بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فهذا درسٌ في السيرة يسلط الضوء على حادثة مقتل المجرم سلام بن أبي الحقيق.
قال ابن كثير -في البداية والنهاية -: "مقتل أبي رافع عبد الله، ويقال: سلام بن أبي الحقيق اليهودي -لعنه الله- وكان في قصر له في أرض خيبر، وكان تاجراً مشهوراً بأرض الحجاز"أ. ه1
وهو من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة2، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فرغ المسلمون من أمر بني قريظة وكانت الأوس قد قتلت على أيدي رجالها كعب بن الأشرف، استأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبي رافع رغبةً منها في إحراز فضيلةٍ مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان.
أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت جماعةٌ قوامها خمسة رجال كلهم من بني سلمة من الخزرج، وقائدهم عبد الله بن عتيك وبقيتهم هم: مسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة وخزاعي بن أسود.
وزاد ابن الأثير في جامع الأصول عبد الله بن عِتبة -بكسر العين3-.
خرج هؤلاء القوم، واتجهوا نحو خيبر، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنَوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم4 قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم إني منطلق ومتلطف للبوَّاب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس.
فهتف به البواب: يا عبد الله-إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنتُ - أي اختبأت - فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق المفاتيح على وتد، قال: فقمت إلى المغالق ففتحتها، وكان أبو رافع يسمر عنده أناس، فلما ذهب أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من بالداخل.
قلت: إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو ببيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربةً بالسيف وأنا مندهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فمكثت قليلاً، ثم دخلت عليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟
فقال: لأمك الويل! إن رجلاً في البيت ضربني قبل قليل بالسيف.
قال عبد الله: فضربته ضربةً لم تقتله، ثم وضعت ذبابة السيف في بطنه حتى خرج من ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجةٍ له، فوضعت رجلي معتقداً أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت فانكسرت ساقي، وكانت ليلةً مقمرة فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته.
فلما صاح الديك، صاح من ينعي أبا رافع على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز.
فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.5
فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: أبسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنهالم أشتكها قط.6
وعند ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله به لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غناءً إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الإسلام. قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً فعلت الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوسُ كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت الخزرج، والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً، قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العداوة كابن الأشرف فتذكروا ابن أبي الحقيق، وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود، فخرجوا، وأمَّر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن عتيك، ونهاهم عن أن يقتلوا وليداً أو امرأة فخرجوا حتى قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلقوه على أهله، قال: فقاموا على بابه مستندين على جذع نخلة فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته إليهم. فقالت: من أنتم؟
قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة (أي أصحاب حاجة).
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا عليه أغلقنا علينا وعليها الحجرة، تخوفاً أن تحول بيننا وبينه، فابتدرناه بأسيافنا وهو على فراشه، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا ثياب بيض ملقاةٌ.
قال: فصاحت امرأته فكان الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليلٍ. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قَطْني قطني -أي حسبي حسبي- قال: وخرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئاً شديد7، ويقال: رجله -فيما قال ابن هشام- وحملناه حتى نأتي به منهر8من عيونهم، فندخل فيه، قال: فأوقدوا فيه النيران، واشتدوا في كل وجهٍ يطلبوننا.
قال: حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، فاكتنفوه وهو ينزع بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدوَّ الله قد مات؟ قال: فقال رجلٌ منا أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبتُ نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟! ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ9وإله يهود، فما سمعت من كلمة كانت ألذَّ إلى نفسي منها. قال: ثم جاءنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه بقتل عدوِّ الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه فقال: لسيف عبد الله بن أنيس (هذا والله قتله).
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لله درُّ عصابة لاقيتـــَهم **** يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكمُ **** مُرُحـــاً كأسدٍ في عرين مغرِف
حتى أتوكم في محلِّ بلادكـم **** فسقوكم حتفاً ببيضً ذفَّـــفِ10.
مستبصرين لنصر دين نبيهـم **** مستصغرين لك
لٍ أمرٍ مجـــحفِ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فهذا درسٌ في السيرة يسلط الضوء على حادثة مقتل المجرم سلام بن أبي الحقيق.
قال ابن كثير -في البداية والنهاية -: "مقتل أبي رافع عبد الله، ويقال: سلام بن أبي الحقيق اليهودي -لعنه الله- وكان في قصر له في أرض خيبر، وكان تاجراً مشهوراً بأرض الحجاز"أ. ه1
وهو من أكابر مجرمي اليهود الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأعانهم بالمؤن والأموال الكثيرة2، وكان يؤذي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما فرغ المسلمون من أمر بني قريظة وكانت الأوس قد قتلت على أيدي رجالها كعب بن الأشرف، استأذنت الخزرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتل أبي رافع رغبةً منها في إحراز فضيلةٍ مثل فضيلتهم، فلذلك أسرعوا إلى هذا الاستئذان.
أذن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله، ونهى عن قتل النساء والصبيان، فخرجت جماعةٌ قوامها خمسة رجال كلهم من بني سلمة من الخزرج، وقائدهم عبد الله بن عتيك وبقيتهم هم: مسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة وخزاعي بن أسود.
وزاد ابن الأثير في جامع الأصول عبد الله بن عِتبة -بكسر العين3-.
خرج هؤلاء القوم، واتجهوا نحو خيبر، إذ كان هناك حصن أبي رافع، فلما دنَوا منه، وقد غربت الشمس، وراح الناس بسرحهم4 قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم إني منطلق ومتلطف للبوَّاب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب، ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجته وقد دخل الناس.
فهتف به البواب: يا عبد الله-إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب.
قال عبد الله بن عتيك: فدخلت فكمنتُ - أي اختبأت - فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علق المفاتيح على وتد، قال: فقمت إلى المغالق ففتحتها، وكان أبو رافع يسمر عنده أناس، فلما ذهب أهل سمره صعدت إليه، فجعلت كلما فتحت باباً أغلقت على من بالداخل.
قلت: إن القوم لو نذروا بي لم يخلصوا إليَّ حتى أقتله، فانتهيت إليه فإذا هو ببيت مظلم وسط عياله، لا أدري أين هو من البيت. قلت: أبا رافع، قال: من هذا؟ فأهويت نحو الصوت، فأضربه ضربةً بالسيف وأنا مندهش، فما أغنيت شيئاً، وصاح فخرجت من البيت فمكثت قليلاً، ثم دخلت عليه، فقلت: وما هذا الصوت يا أبا رافع؟
فقال: لأمك الويل! إن رجلاً في البيت ضربني قبل قليل بالسيف.
قال عبد الله: فضربته ضربةً لم تقتله، ثم وضعت ذبابة السيف في بطنه حتى خرج من ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت أفتح الأبواب باباً باباً حتى انتهيت إلى درجةٍ له، فوضعت رجلي معتقداً أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت فانكسرت ساقي، وكانت ليلةً مقمرة فعصبتها بعمامة ثم انطلقت حتى جلست على الباب، فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته.
فلما صاح الديك، صاح من ينعي أبا رافع على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز.
فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع.5
فانتهيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحدثته فقال: أبسط رجلك فبسطت رجلي فمسحها فكأنهالم أشتكها قط.6
وعند ابن إسحاق قال: حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك قال: وكان مما صنع الله به لرسوله -صلى الله عليه وسلم- أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غناءً إلا قالت الخزرج: والله لا تذهبون بهذه فضلاً علينا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الإسلام. قال: فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها، وإذا فعلت الخزرج شيئاً فعلت الأوس مثل ذلك.
ولما أصابت الأوسُ كعبَ بن الأشرف في عداوته لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت الخزرج، والله لا تذهبون بها فضلاً علينا أبداً، قال: فتذاكروا: من رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العداوة كابن الأشرف فتذكروا ابن أبي الحقيق، وهو بخيبر فاستأذنوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قتله فأذن لهم، فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد الله بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد الله بن أنيس، وأبو قتادة، والحارث بن ربعي، وخزاعي بن أسود، فخرجوا، وأمَّر عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عبدَ الله بن عتيك، ونهاهم عن أن يقتلوا وليداً أو امرأة فخرجوا حتى قدموا خيبر، أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلاً، فلم يدعوا بيتاً في الدار إلا أغلقوه على أهله، قال: فقاموا على بابه مستندين على جذع نخلة فاستأذنوا عليه، فخرجت امرأته إليهم. فقالت: من أنتم؟
قالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة (أي أصحاب حاجة).
قالت: ذاكم صاحبكم فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا عليه أغلقنا علينا وعليها الحجرة، تخوفاً أن تحول بيننا وبينه، فابتدرناه بأسيافنا وهو على فراشه، فوالله ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا ثياب بيض ملقاةٌ.
قال: فصاحت امرأته فكان الرجل منا يرفع عليها سيفه، ثم يذكر نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيكف يده، ولولا ذلك لفرغنا منها بليلٍ. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد الله بن أنيس بسيفه في بطنه حتى أنفذه، وهو يقول: قَطْني قطني -أي حسبي حسبي- قال: وخرجنا، وكان عبد الله بن عتيك سيء البصر، قال: فوقع من الدرجة فوثئت يده وثئاً شديد7، ويقال: رجله -فيما قال ابن هشام- وحملناه حتى نأتي به منهر8من عيونهم، فندخل فيه، قال: فأوقدوا فيه النيران، واشتدوا في كل وجهٍ يطلبوننا.
قال: حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم، فاكتنفوه وهو ينزع بينهم قال: فقلنا: كيف لنا بأن نعلم بأن عدوَّ الله قد مات؟ قال: فقال رجلٌ منا أنا أذهب فأنظر لكم، فانطلق حتى دخل في الناس، قال: فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ثم قالت تحدثهم: أما والله لقد سمعت صوت ابن عتيك، ثم أكذبتُ نفسي وقلت: أنى ابن عتيك بهذه البلاد؟! ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه ثم قالت: فاظ9وإله يهود، فما سمعت من كلمة كانت ألذَّ إلى نفسي منها. قال: ثم جاءنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرناه بقتل عدوِّ الله، واختلفنا عنده في قتله كلنا يدعيه فقال: لسيف عبد الله بن أنيس (هذا والله قتله).
قال ابن إسحاق: فقال حسان بن ثابت في ذلك:
لله درُّ عصابة لاقيتـــَهم **** يا ابن الحقيق وأنت يا ابن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكمُ **** مُرُحـــاً كأسدٍ في عرين مغرِف
حتى أتوكم في محلِّ بلادكـم **** فسقوكم حتفاً ببيضً ذفَّـــفِ10.
مستبصرين لنصر دين نبيهـم **** مستصغرين لك