وهكذا كان محمَّدٌ أبًا وقائدًا وداعية
قد تعجبين يا ابنتي الكريمة لو قلتُ لكِ أنَّ زينب بنت النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كانت متزوِّجة من رجُل غير مُسلم !
نعم , إنَّه أبو العاص بن الرَّبيع , ابنُ أخت السَّيِّدة خديجة , زوجة النَّبيِّ . وقد كان تاجرًا معروفًا بأمانته , وكانت خديجة تَعُدُّه بمَنْزلة ولَدها , فسألَتْ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يُزوِّجَه ابنتهما زينب , وذلك قبل أن يُبْعثَ نبيًّا , ففَعل . فلمَّا أكرم اللَّهُ محمَّدًا بالنُّبوَّة , أسلمَتْ خديجة وبناتها , وأصرَّ أبو العاص على البقاء على دين قَومه . ومع هذا , لم يُكْرهْهُ النَّبيُّ على اعتناق الإسلام , ولم يُجْبِر ابنتَه زينب على مفارقة زوجها .
قال ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة وإضافة بعض التَّعاليق على الأحداث : وجاء كبارُ قُريش إلى أبي العاص , وقالُوا له : فارقْ زوجتَك , ونحنُ نُزوِّجك أيَّ امرأة من قريش شئْت . فقال : لا واللَّه , لا أفارقُ صاحبتي , وما أحبُّ أنَّ لي بها امرأةً من قُريش . وكان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُثني عليه خيرًا .
ومَرَّت السَّنوات , وهاجر النَّبيُّ إلى المدينة , وبقيَتْ زينبُ مع زوجها بمكَّة . وهاجر المسلمون خُفْيَة بعد أن تركُوا أموالَهم وديارَهم , فاستوْلَى عليها المشركُون .
وفي السَّنة الثَّانية من الهجرة , جاءت الأخبار إلى سادات قُريش أنَّ قافلَتهم التِّجاريَّة المقبلة من الشَّام سيَتعرَّضُ لها المسلمون . فخرجُوا في ألْفٍ من رجالهم لإنقاذ تجارتهم , وخرج معهم أبو العاص بن الرَّبيع . وَوقعتْ بينهم وبين المسلمين معركة بمكان اسمُه بَدْر , فانتصر المسلمون , وقُتِلَ ساداتُ قُريش , وأُسِر منهم سَبعون , وكان من بين الأسرى أبو العاص . فبعَثتْ قُريش تَفْتَدِي رجالَها الذين أُسِرُوا , وكان هذا الأمرُ معمولاً به عند العرب . وبَعثتْ زينبُ بمالٍ لِفِداء زوجها , وبعثَتْ قلادةً لها كانت السَّيِّدة خديجة أدْخَلَتْها بها على أبي العاص حين تزوَّجها .
نعم , حتَّى زينب رضي اللَّه عنها , وهي بنتُ النَّبيّ , لَمْ تستغلَّ قَرابَتها هذه , بل بعثَتْ بالمال لِفِداء زوجها , تمامًا مثلَما فَعلَ بقيَّةُ النَّاس !
فلَمَّا رأى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم القلادة , رقَّ لابنته رقَّةً شديدة , وقالَ لأصحابه : إن رأيتُم أن تُطلِقُوا لها أسيرها , وتَرُدُّوا عليها مالَها , فافعَلُوا . قالُوا : نعم يا رسولَ اللَّه . فأطْلَقُوه , ورَدُّوا عليها الذي لها .
وقد كان بإمكان النَّبيِّ أن يُصدر أوامره , بصِفَته قائد جيش المسلمين , بإطلاق سراح زوج ابنته . ولكنَّ عدْلَه لم يَسْمح له بذلك , فتقدَّم بالطَّلب مثل أيِّ إنسان عادي , وتركَ لِجُنُوده حرِّيَّة الرَّفض أو القَبُول !
وأُطلِقَ أبو العاص من الأسر , وأخذَ عليه النَّبيُّ العهدَ أن يُخلِّي سبيلَ ابنته , ففعلَ , وقَدمتْ زينبُ إلى المدينة .
وأقام أبو العاص بمكَّة , حتَّى إذا كان قُبَيْل فَتْحها , خرج إلى الشَّام يُتاجر بماله وبأموال رجالٍ من قُريش . فلمَّا فرغ من ذلك وقفلَ راجعًا , اعترَضَ بعضُ المسلمين طريقَه , فأخذُوا ما معه وهربَ هو . فلمَّا كان اللَّيلُ , ذهبَ إلى بيت زينب , فاسْتجار بها , فأَجارَتْه , وكان هذا العُرفُ معمولاً به أيضًا عند العرب .
فلمَّا خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى صلاة الفجر وكبَّر إلى الصَّلاة وكبَّر النَّاس , صرخَتْ زينبُ من صَفَّة النِّساء : أيُّها النَّاس , إنِّي قد أجَرْتُ أبا العاص بن الرَّبيع . فلمَّا سلَّم رسولُ اللَّه , أقبلَ على النَّاس وقال : أيُّها النَّاس , هل سمِعْتُم ما سمعْتُ ؟! قالُوا : نعم , قال : أمَا والذي نَفسُ محمَّد بيَده , ما علِمْتُ بشيء من ذلك حتَّى سمعْتُ ما سمعْتُم . إنَّه يُجيرُ على المسلمين أدْناهُم . ثمَّ انصرف , فدخلَ على ابنته وقالَ : أيْ بُنَيَّة , أَكْرِمي مَثْواه , ولا يَخلُصَنَّ إليْكِ فإنَّكِ لا تَحِلِّين له .
وكان اللَّه تعالى قد حرَّم , منذ صُلْح الحُدَيبِيَة سنة سِتٍّ للهجرة , أن يتزوَّج مسلمٌ من مُشركة , أو تتزوَّج مُسلِمةٌ من مُشرك . وأنزلَ تعالى في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 10 } (60- الممتحنة 10) .
لهذا , امتثلَ النَّبيُّ لِحُكْم اللَّه , وقال لابنَتِه أنَّها لم تَعُد تَحِلُّ لأبي العاص .
وبعثَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى المسلمين الذين أخذُوا مالَ أبي العاص , فقالَ لهم : إنَّ هذا الرَّجلَ منَّا حيثُ قد علِمْتُم , وقد أصبْتُم له مالاً , فإن تُحسِنُوا وتَرُدُّوا عليه الذي له فإنَّا نُحبُّ ذلك , وإن أَبَيْتُم فهو فَيْءُ اللَّه الذي أَفاءَ عليكم , فأنتم أحَقّ به (وذلك لأنّ كفّار قريش كانُوا أخرجوهم كرهًا من مكّة , وأخذوا أموالَهم وديارَهم) . قالُوا : يا رسولَ اللَّه , بل نَرُدُّه عليه . فرَدُّوه عليه كلّه .
فاحْتَمَلَه أبو العاص إلى مكَّة , وأدَّى إلى كلِّ ذي مالٍ من قُريش مالَه , ثمَّ قال : يا معشر قُريش , هل بَقِيَ لِأحَدٍ منكُم عندي مالٌ لم يأخُذْه ؟ قالُوا : لا , فجزاكَ اللَّه خيرًا , فقد وَجدْناكَ وَفيًَّا كريمًا . قالَ : فأنا أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا عبْدُه ورسولُه ! واللَّهِ ما منَعَني من الإسلام عِنْدَه إلاَّ مخَافَة أن تظُنُّوا أنِّي إنَّما أردتُ أن آخُذَ أموَالَكم , فلمَّا أدَّاها اللَّهُ إليكُم وفَرغْتُ منها , أسلمْتُ . ثمَّ عاد إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فرَدَّ إليه زينب .
وفي قصَّة أخرى , قالَ ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : جلسَ عُمَيْر بن وهب الجمَحي مع صفْوان بن أُميَّة يومًا في الحِجْر بعد معركة بدر , يَذكُران قَتْلاهم . وكان عُمَيْر شيطانًا من شياطين قُريش , وكان مِمَّنْ يُؤذي رسولَ اللَّه وأصحابَه عندما كانوا بمكَّة , وكان ابنُه وَهْب في أسارى بدر . فقالَ صفْوان : واللَّهِ ما في العيش بَعْدَهم من خير . قال عُمَيْر : صدقْت , أمَا واللَّهِ لوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْس له عندي قَضاء , وعِيَالٌ أخْشَى عليهم الضَّيْعَة من بعدي , لَرَكِبْتُ إلى محمَّد حتَّى أقتُله , فإنَّ لي قِبَلَهم عِلَّة : ابني أسيرٌ في أيْديهم . فاغْتَنَمها صفْوان وقال : دَيْنُكَ عَلَيَّ , أنا أقْضِيه عنْك , وعِيَالُكَ مع عِيَالي أُوَاسِيهم ما بَقُوا , لا يَسَعُني شيءٌ ويَعْجز عنهم . قال : فاكْتُم عنِّي شأني وشأنك , قالَ : أفْعَل .
فأمَر عُمَيْر بسَيْفِه فشُحِذَ له وسُمَّ , ثم انطلَقَ حتَّى قدم المدينة . فبينما عُمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه في نَفَرٍ من المسلمين يتحدَّثُون عن يوم بدر ويَذكُرون ما أكْرمهم اللَّهُ به , إذ رأى عُمَيْرًا حينَ أناخَ على باب المسجد مُتَوَشِّحًا سَيْفَه . فقالَ : هذا الكلْبُ عدوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب , واللَّهِ ما جاء إلاَّ لِشَرّ ! ودخلَ على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال له : يا نبيَّ اللَّه , هذا عدُوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب قد جاء مُتَوَشِّحًا سيْفَه , قالَ : فأدْخِلْه عَلَيَّ . فأقبَل به عُمر وقد أخذ بِحمالة سيْفه في عُنقه , وكان قال لرِجالٍ من مُسلِمي المدينة : ادخُلُوا على رسول اللَّه فاجْلِسُوا عنده , واحذَرُوا عليه من هذا الخبيث فإنَّه غير مأْمون .
فلمَّا رآه رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قالَ : أرْسِلْهُ يا عُمر , ادْنُ يا عُمَيْر . فدَنَا وقال : أنْعِمُوا صباحًا , وكانت تحيَّة العرب بينهم . فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : قد أكْرَمَنا اللَّهُ بتَحيَّةٍ خيْر من تحِيَّتك يا عُمَيْر : بالسَّلام , تحيَّة أهل الجنَّة . قالَ : أمَا واللَّهِ يا محمَّد إنْ كنتُ بها لَحَديث عَهْد . قالَ : فمَا جاء بكَ يا عُمَيْر ؟ قال : جئْتُ لهذَا الأسير الذي في أيْديكُم , فأحْسِنُوا فيه . قال : فمَا بالُ السَّيف في عُنُقِك ؟ قال : قبَّحَها اللَّهُ من سُيُوف , وهل أغْنَتْ عنَّا شيئًا ؟ قال : اصْدُقْني , ما الذي جِئْت له ؟ قال : ما جئْتُ إلاَّ لذلك .
قال : بل قعدْتَ أنتَ وصفْوان بن أميَّة في الحِجْر , فذَكَرْتُما قَتْلى قُريش , ثمَّ قُلْتَ : لولاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وعِيَالٌ عندي لَخَرجتُ حتَّى أقتُلَ محمَّدًا , فتَحمَّلَ صفْوان بن أميَّة بدَيْنك وعِيَالك على أن تقتُلَني له , واللَّهُ حائلٌ بيْنَكَ وبيْن ذلك !
فقالَ عُمَيْر : أشهدُ أنَّكَ رسولُ اللَّه ! قد كنَّا يا رسولَ اللَّه نُكذِّبُك بما كنتَ تأتينَا به من خَبَر السَّماء وما يَنزلُ عليكَ من الوَحْي , وهذا أمرٌ لم يَحْضُرْه إلاَّ أنا وصفْوان , فوَاللَّهِ إنِّي لأعلَمُ ما أتاكَ به إلاَّ اللَّه , فالحمْدُ للَّه الذي هداني للإسلام وساقَني هذا المسَاق . ثمَّ شهد شهادة الحقّ , فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فَقِّهُوا أخاكُم في دِينه وأقْرئُوه القرآن وأطلِقُوا له أسيرَه , ففَعَلُوا .
فقالَ عُمَيْر : يا رسولَ اللَّه , إنِّي كنتُ جاهدًا على إطفاء نور اللَّه , شديد الأذَى لِمَنْ كان على دين اللَّه عزَّ وجلَّ , وأنا أحبُّ أن تأذن لي فأقْدم مكَّة فأدْعُوهم إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله وإلى الإسلام , لعلَّ اللَّه يَهديهم , وإلاَّ آذَيْتُهم في دِينهم كما كنتُ أوذي أصحابَك في دِينهم , فأذنَ له .
وكان صفْوان بن أميَّة , حين خرج عُمَيْر , يقولُ لقُريش : أبْشِرُوا بوَاقعةٍ تأتيكُم الآن في أيَّامٍ تُنسيكُم وقْعة بدر . وكان يسألُ عنه الرُّكْبان , حتَّى قدم راكبٌ وأخبره بإسلامه , فحلَفَ أن لا يُكلِّمَه ولا يَنفعه بنَفْع أبدًا . وقدم عُمَيْر إلى مكَّة , فأقام بها يَدْعُو إلى الإسلام كما وعَد .
وهكذا كان محمَّدٌ أبًا وقائدًا وداعية
قد تعجبين يا ابنتي الكريمة لو قلتُ لكِ أنَّ زينب بنت النَّبيّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم كانت متزوِّجة من رجُل غير مُسلم !
نعم , إنَّه أبو العاص بن الرَّبيع , ابنُ أخت السَّيِّدة خديجة , زوجة النَّبيِّ . وقد كان تاجرًا معروفًا بأمانته , وكانت خديجة تَعُدُّه بمَنْزلة ولَدها , فسألَتْ محمَّدًا صلَّى اللَّه عليه وسلَّم أن يُزوِّجَه ابنتهما زينب , وذلك قبل أن يُبْعثَ نبيًّا , ففَعل . فلمَّا أكرم اللَّهُ محمَّدًا بالنُّبوَّة , أسلمَتْ خديجة وبناتها , وأصرَّ أبو العاص على البقاء على دين قَومه . ومع هذا , لم يُكْرهْهُ النَّبيُّ على اعتناق الإسلام , ولم يُجْبِر ابنتَه زينب على مفارقة زوجها .
قال ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة وإضافة بعض التَّعاليق على الأحداث : وجاء كبارُ قُريش إلى أبي العاص , وقالُوا له : فارقْ زوجتَك , ونحنُ نُزوِّجك أيَّ امرأة من قريش شئْت . فقال : لا واللَّه , لا أفارقُ صاحبتي , وما أحبُّ أنَّ لي بها امرأةً من قُريش . وكان رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم يُثني عليه خيرًا .
ومَرَّت السَّنوات , وهاجر النَّبيُّ إلى المدينة , وبقيَتْ زينبُ مع زوجها بمكَّة . وهاجر المسلمون خُفْيَة بعد أن تركُوا أموالَهم وديارَهم , فاستوْلَى عليها المشركُون .
وفي السَّنة الثَّانية من الهجرة , جاءت الأخبار إلى سادات قُريش أنَّ قافلَتهم التِّجاريَّة المقبلة من الشَّام سيَتعرَّضُ لها المسلمون . فخرجُوا في ألْفٍ من رجالهم لإنقاذ تجارتهم , وخرج معهم أبو العاص بن الرَّبيع . وَوقعتْ بينهم وبين المسلمين معركة بمكان اسمُه بَدْر , فانتصر المسلمون , وقُتِلَ ساداتُ قُريش , وأُسِر منهم سَبعون , وكان من بين الأسرى أبو العاص . فبعَثتْ قُريش تَفْتَدِي رجالَها الذين أُسِرُوا , وكان هذا الأمرُ معمولاً به عند العرب . وبَعثتْ زينبُ بمالٍ لِفِداء زوجها , وبعثَتْ قلادةً لها كانت السَّيِّدة خديجة أدْخَلَتْها بها على أبي العاص حين تزوَّجها .
نعم , حتَّى زينب رضي اللَّه عنها , وهي بنتُ النَّبيّ , لَمْ تستغلَّ قَرابَتها هذه , بل بعثَتْ بالمال لِفِداء زوجها , تمامًا مثلَما فَعلَ بقيَّةُ النَّاس !
فلَمَّا رأى رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم القلادة , رقَّ لابنته رقَّةً شديدة , وقالَ لأصحابه : إن رأيتُم أن تُطلِقُوا لها أسيرها , وتَرُدُّوا عليها مالَها , فافعَلُوا . قالُوا : نعم يا رسولَ اللَّه . فأطْلَقُوه , ورَدُّوا عليها الذي لها .
وقد كان بإمكان النَّبيِّ أن يُصدر أوامره , بصِفَته قائد جيش المسلمين , بإطلاق سراح زوج ابنته . ولكنَّ عدْلَه لم يَسْمح له بذلك , فتقدَّم بالطَّلب مثل أيِّ إنسان عادي , وتركَ لِجُنُوده حرِّيَّة الرَّفض أو القَبُول !
وأُطلِقَ أبو العاص من الأسر , وأخذَ عليه النَّبيُّ العهدَ أن يُخلِّي سبيلَ ابنته , ففعلَ , وقَدمتْ زينبُ إلى المدينة .
وأقام أبو العاص بمكَّة , حتَّى إذا كان قُبَيْل فَتْحها , خرج إلى الشَّام يُتاجر بماله وبأموال رجالٍ من قُريش . فلمَّا فرغ من ذلك وقفلَ راجعًا , اعترَضَ بعضُ المسلمين طريقَه , فأخذُوا ما معه وهربَ هو . فلمَّا كان اللَّيلُ , ذهبَ إلى بيت زينب , فاسْتجار بها , فأَجارَتْه , وكان هذا العُرفُ معمولاً به أيضًا عند العرب .
فلمَّا خرج رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى صلاة الفجر وكبَّر إلى الصَّلاة وكبَّر النَّاس , صرخَتْ زينبُ من صَفَّة النِّساء : أيُّها النَّاس , إنِّي قد أجَرْتُ أبا العاص بن الرَّبيع . فلمَّا سلَّم رسولُ اللَّه , أقبلَ على النَّاس وقال : أيُّها النَّاس , هل سمِعْتُم ما سمعْتُ ؟! قالُوا : نعم , قال : أمَا والذي نَفسُ محمَّد بيَده , ما علِمْتُ بشيء من ذلك حتَّى سمعْتُ ما سمعْتُم . إنَّه يُجيرُ على المسلمين أدْناهُم . ثمَّ انصرف , فدخلَ على ابنته وقالَ : أيْ بُنَيَّة , أَكْرِمي مَثْواه , ولا يَخلُصَنَّ إليْكِ فإنَّكِ لا تَحِلِّين له .
وكان اللَّه تعالى قد حرَّم , منذ صُلْح الحُدَيبِيَة سنة سِتٍّ للهجرة , أن يتزوَّج مسلمٌ من مُشركة , أو تتزوَّج مُسلِمةٌ من مُشرك . وأنزلَ تعالى في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ 10 } (60- الممتحنة 10) .
لهذا , امتثلَ النَّبيُّ لِحُكْم اللَّه , وقال لابنَتِه أنَّها لم تَعُد تَحِلُّ لأبي العاص .
وبعثَ رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم إلى المسلمين الذين أخذُوا مالَ أبي العاص , فقالَ لهم : إنَّ هذا الرَّجلَ منَّا حيثُ قد علِمْتُم , وقد أصبْتُم له مالاً , فإن تُحسِنُوا وتَرُدُّوا عليه الذي له فإنَّا نُحبُّ ذلك , وإن أَبَيْتُم فهو فَيْءُ اللَّه الذي أَفاءَ عليكم , فأنتم أحَقّ به (وذلك لأنّ كفّار قريش كانُوا أخرجوهم كرهًا من مكّة , وأخذوا أموالَهم وديارَهم) . قالُوا : يا رسولَ اللَّه , بل نَرُدُّه عليه . فرَدُّوه عليه كلّه .
فاحْتَمَلَه أبو العاص إلى مكَّة , وأدَّى إلى كلِّ ذي مالٍ من قُريش مالَه , ثمَّ قال : يا معشر قُريش , هل بَقِيَ لِأحَدٍ منكُم عندي مالٌ لم يأخُذْه ؟ قالُوا : لا , فجزاكَ اللَّه خيرًا , فقد وَجدْناكَ وَفيًَّا كريمًا . قالَ : فأنا أشهدُ أن لا إله إلاَّ اللَّه وأنَّ محمَّدًا عبْدُه ورسولُه ! واللَّهِ ما منَعَني من الإسلام عِنْدَه إلاَّ مخَافَة أن تظُنُّوا أنِّي إنَّما أردتُ أن آخُذَ أموَالَكم , فلمَّا أدَّاها اللَّهُ إليكُم وفَرغْتُ منها , أسلمْتُ . ثمَّ عاد إلى رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فرَدَّ إليه زينب .
وفي قصَّة أخرى , قالَ ابن إسحاق , نقلاً عن كتابه السِّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : جلسَ عُمَيْر بن وهب الجمَحي مع صفْوان بن أُميَّة يومًا في الحِجْر بعد معركة بدر , يَذكُران قَتْلاهم . وكان عُمَيْر شيطانًا من شياطين قُريش , وكان مِمَّنْ يُؤذي رسولَ اللَّه وأصحابَه عندما كانوا بمكَّة , وكان ابنُه وَهْب في أسارى بدر . فقالَ صفْوان : واللَّهِ ما في العيش بَعْدَهم من خير . قال عُمَيْر : صدقْت , أمَا واللَّهِ لوْلاَ دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْس له عندي قَضاء , وعِيَالٌ أخْشَى عليهم الضَّيْعَة من بعدي , لَرَكِبْتُ إلى محمَّد حتَّى أقتُله , فإنَّ لي قِبَلَهم عِلَّة : ابني أسيرٌ في أيْديهم . فاغْتَنَمها صفْوان وقال : دَيْنُكَ عَلَيَّ , أنا أقْضِيه عنْك , وعِيَالُكَ مع عِيَالي أُوَاسِيهم ما بَقُوا , لا يَسَعُني شيءٌ ويَعْجز عنهم . قال : فاكْتُم عنِّي شأني وشأنك , قالَ : أفْعَل .
فأمَر عُمَيْر بسَيْفِه فشُحِذَ له وسُمَّ , ثم انطلَقَ حتَّى قدم المدينة . فبينما عُمر بن الخطَّاب رضي اللَّه عنه في نَفَرٍ من المسلمين يتحدَّثُون عن يوم بدر ويَذكُرون ما أكْرمهم اللَّهُ به , إذ رأى عُمَيْرًا حينَ أناخَ على باب المسجد مُتَوَشِّحًا سَيْفَه . فقالَ : هذا الكلْبُ عدوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب , واللَّهِ ما جاء إلاَّ لِشَرّ ! ودخلَ على رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , فقال له : يا نبيَّ اللَّه , هذا عدُوُّ اللَّه عُمَيْر بن وهْب قد جاء مُتَوَشِّحًا سيْفَه , قالَ : فأدْخِلْه عَلَيَّ . فأقبَل به عُمر وقد أخذ بِحمالة سيْفه في عُنقه , وكان قال لرِجالٍ من مُسلِمي المدينة : ادخُلُوا على رسول اللَّه فاجْلِسُوا عنده , واحذَرُوا عليه من هذا الخبيث فإنَّه غير مأْمون .
فلمَّا رآه رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , قالَ : أرْسِلْهُ يا عُمر , ادْنُ يا عُمَيْر . فدَنَا وقال : أنْعِمُوا صباحًا , وكانت تحيَّة العرب بينهم . فقال النَّبيُّ صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : قد أكْرَمَنا اللَّهُ بتَحيَّةٍ خيْر من تحِيَّتك يا عُمَيْر : بالسَّلام , تحيَّة أهل الجنَّة . قالَ : أمَا واللَّهِ يا محمَّد إنْ كنتُ بها لَحَديث عَهْد . قالَ : فمَا جاء بكَ يا عُمَيْر ؟ قال : جئْتُ لهذَا الأسير الذي في أيْديكُم , فأحْسِنُوا فيه . قال : فمَا بالُ السَّيف في عُنُقِك ؟ قال : قبَّحَها اللَّهُ من سُيُوف , وهل أغْنَتْ عنَّا شيئًا ؟ قال : اصْدُقْني , ما الذي جِئْت له ؟ قال : ما جئْتُ إلاَّ لذلك .
قال : بل قعدْتَ أنتَ وصفْوان بن أميَّة في الحِجْر , فذَكَرْتُما قَتْلى قُريش , ثمَّ قُلْتَ : لولاَ دَيْنٌ عَلَيَّ وعِيَالٌ عندي لَخَرجتُ حتَّى أقتُلَ محمَّدًا , فتَحمَّلَ صفْوان بن أميَّة بدَيْنك وعِيَالك على أن تقتُلَني له , واللَّهُ حائلٌ بيْنَكَ وبيْن ذلك !
فقالَ عُمَيْر : أشهدُ أنَّكَ رسولُ اللَّه ! قد كنَّا يا رسولَ اللَّه نُكذِّبُك بما كنتَ تأتينَا به من خَبَر السَّماء وما يَنزلُ عليكَ من الوَحْي , وهذا أمرٌ لم يَحْضُرْه إلاَّ أنا وصفْوان , فوَاللَّهِ إنِّي لأعلَمُ ما أتاكَ به إلاَّ اللَّه , فالحمْدُ للَّه الذي هداني للإسلام وساقَني هذا المسَاق . ثمَّ شهد شهادة الحقّ , فقال رسولُ اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : فَقِّهُوا أخاكُم في دِينه وأقْرئُوه القرآن وأطلِقُوا له أسيرَه , ففَعَلُوا .
فقالَ عُمَيْر : يا رسولَ اللَّه , إنِّي كنتُ جاهدًا على إطفاء نور اللَّه , شديد الأذَى لِمَنْ كان على دين اللَّه عزَّ وجلَّ , وأنا أحبُّ أن تأذن لي فأقْدم مكَّة فأدْعُوهم إلى اللَّه تعالى وإلى رسوله وإلى الإسلام , لعلَّ اللَّه يَهديهم , وإلاَّ آذَيْتُهم في دِينهم كما كنتُ أوذي أصحابَك في دِينهم , فأذنَ له .
وكان صفْوان بن أميَّة , حين خرج عُمَيْر , يقولُ لقُريش : أبْشِرُوا بوَاقعةٍ تأتيكُم الآن في أيَّامٍ تُنسيكُم وقْعة بدر . وكان يسألُ عنه الرُّكْبان , حتَّى قدم راكبٌ وأخبره بإسلامه , فحلَفَ أن لا يُكلِّمَه ولا يَنفعه بنَفْع أبدًا . وقدم عُمَيْر إلى مكَّة , فأقام بها يَدْعُو إلى الإسلام كما وعَد .
تعليق