ولو كان المسيح بيننا لتبرَّأ من النَّصارى !
لِماذَا ؟! لأنَّهم رفعوه عن مكانة العبد الرَّسول , فجعلُوا منه ابنًا للَّه , وعبدُوه , ونَسبُوا إليه أقوالاً وأفعالاً مليئة بالكفر , وهو منها براء !
وقد تتساءل سيِّدي الكريم : ولكن , من أين جاء النَّصارى بعقيدة الصَّلب والفداء والخلاص المذكورة خاصَّة في رسائل بولس وإنجيل يوحنَّا ؟
أقول : أمَّا عن الصَّلب , فقد وقع فعْلاً , وسجَّلَتْهُ كتبُ التَّاريخ ! لكنَّ الذي صُلِبَ حقًّا لَم يكُن المسيح عليه السَّلام وإنَّما أحد تلاميذه , ألقَى اللَّهُ عليه شبَه عيسَى , فأخذه اليهودُ في ذلك الزَّمان وصلَبُوه ووضعُوا الشَّوكَ على رأسه , ظانِّين أنَّه المسيح . ورفَع اللَّهُ عيسى عليه السَّلام إلى السَّماء , وسيعود في آخر الزَّمان , ليس لِيُخلِّص النَّصارى , وإنَّما لِيحكُم بالإسلام ولا يقبل دينًا غيره !
نعم , هذا ما ذكره القرآن ووضَّحه النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وسنتحدّثُ عن هذا الأمر بشيء من التَّفصيل في عناصر لاحقة إن شاء اللَّه . وقد كان بعضُ تلاميذ عيسى عليه السَّلام حاضرين معه عندما رفعَه اللَّه إليه , وهؤلاء بَقوا على دينه الحقّ , يَدعُون إلى ما دعا إليه مِن عبادة اللَّه وحده , ويقولون أنَّ عيسى عبدُ اللَّه ورسولُه , ولم يقولُوا أبدًا بعقيدة الفداء والخلاص !
لكنَّ الذين وقعُوا في الخطأ , هم فريقٌ آخر من النَّصارى أصرُّوا على أنَّ الذي صُلِبَ هو المسيح عليه السَّلام . ولَمَّا لم يجدُوا أيّ تفسير عقائدي لهذا الصَّلب , بَحثُوا في الدِّيانات الوثنيَّة السَّائدة وَقتها , فوجدُوا فيها أنَّ الإلهَ يمكن أن يكون له أبناء وزوجة وشُركاء , وأنَّه يمكن أن ينزل إلى الأرض أو يَبعث إليها مَن يَنُوبه ليُحارب الشَّرَّ ويُخلِّص أتباعه ثمَّ يعود إلى السَّماء , وأنَّ الآلهة المتعدِّدة يُمكن أن تُجمَع في صورة إله واحد ذي عدَّة أقانيم ! ويكفي أن تدرس سيِّدي بعض الآلهة , مثل الفيشنو Vishnou والكرشنا Krishna في الدِّيانة الهندوسيَّة , والبوذا Bouddha في الدِّيانة البوذيَّة , وبعل Baal عند البابليِّين القُدامى , لِتَجد كلَّ هذه المعتقدات !
فاستوحى النَّصارى إذًا من هذه الدِّيَانات مسألة الفداء والخلاص , واستحدثُوا نَظريَّة الخطيئة الموروثة لِتبرير الصَّلْب المزعوم للمسيح , وتبنَّوْها كعقائد وأصبحُوا يَدعُون إليها ! فقد جاء في رسالة يوحنَّا : يا أولادي , أكتبُ إليكُم هذا لكي لا تُخطِئُوا . وإن أخطأ أحدٌ فلَنا شفيعٌ عند الآب , يَسوع المسيح البارّ . وهو كفَّارة لِخَطايانا . ليس لِخَطايانا فقط , بل لِخَطايا كلّ العالَم أيضًا . (يوحنّا 1 – الإصحاح الثَّاني 1 - 2) .
وجاء في رسالة بولس : إذ الجميعُ أخطأوا وأعْوَزَهم مَجدُ اللَّه , مُتَبَرّرينَ مَجَّانًا بِنعْمَتِه بالفِدَاء الذي بِيَسُوع المسيح الذي قدَّمه اللَّهُ كفَّارة بالإيمان بدَمه , لإظهار بِرّه من أجل الصَّفح عن الخطايا السَّالفة بإمهال اللَّه . (رومية – الإصحاح الثَّالث 23 – 25) .
وجاء في رسالة بولس : لأنَّه (أي اللَّه) جعلَ الذي لَم يَعرِفْ خَطِيَّةً (أي المسيح) خَطِيَّةً لأجلنا , لِنَصيرَ نحنُ بِرُّ اللَّه فيه . (كورنثوس 2 – الإصحاح الخامس 21) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : لأنَّه هكَذا أحبَّ اللَّهُ العالَم حتَّى بذلَ ابنَه الوحيدَ لكي لا يَهلك كلّ مَن يُؤمن به بل تكونُ له الحياةُ الأبَديَّة . (إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثَّالث 16) .
فعقيدة النَّصارى إذًا تتلخَّص في أنَّ كلَّ إنسان يولَد خاطئًا , وارثًا للخطيئة من أبيه آدم الذي عصى اللَّهَ وأكلَ مِن الشَّجرة المحرَّمة . وأنَّ السَّبيل الوحيد لِمَحْو الخطيئة هو سَفْك دَم . يقول بولس في رسالته إلى العبرانيِّين : وكلُّ شيء تقريبًا يَتطهَّرُ حسبَ النَّاموس بالدَّم . وبدون سَفْك دَم لا تَحصُلُ مَغْفرة . (العبرانيِّين – الإصحاح التَّاسع 22) .
لهذا , بعث اللَّهُ ابنَه الوحيد يَسُوع المسيح لِيُصلَب ويموت , لكي يفتدي خطيئة آدم وخطايا البَشَر ! وكلُّ مَن يُؤمن أنَّ المسيح قام بعد الصّلب , يَخلُص وينجُو من العذاب يوم القيامة ! فقد جاء في رسالة بولس : لأنَّكَ إن اعترفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوع وآمنتَ بقَلبكَ أنَّ اللَّه أقامَه من الأموات , خَلصْت . لأنَّ القلبَ يُؤمنُ به لِلبرّ , والفَمَ يعترفُ به لِلْخَلاص . (رومية – الإصحاح العاشر 9 – 10) .
فَما فائدة العَمل إذًا بعد هذا ؟!!
إنَّ هذه العقيدة تتعارض بلا شكّ مع الفطرة والمنطق , ومع صفة العدل عند اللَّه , لأنَّها تُلغي مَبدأ القصاص يوم القيامة وأَخْذ حَقّ المظلوم من الظَّالِم ! بل إنَّها تُشكِّل خطرًا كبيرًا على الإنسانيَّة , لأنَّها تُشجِّع الفرد على فعل ما يُريد بدون قيد أو شرط , دون أن يخاف من العقاب , لأنَّه على كلِّ حال سوف يَخلُص ويَنجُو منه طالَما آمنَ برُبُوبيَّة المسيح وبصلبه وقيامته !!
ولو أنَّ حاكمًا أعلن لِشَعبه أنَّ كلَّ مَن يُؤمن بشَرعيَّته وكفاءته في الحكْم يَستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يُعاقَب , لانقلب المجتمعُ إلى فَوضى , ولانتشر السَّلبُ والنَّهبُ والقتلُ والاغتصاب !
وقد ظهرت آثارُ هذه العقيدة الباطلة فعلاً في كلام بولس , رسول النَّصارى والمشَرِّع لهم , فأصبح يستبيح المحرَّمات ويُحلِّلُها لِأتباعه ! مِن ذلك ما جاء في رسالته : كلُّ شيء طاهرٌ للطَّاهرين , وأمَّا لِلنَّجِسينَ وغير المؤمنين فلَيسَ شيءٌ طاهرًا , بل قد تَنجَّس ذِهنُهم أيضًا وضميرُهم . (تيطس – الإصحاح الأوَّل 15) .
وأباح لهم شُربَ الخمر , فقال في رسالته : لا تكن في ما بعدُ شرَّابَ ماء , بل استعملْ خَمرًا قليلاً من أجل معدتكَ وأسقامِكَ الكثيرة . (ثيموثاوس 1 – الإصحاح الخامس 23) .
وتَجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مسألة الخطيئة الموروثة لَم تَرِدْ على لسان أحدٍ من الأنبياء قبل عيسى عليه السَّلام , ولا وُجود لِأيِّ ذِكْرٍ لها في التَّوراة ! فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى أخفَى شأنَها عن أنبيائه بالرَّغم من عِلْمِه بأنَّ خلاص البشريَّة لا يَتمُّ إلاَّ بِسَفكِ دَمٍ للتَّكفير عن هذه الخطيئة ؟! وماذا عن مصير البشر الذين جاءوا قبل المسيح إذًا ؟! ولِماذا انتظر اللَّهُ آلاف السِّنين قبل أن يُرسِلَ المسيح لِيُخلِّص البشريَّة ؟!
وإذا كان المسيحُ جاء فعلاً لهذه المهمَّة , فما معنى ما جاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقواله (أي المسيح) عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) . فإمَّا أنَّه أُرسِلَ مُكْرَهًا أو أنَّه لَم يُرسَلْ أصلاً للفداء !
ثمَّ , هل يَقبلُ العقلُ أن يبذلَ اللَّهُ ابنَه الوحيد المزعوم , لِيُصلَب على خشَبة ويتألَّم ويُهان ويُبصَق في وجهه ويموت , افتداءً لِخطيئة آدم ولِخطايا البَشَر ؟! ألم يكن بإمكان اللَّه , وهو المتصرِّف وحده في كلِّ شيء , أن يَغفر لعباده خطاياهم دون أن يُضحِّي بفلذة كبده ؟! هل يُعقل أن يكون اللَّهُ بمثل هذه القسوة , فيُلقي بابنه إلى الإهانة والعذاب ؟! ومِن أجل ماذا ؟! من أجل حَفنةٍ من البَشَر يعيشُون فوق كوكب صغير لا يُمثِّلُ ذرَّةً في كونه الفسيح !!
واللَّهِ إنَّ عقيدةَ الفداء والخلاص هُراءٌ لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق , ولا يليقُ بجلال اللَّه وعدله وحكمته وكماله , سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا !
ثمَّ إنَّ اللَّهَ قد تاب برحمته على آدم وحوَّاء منذ أن كانا في الجنَّة , وانتهَت القضيَّة ! يقول تعالى في القرآن الكريم : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 35 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ 36 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 37 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 38 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 39 } (2- البقرة 35-39) .
فليس هناك إذًا خطيئةٌ موروثة , وكلُّ إنسان مسؤولٌ فقط عن أفعاله , يقول تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 } (6- الأنعام 164) .
ولم يكتف النَّصارى بتحريف شريعة المسيح عليه السَّلام , بل نسبُوا إليه أيضًا أقوالاً وأفعالاً لا تليق بهذا النَّبيِّ الكريم ! فقد جاء مثلاً في إنجيل يوحنَّا : وفي اليوم الثَّالث كان عُرسٌ في قانا الجليل , وكانت أمّ يَسوع هناك . ودُعِيَ أيضًا يَسوعُ وتلاميذُه إلى العُرس . ولَمَّا فرغت الخَمرُ قالت أمّ يَسوع له : ليس لهم خَمر . قال لها يَسوع : مالي ولَكِ يا امرأة ! لَم تأتِ ساعَتي بَعدُ . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 1 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ المسيح عليه السَّلام يَنهرُ أمَّه بهذه الطَّريقة ؟!
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد له اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بأنَّه كان بارًّا بوالدته , حيث قال تعالى : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 } (19- مريم 30-32) .
وهل يُعقَل أنَّ مريم عليها السَّلام تطلبُ من ابنها أن يُحَوِّل الماءَ إلى خَمْر يَشربُه أهلُ العريس ؟!
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد لها اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بالطَّهارة وعُلُوِّ الدَّرجة , حيث قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 } (3- آل عمران 42) .
ومِن الأقوال المنسوبة زورًا إلى المسيح عليه السَّلام , ما جاء في إنجيل لوقا : وقال لآخر : اتْبَعْني . فقال : يا سَيِّدُ ائذَنْ لي أن أمضي أوَّلاً وأدفِنَ أبي . فقال له يَسوع : دَع الموتَى يَدفِنُون موتاهُم , وأمَّا أنت فاذْهَبْ ونادِ بِمَلكُوت اللَّه . وقال آخرُ أيضًا : أتبعُكَ يا سَيِّدُ ولكن ائذَنْ لي أوَّلاً أن أوَدِّع الذين في بَيتي . فقال له يَسوع : ليس أحدٌ يضعُ يَده على المحراث وينظُر إلى الوراء يَصلحُ لِملكُوت اللَّه . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 59 – 62) .
فهل يُعقل أن يَمنعَ نبيُّ اللَّه عيسى عليه السَّلام أحدَ أتباعه من دفن والده , ويَمنع آخر من وداع أهله ؟!
أبدًا لا يُعقَل , لأنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا يَحُثُّون على برِّ الوالدين والإحسان إلى الزَّوجة والأهل .
ومِن مظاهر إساءة النَّصارى إلى المسيح عليه السَّلام : تَصديقهم لِما أشاعه اليهود من علاقة أمِّه مريم , الطَّاهرة العفيفة , بِرجُلٍ يُدعَى يوسف النَّجَّار , فنَسبُوه (أي نَسَبُوا المسيحَ) إليه . والحقيقة أنَّ عيسى عليه السَّلام خلقهُ اللَّه مِن أمٍّ بلا أب , معجزةً منه , مثلما خلقَ آدمَ عليه السَّلام بدون أب ولا أمّ .
أفلا يكفي كلُّ هذا لكي يتبرَّأ المسيحُ عليه السَّلام من النَّصارى وعقائدهم الباطلة ؟!!
ولو كان المسيح بيننا لتبرَّأ من النَّصارى !
لِماذَا ؟! لأنَّهم رفعوه عن مكانة العبد الرَّسول , فجعلُوا منه ابنًا للَّه , وعبدُوه , ونَسبُوا إليه أقوالاً وأفعالاً مليئة بالكفر , وهو منها براء !
وقد تتساءل سيِّدي الكريم : ولكن , من أين جاء النَّصارى بعقيدة الصَّلب والفداء والخلاص المذكورة خاصَّة في رسائل بولس وإنجيل يوحنَّا ؟
أقول : أمَّا عن الصَّلب , فقد وقع فعْلاً , وسجَّلَتْهُ كتبُ التَّاريخ ! لكنَّ الذي صُلِبَ حقًّا لَم يكُن المسيح عليه السَّلام وإنَّما أحد تلاميذه , ألقَى اللَّهُ عليه شبَه عيسَى , فأخذه اليهودُ في ذلك الزَّمان وصلَبُوه ووضعُوا الشَّوكَ على رأسه , ظانِّين أنَّه المسيح . ورفَع اللَّهُ عيسى عليه السَّلام إلى السَّماء , وسيعود في آخر الزَّمان , ليس لِيُخلِّص النَّصارى , وإنَّما لِيحكُم بالإسلام ولا يقبل دينًا غيره !
نعم , هذا ما ذكره القرآن ووضَّحه النَّبيُّ محمَّد صلَّى اللَّه عليه وسلَّم , وسنتحدّثُ عن هذا الأمر بشيء من التَّفصيل في عناصر لاحقة إن شاء اللَّه . وقد كان بعضُ تلاميذ عيسى عليه السَّلام حاضرين معه عندما رفعَه اللَّه إليه , وهؤلاء بَقوا على دينه الحقّ , يَدعُون إلى ما دعا إليه مِن عبادة اللَّه وحده , ويقولون أنَّ عيسى عبدُ اللَّه ورسولُه , ولم يقولُوا أبدًا بعقيدة الفداء والخلاص !
لكنَّ الذين وقعُوا في الخطأ , هم فريقٌ آخر من النَّصارى أصرُّوا على أنَّ الذي صُلِبَ هو المسيح عليه السَّلام . ولَمَّا لم يجدُوا أيّ تفسير عقائدي لهذا الصَّلب , بَحثُوا في الدِّيانات الوثنيَّة السَّائدة وَقتها , فوجدُوا فيها أنَّ الإلهَ يمكن أن يكون له أبناء وزوجة وشُركاء , وأنَّه يمكن أن ينزل إلى الأرض أو يَبعث إليها مَن يَنُوبه ليُحارب الشَّرَّ ويُخلِّص أتباعه ثمَّ يعود إلى السَّماء , وأنَّ الآلهة المتعدِّدة يُمكن أن تُجمَع في صورة إله واحد ذي عدَّة أقانيم ! ويكفي أن تدرس سيِّدي بعض الآلهة , مثل الفيشنو Vishnou والكرشنا Krishna في الدِّيانة الهندوسيَّة , والبوذا Bouddha في الدِّيانة البوذيَّة , وبعل Baal عند البابليِّين القُدامى , لِتَجد كلَّ هذه المعتقدات !
فاستوحى النَّصارى إذًا من هذه الدِّيَانات مسألة الفداء والخلاص , واستحدثُوا نَظريَّة الخطيئة الموروثة لِتبرير الصَّلْب المزعوم للمسيح , وتبنَّوْها كعقائد وأصبحُوا يَدعُون إليها ! فقد جاء في رسالة يوحنَّا : يا أولادي , أكتبُ إليكُم هذا لكي لا تُخطِئُوا . وإن أخطأ أحدٌ فلَنا شفيعٌ عند الآب , يَسوع المسيح البارّ . وهو كفَّارة لِخَطايانا . ليس لِخَطايانا فقط , بل لِخَطايا كلّ العالَم أيضًا . (يوحنّا 1 – الإصحاح الثَّاني 1 - 2) .
وجاء في رسالة بولس : إذ الجميعُ أخطأوا وأعْوَزَهم مَجدُ اللَّه , مُتَبَرّرينَ مَجَّانًا بِنعْمَتِه بالفِدَاء الذي بِيَسُوع المسيح الذي قدَّمه اللَّهُ كفَّارة بالإيمان بدَمه , لإظهار بِرّه من أجل الصَّفح عن الخطايا السَّالفة بإمهال اللَّه . (رومية – الإصحاح الثَّالث 23 – 25) .
وجاء في رسالة بولس : لأنَّه (أي اللَّه) جعلَ الذي لَم يَعرِفْ خَطِيَّةً (أي المسيح) خَطِيَّةً لأجلنا , لِنَصيرَ نحنُ بِرُّ اللَّه فيه . (كورنثوس 2 – الإصحاح الخامس 21) .
وجاء في إنجيل يوحنَّا : لأنَّه هكَذا أحبَّ اللَّهُ العالَم حتَّى بذلَ ابنَه الوحيدَ لكي لا يَهلك كلّ مَن يُؤمن به بل تكونُ له الحياةُ الأبَديَّة . (إنجيل يوحنّا - الإصحاح الثَّالث 16) .
فعقيدة النَّصارى إذًا تتلخَّص في أنَّ كلَّ إنسان يولَد خاطئًا , وارثًا للخطيئة من أبيه آدم الذي عصى اللَّهَ وأكلَ مِن الشَّجرة المحرَّمة . وأنَّ السَّبيل الوحيد لِمَحْو الخطيئة هو سَفْك دَم . يقول بولس في رسالته إلى العبرانيِّين : وكلُّ شيء تقريبًا يَتطهَّرُ حسبَ النَّاموس بالدَّم . وبدون سَفْك دَم لا تَحصُلُ مَغْفرة . (العبرانيِّين – الإصحاح التَّاسع 22) .
لهذا , بعث اللَّهُ ابنَه الوحيد يَسُوع المسيح لِيُصلَب ويموت , لكي يفتدي خطيئة آدم وخطايا البَشَر ! وكلُّ مَن يُؤمن أنَّ المسيح قام بعد الصّلب , يَخلُص وينجُو من العذاب يوم القيامة ! فقد جاء في رسالة بولس : لأنَّكَ إن اعترفْتَ بِفَمِكَ بالرَّبِّ يَسُوع وآمنتَ بقَلبكَ أنَّ اللَّه أقامَه من الأموات , خَلصْت . لأنَّ القلبَ يُؤمنُ به لِلبرّ , والفَمَ يعترفُ به لِلْخَلاص . (رومية – الإصحاح العاشر 9 – 10) .
فَما فائدة العَمل إذًا بعد هذا ؟!!
إنَّ هذه العقيدة تتعارض بلا شكّ مع الفطرة والمنطق , ومع صفة العدل عند اللَّه , لأنَّها تُلغي مَبدأ القصاص يوم القيامة وأَخْذ حَقّ المظلوم من الظَّالِم ! بل إنَّها تُشكِّل خطرًا كبيرًا على الإنسانيَّة , لأنَّها تُشجِّع الفرد على فعل ما يُريد بدون قيد أو شرط , دون أن يخاف من العقاب , لأنَّه على كلِّ حال سوف يَخلُص ويَنجُو منه طالَما آمنَ برُبُوبيَّة المسيح وبصلبه وقيامته !!
ولو أنَّ حاكمًا أعلن لِشَعبه أنَّ كلَّ مَن يُؤمن بشَرعيَّته وكفاءته في الحكْم يَستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن يُعاقَب , لانقلب المجتمعُ إلى فَوضى , ولانتشر السَّلبُ والنَّهبُ والقتلُ والاغتصاب !
وقد ظهرت آثارُ هذه العقيدة الباطلة فعلاً في كلام بولس , رسول النَّصارى والمشَرِّع لهم , فأصبح يستبيح المحرَّمات ويُحلِّلُها لِأتباعه ! مِن ذلك ما جاء في رسالته : كلُّ شيء طاهرٌ للطَّاهرين , وأمَّا لِلنَّجِسينَ وغير المؤمنين فلَيسَ شيءٌ طاهرًا , بل قد تَنجَّس ذِهنُهم أيضًا وضميرُهم . (تيطس – الإصحاح الأوَّل 15) .
وأباح لهم شُربَ الخمر , فقال في رسالته : لا تكن في ما بعدُ شرَّابَ ماء , بل استعملْ خَمرًا قليلاً من أجل معدتكَ وأسقامِكَ الكثيرة . (ثيموثاوس 1 – الإصحاح الخامس 23) .
وتَجدرُ الملاحظة هنا أنَّ مسألة الخطيئة الموروثة لَم تَرِدْ على لسان أحدٍ من الأنبياء قبل عيسى عليه السَّلام , ولا وُجود لِأيِّ ذِكْرٍ لها في التَّوراة ! فهل يُعقَل أنَّ اللَّه تعالى أخفَى شأنَها عن أنبيائه بالرَّغم من عِلْمِه بأنَّ خلاص البشريَّة لا يَتمُّ إلاَّ بِسَفكِ دَمٍ للتَّكفير عن هذه الخطيئة ؟! وماذا عن مصير البشر الذين جاءوا قبل المسيح إذًا ؟! ولِماذا انتظر اللَّهُ آلاف السِّنين قبل أن يُرسِلَ المسيح لِيُخلِّص البشريَّة ؟!
وإذا كان المسيحُ جاء فعلاً لهذه المهمَّة , فما معنى ما جاء في إنجيل مرقس عن آخِر أقواله (أي المسيح) عند صلبه المزعوم : وفي السَّاعة التَّاسعة صرخَ يَسوعُ بِصَوت عظيم قائلاً : إلُوي , إلُوي , لِمَ شَبَقْتَني (الذي تفسيره : إلَهي , إلَهي , لماذا تَركْتَني ؟!) . (إنجيل مرقس – الإصحاح الخامس عشر 34) . فإمَّا أنَّه أُرسِلَ مُكْرَهًا أو أنَّه لَم يُرسَلْ أصلاً للفداء !
ثمَّ , هل يَقبلُ العقلُ أن يبذلَ اللَّهُ ابنَه الوحيد المزعوم , لِيُصلَب على خشَبة ويتألَّم ويُهان ويُبصَق في وجهه ويموت , افتداءً لِخطيئة آدم ولِخطايا البَشَر ؟! ألم يكن بإمكان اللَّه , وهو المتصرِّف وحده في كلِّ شيء , أن يَغفر لعباده خطاياهم دون أن يُضحِّي بفلذة كبده ؟! هل يُعقل أن يكون اللَّهُ بمثل هذه القسوة , فيُلقي بابنه إلى الإهانة والعذاب ؟! ومِن أجل ماذا ؟! من أجل حَفنةٍ من البَشَر يعيشُون فوق كوكب صغير لا يُمثِّلُ ذرَّةً في كونه الفسيح !!
واللَّهِ إنَّ عقيدةَ الفداء والخلاص هُراءٌ لا يقبلُه عقلٌ ولا منطق , ولا يليقُ بجلال اللَّه وعدله وحكمته وكماله , سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظَّالمون عُلُوًّا كبيرًا !
ثمَّ إنَّ اللَّهَ قد تاب برحمته على آدم وحوَّاء منذ أن كانا في الجنَّة , وانتهَت القضيَّة ! يقول تعالى في القرآن الكريم : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ 35 فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ 36 فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ 37 قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ 38 وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 39 } (2- البقرة 35-39) .
فليس هناك إذًا خطيئةٌ موروثة , وكلُّ إنسان مسؤولٌ فقط عن أفعاله , يقول تعالى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ 164 } (6- الأنعام 164) .
ولم يكتف النَّصارى بتحريف شريعة المسيح عليه السَّلام , بل نسبُوا إليه أيضًا أقوالاً وأفعالاً لا تليق بهذا النَّبيِّ الكريم ! فقد جاء مثلاً في إنجيل يوحنَّا : وفي اليوم الثَّالث كان عُرسٌ في قانا الجليل , وكانت أمّ يَسوع هناك . ودُعِيَ أيضًا يَسوعُ وتلاميذُه إلى العُرس . ولَمَّا فرغت الخَمرُ قالت أمّ يَسوع له : ليس لهم خَمر . قال لها يَسوع : مالي ولَكِ يا امرأة ! لَم تأتِ ساعَتي بَعدُ . (إنجيل يوحنّا – الإصحاح الثَّاني 1 – 4) .
فهل يُعقَل أنَّ المسيح عليه السَّلام يَنهرُ أمَّه بهذه الطَّريقة ؟!
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد له اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بأنَّه كان بارًّا بوالدته , حيث قال تعالى : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا 30 وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا 31 وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا 32 } (19- مريم 30-32) .
وهل يُعقَل أنَّ مريم عليها السَّلام تطلبُ من ابنها أن يُحَوِّل الماءَ إلى خَمْر يَشربُه أهلُ العريس ؟!
أبدًا لا يُعقَل , فقد شهد لها اللَّهُ تعالى في القرآن الكريم بالطَّهارة وعُلُوِّ الدَّرجة , حيث قال تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ 42 } (3- آل عمران 42) .
ومِن الأقوال المنسوبة زورًا إلى المسيح عليه السَّلام , ما جاء في إنجيل لوقا : وقال لآخر : اتْبَعْني . فقال : يا سَيِّدُ ائذَنْ لي أن أمضي أوَّلاً وأدفِنَ أبي . فقال له يَسوع : دَع الموتَى يَدفِنُون موتاهُم , وأمَّا أنت فاذْهَبْ ونادِ بِمَلكُوت اللَّه . وقال آخرُ أيضًا : أتبعُكَ يا سَيِّدُ ولكن ائذَنْ لي أوَّلاً أن أوَدِّع الذين في بَيتي . فقال له يَسوع : ليس أحدٌ يضعُ يَده على المحراث وينظُر إلى الوراء يَصلحُ لِملكُوت اللَّه . (إنجيل لوقا – الإصحاح التَّاسع 59 – 62) .
فهل يُعقل أن يَمنعَ نبيُّ اللَّه عيسى عليه السَّلام أحدَ أتباعه من دفن والده , ويَمنع آخر من وداع أهله ؟!
أبدًا لا يُعقَل , لأنَّ كلَّ الأنبياء كانُوا يَحُثُّون على برِّ الوالدين والإحسان إلى الزَّوجة والأهل .
ومِن مظاهر إساءة النَّصارى إلى المسيح عليه السَّلام : تَصديقهم لِما أشاعه اليهود من علاقة أمِّه مريم , الطَّاهرة العفيفة , بِرجُلٍ يُدعَى يوسف النَّجَّار , فنَسبُوه (أي نَسَبُوا المسيحَ) إليه . والحقيقة أنَّ عيسى عليه السَّلام خلقهُ اللَّه مِن أمٍّ بلا أب , معجزةً منه , مثلما خلقَ آدمَ عليه السَّلام بدون أب ولا أمّ .
أفلا يكفي كلُّ هذا لكي يتبرَّأ المسيحُ عليه السَّلام من النَّصارى وعقائدهم الباطلة ؟!!
تعليق