مدينة القدس
القدس في حقيقتها و"شخصيتها" التاريخية والدينية هي هويةالمكان من حولها والنقطة التي تنتشر منها البركة فتزداد أهميةُ ما حولها بها يقول سبحانه وتعالى:
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنَاإِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير) سورة الإسراء: 1 ..
ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس...
القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقع وعاصمة، فهي ليست برلين يمكن أن تحل محلها بون في الضمير الألماني وهي ليست إستانبول يمكن أن تحل محلها أنقرة في الضمير التركي، ولكنها القدس بغير بديل.
ومن ثم فهناك اصطلاحات ومفاهيم ذات أهمية تعلق بالمدينة المباركة فيها بعض اللبس المحتاج إلى إيضاح وبيان :
أولاً: القدس في الفكر الإسلامي
كانت القدس هي أولى القبلتين، معنى ذلك أن الإسلام ليس دينا مفصولا عن سائر الأديان التي سبقته وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصلاته بالأنبياء قبله في المسجد الأقصى إماما، دلالة على أنه هو النبي الخاتم وأن دينه هو الدين الخاتم وأن كل الأديان السماوية والتي أنزلت من السماء من أجل هداية البشرية إنما قد ارتكزت على قاعدة واحدة ألا وهي التوحيد لله سبحانه وتعالي .
القدس كانت معبراً للأنبياء ومرتعاً لهم ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توجه إليها في بداية الدعوة بأمر من الله جل علاه ، وكان بهذا التوجه يرمز إلى أن جوهر الدين الإسلامي الذي يتنزل على قلب النبي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو نفسه الجوهر الذي نزل على موسى وعيسى عليهما السلام من قبل .
إن الارتقاء والارتكاز إلى قاعدة التوحيد تؤكد على انصهار هذه الأديان في بوتقة واحدة وأن مصدرها واحد وهو الله جل علاه .
وبقيت القدس هي القبلة للمسلمين حتى بدأ عصر التشريع ، وبدأت الأحكام الإسلامية تتنزل لتوضح الحلال والحرام والواجب والفرض والمباح والمكروه والمندوب الخ ، وبدأ التمايز بين الإسلام وبين ما سبقه من أديان .
ذلك بأن الأديان التي سبقت الإسلام قد بينت العقيدة التوحيدية وجاء الإسلام ليبلور هذه العقيدة وليكشف عن أعماقها وأبعادها وحقائقها كاملة وليضيف إليها التشريع الذي يصلح إليها في هذه الحياة ..
هذا التمايز اقتضى أن تتحول القبلة من القدس الشريف إلى مكة المكرمة وكان بداية التمايز وتبلور الإسلام كشريعة للحياة الفردية والاجتماعية والسياسية .
والقدس ليست موقعاً جغرافياً، ولم تكن القدس يوما ما مدينة صناعية أو سياحية منافسة للمدن السياحية أو الصناعية الأخرى، كما أنها ليست غنية بالمعادن والثروات سواء النفيسة منها أو البترولية رأينا العالم كله وقف وقفة واحدة ضد العراق في حربـها مع الكويت، فهل مكانة القدس بالنسبة للعالم مثلها مثل الكويت ؟..
الأمر مختلف تماماً، فالقدس مدينة زراعية وليست لها الموقع الجغرافي الذي تحظى به باقي المدن والدول، فما هي قيمة القدس في المفهوم اليهودي الإسلامي ؟..
إن قيمتها تتمثل في البعد الإلهي للمدينة، هذا البعد هو الذي جعلها محوراً وملتقى للأديان ومعبراً لهم في المنطقة .
إن القدس أرض مباركة فيها وحولها، فموقع القدس، وحضارة القدس والبعد الإلهي للقدس هو الذي أعطاها تلك القيمة العظيمة .
إن القدس دمرت تاريخياً 18 مرة وأعيد بناؤها، ولعل قداستها هي التي أملت على القانطين فيها وسكانها إعادة البناء ..
والقدس تاريخيا سميت أيضاً بالمدينة " الوازنة " لأنها هي التي تزن بثقلها الحضاري وبمعناها السياسي والفكري والمعنوي والاستراتيجي كل ما حولها . فبثقل هذا الميزان يتساوى معه ثقل المحيط كله، لذلك كانت حالة القدس ووضعها هي المؤشر إلى حالة الأمة ووضعها فمن خلال كل فترات التاريخ عندما كانت القدس موحدة وبيد المسلمين ، كانت الأمة موحدة ومتماسكة وقوية وتمتلك زمام المبادرة.
ولكن عندما كانت القدس مهددة كانت الأمة منقسمة على ذاتها متشرذمة ضعيفة، وهذه سمة من سمات القدس الشريف، حتى الآن في الميزان الدولي والإقليمي نجد أن السيطرة على القدس هو السيطرة على المنطقة، فمن بيده القدس بيده مفاتيح كل المنطقة.
ولذلك كانت الغزوة الصهيونية للقدس لا تستهدف المفتاح فحسب وإنما تستهدف كل العالم العربي والإسلامي التي تمنحه القدس عنوانها ورمزيتها ، فأن يسرى بخاتم الأنبياء صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القدس إن في ذلك تصريح الدلالة على كونها المحور والملتقى وغاية المسار الأرضي، وأن يعرج به صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء, فيه ما يشبه القطع على أنها البوابة إلى السماء، وأن يصلي بالأنبياء إماماً وهو حي بقانون الأحياء وهم موتى بقانون الأموات فيه دلالة على أنها المدخل إلى العوالم الأخرى، كأن في القدس وعندها جسر التواصل بين عالمين بين عالم الغيب وعالم الشهادة, فالقدس هي خط التماس بين هذين العالمين وهي ملتقى التداخل ومحل التقاطع بين هذين العالمين، بل لعل القدس هي بمعراج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَمنها وبإسرائه إليها يؤكد أنها بضعة من الأرض وبضعة من السماء .
المسلم يبدأ من مكة ولكن إذا لم ينته في القدس لا يكون قد أنجز وأتم.
والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الإسراء1.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن بداية الدعوة إلى الله تعالى.. انطلقت من مكة المكرمة..
ونهايتها سوف تكون من القدس الشريف وذلك في النزول الثاني للسيد المسيح بعد قتال اليهود وكسره للصليب وزوال إسرائيل بمشيئة الله تعالى..
هذه هي القدس في فكرنا وفي مفاهيمنا، وهكذا يجب أن ننظر إليها, وهكذا تفرض القدس نفسها بكل القداسة وبكل الموضوعية لتكون هي المؤشر على واقع حال الأمة في صراعها مع الذين يريدون السيطرة على القدس والدخول منها في السيطرة على عالمنا الإسلامي .
إن عقل الأمة ووعيها وضميرها ومشاعرها وذهنها ما لم يستحضر القدس فإن هذا العقل والوعي يبقى ناقصاً، وإذا كانت هجمة الاستكبار والغزوة الصهيونية قد استهدفت السيطرة على فلسطين واقتلاع وعي الأمة لذاتها ولتراثها ولدينها، فإن استحضار القدس في كل عام، بل في كل لحظة من كل عام هو استحضار لهذا الوعي بكاملة واستحضار لهذا التاريخ واستحضار للأهداف أيضاً التي ينبغي أن تعيشها هذه الأمة .
ويهدف الاحتلال الصهيوني للقدس إلى العمل على هزيمة هذه الأمة وانقسامها وتفتيت الكيانات الإقليمية التي تصدعت وتشرذمت ولا يعنيه بعد ذلك ما تؤول إليه النتائج، المهم هو تغيير معالم القدس..
وفي الصفحات القادمة من هذه الدراسة سوف نبين كيف تم التغيير وكيف أن العدو الصهيوني قد نجح بالفعل في تغيير هوية القدس إذ أن سيطرة العدو الإسرائيلي على القدس هو مؤشر جيد وممتاز للسيطرة على كل العالم الإسلامي، أما استعادة القدس لملاكها الحقيقيين وهم العرب والمسلمون فمعناه بداية الهجمة المضادة للمسلمين ضد هذه الغزوة الصهيونية المدعومة من الاستكبار العالمي .
إن النهوض من أجل استعادة القدس من براثن هذه الغزوة الاستكبارية والصهيونية إنما هو مؤشر على حياة هذه الأمة الإسلامية واستعادة وحدتها وقدراتها، ومن هنا نفهم حجم الإصرار الأمريكي على رعاية التسوية التي تنتهي مآلها إلى تضييع القدس والمقدسات .
وليس صدفة أن تكون القدس هي آخر الموضوعات التي يفاوضون عليها.. ففي كل المسارات التفاوضية اللبنانية والسورية والأردنية والمصرية، كان المسار التفاوضي يسير في مسار واحد وفي مرحلة واحدة، إلا المسار الفلسطيني فوفق عملية مدريد للتسوية كان المسار التفاوضي يسير على مرحلتين الأولى مرحلة الحكم الذاتي وسموها المرحلة الانتقالية والثانية مرحلة تقرير الوضع النهائي وفي آخر المرحلة الثانية تطرح قضية القدس ومصير القدس .. لماذا؟..
لأن التآمر على القدس يقتضي جملة وعدد كبير من المقدمات وتغيير الوقائع والمعطيات حتى يسقط ما في أيدينا وتصبح القدس في أيدي بني صهيون ودون أن يتمكن أي مفاوض من أن يستنفذ شيئا منها .
في المرحلة التفاوضية الثانية، ووفق عملية مدريد حاول العدو الصهيوني أن يستنفد ما في وسعه من أجل أن يلغي كل المعالم الإسلامية من مدينة القدس، وربما كانت الأمور ستصل إلى حد الاستغناء عن القدس وذلك بحي أو حيين هما حي "العزارية " و" أبوديس " يستقطعان ويسميان بعاصمة الدولة الفلسطينية، ويوهم المفاوض الأمريكي والصهيوني العالم الإسلامي والشعب الفلسطيني أن هذين الحيين هما القدس وتنتهي المسألة وهنا كانت المفاوضات على وشك الانتهاء من الحل النهائي، ولكن للأسف الشديد, كانت زيارة " شارون" للمسجد الأقصى بمثابة إعلان لكل الفلسطينيين والمسلمين داخل فلسطين وخارجها ولكل العرب والعالم كله أنه ليس لكم من هذه المقدسات شيء ، ليس لكم في هذه المدينة حيٌ أو حيًّان، ليس لكم أي شيء، واعتُبِرَ " ايهود باراك " رئيس وزراء إسرائيل الأسبق خائناً وسقط في الانتخابات ونجح " شارون " وأصبح هو – أي شارون – رئيساً للوزراء لأنه لم يفرط في شبر واحد من القدس.
ويرى البعض أن زيارة " أرييل شارون " زعيم حزب الليكود الإسرائيلي إلى ساحة المسجد الأقصى في أواخر شهر سبتمبر 2000 ما هي إلا عمل سياسي محض كان يرمي من ورائه إحراج " إيهود باراك " رئيس الوزراء وزعيم حزب العمل ووقف المسيرة السلمية وذلك بعد التنازلات الكبيرة التي قدمها باراك وبخاصة في قمة " كامب ديفيد " الأخيرة بصدد مشكلة القدس ( حسب منظورهم ) أي أن الأمر هو خلاف سياسي داخلي بين الأحزاب والهدف منه أغراض سياسية ، لكن بنظرة متفحصة يتبين لنا أن ما سبق ذكره ربما يكون جزءاً صغيراً من الحقيقة وليس الحقيقة كلها، إذ أن هناك وجها آخر للزيارة يتعين الإشارة إليه.
فكما هو معلوم هناك طائفة كبيرة يشكل أتباعها جل القاعدة السياسية العريضة " لآرييل شارون " ، وتعرف هذه الطائفة بـ " أنصار الخلاص" وهم يؤولون سفر الرؤيا ويعتبرون أن " عودة الرب " إلى جبل الهيكل ( حائط البراق ) من أجلهم باتت وشيكة وبأن " إسرائيل " بما فيها " يهودا " و " السامره " ( الضفة الغربية ) تشكل مملكتهم ، وكان اختيار" شارون" للقيـام بهذه الزيارة، وفي هذا التوقيت، تأكيدا لفكرة هذه الطائفة، حيث اعترف هو شخصياً بأن زيارته كانت لتأكيد السيادة الإسرائيلية على جبل الهيكل وزرع العلم الإسرائيلي عليه وقد جاء التوقيت عشية السنة اليهودية الجديدة وهي التي يتم فيها تجديد " عهد الرب " عند أنصار هذه الطائفة .
وينبغي الإشارة إلى أن " إيجال عامير " الذي قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين هو أحد أتباع هذه الطائفة.
وينبئنا التاريخ أن لكل شيء نهاية وليس بعد الاكتمال إلا النقصان. إن الصراع مستمر والحرب آتية لا محالة ، وحتى لو حدثت عمليات تهدئة أو تسويات سياسية، فإنها ستكون مهدئات وعوامل قد تساعد على تأجيل الحرب وليس على إلغائها نهائيا، لأن عوامل نشوبها ستظل قائمة .
ولكن قبل أن نعرض لذلك أحب أن أعرض بعض الحقائق الهامة المطوية في ملف القدس وتبطل الكثير من الحجج التي استندت إليها الصهيونية واتخذتها ذريعة لاحتلال فلسطين إذ أن العالم يكتشف كل عام حقيقة ادعاءات إسرائيل " التوراتية ".
الحديث موصول بإذن الله تعالى.
تعليق