الازهر
شبهة الإتيان بالموصول بدل المصدر
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..(1)
وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:
" من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله ، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".
الرد على الشبهة:
قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:
" أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".
يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".
وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل ؟ ولا " من " اسم فاعل ؟ ولا " آمن " اسم فاعل ؟ ولا " الله " اسم فاعل ؟
وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول ، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى ؟
إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة ، التى هم أميون فيها ، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".
هذا ، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل ؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات ، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية " ، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:
الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:
الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً ، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء ، وردده كثير منهم.
الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".
الثالث: أن يكون المصدر ، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة ، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
فإنما هى إقبال وإدبار
فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل ، والتقدير ؛ هى مقبلة مدبرة.
وقد سبق الزمخشرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن ، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.
أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.
ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى ، وهو ـ هنا ـ البر (3)
يريد شيخ النحاة أن يقول:
إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى ، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين ، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى ، أو نفى بعد إثبات ، فمثلاً قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (4)
ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى ، وما بعدها هو التكذيب ، فبين ما قبلها وما بعد تجانس ظاهر ، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.
وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى ، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.
وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة ، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة ، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.
ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل ، إلى الإخبار عنه بالمصدر ، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه ، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة.
أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:
والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، واستشهد على هذا بقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى
حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.
والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.
نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة ، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر ، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه ، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.
والخلاصة:
من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين ، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر ، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه ؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة ، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.
فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة ، والبلاغة أوسع خطى منهما ، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب ، ولو كان قد قيل: " ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها ، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد ، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن ، والمؤمن بالإيمان ، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب ، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن ، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البقرة: 177.
(2) الكشاف (1/330).
(3) الكتاب (1/108).
(4) الأعراف: 96.
شبهة الإتيان بالموصول بدل المصدر
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين..(1)
وموضع الشاهد على الشبهة ـ عندهم ـ هو قوله عز وجل:
" من آمن بالله " وعلقوا عليه فقالوا: " والصواب أن يقال: ولكن البر أن تؤمنوا بالله ، لأن البر هو الإيمان لا المؤمن ".
الرد على الشبهة:
قالوا فى العنوان الذى وضعوه العبارة الآتية:
" أتى باسم الفاعل بدل المصدر ".
يقصدون قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله ".
وليس فى هذا القول اسم فاعل على الإطلاق: فلا " البر " اسم فاعل ؟ ولا " من " اسم فاعل ؟ ولا " آمن " اسم فاعل ؟ ولا " الله " اسم فاعل ؟
وهم ـ قطعاً ـ يقصدون " من آمن " و " مَنْ " هذا اسم موصول ، وصلته " آمن " أى الذى آمن فمن أين أتوا باسم الفاعل الموضوع موضع المصدر فى الآية يا ترى ؟
إنهم أتوا به من دائرة جهلهم الواسعة ببدهيات اللغة ، التى هم أميون فيها ، ومع هذا ينصبُّون أنفسهم قضاة على كتاب الله العزيز ذروة البيان المعجز ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكان يجب عليهم أن يلتحقوا بمدارس أولية يتعلمون فيها " فك الخط " إذا أرادوا أن يبحثوا لأنفسهم عن مكان مناسب لأوضاعهم. ولهذا الخطأ الشنيع عدلنا عن عنوانهم إلى العنوان الذى وضعناه لهذه الشبهة " الإتيان بالموصول بدل المصدر ".
هذا ، وللعلماء فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن " البر " وهو خلاف الأصل ؛ لأن البر معنى ذهنى و " من آمن " ذات ، والذوات لا يخبر بها عن " المعانى الذهنية " ، للعلماء فى هذه المسألة ستة توجيهات نذكر منها أقواها فى الآتى:
الإمام الزمخشرى أورد فيها ثلاثة توجيهات:
الأول: أن فى الكلام مضافاً محذوفاً ، والتقدير. ولكن البر بر من آمن. وهذا التوجيه اشتهر بين جمهور العلماء ، وردده كثير منهم.
الثانى: تأويل " البر " بـ " ذو البر " يعنى أن فى الكلام حذف مضاف لكن تقديره قبل " البر " أما التوجيه الأول فكان تقدير المضاف المحذوف قبل " من آمن " وهذا المضاف خبر " البر " الذى هو اسم " ليس ".
الثالث: أن يكون المصدر ، وهو " البر " موضوع موضع اسم الفاعل للمبالغة ، كما فى قول الخنساء تصف فرس أخيها صخر.
ترتع ما رتعت حتى إذا ادَّكرت
فإنما هى إقبال وإدبار
فإقبال وإدبار مصدران حلا محل اسم الفاعل ، والتقدير ؛ هى مقبلة مدبرة.
وقد سبق الزمخشرى إلى الرأى الأول. ولكن البر برُّ من آمن ، شيخ النحاة سيبويه. وقد اختار سيبويه هذا الرأى ورجحه لاعتبار قوى فحواه.
أن السابق عليه هو نفى كون البر هو تولية وجوه المخاطبين نحو المشرق والمغرب.
ثم قال: والذى يستدرك ينبغى أن يكون من جنس ما وقع عليه النفى ، وهو ـ هنا ـ البر (3)
يريد شيخ النحاة أن يقول:
إن " لكن " أداة استدراك فى المعنى ، وإن طرفى الاستدراك ينبغى أن يكونا متجانسين ، والاستدراك: إما إثبات بعد نفى ، أو نفى بعد إثبات ، فمثلاً قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (4)
ما قبل أداة الاستدراك " لكن " هو الإيمان والتقوى ، وما بعدها هو التكذيب ، فبين ما قبلها وما بعد تجانس ظاهر ، لأنهما سلوكيات قلبية وخلقية.
وكذلك ما قبل لكن فى الآية موضوع الدراسة هو البر الظاهرى المنفى ، وما بعدها ينبغى أن يكون هو البر الحقيقى المثبت.
وهذه لمحة طيبة من شيخ النحاة ، ولها صلة وثيقة بالتوجيه البلاغى لهذه المسألة ، سنعرضها فى الخلاصة إن شاء الله.
ومن الآراء التى طرحت فى هذا الصدد أن " البر " وقع موقع اسم الفاعل لإرادة المبالغة على وزان قول العرب " رجل عدل " حيث عدلوا عن رجل عادل ، إلى الإخبار عنه بالمصدر ، على اعتبار أن هذا الرجل لما كان كثير العدل صار كأنه العدل نفسه ، لا فرق بينهما. وهذا رأى نحاة الكوفة.
أما الفراء فقد جعل " من آمن " واقعاً موقع الإيمان وقال:
والعرب تجعل الاسم خبراً للفعل ، واستشهد على هذا بقول الشاعر:
لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
ولكنما الفتيان كل فتى نَدِى
حيث جعل الشاعر نبات اللحية خبراً عن الفتيان.
والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى.
نكتفى بهذا القدر ـ مما ذكره النحاة ، ويكاد يجمع عليه المفسرون ـ فى توجيه وقوع " من آمن " خبراً عن البر ، مع تسليم الكافة بصحة الاستعمال اللغوى فيه ، واجتهادهم هذا كان محاولة لفهم هذا الاستعمال.
والخلاصة:
من خلال النقول التى تقدمت عن النحاة واللغويين والمفسرين ، بطلت هذه الشبهة ولم يبق لها أثر ، فلا غرابة فى وضع " من آمن " خبراً عن " البر " سواء أخذنا بتوجيه شيخ النحاة سيبويه ؛ أن فى الكلام حذف مضاف تقديره " ولكن البر بر من آمن " أو أخذنا بالتوجيه الذى أجاز وقوع المصدر موقع اسم الفاعل أو الفاعل.. فهذه كلها أساليب عربية فصيحة مستعملة ، ومن شواهدها فى القرآن كذلك قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " فوقع المصدر " حل " موقع اسم الفاعل " حالٌّ " أى مقيم بهذا البلد.
فإذا ولينا وجوهنا شطر البلاغة بعد النحو واللغة ، والبلاغة أوسع خطى منهما ، فإننا نلمح فى التعبير القرآنى " ولكن البر من آمن " معنى لطيفاً دقيقاً ذا مغزى كبير لأن " من آمن " يدل على ذوات تمكن الإيمان فى قلوبها. فالإيمان " حالٌّ " فى تلك القلوب ، ولو كان قد قيل: " ولكن البر الإيمان " لكان هذا الإيمان مجرد فكرة لا محل لها ، بل هى مفصولة عن الذوات. يعنى إيمان نظرى لا عملى. وهذا ليس بسديد ، لكن لما جعل هذا وصفاً للذوات المدلول عليها بـ " من " التحم الإيمان بالمؤمن ، والمؤمن بالإيمان ، فتحول إلى إيمان عملى متمكن فى القلوب ، فى مقابلة الإيمان الشكلى الذى لم يرضه القرآن ، وهو توجه الوجوه نحو المشرق والمغرب. وهذا ما ألمح إليه سيبويه من قبل.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) البقرة: 177.
(2) الكشاف (1/330).
(3) الكتاب (1/108).
(4) الأعراف: 96.