الازهر
شبهة وضع الفعل المضارع موضع الماضى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (1).
ذكروا هذه الآية ، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:
" كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى ، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان " ؟!
الرد على الشبهة:
وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (2).
وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (3).
وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية ؟
يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم ، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.
وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى ، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.
ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع ، وهو حيوان مفترس.
فأضربها بلا دهش فخـرَّت
صريعًا لليدين ، وللجران (4)
الشاعر ضرب الضبع فى الماضى ، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى ، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.
هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة ، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويًا ، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.
وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":
" يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال ، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون ، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله ، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان ، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين ، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه " (5).
ونعيد السؤال مرة أخرى:
لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه ؟
الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى ، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن ، وكأن الأبصار تراه الآن.
هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر ، ولا ماضيًا.
والخلاصة:
بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة ، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى ، والنحو وإن كان أساس البلاغة ، وجذورها العميقة ، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية ، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها ، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو ، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها ، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب ، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة ، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب ، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.
وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.
إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا
أما لو قيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه ، وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر ، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.
وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم ، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن ، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث ، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته ، كما قال عز وجل:
(وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً ) (6).
لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال ، وتستمر فى الاستقبال.
وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:
مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "
ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا ، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.
وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء ، وهو الأكثر ، وإما الواو مع النون ، وهو كثير ، أو مع الميم.
وكذلك ما بعدها ، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز ، وجه من وجوه إعجازه ، التى باين بها كلام البشر والجن ، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع ، كما جذبت معانيه القلوب ، وأسرت العقول ، واستولت على ألباب أولى الألباب.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) آل عمران: 59.
(2) الكشاف (1/433).
(3) أنوار التنزيل (1/162).
(4) يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
(5) انظر: الدر المصون (3/220-221).
(6) النساء: 1.
شبهة وضع الفعل المضارع موضع الماضى
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله عز وجل: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (1).
ذكروا هذه الآية ، ثم قالوا فى تصويب الخطأ الذى توهموه فيها:
" كان يجب أن يعتبر المقام الذى يقتضى صيغة الماضى ، لا المضارع فيقول: " قال له كُنْ فكان " ؟!
الرد على الشبهة:
وجَّه المفسرون والنحاة قوله تعالى " كُنْ فيكون " فأوجز الزمخشرى القول فيها فقال: هى حكاية حال ماضية (2).
وقد أخذ هذه العبارة عن الزمخشرى الإمام البيضاوى ولم يزد عليها (3).
وهى عبارة تحتاج إلى بيان ما هى حكاية الحال الماضية ؟
يريد الإمامان أن المضارع " يكون " دلالته فى الآية أن الله عز وجل يصور للمخاطبين ترتيب الأحداث ساعة حدوثها فى الزمن الذى خلق الله فيه آدم ، وفائدته نقل أذهانهم إلى تلك اللحظة كأنهم يعاينونها بأبصارهم.
وهذه هى دلالة المضارع إذا وضع موضع الماضى عند علماء المعانى ، هى بعث الماضى وتصويره فى صورة الذى يحدث فى الحال.
ومن أمثلته عندهم قول الشاعر يحكى صراعًا حدث بينه وبين الضَّبُع ، وهو حيوان مفترس.
فأضربها بلا دهش فخـرَّت
صريعًا لليدين ، وللجران (4)
الشاعر ضرب الضبع فى الماضى ، فلما حكى صراعه معها للناس عبَّر عن الماضى " فضربتها " بالمضارع " فأضربها " والدلالة البلاغية للعدول عن الماضى إلى المضارع هى استحضار صورة الحدث الذى وقع فى الماضى ، كأنه يحدث الآن فى زمن التكلم.
هذا ما أراده الشيخان: الزمخشرى والبيضاوى من عبارة " حكاية حال ماضية " ليبينا سر العدول عن " فكان " إلى " فيكون " فى الآية الكريمة ، التى ادعى مثيرو هذه الشبهات أن فيها خطأً نحويًا ، وهم عن معرفة الصواب والخطأ بمعزل.
وقال بعض المفسرين اللغويين فى توجيه " فيكون ":
" يجوز أن يكون على بابه من الاستقبال ، والمعنى: فيكون كما يأمر الله فيكون ، حكاية للحال التى يكون عليها آدم حين خلقه الله ، ويجوز أن يكون " فيكون " بمعنى كان ، وعلى هذا أكثر المفكرين والنحويين ، وبهذا فسره ابن عباس رضى الله عنه " (5).
ونعيد السؤال مرة أخرى:
لماذا عُدِل عن معنى الماضى إلى لفظ المضارع ومعناه ؟
الجواب على هذا السؤال هو ما قدمناه فى توضيح عبارة الإمام الزمخشرى ، التى تناقلها عنه النحاة والمفسرون وهو إيثار المضارع على الماضى لاستحضار صورة الحدث فى الذهن ، وكأن الأبصار تراه الآن.
هذه خلاصة أمينة ووافية لما قاله العلماء فى توجيه " فيكون " مضارعًا مرفوعًا لا مجزومًا جوابًا للأمر ، ولا ماضيًا.
والخلاصة:
بعد عرض توجيهات المفسرين والنحاة ، يطيب لنا أن نستكشف إسهامات البلاغة فى تأصيل التعبير القرآنى " ثم قال له كن فيكون " الذى اعتبره مثيرو هذه الشبهات معيبًا بالخطأ النحوى ، والنحو وإن كان أساس البلاغة ، وجذورها العميقة ، التى أثمرت كل الإيحاءات البلاغية ، فإن هناك حقيقة يجب الوقوف عليها ، وهى أن البلاغة تبدأ من حيث ينتهى النحو ، فالنحو ـ ومعه الصرف ـ يهتم باستقامة الأساليب وصحتها ، أما البلاغة فتنظر فى الأساليب ، وتغوص وراء ما فيها من المعانى الخبيئة ، والأسرار الدفينة وتبحث عن الإيحاءات الكامنة وراء كل لفظ وجملة وتركيب ، أو تبحث عن معنى المعنى لا معنى اللفظ ، أو المعانى الثانية الخفية غير المباشرة الظاهرة.
وإذا كان ما قدمناه من توجيهات كافيًا فى إزالة هذه الشبهة التى توهمها هؤلاء " الخواجات " فإن دور البلاغة فى تأصيل هذا التعبير القرآنى مساير لتوجيهات النحاة والمفسرين.
إن هذا التعبير " كن فيكون " هو الواجب بلاغة وبيانًا وإعجازًا ونظمًا
أما لو قيل " كن فكان " لخلا هذا التعبير من ثلاثة أرباع الحسن الذى هو فيه ، وذلك للاعتبارات الآتية:
فأولاً: دلالة الماضى الأصل فيها الانقطاع عن الوجود المستمر ، ولذلك يعبر عنه النحويون بأنه: ما دل على حدث وقع وانقطع قبل زمن التكلم.
وهذا غير مراد فى حكاية الله كيفية خلقه لآدم ، لأنه لو قيل: كن فكان لصدق هذا التعبير عن وجوده لحظة واحدة من الزمن ، ولو كان قد مات لحظة خلقه.
أما " كن فيكون " فدلالتها استمرار وجوده حتى أنجب مَنْ أنجب من ذكور وإناث ، وما بث منهما من آباء البشر وأمهاته ، كما قال عز وجل:
(وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساءً ) (6).
لأن دلالة المضارع تبدأ من الحال ، وتستمر فى الاستقبال.
وثانياً: أن هذا التعبير " كن فيكون " يؤذن بتقدير مسند إليه قيل " فيكون " أى " فهو يكون " وفى هذا تكرار إسناد " الكينونة " لآدم:
مرة يجعل " يكون " خبرًا عن ضمير آدم " هو "
ومرة بإسناد فعل الجملة الخبرية " يكون " إلى ضمير آدم المستكن فى الفعل وجوبًا ، على أنه فاعل له. وتكرار الإسناد من أقوى أساليب التوكيد فى البلاغة العربية.
وثالثاً: فى الفعل المضارع " يكون " تناسب آسر لرءوس الآيات (الفواصل) لأن ما قبله كلها فواصل مبنية على حرف المد إما الياء ، وهو الأكثر ، وإما الواو مع النون ، وهو كثير ، أو مع الميم.
وكذلك ما بعدها ، والتناسق الصوتى فى النظم القرآنى المعجز ، وجه من وجوه إعجازه ، التى باين بها كلام البشر والجن ، وجعل لتلاوته حلاوة جذابة للأسماع ، كما جذبت معانيه القلوب ، وأسرت العقول ، واستولت على ألباب أولى الألباب.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) آل عمران: 59.
(2) الكشاف (1/433).
(3) أنوار التنزيل (1/162).
(4) يعنى سقطت على الأرض على جنبها.
(5) انظر: الدر المصون (3/220-221).
(6) النساء: 1.