السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله الذي لم يعدمنا مفكرينا وباحثينا ...
هذا البحث نقلته لأهميته , وفيه رد على من ادعوا أن حرف الهاء غير موجود في العربية القديمة ..!!
___________________________________________
ملخص البحث
تناول البحثُ الحديثَ عن تحديد الصوت اللغوي الذي يصدر عن الإنسان و أوضح أنَّه يجب أن يكون ذا معنى وينقل رسالة من عقل إنسان إلى آخر . ثم أشار إلى جهود العلماء القدماء في الدرس الصوتي ومعرفتهم المبكرة لهذا النوع من الدراسة . ثم تحدث عن الصفات الصوتية التي تميز بها صوت الهاء و إنه يمكن اعتباره صوتاً صامتاً كما يمكن اعتباره صوتاً صائتاً في بعض الحالات . وتابع تعداد صفات هذا الصوت وتباين آراء العلماء حول موضع نطقه ومخرجه مما ترتب عليه أن وصف هذا الصوت بصفات كثيرة .
ثم تحدث عن المواقع المختلفة لهذا الصوت والأسماء التي أطلقت عليه حسب موقعه ، فتحدث عن هاء السكت أو الوقف أو الاستراحة . وقد ذكر الباحث أن هذه الهاء امتداد للنفس الذي حشده المتكلم ، وناقش آراء العلماء في هذه الصفات والأسماء . كما أشار إلى أن هاء التنبيه قد تكون من الأصوات الشفطية التي تنتج عن هواء الشهيق لا عن هواء الزفير . كما تحدث عن الأصوات التي تبدل من الهاء وتبدل الهاء منها . وخلص إلى عدد من النتائج تضمنتها الخاتمة .
مقدمة :
الصوت ظاهرة طبيعية ، وشكل من أشكال الطاقة ، وهو يستلزم وجود جسم في حالة اهتزاز أو تذبذب ، وهذه الاهتزازات أو الذبذبات تنقل عبر وسط معين حتى تصل إلى أذن الإنسان ، وقد تكون ناتجة عن اصطدام جسم بآخر ، أو سقوط جسم أو انفجار أو غير ذلك ، كما أنها قد تكون صادرة عن الحيوانات إلى جانب صدورها عن الإنسان . وقد فرّق العلماء بين نوعين من الأصوات : النوع الأول هو الصوت الطبيعي ، وهو ما يصدر عن كل ظواهر الطبيعة وكل الموجودات فيها ، والنوع الآخر هو ما يصدر عن الإنسان دون غيره . فالجهاز النطقي للإنسان قادر على إنتاج أصوات كثيرة ، كما أنه قادر على إنتاج أنواع من الضجيج والضوضاء تبعد عن اللغة بقدر ما تبعد عنها أصوات الطبيعة . ولكي "يكون الصوت لغوياً بالمعنى العام فإن الأصوات الصادرة عن الجهاز النطقي يجب أن تكون ذات معنى وتنقل رسالة محددة من عقل إنسان إلى آخر(1)" وهذا الصـوت هو الذي يهـمنا هنا ، أي أننا نـهتم بالصوت باعتباره ظاهرة طبيعية وباعتباره في نفس الوقت ظاهرة سيكولوجية(2) …
وليس كل صوت يصدر عن الإنسان مفهماً وإرادياً ، أي أنه الأثر السمعي الذي يصدر طواعية واختياراً عن أعضاء النطق ، بل إن الصوت حتى يكون مفهماً أو لغوياً لابد أن يكون صادراً بقصد عن المتكلم ، إذ أن هناك بعض الأصوات قد تصدر عن المتكلم دون قصد منه ، وقد تصدر ويكون المتكلم قد أصدرها بقصد وعناية ، فهذه الأصوات تكون مرة طبيعية ومرة لغوية .
جهود العرب القدماء في الدرس الصوتي :
وقد كان للعرب القدماء جهود مشكورة في الدرس الصوتي تنم عن فهم مبكر دقيق لطبيعة الصوت اللغوي ، كما تدل على معرفة تامة بالجهاز النطقي وأعضائه . فقد عكفوا على دراسة أصوات لغتهم ، وتمكنوا من وصفها وصفاً دقيقاً ، ووضعوا القواعد والقوانين لتلك الأصوات وخصائصها وعلاقاتها مع بعضها البعض . يتضح ذلك فيما فعله أبو الأسود الدؤلي من نقط الإعراب بملاحظته الذاتية ، وما قدمه الخليل بن أحمد من تقسيم لأصوات اللغة ، وتحديد مخارجها معتمداً على حسه الصوتي ، فقد "نظر إلى الحروف كلها وذاقها فوجد مخرج الكلام كلّه الحلق ، فصيّر أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق ، وإنما كان ذواقه إياها أنه كـان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو : ابْ ، اتْ ، احْ ، اعْ ، اغْ فوجد العين أدخـل الحروف في الحلق فجعلها أول الكتاب(3)" وهو يتحدث عن الحروف ويقصد بها الأصوات فيقول : "في العربية تسعة وعشرون حرفاً : منها خمسة وعشرون حرفاً صحاحاً لها أحياز ومدارج ، وأربعة جوف ، وهي الواو والياء والألف اللَّينة والهمزة ، وسميت جوفاً لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة(4)" .
وقسّم سيبويه أصوات العربية حسب مخارجها وأحيازها ، ووصف كل صوت منها وصفاً دقيقاً إلاّ أنه – كأستاذه الخليل – لم يكن يفرّق بين الحرف والصوت إذ يقول : "هذا باب عدد الأحرف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها(5)" ويقول في موضع آخر "وتكون خمسة وثلاثين حرفاً ، بحروف هُنَّ فـروع وأصلها من التسعة والعشرين ، وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار ، وهي النون الخفيفة ، والهمزة التي بين بين والألف التي تمال إمالة شديدة ، والشين التي كالجيم ، الصاد التي تكون كالزاي وألف التفخيم(6)" ثم ينتقل للحديث عن مخارج تلك الحروف التي يقصد بها الأصوات فيقول : "ولحروف العربية ستة عشر مخرجاً . فللحلق منها ثلاثة ، فأقصاها مخرجاً الهمزة والهاء والألف ، ومن وسط الحلق مخرج العين والحاء ، وأدناها مخرجاً من الفم الغين والخاء ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف ….(7)" ويستمر في تحديد مخرج كل حرف ووصفه من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها ، مما يؤكد أنه يقصد بالحرف هنا الصوت .
أما أبو الفتح ابن جنّي فقد كان أكثر وضوحاً وأدق تفريقاً بين الأصوات والحروف ، قال : "اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً ، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيسمى المقطع أين عرض له حرفاً . وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها(8)" . واضح من كلام ابن جنّي هذا أنه لا يقصد بالمقطع ما نقصده نحن الآن من مصطلح المقطعSyllable ، الذي يعني "وحدة صوتية تتكون من صائت واحد على الأقل هو نواة المقطع ، بالإضافة إلى احتمال وجود صامت واحد أو أكثر قبل الصائت أو بعده مثل in,no,sit على التوالي ، ولكل مقطع درجة مناسبة من النبر تأخذ نواته . وقد يكون المقطع كلمة مثل lip ، أو جزءاً من كلمة مثل win في window ، وقد يكون المقطع مفتوحاً إذا انتهى بصائت مثل no ، أو مغلقاً إذا انتهى بصامت مثل not(9)" . ويستمر ابن جنّي في توضيح هذا الأمر ، وأن الطريقة المثلى لتحديد الحرف وصداه أو امتداده هي أن يكون ساكناً ، فيقول : "وسبيلك إذا أردت أن تعرف صدى الحرف أن تأتي به ساكناً لا متحركاً لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقرة وتجتذبه إلي جهة الحرف الذي هي بعضه ، ثم تُدْخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله لأن الساكن لا يمكن الابتداء به ، فتقول : إِكْ ، إِفْ ، إِجْ وكذلك سائر الحروف(10)" فهو يقصد بالصوت ما يتبع نطق بعض الأصوات من استمرار وامتداد وتفشٍ ، ثم يؤكد هذا التفريق بين الحرف والصوت ، فيقول : "وذلك أن الحرف حدّ منقطع الصوت وغايته وطرفه ، كحرف الجبل ونحوه ، ويجوز أن تكون سميت حروفاً لأنها جهات للكلم ونواح كحروف الشئ وجهاته المحدقة به(11)" ثم يقول : "فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحروف وكشفنا عنهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما ووضحت حقيقتهما لمتأملهما(12)" . فابن جني جازم في تفريقه بين الصوت والحرف ، وقد يُفهم من كلامه في هذا الشأن أنه كان يعتبر الحرف مقام ما يُعرف في الدراسات اللغوية المعاصرة باسم الفونيم Phoneme ، الذي هو أصغر وحدة صوتية قادرة على تغيير معنى ، وأن هذه الأصوات التي أشار إليها ليست إلاّ صوراً لتلك الفونيمات أو ألوفونات Allophones لها ، وهو ما يعد فهماً مبكراً لطبيعة الصوت اللغوي عند اللغويين العرب بعامة وعند ابن جنّي بخاصة . ولم يقتصر الدرس الصوتي عند العرب على اللغويين فقط ، بل شارك في هذه الدراسات علماء التجويد وعلماء البلاغة وغيرهم .
قدم العرب ملاحظات قيمة في مجال الدراسة الصوتية ، يبدو ذلك واضحاً في ما خلفوه من دراسات شملت أصوات العربية كافة . ومن الأصوات التي حظيت بعناية فائقة عند العرب صوت الهاء ، الذي ربما يصدر عن الإنسان لا لغرض الكلام بل بسبب إرهاق أو تعب ، أو حالة نفسية معينة دون قصد من المتكلم ، فهو اندفاع غزير للهواء في عملية تنفسيّة غير طبيعية ينتج عنها سماع صوت الهاء ، يقول إبراهيم أنيس : "عند النطق بالهاء المجهورة يندفع من الرئتين كمية كبيرة من الهواء أكبر مما يندفع من الأصوات الأخرى ، فيترتب عليه سماع صوت الحفيف مختلطاً بذبذبة الوترين الصوتيين(13)" . ومثل هذا الصوت نسمعه يصدر عن الحيوانات عند تعبها أو نصبها ، ولعل هذا التشابه كان سبباً من الأسباب التي حدت بالباحث أن يدرس صوت الهاء .
شبه الهاء بأصوات اللين :
تميزت الهاء بصفات صوتية خاصة جعلت منها صوت الهاء الذي يتصف بصفات الصوامت إلى جانب اتصافه بصافات تنطبق على الصوائت ، ولابد في هذا الموضع من الحديث عن نوعين من الأصـوات : الأصوات الصائتة ، والأصوات الصامتة . فأما لأصوات الصائتة Vowels "فهي التي تصدر دون إعاقة لتيار النفس(14)" . إنها الأصوات التي ليس لها مكان نطق محدد ، كما لا يحدث معها إغلاق أو تضييق لمجرى تيار الهواء(15)" . ويوضح محمود السعران الصوت الصائت فيقول : "إنه الصوت المجهور الذي يحدث في تكوينه أن يندفع الهواء في مجرى مستمر خلال الحلق والفم ، وخلال الأنف معهما أحياناً دون أن يكون ثمة عائق (يعترض مجرى الهواء اعتراضاً تاماً) أو تضييق لمجرى الهواء من شأنه أن يحدث احتكاكاً مسموعاً ، أما الصوت الصامت فهو الصوت الذي له نقطة نطق محددة وله ناطق وأي صوت لا يصدق عليه هذا التعريف يعد صوتاً صامتاً ، أي أن الصامت هو المجهور أو المهموس الذي يحدث في نطقه أن يعترض مجرى الهواء اعتراضاً كاملاً أو اعتراضاً جزيئاً(16)" فالصوت الصامت Consonant إذاً هو الصوت الذي له نقطة نطق محددة ، وله ناطق محدد ، كما يحدث لتيار النفس عند نطقه نوع من الإعاقة أو الإغلاق ثم الانطلاق(17)".
وإذا حاولنا وضع صوت الهاء تحت الصوائت أو الصوامت لما أمكننا ذلك لأننا لا نستطيع أن نقول أنه من الصوائت في جميع حالات نطقه أو أنه من الصوامت مطلقاً ، لأنه يجمع بين صفات الصوائت وصفات الصوامت حسب طريقة نطقه والظروف اللغوية التي ينطق بها ، فقد يحدث عند نطقه أن يبقى الوتران الصوتيان ساكنين دون تحرك ، وقد يصاحب هذا الوضع نوع من الحفيف يسمع في أقصى الحلق ، وتتخذ أعضاء النطق في هذه الحالة وضعاً يشبه الذي يكون مع أصوات اللين ، لأنه (صوت النفس الخالص الذي لا يلقى مروره اعتراضاً في الفم ، وللسان أن يتخذ في نطق الهاء أي موضع من المواضع التي يتخذها في نطق "الصوائت" ، ومن ثم فمن المستطاع نطق أنواع من الهاء قدر ما يستطيع نطقه من أنواع "الصوائت" . ولذلك أمكن اعتبار أصوات الهاء "صوائت مهموسة" ، أي صوائت يصحبها همس لا جهر(18)" . إنه صوت غير لساني ، أي انه صوت لا يشترك اللسان في نطقه بصفته ناطقاً متحركاً(19) . فعلى هذا نجد أن صوت الهاء ليس له موضع نطق محدد كالأصوات الصامتة ، بل يمكننا نطق هذا الصوت والإطالة في نطقه لأنه ليس إلاّ نفساً خارجاً من الرئتين . كما قال الخليل في قول الشاعر :
قال "حوّل الهاء الآخرة ياء ، لأن الياء أقرب الحروف شبهاً بالهاء ، ألا ترى أن الياء مَدّ والهاء نفس(20)" . وقد أشار سيبويه إلى هذا بقوله : (كما أن دهديت هي فيما زعم الخليل "دهدهت بمنزلة "دحرجت" ، ولكنه أبدل الياء من الهاء لشبهها بها ، وأنها في الخفاء والخفة نحوها(21)" . ويؤكد الخليل أن الهاء نَفَس فيقول : "الهمز صوت مهتوت في أقصى الحلق فإذا رُفِّه عن الهمز صار نفساً تحول إلى مخرج الهاء(22)" . وقد وافقه ابن جني على هذا وأن الهاء ضعيفة خفّية فقال "ومن الحروف المهتوت وهو الهاء ، لما فيه من الضعف والخفاء(23)" ويستمر الخليل في تأكيد صفة الضعف لصوت الهاء فيقول "ولم يكن في الحروف أهش من الهاء لأن الهاء نَفَسُ(24)" . والهش : كل شئ فيه رخاوة(25)" .
الحمدلله الذي لم يعدمنا مفكرينا وباحثينا ...
هذا البحث نقلته لأهميته , وفيه رد على من ادعوا أن حرف الهاء غير موجود في العربية القديمة ..!!
___________________________________________
صوت الهاء في العربية
د. ابراهيم كايد محمود
الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية – كلية التربية
جامعة الملك فيصل – الاحساء
د. ابراهيم كايد محمود
الأستاذ المشارك في قسم اللغة العربية – كلية التربية
جامعة الملك فيصل – الاحساء
ملخص البحث
تناول البحثُ الحديثَ عن تحديد الصوت اللغوي الذي يصدر عن الإنسان و أوضح أنَّه يجب أن يكون ذا معنى وينقل رسالة من عقل إنسان إلى آخر . ثم أشار إلى جهود العلماء القدماء في الدرس الصوتي ومعرفتهم المبكرة لهذا النوع من الدراسة . ثم تحدث عن الصفات الصوتية التي تميز بها صوت الهاء و إنه يمكن اعتباره صوتاً صامتاً كما يمكن اعتباره صوتاً صائتاً في بعض الحالات . وتابع تعداد صفات هذا الصوت وتباين آراء العلماء حول موضع نطقه ومخرجه مما ترتب عليه أن وصف هذا الصوت بصفات كثيرة .
ثم تحدث عن المواقع المختلفة لهذا الصوت والأسماء التي أطلقت عليه حسب موقعه ، فتحدث عن هاء السكت أو الوقف أو الاستراحة . وقد ذكر الباحث أن هذه الهاء امتداد للنفس الذي حشده المتكلم ، وناقش آراء العلماء في هذه الصفات والأسماء . كما أشار إلى أن هاء التنبيه قد تكون من الأصوات الشفطية التي تنتج عن هواء الشهيق لا عن هواء الزفير . كما تحدث عن الأصوات التي تبدل من الهاء وتبدل الهاء منها . وخلص إلى عدد من النتائج تضمنتها الخاتمة .
مقدمة :
الصوت ظاهرة طبيعية ، وشكل من أشكال الطاقة ، وهو يستلزم وجود جسم في حالة اهتزاز أو تذبذب ، وهذه الاهتزازات أو الذبذبات تنقل عبر وسط معين حتى تصل إلى أذن الإنسان ، وقد تكون ناتجة عن اصطدام جسم بآخر ، أو سقوط جسم أو انفجار أو غير ذلك ، كما أنها قد تكون صادرة عن الحيوانات إلى جانب صدورها عن الإنسان . وقد فرّق العلماء بين نوعين من الأصوات : النوع الأول هو الصوت الطبيعي ، وهو ما يصدر عن كل ظواهر الطبيعة وكل الموجودات فيها ، والنوع الآخر هو ما يصدر عن الإنسان دون غيره . فالجهاز النطقي للإنسان قادر على إنتاج أصوات كثيرة ، كما أنه قادر على إنتاج أنواع من الضجيج والضوضاء تبعد عن اللغة بقدر ما تبعد عنها أصوات الطبيعة . ولكي "يكون الصوت لغوياً بالمعنى العام فإن الأصوات الصادرة عن الجهاز النطقي يجب أن تكون ذات معنى وتنقل رسالة محددة من عقل إنسان إلى آخر(1)" وهذا الصـوت هو الذي يهـمنا هنا ، أي أننا نـهتم بالصوت باعتباره ظاهرة طبيعية وباعتباره في نفس الوقت ظاهرة سيكولوجية(2) …
وليس كل صوت يصدر عن الإنسان مفهماً وإرادياً ، أي أنه الأثر السمعي الذي يصدر طواعية واختياراً عن أعضاء النطق ، بل إن الصوت حتى يكون مفهماً أو لغوياً لابد أن يكون صادراً بقصد عن المتكلم ، إذ أن هناك بعض الأصوات قد تصدر عن المتكلم دون قصد منه ، وقد تصدر ويكون المتكلم قد أصدرها بقصد وعناية ، فهذه الأصوات تكون مرة طبيعية ومرة لغوية .
جهود العرب القدماء في الدرس الصوتي :
وقد كان للعرب القدماء جهود مشكورة في الدرس الصوتي تنم عن فهم مبكر دقيق لطبيعة الصوت اللغوي ، كما تدل على معرفة تامة بالجهاز النطقي وأعضائه . فقد عكفوا على دراسة أصوات لغتهم ، وتمكنوا من وصفها وصفاً دقيقاً ، ووضعوا القواعد والقوانين لتلك الأصوات وخصائصها وعلاقاتها مع بعضها البعض . يتضح ذلك فيما فعله أبو الأسود الدؤلي من نقط الإعراب بملاحظته الذاتية ، وما قدمه الخليل بن أحمد من تقسيم لأصوات اللغة ، وتحديد مخارجها معتمداً على حسه الصوتي ، فقد "نظر إلى الحروف كلها وذاقها فوجد مخرج الكلام كلّه الحلق ، فصيّر أولاها بالابتداء أدخل حرف منها في الحلق ، وإنما كان ذواقه إياها أنه كـان يفتح فاه بالألف ثم يظهر الحرف نحو : ابْ ، اتْ ، احْ ، اعْ ، اغْ فوجد العين أدخـل الحروف في الحلق فجعلها أول الكتاب(3)" وهو يتحدث عن الحروف ويقصد بها الأصوات فيقول : "في العربية تسعة وعشرون حرفاً : منها خمسة وعشرون حرفاً صحاحاً لها أحياز ومدارج ، وأربعة جوف ، وهي الواو والياء والألف اللَّينة والهمزة ، وسميت جوفاً لأنها تخرج من الجوف فلا تقع في مدرجة من مدارج اللسان ولا من مدارج الحلق ولا من مدارج اللهاة(4)" .
وقسّم سيبويه أصوات العربية حسب مخارجها وأحيازها ، ووصف كل صوت منها وصفاً دقيقاً إلاّ أنه – كأستاذه الخليل – لم يكن يفرّق بين الحرف والصوت إذ يقول : "هذا باب عدد الأحرف العربية ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها(5)" ويقول في موضع آخر "وتكون خمسة وثلاثين حرفاً ، بحروف هُنَّ فـروع وأصلها من التسعة والعشرين ، وهي كثيرة يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار ، وهي النون الخفيفة ، والهمزة التي بين بين والألف التي تمال إمالة شديدة ، والشين التي كالجيم ، الصاد التي تكون كالزاي وألف التفخيم(6)" ثم ينتقل للحديث عن مخارج تلك الحروف التي يقصد بها الأصوات فيقول : "ولحروف العربية ستة عشر مخرجاً . فللحلق منها ثلاثة ، فأقصاها مخرجاً الهمزة والهاء والألف ، ومن وسط الحلق مخرج العين والحاء ، وأدناها مخرجاً من الفم الغين والخاء ومن أقصى اللسان وما فوقه من الحنك الأعلى مخرج القاف ….(7)" ويستمر في تحديد مخرج كل حرف ووصفه من حيث الجهر والهمس والشدة والرخاوة وغيرها ، مما يؤكد أنه يقصد بالحرف هنا الصوت .
أما أبو الفتح ابن جنّي فقد كان أكثر وضوحاً وأدق تفريقاً بين الأصوات والحروف ، قال : "اعلم أن الصوت عرض يخرج مع النفس مستطيلاً متصلاً ، حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته فيسمى المقطع أين عرض له حرفاً . وتختلف أجراس الحروف بحسب اختلاف مقاطعها(8)" . واضح من كلام ابن جنّي هذا أنه لا يقصد بالمقطع ما نقصده نحن الآن من مصطلح المقطعSyllable ، الذي يعني "وحدة صوتية تتكون من صائت واحد على الأقل هو نواة المقطع ، بالإضافة إلى احتمال وجود صامت واحد أو أكثر قبل الصائت أو بعده مثل in,no,sit على التوالي ، ولكل مقطع درجة مناسبة من النبر تأخذ نواته . وقد يكون المقطع كلمة مثل lip ، أو جزءاً من كلمة مثل win في window ، وقد يكون المقطع مفتوحاً إذا انتهى بصائت مثل no ، أو مغلقاً إذا انتهى بصامت مثل not(9)" . ويستمر ابن جنّي في توضيح هذا الأمر ، وأن الطريقة المثلى لتحديد الحرف وصداه أو امتداده هي أن يكون ساكناً ، فيقول : "وسبيلك إذا أردت أن تعرف صدى الحرف أن تأتي به ساكناً لا متحركاً لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقرة وتجتذبه إلي جهة الحرف الذي هي بعضه ، ثم تُدْخل عليه همزة الوصل مكسورة من قبله لأن الساكن لا يمكن الابتداء به ، فتقول : إِكْ ، إِفْ ، إِجْ وكذلك سائر الحروف(10)" فهو يقصد بالصوت ما يتبع نطق بعض الأصوات من استمرار وامتداد وتفشٍ ، ثم يؤكد هذا التفريق بين الحرف والصوت ، فيقول : "وذلك أن الحرف حدّ منقطع الصوت وغايته وطرفه ، كحرف الجبل ونحوه ، ويجوز أن تكون سميت حروفاً لأنها جهات للكلم ونواح كحروف الشئ وجهاته المحدقة به(11)" ثم يقول : "فقد ثبت بما قدمناه معرفة الصوت من الحروف وكشفنا عنهما بما هو متجاوز للإقناع في بابهما ووضحت حقيقتهما لمتأملهما(12)" . فابن جني جازم في تفريقه بين الصوت والحرف ، وقد يُفهم من كلامه في هذا الشأن أنه كان يعتبر الحرف مقام ما يُعرف في الدراسات اللغوية المعاصرة باسم الفونيم Phoneme ، الذي هو أصغر وحدة صوتية قادرة على تغيير معنى ، وأن هذه الأصوات التي أشار إليها ليست إلاّ صوراً لتلك الفونيمات أو ألوفونات Allophones لها ، وهو ما يعد فهماً مبكراً لطبيعة الصوت اللغوي عند اللغويين العرب بعامة وعند ابن جنّي بخاصة . ولم يقتصر الدرس الصوتي عند العرب على اللغويين فقط ، بل شارك في هذه الدراسات علماء التجويد وعلماء البلاغة وغيرهم .
قدم العرب ملاحظات قيمة في مجال الدراسة الصوتية ، يبدو ذلك واضحاً في ما خلفوه من دراسات شملت أصوات العربية كافة . ومن الأصوات التي حظيت بعناية فائقة عند العرب صوت الهاء ، الذي ربما يصدر عن الإنسان لا لغرض الكلام بل بسبب إرهاق أو تعب ، أو حالة نفسية معينة دون قصد من المتكلم ، فهو اندفاع غزير للهواء في عملية تنفسيّة غير طبيعية ينتج عنها سماع صوت الهاء ، يقول إبراهيم أنيس : "عند النطق بالهاء المجهورة يندفع من الرئتين كمية كبيرة من الهواء أكبر مما يندفع من الأصوات الأخرى ، فيترتب عليه سماع صوت الحفيف مختلطاً بذبذبة الوترين الصوتيين(13)" . ومثل هذا الصوت نسمعه يصدر عن الحيوانات عند تعبها أو نصبها ، ولعل هذا التشابه كان سبباً من الأسباب التي حدت بالباحث أن يدرس صوت الهاء .
شبه الهاء بأصوات اللين :
تميزت الهاء بصفات صوتية خاصة جعلت منها صوت الهاء الذي يتصف بصفات الصوامت إلى جانب اتصافه بصافات تنطبق على الصوائت ، ولابد في هذا الموضع من الحديث عن نوعين من الأصـوات : الأصوات الصائتة ، والأصوات الصامتة . فأما لأصوات الصائتة Vowels "فهي التي تصدر دون إعاقة لتيار النفس(14)" . إنها الأصوات التي ليس لها مكان نطق محدد ، كما لا يحدث معها إغلاق أو تضييق لمجرى تيار الهواء(15)" . ويوضح محمود السعران الصوت الصائت فيقول : "إنه الصوت المجهور الذي يحدث في تكوينه أن يندفع الهواء في مجرى مستمر خلال الحلق والفم ، وخلال الأنف معهما أحياناً دون أن يكون ثمة عائق (يعترض مجرى الهواء اعتراضاً تاماً) أو تضييق لمجرى الهواء من شأنه أن يحدث احتكاكاً مسموعاً ، أما الصوت الصامت فهو الصوت الذي له نقطة نطق محددة وله ناطق وأي صوت لا يصدق عليه هذا التعريف يعد صوتاً صامتاً ، أي أن الصامت هو المجهور أو المهموس الذي يحدث في نطقه أن يعترض مجرى الهواء اعتراضاً كاملاً أو اعتراضاً جزيئاً(16)" فالصوت الصامت Consonant إذاً هو الصوت الذي له نقطة نطق محددة ، وله ناطق محدد ، كما يحدث لتيار النفس عند نطقه نوع من الإعاقة أو الإغلاق ثم الانطلاق(17)".
وإذا حاولنا وضع صوت الهاء تحت الصوائت أو الصوامت لما أمكننا ذلك لأننا لا نستطيع أن نقول أنه من الصوائت في جميع حالات نطقه أو أنه من الصوامت مطلقاً ، لأنه يجمع بين صفات الصوائت وصفات الصوامت حسب طريقة نطقه والظروف اللغوية التي ينطق بها ، فقد يحدث عند نطقه أن يبقى الوتران الصوتيان ساكنين دون تحرك ، وقد يصاحب هذا الوضع نوع من الحفيف يسمع في أقصى الحلق ، وتتخذ أعضاء النطق في هذه الحالة وضعاً يشبه الذي يكون مع أصوات اللين ، لأنه (صوت النفس الخالص الذي لا يلقى مروره اعتراضاً في الفم ، وللسان أن يتخذ في نطق الهاء أي موضع من المواضع التي يتخذها في نطق "الصوائت" ، ومن ثم فمن المستطاع نطق أنواع من الهاء قدر ما يستطيع نطقه من أنواع "الصوائت" . ولذلك أمكن اعتبار أصوات الهاء "صوائت مهموسة" ، أي صوائت يصحبها همس لا جهر(18)" . إنه صوت غير لساني ، أي انه صوت لا يشترك اللسان في نطقه بصفته ناطقاً متحركاً(19) . فعلى هذا نجد أن صوت الهاء ليس له موضع نطق محدد كالأصوات الصامتة ، بل يمكننا نطق هذا الصوت والإطالة في نطقه لأنه ليس إلاّ نفساً خارجاً من الرئتين . كما قال الخليل في قول الشاعر :
حَزاوِرَةٌ بِأَيْديـــها الكُريناج
يُدَهْدِهْنَ الرُّؤوسَ كما تُدَهْدِي
قال "حوّل الهاء الآخرة ياء ، لأن الياء أقرب الحروف شبهاً بالهاء ، ألا ترى أن الياء مَدّ والهاء نفس(20)" . وقد أشار سيبويه إلى هذا بقوله : (كما أن دهديت هي فيما زعم الخليل "دهدهت بمنزلة "دحرجت" ، ولكنه أبدل الياء من الهاء لشبهها بها ، وأنها في الخفاء والخفة نحوها(21)" . ويؤكد الخليل أن الهاء نَفَس فيقول : "الهمز صوت مهتوت في أقصى الحلق فإذا رُفِّه عن الهمز صار نفساً تحول إلى مخرج الهاء(22)" . وقد وافقه ابن جني على هذا وأن الهاء ضعيفة خفّية فقال "ومن الحروف المهتوت وهو الهاء ، لما فيه من الضعف والخفاء(23)" ويستمر الخليل في تأكيد صفة الضعف لصوت الهاء فيقول "ولم يكن في الحروف أهش من الهاء لأن الهاء نَفَسُ(24)" . والهش : كل شئ فيه رخاوة(25)" .
تعليق