ القرآن مرّتيْن . فلو أن كاتِباً أخطأ أو كتب غير ما أمْلي له فإن ذلِك لا علاقة له بالوحي الذي يُنقل سماعاً وشفاهاً ويُعارِضه جبريل بِهِ و يُلقيه على صدْرِه صلى الله عليْه وسلم شفاهاً من لدُن عزيز حكيم.
وقد كُتِبت المصاحِف على العُرضة الأخيرة ولم تُكتب على ما كتبه ابن أبي سرْح او غيرُهُ من الكتبة فالحاكِم و الشاهِد على المكتوب هو المحفوظ وليس العكس :
" قال أبو عبد الرحمن السلمى (13) كانت قراءة أبى بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت والمهاجرين والأنصار واحدة كانوا يقرءون القراءة العامة وهى القراءة التى قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم العُرضة الأخيرة على جبريل مرتين في العام الذى قبض فيه وكان زيد قد شهد العُرضة الأخيرة وكان يقرئ الناس بها حتى مات ولذلك اعتمده الصِّدِّيق في جمعه وولاه عثمان كتابة المصحف " (14)
4- و إن غيّر في المكتوب فكيْف يُغيِّر مافي الصدور خاصة وأن النبي صلى الله عليْهِ وسلّم كان يُقرِِء صحابتَهُ القرآن شِفاهاً ؟!!...وهم بِدورِهِم تواتر الإقراء بينهم ... فكانوا يُحفِّظون ويٌقرِئون بعضهم شِفاهاً , وسماعاً , وهكذا انتقل الوحي بينهم شِفاهاً و بالتواتُر , فكيف يؤثِّر ماكتبهُ ابن أبي سرْح في شيء إن كان سرعان ما ينتقِل من فم الرسول صلى الله عليْهِ وسلم إلى صدورِهِم وهو لم يُقْرِئْهُم قط من المكتوب ؟!!!.... بل كان يُقرِئُهُم جماعات بحيث يتواتر بينهم الوحي , فلا يكون هناك مجال للتواطؤ جميعاً على التأليف والكذِب فيه ... و التواتر هو ما تلقاه الجماعة عن الجماعة , بمال يستحيل معه تواطؤهُم على الكذِب .. فكانوا يتلقون الوحي من فم رسول الله ثم يُعلِّمون إخوانهم من المُسلِمين الجُدد تماما كما أخذوه من الرسول وليس كما هو مكتوب في الرق والعسب و اللخاف ..!!
وهكذا فكان الرجُل يتعلم القرآن على يد المُسلِمين ولم يُشترط أن يتعلّم على يد كاتِب ...!! , وكان صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم يحرص أن يتعلم كل من التحق بدار الإسلام بالْمدينة القرآن، فكان يختار لهم من يعلِّمهم: فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم يُشْغَلُ، فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّم دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ.[15]
إذاً فلم يتأتى الحِفظ و يُضمن صِحّتُه إلا بالتواتر: وأمر الله النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: {يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك}[16] ، أما البلاغ العام فإنما هو بالتواتر[17] وقد حصل. ولذلك وجب على الأمة أن تحفظه فى عدد التواتر على الأقل فى مجموعها، وضمن الله تعالى تحقق ذلك حيث قال: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[18]. وقد أجمعت الأمة على أن المراد بقوله تعالى: لحافظون. أى حفظه على المكلفين للعمل به ، وحراسته من وجوه الغلط والخلط [19]، وهذا الحفظ إنما يتحقق بالتواتر [20] ولا حصر للأدلة الدالة على أن القرآن جمع بهذا المعنى، وعلى هذا المستوى[21].
و شتان ما بين التواتر القرآني و التواتر في الحديث :
وتواتر القرآن الكريم كان بالتلقى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم و يتميز عن غيره من أنواع التواتر بأنه تواتر باللفظ وكيفية الأداء والنطق بالكلمة والحرف على الهيئة المروية من ترقيق وتفخيم, وأما التواتر في الحديث فيكون باللفظ والمعنى دون ما ذكرنا من كيفية الأداء ومخرج الحرف وصفته... فأخذ الصحابة عن رسول الله صلى الله عليْه وسلّم كيف ينطِقون الحرف وكيف يؤدونه وكيف يمدونه وكيفية تجويده من إدغام وإخفاء ومد وإمالة وغيرها وهذا ما يستحيل ان يُظْهِره المكتوب , ولا يتأتى إلا بالسماع فقط ....
6- ثم إن قوْله : ما يدري محمد إلا ما كتبتُ له ... نقول أنه كاف لإنهاء الشُبْهة أصلاً , لأن رسول الله صلّى الله عليْهِ وسلّم كان يُراجع مع الكتبة ما كتبوه ... فيُقوِّم ما أخطئوا فيه , ولِذا فلو كان رسول الله لا يدْري ما كتبوا لما راجع ولما قوّم ما أخطئتْهُ أيْديهِم !!! .. ودليلُنا في ذلِك .. ما قد ورد عن زيد بن ثابت انه قال كنت اكتب الوحى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يملى على فإذا فرغت قال اقرأه فأقرؤه فان كان فيه سقط أقامه.[22]
5- الدليل الخامِس : لنُمسِك بيدِنا ما قد جاء في الرواية الثامِنة عشر وفيها , "..... فارتد مشركاً راجعاً إلى قريش، فقال: والله إني لأصرفه حيث أريد، إنه ليملي عليَّ فأقول: أو كذا أو كذا؟ فيقول: نعم، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يملي عليه فيقول: "عزيز حكيم" أو "حكيم عليم"، [فكان] يكتبها على أحد الحرفين، فيقول: "كلٌّ صواب".
وهنا نأتي على بُطلان شُبهتِهِ تماماً بِحوْل الله تعالى , فإن علِمنا أن القرآن أنْزِل على سبعةِ أحرُف [23] , وعلِمنا أن النبي رخّص لِأمّتِهِ أن يقرأوا بما تيسّر لهم تيسيراً من الله عليْهِم , وإن عرفنا أن الرسول صلى الله عليْهِ وسلّم قبل العُرضة الأخيرة وقبل أن تنْسخ هذه العُرضة من القرآن كان قد رخّص للامة القِراءة بما تيسّر لهم فجاء في مُسند أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أًَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، إِن قُلْتَ: عَزِيز حَكِيم أو غَفُور رَحِيم فَهُوَ كَذَلِكَ، مَا لَم يُخْتَمْ آيةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ أَوْ آيةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ" ( الحديث صحيح على شرط الشيخين ).[24] , فظهر مِن هذه الرِواية هو أن هذا كان ترخيص من الله عز وجلّ لأمة محمد تخفيفاً عليْهِم كما جاء في الحديث الصحيح : ثم نُسِخ بعْد ذلِك بالعُرضة الأخيرة , ولكِن أبن أبي سرْح حين عاد إلى قوْمِهِ نسب إلى نفْسِهِ ما أثبته الرسول , وادّعى كذِباً أنه يُغيِّر ما يحلو له ... وسنُثبِت مِن كلِماتِه بُطلان ذلِك أيضاً بعد قليل في الدليل السادِس .
ومما سبق بيان واضِح جلي أن كلا الحرفين عزيز حكيم أو غفور رحيم كان قد نزل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأهما ولِذا فحتى قولُه أن النبي كان يقول له: "اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ مِنْ هَذَينِ الحَرْفَينِ فَكُلٌّ صَوَاب" , فيه دليل على أنه لم يؤلِّف شيئاً مِن عِندِه وأنه كان رُخصة من رسول الله صلى الله عليْهِ وسلم لهم في أول الأمر , إلى أن نُسِخت فيما بعد , وهذا كان من رحمة الله بِأمّتِهِ في بدء الإسلام , فقد جاء في الحديث الصحيح في سُنن الترمذي عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمْ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ "[25]
وهنا نأتي على بُطلان شُبهتِهِ تماماً بِحوْل الله تعالى , فإن علِمنا أن القرآن أنْزِل على سبعةِ أحرُف [23] , وعلِمنا أن النبي رخّص لِأمّتِهِ أن يقرأوا بما تيسّر لهم تيسيراً من الله عليْهِم , وإن عرفنا أن الرسول صلى الله عليْهِ وسلّم قبل العُرضة الأخيرة وقبل أن تنْسخ هذه العُرضة من القرآن كان قد رخّص للامة القِراءة بما تيسّر لهم فجاء في مُسند أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أُنْزِلَ القُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أًَحْرُفٍ، كُلُّهَا شَافٍ كَافٍ، إِن قُلْتَ: عَزِيز حَكِيم أو غَفُور رَحِيم فَهُوَ كَذَلِكَ، مَا لَم يُخْتَمْ آيةُ رَحْمَةٍ بِعَذَابٍ أَوْ آيةُ عَذَابٍ بِرَحْمَةٍ" ( الحديث صحيح على شرط الشيخين ).[24] , فظهر مِن هذه الرِواية هو أن هذا كان ترخيص من الله عز وجلّ لأمة محمد تخفيفاً عليْهِم كما جاء في الحديث الصحيح : ثم نُسِخ بعْد ذلِك بالعُرضة الأخيرة , ولكِن أبن أبي سرْح حين عاد إلى قوْمِهِ نسب إلى نفْسِهِ ما أثبته الرسول , وادّعى كذِباً أنه يُغيِّر ما يحلو له ... وسنُثبِت مِن كلِماتِه بُطلان ذلِك أيضاً بعد قليل في الدليل السادِس .
ومما سبق بيان واضِح جلي أن كلا الحرفين عزيز حكيم أو غفور رحيم كان قد نزل، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأهما ولِذا فحتى قولُه أن النبي كان يقول له: "اكْتُبْ كَيْفَ شِئْتَ مِنْ هَذَينِ الحَرْفَينِ فَكُلٌّ صَوَاب" , فيه دليل على أنه لم يؤلِّف شيئاً مِن عِندِه وأنه كان رُخصة من رسول الله صلى الله عليْهِ وسلم لهم في أول الأمر , إلى أن نُسِخت فيما بعد , وهذا كان من رحمة الله بِأمّتِهِ في بدء الإسلام , فقد جاء في الحديث الصحيح في سُنن الترمذي عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ فَقَالَ يَا جِبْرِيلُ إِنِّي بُعِثْتُ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيِّينَ مِنْهُمْ الْعَجُوزُ وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ وَالرَّجُلُ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ كِتَابًا قَطُّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ "[25]
والأحاديث في ذلك منتشرة تدلُّ على أن من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن أن تختم الآية الواحدة بعدة أسماء من أسماء الله على سبيل البدل يُخَيَّر القارئ في القراءة بأيهما شاء، ولو صحّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُخَيِّرُه أن يكتب ما شاء من تلك الحروف فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نعم كلاهما سواء"؛ فهذا لا يعني إلا أن الآية نزلت بالحرفين كما أوضحناه أعلاه ، وربما كتب هو أحد الحرفين المُنزّلَيْن ثم قرأه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقرَّه عليه؛ لأنه مُنزّل و قد نزل كذلك أيضاً، وخَتْمُ الآي بمثل: { سميع عليم } و { عليم حكيم } و { غفور رحيم } أو بمثل: { سميع بصير } أو { عليم حكيم } أو { عليم حليم } كثيٌر في القرآن، وكان نزول الآية على عدة من هذه الحروف أمراً معتاداً , وأثبتنا أن الرسول صرّح بالتيسير فيهم للأمة في أول الأمر , ثم إن الله نسخ بعض تلك الحروف لما كان جبريل يُعارض النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن في كل رمضان... ثم أخيراً
في العرضة الأخيرة وكانت العرضة الأخيرة هي حرف زيد بن ثابت الذي يقرأ الناس به اليوم، وهو الذي جَمَع عثمانُ والصحابة رضي الله عنهم أجمعين عليه الناس...[26]
وهكذا تبيّن مما سبق أن عبدالله بن أبي سرْح زوّر في حقيقة الترخيص الإ‘لهي , وحين عاد إلى قوْمِه ادّعى لِنفسِهِ ما ليس له , وزعم أنه هو من يُغيِّر وكيفما أراد ... وهكذا استغل حاجة النبي صلى الله عليْهِ وسلّم إلى من يكتب له لقلة الكُتَّاب في الصحابة، وعدم حضور الكُتاب منهم في وقت الحاجة إليهم، و قد كان الغالب على العرب الأمية حتى إن كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد، وكان أحدهم إذا أراد [كتابة وثيقة أو كتاب] وجد مشقة حتى يحصل له كاتب، فإذا اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يكتب انتهز الفرصة في كتابته، فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه.
وليس أدل على ذلِك من أن ابن عباس ذكر هذه القصة عن عبدالله بن أبي سرْح في الناسخ والمنسوخ، وكذلك ذكرها الإمام أحمد في كتابه في "الناسخ والمنسوخ"، لتضمنها نسخ بعض الحروف، وروي فيها وجه آخر رواه الإمام أحمد في "الناسخ والمنسوخ"[27] :
حدثنا مسكين بن بُكير ثنا مُعان قال: وسمعت أبا خلفٍ يقول: كان ابن أبي سرح كتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - القرآن، فكان ربما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن خواتم الآي { تعملون } و { تفعلون } ونحو ذا، فيقول له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكْتُبْ أَيُّ ذَلِكَ شِئْتَ" قال: فيوفِّقه الله للصواب من ذلك، فأتى أهل مكة مرتداً، فقالوا: يا ابن أبي سرح كيف كنت تكتب لابن أبي كبشة القرآن؟ قال : اكتبه كيف شئتُ، قال: فأنزل الله في ذلك: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أوْ قَالَ أُوْحِيَ إلَيَّ وَلَمْ يُوْحَ إلَيْه شَيء } الآية كلها.قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: "مَن أَخَذَ ابْنَ أَبِي سَرْحٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ حَيْثُمَا وُجِد، وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِقاً بِأَسْتَارِ الكَعْبَةِ".
ففي هذا الأثر دليل أنه كان يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حرفين كِلاهما صحيح ومُنزّل مِن عِنْد الله , وأنه كان يُخايِر بينهما وكِلاهُما صحيح جائِز ....ولِذا فكان صلى الله عليْهِ وسلّم يقول له: "اكْتُبْ أَيَّ ذَلِكَ شِئْتَ" فيوفقه الله للصواب، فيكتب أحب الحرفين إلى الله، إن كان كلاهما منزلاً، أو يكتب ما أنزله الله فقط إن لم يكن الآخر مُنْزَلاً، وكان هذا التخيير من النبي - صلى الله عليه وسلم - توسعةً لأن الله قد أنزلهما.[28]
وهكذا تبيّن مما سبق أن عبدالله بن أبي سرْح زوّر في حقيقة الترخيص الإ‘لهي , وحين عاد إلى قوْمِه ادّعى لِنفسِهِ ما ليس له , وزعم أنه هو من يُغيِّر وكيفما أراد ... وهكذا استغل حاجة النبي صلى الله عليْهِ وسلّم إلى من يكتب له لقلة الكُتَّاب في الصحابة، وعدم حضور الكُتاب منهم في وقت الحاجة إليهم، و قد كان الغالب على العرب الأمية حتى إن كان الجو العظيم يطلب فيه كاتب فلا يوجد، وكان أحدهم إذا أراد [كتابة وثيقة أو كتاب] وجد مشقة حتى يحصل له كاتب، فإذا اتفق للنبي - صلى الله عليه وسلم - من يكتب انتهز الفرصة في كتابته، فإذا زاد كاتب أو نقص تركه لحرصه على كتابة ما يمليه.
و الآن ننتقِل إلى الدليل السادِس ... وهو إثبات أن ما قاله ابن أبي سرْح كان محْض افتِراء :
أولاً : تقدم عنه أنه قال لعثمان قبل أن يقدم به على النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن جرمي اعظم الجرم، وقد جئت تائباً"، كما جاء في الرواية الحادية والعِشرون أعلاه.... وهذا اعتِراف صريح مِنه بانه أجرم ولم يكُن على حق فيما ادّعاه ... ولا نحتاج لأكثر مِن ذلِك ...!!
ثانياً : كذلك فبعد إسلاِمه و عفو الرسول عنه , فإنه كان يفِر منه حتى لا يراه الرسول , ونتسائل هل لو كان على صواب فيما ادّعاه , هل كان ليفر من رسول الله؟!!... أم كان ليظهر أمامه ويكفيه أن يراه الرسول من باب التبكيت ؟!!... بل إنه كان يتخفّى من جُرم كذِبِه على الرسول و وحي الله ... لقد قال عثمان لرسول الله : إنه يفر منك كلما رآك، فقال صلى الله عليْهِ وسلّم : "ألَمْ أُبَايِعْهُ و أُومِنْهُ؟" قال: بلى، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام، فقال: "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ"
____________________
[1]ابن تيمية الصارم المسلول
[2]الطبقات الكُبرى 3/407 .
ثانياً : كذلك فبعد إسلاِمه و عفو الرسول عنه , فإنه كان يفِر منه حتى لا يراه الرسول , ونتسائل هل لو كان على صواب فيما ادّعاه , هل كان ليفر من رسول الله؟!!... أم كان ليظهر أمامه ويكفيه أن يراه الرسول من باب التبكيت ؟!!... بل إنه كان يتخفّى من جُرم كذِبِه على الرسول و وحي الله ... لقد قال عثمان لرسول الله : إنه يفر منك كلما رآك، فقال صلى الله عليْهِ وسلّم : "ألَمْ أُبَايِعْهُ و أُومِنْهُ؟" قال: بلى، ولكنه يتذكر عظيم جرمه في الإسلام، فقال: "الإِسْلاَمُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ"
____________________
[1]ابن تيمية الصارم المسلول
[2]الطبقات الكُبرى 3/407 .
[3] محمد بن محمد بن محمد ، شمس الدين الدين أبو الخير ، المعروف بابن الجزري، الدمشقي ، علم من أعلام القراء، ولد ونشأ في دمشق سنة : 751هـ، من أشهر مؤلفاته: النشر في القراءات العشر، غاية النهاية في طبقات القراء، منظومة الطبية في القراءات العشر، والدرة المضيئة في القراءات الثلاث، المقدمة الجزرية في التجويد، و منجد المقرئين , توفي في شيراز من مدن إيران الحالية عام 833ه ، غاية النهاية : 2 / 247، الأعلام: 7 / 45.
[4] أي يشدخوه ويشجوه كما يشدخ الخبز أي يكسر، شرح النووي على مسلم 17 / 198، والنهاية في غريب الحديث 1 / 220 .
[5] صحيح مُسلِم , كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة والنار ,4/1741.
[6] النشر في القراءات العشر , لابن الجزري 1/ 6.
[7] تابعي ثقة، ولد سنة 34 هـ، وأخذ عن ابن عباس وابن عمر وأبي سعيد وغيرهم من الصحابة، كان إخباريًّا قصاصًا، غزير العلم بالإسرائليات وصحائف أهل الكتاب، ومن الْمشهورين بالعبادة والوعظ، تولي قضاء صنعاء. توفي سنة 110 هـ، وقيل سنة 113 هـ، وقيل سنة 114 هـ. سير أعلام النبلاء (4/544)، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/150).
[8] رواه البيهقي في دلائل النبوة باب صفة رسول اللهفي التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب، وصفة أمته (1/379).
[9]مجموع الفتاوى لابن تيمية 13/ 400 , 4/421, النشر 1/6.
[10]القيامة:17.
[11] الآيتان 16،17 من سورة القيامة.
[12] رواه البخاري في صحيحه: كتاب بدء الوحي، باب 4، صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري (1/39) ح 5.
[13]
[14] البرهان في علوم القرآن 1/237
[15]رواه أحمد في مسنده باقي مسند الأنصار (6/443) ح 22260.
[16] المائدة:67
[17] البرهان الزركشى 2 /135 مطبعة دار المعرفة بدون تاريخ.
[18] الحجر:9.
[19] البرهان الزركشى 2 /135 مطبعة دار المعرفة بدون تاريخ.
[20] التواتر لغة :هو اسم فاعل مشتق من التواتر ـ أي التتابع ـ تقول تواتر المطر أي تتابع نزوله . ,و اصطلاحا:ما رواه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم علي الكذب ." " تيسير مصطلح الحديث", د/ محمود الطحان, في تعريف التواتر صـ 19 .. وقال صاحب كتاب المختصر في علم الحديث :"والخبر المتواتر: ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطأهم على الكذب، ويدوم هذا فيكون أوله كآخره، ووسطه كطرفيه، كالقرآن، وكالصلوات الخمس." صـ1
[21] القراءات (دراسات فيها وتحقيقات). د/عبد الغفور مصطفى.
[22] مجمع الزوائد 1: 152.
[23] الأحرف السبعة ما كانت إلا للتيسير على الامة , فقد جاء في الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه ) متفق عليه وهذا لفظ البخاري عن عمر , و عليْهِ فإن القراءة بالأحرف السبعة ليست واجبة، ولو أوجب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الأمة القراءة بها جميعًا لوجب نقل كل حرف منها نقلًا متواترًا تقوم به الحجة ولكنهم لم يفعلوا ذلك فدل هذا على أن القراءة بها من باب الرخصة. وأن الواجب هو تواتر النقل ببعض هذه الأحرف السبعة. وهذا هو ما كان...[24] الحديث صحيح على شرط الشيخين , مسند أحمد تحقيق شعيب الأرناؤوط 5/124 (21187).
[25] سنن الترمذي 5/ 194 , 2944 و رواه أحمد وأبو داود والترمذي والطبري بإسناد صحيح،
[26] ابن تيمية الصارم المسلول مع إعادة الصياغة.
[27] نفسه
[28] نفسه
تعليق