المرض النفسي ليس جنوناً
منى السعيد الشريف - مصر
الكثيرون لا يعرفون عن المريض النفسي إلا ما تمثله الأفلام السينمائية فقط، هذا يطلي الهواء وذاك يعتقد نفسه نابليون. وهذه صور خاطئة يكتنفها الكثير من المغالطة والمبالغة. الواقع يبرهن على أن كل الناس معرضون لأن يمروا بظروف المرض النفسي، وأن طبيعة المرض النفسي مغايرة تمامًا لطبيعة المرض العقلي (الجنون)، بل إن القواسم القليلة المشتركة بينهما لا تخرج عن نفس القواسم المشتركة بين الأمراض المختلفة. فهل يعقل أن نعتقد أن المريض بمرض عضوي معين به كل الأمراض العضوية؟!
التستر على المرض
هنالك أكثر من سبب لتهميش المرض النفسي، فالأمراض العضوية في مفهوم عامة الناس من الممكن أن تتسبب في وفاة الإنسان أو تؤدي إلى إعاقته. والسبب الآخر هو أن المرض العضوي مرض جسدي ظاهر ملموس بأعراضه مثل ارتفاع درجة الحرارة أو السعال أو الاستفراغ.. ويعمل كل المحيطين لمواساة المريض وللتخفيف من ألمه ومعاناته أو أخذه للطبيب ومتابعة علاجه بكل دقة، وتقديم كل عون مادي ومعنوي حتى يُشفى بإذن الله تعالى. وفي الطرف الآخر نجد أن المريض النفسي الذي يعاني فصامًا أو اكتئابًا نفسيًا حادًا (مثلاً) لا يجد من يشعر به ويتفاعل مع مرضه. فالمرض النفسي ليس مرضًا محسوسًا أو ملموسًا يمكن للآخرين معاينة أعراضه بسهولة. ولذلك نجد أن المريض النفسي لا يعاني ويتألم بمفرده، بل (وفي كثير من الأحيان) يُقابل من أهله أو معارفه بكثير من النقد ووصفه بكل الصفات السلبية كضعف الشخصية أو ضعف الإيمان أو الهروب من مسؤولياته. ونتيجة لهذه النظرة السلبية والدونية نجد المريض نفسه يُقاوم ويتستر على مرضه لأقصى درجة مما يؤدي إلى اشتداد حالته وتدهور صحته ولا يلجأ للطبيب إلا مضطرًا وبعد تعقد الأمور!
الأعراض والأمراض
علينا أولاً أن نفـرّق بين الأعراض النفسية والأمراض النفسية. فالأعراض النفسية هي تلك التفاعلات النفسية التي تطرأ على الفرد نتيجة تفاعله مع ظروف الحياة اليومية، وتستمر لفترات قصيرة، وقد لا يلاحظها الآخرون، ولا تؤثر عادة على كفاءة الفرد وإنتاجيته في الحياة، كما لا تؤثر على عقله وقدرته في الحكم على الأمور. وتعد هذه العوارض النفسية جزءًا من طبيعة الإنسان التي خلقه الله بها. فيبدو عليه الحزن عند حدوث أمر محزن، ويدخل في نفسه السرور والبهجة عند حدوث أمر سار.
أمـا الأمراض النفسية فأمرها مختلف، وهي لا تقتصر على ما يسميه الناس بالجنون، بل للمرض النفسي معنى واسع يمتد في أبسط أشكاله من اضطراب التوافق البسيط إلى أشد أشكاله تقريبًا متمثلاً في فصام الشخصية شديد الاضطراب . كما أنه ليس شرطًا أنْ تُستخدم العقاقير في علاج ما يسميه الأطباء النفسيون بالأمراض النفسية، فمنها ما لا يحتاج إلى علاج دوائي فهي تزول تلقائيًا، وربما لا يحتاج معها المريض سوى طمأنته كما يحدث عادة في اضطرابات التوافق البسيطة.
مريض نفسي ومريض عقلي
يشكل المصابون بالتخلف العقلي حوالي 3% من الناس بينما تصل الاضطرابات النفسية إلى 20 -30%. ويختلف المريض النفسي عن المريض العقلي (المجنون) بأشياء كثيرة من أهمها أنه يعي مرضه أو ما به من حالات نفسية غير سوية، كما يعي جيدًا سلوكه ونشاطاته الفردية والاجتماعية. فعلى سبيل المثال المصاب بالهلوسة (هي انحراف بالحس والإدراك) قد يرى أو يسمع أشياء لا وجود لها في الواقع، إلا أنه يعلم جيدًا أن هذه الأشياء التي يسمعها أو يراها لا وجود لها، لذلك يكون سلوكه طبيعيًا وعاديًا.
أما المريض العقلي (أنواع الجنون الكثيرة) فهو بالعكس، قد يرى أو يسمع أشياء لا وجود لها ولكنه (وهذا ما يميزه) يقتنع فعلاً بوجودها، ويكون بموجب ذلك سلوكه ونشاطه وحركاته. ففي بعض أنواع الجنون يقول المريض: (إنه يسمع صوتًا أو يرى قادمًا من بعيد)، لذلك فهو يصغي لهذا الصوت أو يجيب عن أسئلة وهمية أو يخاطب هذا الصوت غير الموجود. كما أنه قد يتقدم لمقابلته أو للهجوم عليه أو يشير إليه.. ( يظن وجود أشياء غير موجودة ويبني سلوكه على هذا).
وفي الفصام (وهو نوع من الجنون) يكون المريض منطويًا على نفسه، جامدًا يهمل حاجياته الغريزية، إلا أنه ينقلب أحيانًا إلى وحش قد يعتدي على طبيبه، أو الممرض، أو من يقع تحت يديه، بسبب ظنه أنه يريد به سوءًا.
الإيمان يهون الآلام
من المفاهيم المغلوطة أيضًا اعتقاد الأكثرية أن الصالحين والأتقياء لا يمكن أن تصيبهم الأمراض النفسية، لأن الأمراض النفسية (في ظنهم) إنما هي فقط بسبب تسلط الشيطان على ضعاف الإيمان. ومن العجب ربط ارتفاع درجة التقوى وقوة الإيمان بامتناع الإصابة بالأمراض النفسية دون العضوية! رغم أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه». وهذا البيان النبوي شامل لجميع الهموم والغموم صغيرها وكبيرها (أيًا كان نوعها).
وفي الأصل فإن الأمراض النفسية مثل غيرها من الأمراض نوع من الهم والابتلاء، ولذلك فإنها قد تصيب المسلم مهما بلغ صلاحه. كما أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة ما ينفي إمكانية إصابة المسلم التقي بالأمراض النفسية حسب تعريفها الطبي، ومن نفى إمكانية ذلك فعليه الدليل.
وبالإضافة إلى ذلك فإن انتقال بعض الأمراض النفسية عبر الوراثة يعكس بوضوح الطبيعة المرضية لتلك الأمراض. ففي مرض الاكتئاب مثلاً تصل نسبة إصابة الأبناء إلى 40% إذا كان الوالدان مصابين بالاكتئاب، وترتفع إلى 60% إذا كانت نسبة الإصابة لدى الآباء حادة، وتقل إلى 15% إذا كان أحد الأبوين مصابًا بالاكتئاب.
ومع ذلك كله، فإن المسلم يتميز عن الكافر، وكذلك التقي عن الفاجر بأنه يحتسب ما يصيبه عند الله، ويستعين بحول الله وقوته على مصائب الدنيا، ولا يفقد الأمل مثلما يفقده غيره. وعمومًا كلما كانت درجة إيمان الفرد عالية كانت حالته النفسية أفضل بكثير. فالإيمان يهون الآلام ويزيد من درجة المناعة النفسية ويعطي دافعًا للصبر، مما يخفف من أثر المصائب على الإنسان ويعجل بالشفاء بإذن الله تعالى.
إن الموضوع أكبر مما يتحدث فيه الناس، والفصل المتعنت بين المريض النفسي وصلاحه وإيمانه يعقّد (بلا شك) من حالته المرضية بشكل شديد لأن هذه الموضوعات تزيد من تأنيبه لنفسه، وهو لا يحتاج منا ذلك، بل يحتاج لمن يمد إليه يد المساعدة ويفهم حالته ويترفق به مع عدم تكليفه بما لا يستطيع.
الاتزان الكيميائي
بالرغم من القفزة النوعية في أسلوب التعامل مع المريض النفسي وعلاجه بأساليب متطورة إلا أن الوصمة ما زالت ملتصقة به وهذا يحدّ كثيرًا من سعي المريض أو أهله للعلاج. فالمريض النفسي قد يلام على مرضه، وقد يعتقد أنه ضعيف أو كسول أو غير مسؤول، بل إن الكثيرين يرون أن المريض النفسي ليس جديرًا بالاهتمام مقارنة بالمريض الذي يعاني مرضًا عضويًا. فلذلك يقصى عن العمل والحياة الاجتماعية وحتى الأسرية في بعض الأحيان.
لقد تحقق الآن تقدم كبير في فهم الأمراض النفسية وكشف الغموض الذي يحيط بها، وتوصلت الأبحاث إلى تغييرات كيميائية تتسبب في الإصابة بمرض الاكتئاب والقلق والفصام والوسواس القهري. كما توصل الطب النفسي إلى استخدام أدوية حديثة يمكن أن تعيد الاتزان الكيميائي في مراكز المخ، حيث يؤدي ذلك إلى اختفاء أعراض المرض النفسي وتحسن حالة المريض بإذن الله تعالى. والمثال على ذلك استخدام دواء لعلاج مرضى الاكتئاب والوسواس القهري عن طريق زيادة مادة (السيروتونين Serotenin) في مراكز المخ، واستخدام دواء لإعادة الاتزان الكيميائي لمرضى الفصام مما يؤثر في تحسن حالتهم. ويدل ذلك على أن الأخذ بالأساليب الطبية يؤدي إلى تحقيق نتائج جيدة، حيث تصل نسبة الشفاء من الأمراض النفسية حاليًا إلى 80% باستخدام الجيل الأخير من الأدوية. على عكس ما كان يحدث في الماضي القريب حيث لم تكن نسبة الشفاء تزيد على 25% في أحسن الأحوال. كما أن التطور المذهل في وسائل العلاج ووسائل تشخيص المرض والوعي الصحي المتزايد قلّل كثيراً من فترة حجز المرضى بالأقسام الداخلية. وبسبب نسبة السيطرة الكبيرة على الأعراض المرضية أصبح تقبّل العائلة للمريض النفسي في المنزل أكبر. وقد ساعد ذلك كثيرًا في التقليل من بناء المستشفيات الكبيرة التي تضم أسرة للمرضى. والآن يتم التركيز على بناء وحدات نفسية صغيرة من ضمن مباني المستشفى العام، أي ليس هناك عزل للمرضى النفسيين في مصحّات أو مستشفيات كبيرة تقام بعيدًا عن المدينة.
إن الأمراض والاضطرابات النفسية، كأي مرض عضوي يمكن أن يصاب به الإنسان، ثم يتعافى منه بطريقة علاجية معينة، وهي في نفس الوقت أمراض ذائعة الانتشار، حتى إنه يمكننا القول بأن الأمراض النفسية من أكثر الأمراض انتشارًا في هذا العصر بفعل التعقيد الحياتي الذي نعيشه وبفعل إيقاع العصر البالغ التشابك، وبفعل الاحتكاك الحضاري المؤثر على السلوك، وبفعل عوامل أخرى يطول شرحها، وتتعدد الآراء في حجم تأثيرها، ولذلك فكل منا معرض بدرجة أو بأخرى للإصابة بأي نوع من الاضطرابات النفسية وفي صدارتها القلق والاكتئاب واستخدام (الميكانيزمات) والحيل الدفاعية نتيجة الظروف الضاغطة التي تحيط بنا، ومن ثم فلا خجل من الاعتراف بالمرض إذا ما أصبنا به. ولا نتردد ولا ننزعج من الذهاب إلى مراكز العلاج النفسي التي تعتبر المجتمعات الغربية زيارتها ضرورة للوصول إلى الصحة النفسية الكاملة.
تعليق