"العدو" محمد [صلى الله عليه و سلم]
الفصل الأول من كتاب "محمد" للكاتبة البريطانية كارين آرمسترونج
ترجمة: د. فاطمة نصر و د. محمد عناني
كان ولا يزال من العسير على أبناء الغرب أن يتفهموا العنف الذي اتسم به رد فعل المسلمين للصورة الخيالية التي رسمها سلمان رشدي للنبي محمد في رواية آيات شيطانيه، وكان من الصعب عليهم أن يصدقوا أن رواية من الروايات يمكن أن تثير درجة من الكراهية تصل إلى حد إهدار الدم، وبدا لهم أن رد الفعل الإسلامي دليل على تعصب إسلامي لا يرجى منه برء، كما أقض مضاجع أبناء بريطانيا إدراك ما تعتنقه الجاليات الإسلامية في البلدان التى ينتمون بها من قيم مختلفة، هي قيم فيما يبدو غريبة عنهم، وأنها على استعداد للدفاع عنها حتى الموت.
ولكن هذه القضية المؤسفة كانت تحمل في طياتها بعض ما يذكرنا بصفحات من ماضي الغرب، وهى صفحات تبعث على القلق ، ترى هل استطاع أبناء بريطانيا، وهم يشهدون المسلمين المقيمين في مدينة برادفورد أثناء إحراقهم الرواية المذكورة، أن يقيموا علاقة من لون ما بين ذلك الحدث وبين حوادث إحراق الكتب في أوربا المسيحية على مر القرون ؟ إذ حدث في عام 1242 على سبيل المثال أن قام الملك لويس التاسع ، ملك فرنسا، الذي كان يشغل منصب قديس رسمي في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بإدانة التلمود اليهودي باعتباره هجوما خبيثا على شخص السيد المسيح ، ومن ثم أصدر أمرا بحظر الكتاب ، وأضرمت النار في النسخ المصادرة أمام الملك.
ولم يكن لويس التاسع على استعداد لمناقشة خلافاته مع الجاليات اليهودية في فرنسا بالوسائل السلمية والعقلانية وقال ذات يوم إن الأسلوب الوحيد للنقاش مع أحد اليهود هو أن تقتله "بطعنة نافذة في بطنه إلى أقصى ما يصل إليه السيف "[1]. وكان لويس التاسع هو الذي بدأ الحملة الأولى من محاكم التفتيش ، والتي كانت تهدف إلى معاقبة المارقين من أبناء المسيحية، ولم يكتف بإحراق كتبهم ، بل أحرق المئات من الرجال والنساء . كما كان يبغض المسلمين كذلك ، وكان على رأس حملتين من الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي . كان الغرب المسيحي، لا الإسلام ، هو الذي لا يطيق التعايش في زمن لويس التاسع ، مع الآخرين ، وقد يكون لنا، أن نقول إن التاريخ المرير للعلاقات بين المسلمين والغرب قد بدأ بالهجوم على النبي محمد في إسبانيا المسلمة.
ففي عام 850 خرج راهب يدعى بيرفكتوس إلى السوق في قرطبة، وكانت عاصمة دولة الأندلس المسلمة، حيث لقيه بعض العرب الذين سألوه أن يفاضل بين النبي عيسى والنبي محمد. وأدرك بيرفكتوس على الفور أن بالسؤال شركا نصب له ، لأن قانون الإمبراطورية الإسلامية كان يقضى بإعدام من يسب النبي محمدا، ومن ثم التزم الحذر في إجابته أول الأمر ولكن زمامه أفلت فجأة فانطلق يصب وابلا من الشتائم فزعم أن نبي الإسلام دجال ومولع بالجنس بل وأنه المسيخ الدجال نفسه ، وسرعان ألقى به في السجن.
وكانت تلك حادثة شاذة في قرطبة، إذ كانت العلاقات طيبة في العادة بين المسلمين والمسيحيين ، وكان المسلمون يسمحون للمسيحيين ، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية ، وكان معظم أهالي إسبانيا يعتزون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقا يقاس بالسنين الضوئية، وكان كثيرا ما يطلق عليهم المستعربون : المسيحيون مولعون بقراءة الأشعار والقص العربية ، وهم يدرسون فقهاء الإسلام وفلاسفته ، لا ليدحضوا ما يقولون بل لتصحيح لغتهم العربية وتنميق أسلوبهم ، وهل لدينا اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير اللاتينية للكتاب المقدس أو من يدرس الأناجيل أو كتابات الأنبياء والرسل؟ وأسفا! إن جميع شباب المسيحيين من ذوى المواهب يعكفون على قراءة الكتب العربية ودراستها بحماس[2].
كان بول الفارو ، وهو الإسباني العلماني الذي كتب هذا الهجوم على المستعربين في تلك الفترة أو نحوها، يعتبر الراهب بيرفكتوس بطلا ثقافيا ودينيا.إذ إن تهجمه على النبي محمد كان قد أثار حركة أقليه ذات طابع غريب في قرطبة، فكان الرجال والنساء يمثلون أمام القاضي (الذي يقضى بأحكام الإسلام ) ويثبتون إخلاصهم للمسيحية بشن هجوم مقذع وانتحاري على النبي.
وعندما وصل بيرفكتوس إلى السجن ، كان يرتعد فرقا ورعبا ،ولكن القاضي قرر ألا يصدر حكما بإعدامه ، إذ رأى أنه كان ضحية استفزاز ظالم من المسلمين ، ولم يلبث بيرفكتوس ، في غضون أيام معدودة، حتى أفلت زمامه من جديد فطفق يسب نبي الإسلام سبابا بذيئا لم يطق القاضي إزاءه إلا تطبيق القانون بكل صرامة. ونفذ حكم الإعدام في الراهب ، فإذا بجماعة من المسيحيين ، الذين كانوا - فيما يبدو - من زعانف المجتمع ، يمزقون أوصاله ويضفون هالة من القداسة على رفات "شهيدهم" . وبعد أيام مثل راهب آخر يدعى إسحاق أمام القاضي وأخذ يسب محمدا ودين محمد بحرارة جعلت أتقاضى يظنه مخمورا أو مختل العقل فصفعه على وجهه ليعيده إلى صوابه ، ولكن أسحق استمر في السباب ، فلم يجد القاضي بدا من وضع حد لمثل ذلك الانتهاك الصارخ للقانون.
لم تكن قرطبة في القرن التاسع تشبه مدينة برادفورد عام 1988 ، إذ كان المسلمون يتمتعون بالقوة والثقة بالنفس ، وكانوا، من ثم ، أبعد ما يكون عن الرغبة في قتل أولئك المتعصبين المسيحيين : كانوا يرون ، أولا، أن المتعصبين لا يتمتعون ، فيما يبدو، بكامل قواهم العقلية، وكانوا يدركون ثانيا أن أبغض ما يبغضونه هو تقديم شهداء يحاطون بالتقديس . ولم يكن المسلمون ينفرون من الاستماع إلى ما تقوله الأديان الأخرى، فلقد ولد الإسلام في كنف التعددية الدينية بالشرق الأوسط حيث تتعايش شتى العقائد على مر القرون ، وكانت الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الشرقية تسمح كذلك بحرية الآقليات الدينية في ممارسة شعائرها وإدارة شئونها الدينية الخاصة . ولم يكن القانون في الإمبراطورية الإسلامية يحرم جهود الدعوة المسيحية ، بشرط ألا يتعرض المسيحيون في غضون ذلك للهجوم على النبي محمد، الذي يحبه المسلمون حبا جما . بل إن بعض مناطق الإمبراطورية كانت تتسم بوجود تقاليد راسخة من التشكك والتفكير الحر، وكانت تواجه بالتسامح ما دامت في حدود الذوق السليم ، وما دامت لم تجنح إلى التجريح ، وكان القاضي والأمير في قرطبة يكرهان الحكم بالإعدام على بيرفكتوس واسحق ، ولكنهما لم يكونا قادرين على السماح بانتهاك القانون على هذا النحو.
لكنه لم تمض أيام قلائل على إعدام أسحق حتى وصل ستة رهبان من الدير نفسه ، وقاموا بالتهجم على النبي محمد بصورة مقذعة. وبلغ عدد الشهداء الذين لاقوا حتفهم في ذلك الصيف ، بهذا الأسلوب ، نحو خمسين . وقد اشترك أسقف قرطبة مع المستعربين في إدانتهم ، إذ انزعج الجميع أشد الانزعاج من تيار تقديس الشهداء الذي جنح فجمح ، ولكن الشهداء وجدوا من يدافع عن قضيتهم وهما قسيس يدعى يولوجيو، وبول ألفارو، إذ قال كلاهما إن الشهداء هم من "جنود الله " الذين كانوا يقاتلون ببسالة دفاعا عن عقيدتهم ، وانهم شنوا هجوما معنويا معقدا على الإسلام ، عجزت السلطات الإسلامية عن رده ،لأنه كان، فيما يبدو، سيثبت أنها على خطأ.
كان الشهداء ينتمون لشتى المستويات الاجتماعية، فكانوا من الرجال والنساء، ومن الرهبان والقسس ، ومن غير رجال الدين ، ومن البسطاء ومن كبار العلماء. وكان يبدو أن الكثيرين منهم يسعون لتحقيق هوية غربية متميزة واضحة . ويبدو أن بعضهم كان ينتمي إلى أسرات مختلطة، حيث أحد الأبوين مسلم والآخر مسيحي، وكان البعض الآخر ينصح بأن يستوعب الثقافة الإسلامية استيعابا كاملا - إذ أطلقت عليهم أسماء عربية[3] أو عينوا في وظائف معينة بالحكومة - ومن ثم اختلطت عليهم السبل وأصيبوا بالحيرة . ولا شك أن فقدان الجذور الثقافية قد يحدث قلقا عميقا، بل إنه ، حتى في أيامنا هذه ، قد يؤدى إلى نشوء نزعة تدين تتسم بروح التحدي و العدوان ، وهى النزعة التى تتوسل بها النفس لفك الحصار المضروب حولها .
و قد يكون علينا أن نذكر شهداء قرطبة عندما نحار في فهم نزعة العداء و الغضب في بعض الجاليات الإسلامية في الغرب ، وفى المناطق الأخرى التى تشكل فيها الثقافة الغربية تهديدا للقيم التقليدية . كانت حركة الشهداء التى قادها الفارو و يولوجيو تعارض المستعربين المسيحيين بنفس المرارة التى تعارض بها المسلمين ، إذ اتهمتهم بأنهم خونة لثقافتهم.
وقام يولوجيو بزيارة إلى بامبلونا في البلدة المسيحية المجاورة، وعاد يحمل كتبا غربية : نصوصا باللاتينية كتبها آباء الكنيسة ومؤلفات رومانية كلاسيكية من تأليف فيرجيل وجوفينال. كان يطمح في مقاومة استعراب مواطنيه الأسبان ، وإبداع نهضة لاتينية تتوقد حنينا وشوقا إلى الماضي الروماني لبلده ، فذلك من سبل إحباط تأثير الثقافة الإسلامية السائدة، ولكن الحركة خبت وتدهورت عندما أصدر أتقاضى حكمه بإعدام يولوجيو . وقد طلب القاضي إليه أن ينجو بأن يعلن اسميا قبوله الإسلام - إذ لن يتحقق أحد من سلوكه الديني بعد ذلك - وألا يستسلم "لتلك التصرفات المؤسفة الانتحارية المهلكة" مثل غيره من "المغفلين والبلهاء"[4] ولكن رد يولوجيو اقتصر على أن طلب منه شحذ السيف.
لم تكن هذه الحادثة الغريبة من الحوادث التى تميزت بها الحياة في إسبانيا المسلمة، إذ ظل أبناء أديان التوحيد التاريخية الثلاثة، يعيشون في سلام ، و وئام نسبيين على مدى الأعوام الستمائة التالية، فكان اليهود - الذين كانوا يتعرضون للملاحقة والقتل في سائر أنحاء أوربا - يتمتعون بنهضة ثقافية حافلة خاصة بهم . ولكن قصة شهداء قرطبة تكشف عن موقف سرعان ما تفشى في الغرب ، ففي ذلك الوقت كان الإسلام قوة عالمية كبرى، وكانت أوربا التى اكتسحتها القبائل الهمجية، قد أصبحت بركة ثقافية آسنة .وعلى مر الأيام بدا أن العالم كله قد أصبح إسلاميا مثلما يبدو لنا اليوم وقد اكتسى الطابع الغربي، وظل الإسلام يمثل تحديا لا يتوقف للغرب حتى القرن الثامن عشر، أما الآن فيبدو أن حربا باردة ضد الإسلام توشك أن تحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.
الفصل الأول من كتاب "محمد" للكاتبة البريطانية كارين آرمسترونج
ترجمة: د. فاطمة نصر و د. محمد عناني
كان ولا يزال من العسير على أبناء الغرب أن يتفهموا العنف الذي اتسم به رد فعل المسلمين للصورة الخيالية التي رسمها سلمان رشدي للنبي محمد في رواية آيات شيطانيه، وكان من الصعب عليهم أن يصدقوا أن رواية من الروايات يمكن أن تثير درجة من الكراهية تصل إلى حد إهدار الدم، وبدا لهم أن رد الفعل الإسلامي دليل على تعصب إسلامي لا يرجى منه برء، كما أقض مضاجع أبناء بريطانيا إدراك ما تعتنقه الجاليات الإسلامية في البلدان التى ينتمون بها من قيم مختلفة، هي قيم فيما يبدو غريبة عنهم، وأنها على استعداد للدفاع عنها حتى الموت.
ولكن هذه القضية المؤسفة كانت تحمل في طياتها بعض ما يذكرنا بصفحات من ماضي الغرب، وهى صفحات تبعث على القلق ، ترى هل استطاع أبناء بريطانيا، وهم يشهدون المسلمين المقيمين في مدينة برادفورد أثناء إحراقهم الرواية المذكورة، أن يقيموا علاقة من لون ما بين ذلك الحدث وبين حوادث إحراق الكتب في أوربا المسيحية على مر القرون ؟ إذ حدث في عام 1242 على سبيل المثال أن قام الملك لويس التاسع ، ملك فرنسا، الذي كان يشغل منصب قديس رسمي في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بإدانة التلمود اليهودي باعتباره هجوما خبيثا على شخص السيد المسيح ، ومن ثم أصدر أمرا بحظر الكتاب ، وأضرمت النار في النسخ المصادرة أمام الملك.
ولم يكن لويس التاسع على استعداد لمناقشة خلافاته مع الجاليات اليهودية في فرنسا بالوسائل السلمية والعقلانية وقال ذات يوم إن الأسلوب الوحيد للنقاش مع أحد اليهود هو أن تقتله "بطعنة نافذة في بطنه إلى أقصى ما يصل إليه السيف "[1]. وكان لويس التاسع هو الذي بدأ الحملة الأولى من محاكم التفتيش ، والتي كانت تهدف إلى معاقبة المارقين من أبناء المسيحية، ولم يكتف بإحراق كتبهم ، بل أحرق المئات من الرجال والنساء . كما كان يبغض المسلمين كذلك ، وكان على رأس حملتين من الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي . كان الغرب المسيحي، لا الإسلام ، هو الذي لا يطيق التعايش في زمن لويس التاسع ، مع الآخرين ، وقد يكون لنا، أن نقول إن التاريخ المرير للعلاقات بين المسلمين والغرب قد بدأ بالهجوم على النبي محمد في إسبانيا المسلمة.
ففي عام 850 خرج راهب يدعى بيرفكتوس إلى السوق في قرطبة، وكانت عاصمة دولة الأندلس المسلمة، حيث لقيه بعض العرب الذين سألوه أن يفاضل بين النبي عيسى والنبي محمد. وأدرك بيرفكتوس على الفور أن بالسؤال شركا نصب له ، لأن قانون الإمبراطورية الإسلامية كان يقضى بإعدام من يسب النبي محمدا، ومن ثم التزم الحذر في إجابته أول الأمر ولكن زمامه أفلت فجأة فانطلق يصب وابلا من الشتائم فزعم أن نبي الإسلام دجال ومولع بالجنس بل وأنه المسيخ الدجال نفسه ، وسرعان ألقى به في السجن.
وكانت تلك حادثة شاذة في قرطبة، إذ كانت العلاقات طيبة في العادة بين المسلمين والمسيحيين ، وكان المسلمون يسمحون للمسيحيين ، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية ، وكان معظم أهالي إسبانيا يعتزون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوربا سبقا يقاس بالسنين الضوئية، وكان كثيرا ما يطلق عليهم المستعربون : المسيحيون مولعون بقراءة الأشعار والقص العربية ، وهم يدرسون فقهاء الإسلام وفلاسفته ، لا ليدحضوا ما يقولون بل لتصحيح لغتهم العربية وتنميق أسلوبهم ، وهل لدينا اليوم من غير رجال الدين من يقرأ التفاسير اللاتينية للكتاب المقدس أو من يدرس الأناجيل أو كتابات الأنبياء والرسل؟ وأسفا! إن جميع شباب المسيحيين من ذوى المواهب يعكفون على قراءة الكتب العربية ودراستها بحماس[2].
كان بول الفارو ، وهو الإسباني العلماني الذي كتب هذا الهجوم على المستعربين في تلك الفترة أو نحوها، يعتبر الراهب بيرفكتوس بطلا ثقافيا ودينيا.إذ إن تهجمه على النبي محمد كان قد أثار حركة أقليه ذات طابع غريب في قرطبة، فكان الرجال والنساء يمثلون أمام القاضي (الذي يقضى بأحكام الإسلام ) ويثبتون إخلاصهم للمسيحية بشن هجوم مقذع وانتحاري على النبي.
وعندما وصل بيرفكتوس إلى السجن ، كان يرتعد فرقا ورعبا ،ولكن القاضي قرر ألا يصدر حكما بإعدامه ، إذ رأى أنه كان ضحية استفزاز ظالم من المسلمين ، ولم يلبث بيرفكتوس ، في غضون أيام معدودة، حتى أفلت زمامه من جديد فطفق يسب نبي الإسلام سبابا بذيئا لم يطق القاضي إزاءه إلا تطبيق القانون بكل صرامة. ونفذ حكم الإعدام في الراهب ، فإذا بجماعة من المسيحيين ، الذين كانوا - فيما يبدو - من زعانف المجتمع ، يمزقون أوصاله ويضفون هالة من القداسة على رفات "شهيدهم" . وبعد أيام مثل راهب آخر يدعى إسحاق أمام القاضي وأخذ يسب محمدا ودين محمد بحرارة جعلت أتقاضى يظنه مخمورا أو مختل العقل فصفعه على وجهه ليعيده إلى صوابه ، ولكن أسحق استمر في السباب ، فلم يجد القاضي بدا من وضع حد لمثل ذلك الانتهاك الصارخ للقانون.
لم تكن قرطبة في القرن التاسع تشبه مدينة برادفورد عام 1988 ، إذ كان المسلمون يتمتعون بالقوة والثقة بالنفس ، وكانوا، من ثم ، أبعد ما يكون عن الرغبة في قتل أولئك المتعصبين المسيحيين : كانوا يرون ، أولا، أن المتعصبين لا يتمتعون ، فيما يبدو، بكامل قواهم العقلية، وكانوا يدركون ثانيا أن أبغض ما يبغضونه هو تقديم شهداء يحاطون بالتقديس . ولم يكن المسلمون ينفرون من الاستماع إلى ما تقوله الأديان الأخرى، فلقد ولد الإسلام في كنف التعددية الدينية بالشرق الأوسط حيث تتعايش شتى العقائد على مر القرون ، وكانت الإمبراطورية البيزنطية المسيحية الشرقية تسمح كذلك بحرية الآقليات الدينية في ممارسة شعائرها وإدارة شئونها الدينية الخاصة . ولم يكن القانون في الإمبراطورية الإسلامية يحرم جهود الدعوة المسيحية ، بشرط ألا يتعرض المسيحيون في غضون ذلك للهجوم على النبي محمد، الذي يحبه المسلمون حبا جما . بل إن بعض مناطق الإمبراطورية كانت تتسم بوجود تقاليد راسخة من التشكك والتفكير الحر، وكانت تواجه بالتسامح ما دامت في حدود الذوق السليم ، وما دامت لم تجنح إلى التجريح ، وكان القاضي والأمير في قرطبة يكرهان الحكم بالإعدام على بيرفكتوس واسحق ، ولكنهما لم يكونا قادرين على السماح بانتهاك القانون على هذا النحو.
لكنه لم تمض أيام قلائل على إعدام أسحق حتى وصل ستة رهبان من الدير نفسه ، وقاموا بالتهجم على النبي محمد بصورة مقذعة. وبلغ عدد الشهداء الذين لاقوا حتفهم في ذلك الصيف ، بهذا الأسلوب ، نحو خمسين . وقد اشترك أسقف قرطبة مع المستعربين في إدانتهم ، إذ انزعج الجميع أشد الانزعاج من تيار تقديس الشهداء الذي جنح فجمح ، ولكن الشهداء وجدوا من يدافع عن قضيتهم وهما قسيس يدعى يولوجيو، وبول ألفارو، إذ قال كلاهما إن الشهداء هم من "جنود الله " الذين كانوا يقاتلون ببسالة دفاعا عن عقيدتهم ، وانهم شنوا هجوما معنويا معقدا على الإسلام ، عجزت السلطات الإسلامية عن رده ،لأنه كان، فيما يبدو، سيثبت أنها على خطأ.
كان الشهداء ينتمون لشتى المستويات الاجتماعية، فكانوا من الرجال والنساء، ومن الرهبان والقسس ، ومن غير رجال الدين ، ومن البسطاء ومن كبار العلماء. وكان يبدو أن الكثيرين منهم يسعون لتحقيق هوية غربية متميزة واضحة . ويبدو أن بعضهم كان ينتمي إلى أسرات مختلطة، حيث أحد الأبوين مسلم والآخر مسيحي، وكان البعض الآخر ينصح بأن يستوعب الثقافة الإسلامية استيعابا كاملا - إذ أطلقت عليهم أسماء عربية[3] أو عينوا في وظائف معينة بالحكومة - ومن ثم اختلطت عليهم السبل وأصيبوا بالحيرة . ولا شك أن فقدان الجذور الثقافية قد يحدث قلقا عميقا، بل إنه ، حتى في أيامنا هذه ، قد يؤدى إلى نشوء نزعة تدين تتسم بروح التحدي و العدوان ، وهى النزعة التى تتوسل بها النفس لفك الحصار المضروب حولها .
و قد يكون علينا أن نذكر شهداء قرطبة عندما نحار في فهم نزعة العداء و الغضب في بعض الجاليات الإسلامية في الغرب ، وفى المناطق الأخرى التى تشكل فيها الثقافة الغربية تهديدا للقيم التقليدية . كانت حركة الشهداء التى قادها الفارو و يولوجيو تعارض المستعربين المسيحيين بنفس المرارة التى تعارض بها المسلمين ، إذ اتهمتهم بأنهم خونة لثقافتهم.
وقام يولوجيو بزيارة إلى بامبلونا في البلدة المسيحية المجاورة، وعاد يحمل كتبا غربية : نصوصا باللاتينية كتبها آباء الكنيسة ومؤلفات رومانية كلاسيكية من تأليف فيرجيل وجوفينال. كان يطمح في مقاومة استعراب مواطنيه الأسبان ، وإبداع نهضة لاتينية تتوقد حنينا وشوقا إلى الماضي الروماني لبلده ، فذلك من سبل إحباط تأثير الثقافة الإسلامية السائدة، ولكن الحركة خبت وتدهورت عندما أصدر أتقاضى حكمه بإعدام يولوجيو . وقد طلب القاضي إليه أن ينجو بأن يعلن اسميا قبوله الإسلام - إذ لن يتحقق أحد من سلوكه الديني بعد ذلك - وألا يستسلم "لتلك التصرفات المؤسفة الانتحارية المهلكة" مثل غيره من "المغفلين والبلهاء"[4] ولكن رد يولوجيو اقتصر على أن طلب منه شحذ السيف.
لم تكن هذه الحادثة الغريبة من الحوادث التى تميزت بها الحياة في إسبانيا المسلمة، إذ ظل أبناء أديان التوحيد التاريخية الثلاثة، يعيشون في سلام ، و وئام نسبيين على مدى الأعوام الستمائة التالية، فكان اليهود - الذين كانوا يتعرضون للملاحقة والقتل في سائر أنحاء أوربا - يتمتعون بنهضة ثقافية حافلة خاصة بهم . ولكن قصة شهداء قرطبة تكشف عن موقف سرعان ما تفشى في الغرب ، ففي ذلك الوقت كان الإسلام قوة عالمية كبرى، وكانت أوربا التى اكتسحتها القبائل الهمجية، قد أصبحت بركة ثقافية آسنة .وعلى مر الأيام بدا أن العالم كله قد أصبح إسلاميا مثلما يبدو لنا اليوم وقد اكتسى الطابع الغربي، وظل الإسلام يمثل تحديا لا يتوقف للغرب حتى القرن الثامن عشر، أما الآن فيبدو أن حربا باردة ضد الإسلام توشك أن تحل محل الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي.
تعليق