الجليسرين وراء نكبة فلسطين
لما كان اليهود يعيشون في جاليات منغلقة على أنفسهم في أوروبا بسبب ما أصابهم من اضطهاد في المجتمعات المسيحية كان لابد من التفكير في إنشاء دولة تابعة, يسكنها اليهود وتكون عائقاً دون وحدة الشعوب العربية, وتكون عامل امتصاص لقواها, وقد دعم هذه الفكرة أصحاب الملايين من اليهود, هذا بالإضافة إلى الاضطهاد الذي كانت تمارسه الحكومات الأوربية معهم بسبب عزلتهم وقباحتهم ومحاولتهم إثارة الفتن والقلاقل ونشر الفساد في المجتمعات التي يعيشون فيها.
فإذا ما لاحت في الأفق فكرة إيجاد وطن مستقل يجمع اليهود, بادرت الحكومات كلها لمباركة مثل هذا العمل, ليس حباً في اليهود وليس تأكيداً لتميزهم على العالم ـ كما يدعون ـ وإنما كان الباعث الحثيث وراء ذلك هو محاولة تخليص المجتمعات الأوربية منهم, بعد أن فشلوا في إخراجهم من قوقعة الجيتو التي فرضوها على أنفسهم .
فكيف تم ذلك ؟.
1ـ في سنة 1838م قرر البريطانيون تعيين مستشاراً لهم في القدس افتتحوا أول قنصلية لهم في هذه المدينة , وخلال عشرين سنة تقريباً وثقت بريطانيا علاقتها باليهود في فلسطين وكان عددهم حوالي 9700 نسمة كما وثقت علاقتها مع الدروز بلبنان .
2ـ وفي عام 840 م كشف وزير خارجية بريطانيا آنذاك (بالمرستون) في رسالة وجهها إلى السفير البريطاني في القسطنطينية عن طبيعة الوجود اليهودي في فلسطين الأمر الذي جعل السلطان عبد الحميد الثاني يتنبه لخطر التسلل اليهودي إلى فلسطين, وعلى الفور أصدر السلطان أمراً إلى (رءوف باشا) متصرف القدس ليقوم بالتحري عن اليهود في فلسطين ولاسيما في القدس الشرقية, ولا يبقي في الأرض المقدسة أحداً من اليهود إلا الذين قدموا إليها بغرض الزيارة العابرة وألا يسمح لهؤلاء بالمكوث فيها إلا بمقدار الزمن المحدد للزيارة.
وفي عام 1888م أصدر الباب العالي فرماناً يقضي بمنع أية هجرة جماعية لليهود إلى أراضي الدولة العثمانية, ولا يسمح للحجاج اليهود بقضاء أكثر من ثلاثة أشهر في فلسطين ومن ثم تآمر اليهود ضد السلطان ، حتى تم خلع السلطان سنة 1909م, وكان ( كراسو ) اليهودي أحد الثلاثة الذين أعلنوا السلطان عبد الحميد بقرار الخلع .
3ـ ولقد حاول ( تيودورهرتزل ) ربط الكيان الصهيوني المختلق بالمصالح الأوربية, حيث أوضح لوزير خارجية بريطانيا اللورد (لاندسون) أن الإمبراطورية البريطانية عندما ترعى المساعي الصهيونية لا تكسب مستعمرة غنية فحسب بل إنها ستكسب أيضا عشرة ملايين يهودي، يتوجهون إلى إنجلترا بقلوبهم, وفي لحظة تستطيع أن تعتمد على عشرة ملايين مُوالٍ مخْلصٍ لها في جميع أنحاء العالم ،جميع هؤلاء سيكونون رهن إشارة الأمة العظيمة التي ستمد لهم المساعدة المطلوبة, فيكون لإنجلترا عشرة ملايين عميل من أجل عظمتها وسيطرتها, وأن هذا الولاء لابد أن يكون على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
فهرتزل نفسه هو الذي كان يقول لأتباعه ( إن اليهودي الإنجليزي الذي ينشد ـ بحكم إنجليزيته ـ نشيد ( حفظ الله الملكة ), كيف يمكن أن يكون في نفس الوقت صهيونياً ؟, إن الولاء يجب أن يكون لإسرائيل حتى ولو عاش في غيرها.
4ـ وتمكن (هرتزل) من عقد أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا سنة 1897م وفي خطاب الافتتاح قال:
( إننا نضع حجر الأساس في بناء البيت الذي سوف يؤوي الأمة اليهودية ) .
5ـ وفي نوفمبر 1914 كتب ( حاييم وايزمان ) ـ عالم الكيمياء الطبيعية ـ المرشح لقيادة الحركة الصهيونية عقب موت (هرتزل) سنة 1905 إلى صديقه رئيس تحرير جريدة المانشستر جارديان يقول : ( من الممكن الآن أن نقول إنه إذا وقعت فلسطين في دائرة النفوذ البريطاني, وإذا شجعت إنجلترا بعد ذلك توطين اليهود هناك كمستعمرة بريطانية ، فإننا نستطيع أن نوجد خلال الثلاثين سنة القادمة حوالي مليون يهودي في تلك البلاد فيطوروها وينقلوا الحضارة إليها ويكونوا بمثابة حرس فعال لقناة السويس ) .
6ـ ومع نشوب الحرب العالمية الأولى كان (حاييم وايزمان) يجري تجاربه بنجاح في إنتاج المتفجرات واستطاع تحضير الأسيتون لاستعماله في صنع مادة الكورديت المتفجرة , كما استطاع تحضيرالجليسرين لاستعماله في مادة التراى نيترو تولوين TNT .
وكان(لويد جورج)رئيساً لوزراء بريطانيا, فلما أراد شراء براءة هذا الاختراع من (وايزمان) , بأي ثمن يريده , وافق ( وايزمان ) على أن يكون الثمن هو إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وعلى الفور استدعى (لويد جورج) وزير خارجيته (أرثر جيمس بلفور) ليكتب وعده المشئوم بإقامة وطن قومي لليهود, وعلى الفور، وفي الثاني من نوفمبر سنة 1917 م أصدر وزير الخارجية تصريحه المشهور والذي جاء فيه ( إن حكومة صاحبة الجلالةلتنظر بعين العطف إلى مسألة إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي وستبذل ما في وسعها من مساع لتذليل إحراز هذه الغاية, مع العلم تمام العلم بأنه لن يُفعل شيء من شأنه المساس بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة حاليا في فلسطين, أو الحقوق الأهلية السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر, وأكون مدينا لكم بالجميل إذا ما تكرمتم فأبلغتم هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني).
لم يكن أحد يدرك معني محدداً لعبارة (الوطن القومي) لأنه لم يكن لها معنى متعارف عليه ومن ثم أعطت حرية الممارسة في فلسطين, أما (لتنظر بعين العطف) فماذا تساوي في دنيا التعهدات ؟ وماذا يعني ( التسهيل) في عبارة ( ستبذل كل ما في وسعها لتسهيل بلوغ هذا الهدف ) , وأما وصف العرب بالجماعات ( غير اليهودية ) في فلسطين فلفظ مغرّر مخادع إذ كان عدد اليهود 60 ألف تقريبا من مجموع 670 ألف تقريباً.
لقد خلت الوثيقة من ذكر اسم (العرب) فكيف تحتفظ لهم بحقوق مدنية ؟.لقد سلبوا العرب كل شيء , بنصوص يدل ظاهرها على أنها تؤمِّن للعرب كل شيء , وهي خدعة ماهرة تتناسب مع ما كان عليه العرب ـ وما يزالون ـ من تشرزم وضياع .
إن كل كلمة في هذه الوثيقة قد صيغت بالطاقات الفاعلة, وبالإرادة الحميمة وبالرؤى البعيدة المرسومة على مستوى الواقع الذي لابد من تحقيقه لا على مستوى الأحلام المراهقة.
7ـ وهكذا كان اختراع الجليسرين وراء نكبة فلسطين ، وسرعان ما صادقت فرنسا على التصريح , وتبعتها إيطاليا عام 1918 ووافقت روسيا بشرط المحافظة على مصالح الكنيسة الروسية في الأراضي المقدسة وأعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية اغتباطه بصدور التصريح ولم يكتف بإعلان وطن قومي لليهود بل تجاوز فأعلن عن قيام دولة يهودية بقوله أمام الرأي العام الأمريكي : ( قررت الأمم المتحدة بمساندة مطلقة من جانب حكومتنا وشعبنا إقامة أساس للدولة اليهودية في فلسطين).
8ـ ولما تكونت عصبة الأمم المتحدة وافق مجلسها المنعقد في 24 يوليو 1922 بلندن على وثيقة انتداب إنجلترا في فلسطين وأن تكون هي المسئولة عن تنفيذ التصريح بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين, ولقد صدر بها الوعد كأنه قرار دولي يقول( إن الدولة المنتدبة مسئولة عن تحقيق الوعد الذي قطعته على نفسها عام1917 بحقوق اليهود في فلسطين , وتأمين الهجرة اليهودية وتشجيع إسكان اليهود وتسهيل منح الجنسية لهم ) على أن ينتهي الانتداب في أغسطس عام 1948.
ومنذ قرار عصبة الأمم المتحدة في 24 يوليو 1922 بحق انتداب بريطانيا في فلسطين والذي سينتهي في أغسطس 1948 صارت الأرض العربية تتحرك إلى الأيدي اليهودية وتعاظم في نفس الوقت الدور الأمريكي لحماية اليهود في فلسطين وذهب الصراخ العربي في مهب الريح فلقد اتخذ الكونجرس الأميركي في ديسمبر 1945 قراراً بالإجماع ينص علي ضرورة بذل الولايات المتحدة مساعيها الحميدة لدا سلطات الانتداب في فلسطين لفتح أبواب الهجرة اليهودية.
وتحت تأثير أمريكا والدول الاستعمارية, وبين المناورات والمؤامرات وإغراءات الصهاينة للمندوبين, وانشغال الشارع العربي بالاستقلال التام أو الموت الزؤام اجتمعت الجمعية العمومية للأمم المتحدة وأصدرت في 29 نوفمبر 1947قراراً بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة عربية وأخرى يهودية , ووضعت الخرائط الموضحة لهذا التقسيم .
9ـ في هذا الوقت كانت الجامعة العربية قد حملت راية الدفاع, عن القضية الفلسطينية إلا أنها وقفت عند سطح الأحداث، فلقد كانت تعقد لجانا وترسل برقيات احتجاج, وتنذر بالثبور وعظائم الأمور، على حين كان التيار الصهيوني يلتف حول الجذور, ويتحكم في القوى التحتية التي تصنع الدوامات القادرة على ابتلاع الانتصارات العربية المسلحة سواء التي حققها جيش الإنقاذ الفلسطيني بقيادة البطل عبد القادر الحسيني عام 1933 وحتى انتصار الجيش المصري ـ السوري في أكتوبر عام1973.
10ـ وفي18 مارس 1948 انفتح الباب لقرار أمريكي جديد ألا وهو الاعتراف بدولة إسرائيل يوم 14 مايو من نفس العام, بعد إحدى عشرة دقيقة فقط من قيام الدولة, ولم يسبق أمريكا إلى الاعتراف سوى الاتحاد السوفيتي.
11ـ وماذا عند العرب ؟ إنهم لا يملكون إلا إثارة عواصف السخط والغضب والاحتجاج والتي هي أشبه بالعواصف الترابية التي تحجب الرؤية في الصحراء للحظات ثم لا تلبث أن تنامعلى ظهور التلال لقد أصبحت أمريكا صاحبة القرار, حتى ترضي اليهود فتحرز أصواتهم وتنتفع بنفوذهم وحتى يكون لها في قلب الشرق العربي وفي مستنقع البترول قاعدة استعمارية تحرك بها الريح حيث تشاء.
12ـ وظلت إنجلترا تجري لاهثة خلف أمريكا لتؤكد دورها الطليعي في خدمة الصهيونية, وكما يقول ( وايزمان ) في مذكراته :
( لقد احتضنت بريطانيا حركة الصهيونية منذ نشأتها , وأخذت على عاتقها تحقيق أهدافها , ووافقتعلى تسليم فلسطين خالية من سكانها العرب لليهود في الموعد المحدد في سنة 1934 ولولا الثورات المتعاقبة التي قام بها عرب فلسطين لتم إنجاز هذا الاتفاق في الموعد المذكور).
13ـ ولقد أعلنت إنجلترا أن الانتداب سينتهي في أغسطس 1948 , ثم قدمت الميعاد فجأة ليكون في 15 مايو من نفس العام, بعد أن هيأت لليهود سبيل الاستيلاء على المناطق الإستراتيجية وبعد أن دربت للإسرائيليين جيشاً زودته بأحدث الأسلحة , وبعد أن اختلط الأمر على العرب فلم يعودوا يدرون أيخوضون حرباً شعبية أم ماذا يفعلون .
14ـ في عام 1918 قال ألبرت أينشتاين عالم الفيزياء المشهور وصاحب نظرية النسبية :
( إن الطبيعة الأصلية اليهودية تتعارض مع فكرة إنشاء دولة يهودية بحدود وجيش وسلطة زمنية, لأن اليهود الآن ليسوا هم اليهود الذين عاشوا فترة المكابيين ) , كأنما يقصد إلى عدم القدرة على التضحية التي تمثلت في مواجهة المكابيين للقسوة الرومانية , فهل كان يتوقع مجابهة إسلامية عربية تستدعي مزيداً من التضحية اليهودية ؟ , أكان يرى أن الهجرة إلى أرض فلسطين ستحرم اليهود من الثروات الطائلة التي يحققونها من التعامل مع الشعوب الأخرى التي يقيمون بينها ؟ ,لقد نسي العالم الكبير أن الصهاينة أحرص الناس على مصادر التمويل لقيام دولتهم , فملوك المال والصناعة والإعلام لم يهاجروا إلى إسرائيل ولا يزالون يمكنون لأنفسهم وللقادرين من اليهود في ارض الشتات , أما الفلاحون والعمال والجنود فهم بناة إسرائيل وأكثرهم ممن ضاقت بهم الأرض في شرق أوروبا و مغربها .وإذا كان هذا هو رأي أينشتاين فإنه لم يكف عن تأييد الحركة الصهيونية , بل إنه قد رشح لأكبر مناصبها القيادية وإن اعتذر بشواغله العلمية .
15ـ على الرغم من أن الفاتيكان رفض الاعتراف باليهود إلى عام 1960م إلا أنه في عام 1970م تم إلغاء فقرة ( لعنة ) اليهود في صلاة الكاثوليك والبروتستانت, وفي عام 1975 ظهر أول تعبير ( شعب يهودي ) لدى المسيحيين وفي عام1980 صافح البابا لأول مرة حاخاماً يهودياً، وفي عام 1984 أعيدت العلاقات الدبلوماسية بين الفاتيكان والولايات المتحدة , وفي عام 1985 كانت أولى إشارات الاعتراف بدولة إسرائيل ،وفي عام 1991 كان اللقاء بين بابا الفاتيكان والرئيس جورج بوش الأب ـ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ـ والذي مهد العلاقات بين الفاتيكان وإسرائيل, وفي عام 1994 أعلن البابا براءة اليهود من دم المسيح وحق اليهود في العودة إلى أرض أجدادهم , وفي عام 2000 زار البابا يوحنا بابا الفاتيكان ( دولة إسرائيل ) بعد أن قدم اعتذاراً رسمياً لإسرائيل عمَّـا فعله المسيحيون بهم إبان الحروب الصليبية, وترك رسالة الاعتذار عند حائط المبكى، وفي عام2001 أعلن الرئيس جورج ونكلر بوش الابن قيادة الحملة الصليبية الجديدة ضد المسلمين تحت راية محاربة الإرهاب.
تعليق