المستنصر بالله هو الخليفة الخامس من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية في مصر والثامن منذ نشاتها بالمغرب، وأشهر أحداث عصره الشدة المستنصرية أو ما يعرف في كتب المؤرخين بـ "الشدة العظمى"، وهي مصطلح يطلق على المجاعة والخراب الذى حل بمصر لمدة سبع سنوات عجاف (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م).
الخليفة المستنصر بالله العبيدي
هو المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله العبيدي الفاطمي، تولى الخلافة العبيدية الفاطمية خلفًا لوالده وهو ابن سبع سنين في النصف من شعبان سنة 427هـ / 1036م، وأقام بها ستين سنة إلى 487هـ / 1094م.
وقد بلغت الخلافة العبيدية الفاطمية في عهد من القوة والاتساع والازدهار ما لم يبلغه أحد قبله، حيث امتد سلطان الخلافة ليشمل بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال إفريقيا، وتردد اسمه على المنابر في هذه البلاد، وخُطب له في بغداد لمدة عام وذلك في سنة (450هـ / 1058م).
ودام ذلك حتى تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله فيقتل، مما أثار الفتن وعمت الفوضى والاضطرابات، ومنه حل الخراب على الدولة كلها إلى أن سقطت بنفو الوزراء وضياع هيبة الخليفة. وقد كان سب الصحابة فاشيا في أياما لمستنصر، والسنة غريبة مكتومة، حتى إنهم منعوا الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث، وهددوه فامتنع.
قال ابن خلكان رحمه الله: "جرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره"، منها: حادثة البساسيري الذي قطع الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر ببغداد سنة 450هـ، ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من خلفاء الإسلام، ومنها أنه حدث في أيام خلافته في مصر الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وهو ما يعرف بالشدة المستنصرية أو الشدة العظمى.
أحداث خلافة المستنصر
شهد أواخر عهد المستنصر (427هـ - 487هـ) عدة اضطرابات عظيمة في البلاد، منها:
1- أن الجند السودانيون يثيرون الاضطرابات في الوجه القبلي.
2- ونحوًا من أربعين ألف فارس من قبيلة لواتة والأعراب، تحت زعامة ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي (المتمرد على الخلافة العبيدية الفاطمية)، يغيرون على الوجه البحري وينهبون بلاده ويحطمون الجسور والقنوات، مما ترتب عليه انقطاع المئونة عن القاهرة والفسطاط.
3- وفى سنة 462هـ بعث ناصر الدولة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة بالعراق رسولًا من قبله يسأله أن يرسل إليه عسكرًا ليقيم الدعوة العباسية بمصر على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فرحب أرسلان بذلك، ولكنه انشغل بمحاربة الروم عن مصر.
4- وفى سنة 464هـ قطع ابن حمدان اسم المستنصر من الخطبة في الوجه البحري، وبعث إلى الخليفة القائم العباسي ببغداد يلتمس الخلع، ثم قدم إلى الفسطاط وتولي الحكم في القاهرة، وأطلق للخليفة مائة دينار كل شهر وخشي الأتراك على أنفسهم من جراء استبداد ناصر الدولة بالأمور في القاهرة، فدبروا لقتله فقتل وتتبعوا كل أفراد أسرته بمصر وتخلصوا منهم.
5- ثم تسلطت الأتراك، واستبدوا بالأمور دون المستنصر سنة 466هـ.
الشدة المستنصرية
شاءت الأقدار أن لا تقتصر معاناة البلاد على اختلال الإدارة والفوضى السياسية، فجاء نقصان منسوب مياه النيل ليضيف إلى البلاد أزمة عاتية. وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى ومجاعة داهية امتدت لسبع سنوات متصلة (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م) [*]، وسببها ضعف الخلافة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل، فزادات الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، شمل الخوف وخيفت السبل برًا وبحرًا.
وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.
وذكر ابن إياس من العجائب التي لا يصدقها عقل زمن تلك المجاعة، ومنها: أن الناس أكلوا الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وقيل كان الكلب يدخل البيت فيأكل الطفل الصغير وأبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما من شدة الجوع والضعف، ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس، وصار الناس في الطرقات إذا قوى القوى على الضعيف يذبحه ويأكله.
وذكر كذلك أن طائفة من الناس جلسوا فوق أسقف البيوت وصنعوا الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه.
ويروي إياس أن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبا شديدا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم.
وقيل: إنه كان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق، وهي معروفة بمدينة الفسطاط، كان فيها عشرون دارا، كل دار تساوي ألف دينار، فأبيعت كلها بطبق خبز، كل دار برغيف، فسميت من يومئذ بحارة الطبق.
وذكر ابن الأثير أنه اشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، وباعت عروضا تساوي ألف دينار بثلاث مائة دينار، فاشترت بها شوالًا من القمح، فانتهبه الناس، فنهبت هي منه، فحصل لها ما خبز رغيفًا.
وذكر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان أن امرأة خرجت ومعها قدر ربع جوهر من اللؤلؤ، فقالت من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟! فلم تجد من يأخذه منها. فقالت: إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك، وألقته على الأرض وانصرفت. فالعجب ان ظل اللؤلؤ مرميًا على الأرض ثلاثة أيام ولميوجد من يلتقطه!!
ويروي المقريزي أن سيدة غنية من نساء القاهرة ألمها صياح أطفالها الصغار وهم يبكون من الجوع فلجأت إلى شكمجية حليها وأخذت تقلب ما فيها من مجوهرات ومصوغات ثم تتحسر لأنها تمتلك ثروة طائلة ولا تستطيع شراء رغيف واحد. فاختارت عقداً ثميناً من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة والفسطاط فلا تجد من يشتريه.
وأخيرًا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق, واستأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرًا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لما حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق وصنعت منها أقراصاً صغيرة وخبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها، وانطلقت إلى الشارع صائحة: الجوع الجوع. الخبز الخبز. وألتفت حولها الرجال والنساء والأطفال وسارت معهم إلى قصر الخليفة المستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصاً من طيات ثوبها ولوحت به وهي تصيح: "أيها الناس، فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار!!".
وقُبض على رجل كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم، فقُتل. واشتد الغلاء والوباء حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألف نفس، ثم أرتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثماني عشرة ألفًا.
وحكى أن المستنصر أخرج جميع ما في الذخائر فباعها، ويقال إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجوهر المثمنة وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المذهب وعشرين ألف سيف وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة المستنصر حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.
وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة 462هـ، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا.
وكان المستنصر يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفًا على حسابه، حتى فنى ثلث أهل مصر، وقيل إنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون.
وقال ابن دحية في كتاب النبراس: "وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدى أيام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصرية، وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيفا على مائة ألف دار". وخربت كذلك مدينة الفسطاط حتى كانت خرابًا.
وكان من نتيجة هذه الأزمة العاتية أن أخذت دولة المستنصر بالله في التداعي والسقوط، وخرجت كثير من البلاد عن سلطانه، فقُتل البساسيري في العراق سنة (451هـ / 1059م). وعادت بغداد إلى الخلافة العباسية، وقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة . وخُطب للخليفة العباسي في سنة (462هـ / 1070م)، ودخل النورمان صقلية واستولوا عليها . فخرجت عن حكم العبيديين سنة (463هـ / 1071م) بعد أن ظلت جزءًا من أملاكهم منذ أن قامت دولتهم.
وتداعى حكم المستنصر في بلاد الشام، فاستقل قاضي صور بمدينته سنة (462هـ / 1070م) وخرجت طرابلس من سلطان الفاطميين، وتتابع ضياع المدن والقلاع من أيديهم، فاستقلت حلب وبيت المقدس والرملة عن سلطانهم في سنة (463هـ / 1071م) ثم تبعتهم دمشق في العام التالي.
بدر الدين الجمالي والخروج من الأزمة
لم يكن أمام الخليفة المستنصر بالله للخروج من هذه الأزمة العاتية سوى الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على فرض النظام، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند، وإنهاء حالة الفوضى التي عمت البلاد، فاتصل ببدر الجمالي واليه على عكا سنة 466هـ، وطلب منه القدوم لإصلاح حال البلاد، فأجابه إلى ذلك، واشترط عليه أن لا يأتي إلا ومعه رجاله، ومن يختاره من عسكر الشام (أرمن)، ليستعيض بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودانيين الموجودين بمصر.
وبدر الجمالي كان مملوكًا أرمينيًا للأمير جمال الدولة بن عمار، ثم أخذ يترقي في المناصب لما أظهره من كفاية في الحروب التي قامت ببلاد الشام، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر سنة 456هـ، وحارب الأتراك في تلك البلاد ثم تقلد نيابة عكا سنة 460هـ.
وما إن حل بدر الجمالي بمدينة القاهرة حتى تخلص من قادة الفتنة ودعاة الثورة، وبدأ في إعادة النظام إلى القاهرة وفرض الأمن والسكينة في ربوعها، وامتدت يده إلى بقية أقاليم مصر فأعاد إليها الهدوء والاستقرار، وضرب على يد العابثين والخارجين، وبسط نفوذ الخليفة في جميع أرجاء البلاد.
وفي الوقت نفسه عمل على تنظيم شئون الدولة وإنعاش اقتصادها، فشجع الفلاحين على الزراعة برفع جميع الأعباء المالية عنهم، وأصلح لهم الترع والجسور، وأدى انتظام النظام الزراعي إلى كثرة الحبوب، وتراجع الأسعار، وكان لاستتباب الأمن دور في تنشيط حركة التجارة في مصر، وتوافد التجار عليها من كل مكان.
واتجه بدر الجمالي إلى تعمير القاهرة وإصلاح ما تهدم منها، فأعاد بناء أسوار القاهرة وبنى بها ثلاثة أبواب تعد من أروع آثار العبيديين الفاطميين الباقية إلى الآن وهي: باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وشيد مساجد كثيرة فبنى في القاهرة مسجده المعروف بمسجد الجيوش على قمة جبل المقطم، وبنى جامع العطارين بالإسكندرية.
واستطاع الجمالي أن يعيد نفوذ الخليفة على جميع بلاد الوجه القبلي حتى أسوان، وكذلك الوجه البحري، وبني جامع العطارين وأعاد الرخاء فزاد خراج مصر في سنة (457 –464) من 2.000.000 دينار إلى 3.100.000 دينار، وتوفي الجمالي سنة 487هـ وعهد لابنه الأفضل شاهنشاه.
ولم يكن للوزير بدر الجمالي أن يقوم بهذه الإصلاحات المالية والإدارية دون أن يكون مطلق اليد، مفوضا من الخليفة المستنصر، وقد استبد بدر الجمالي بالأمر دون الخليفة، وأصبحت الأمور كلها في قبضة الوزير القوي، الذي بدأ عصرا جديدا في تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، تحكم فيه الوزراء أرباب السيوف.
وفاة المستنصر بالله
وظل المستنصر في عهد وزرائه كالمحجور عليه، وآلت به شدائد عظيمة، وفقد القوت فلم يقدر عليه، حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرة في كل يوم، وظل كذلك إلى أن توفي في 18من ذي الحجة سنة 487هـ، ومع وفاة المستنصر بدأ العصر العبيدي (الفاطمي) الثاني حيث زادت سلطة الوزراء، وهو ما اصطلح عليه بعصر نفوذ الوزراء.
موقع قصة الإسلام
تعليق