صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

تقليص
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 1 (0 أعضاء و 1 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • إيمان أحمد
    مشرفة الأقسام الإسلامية

    • 9 يون, 2006
    • 2427
    • موظفة
    • مسلمة

    #16
    رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

    ثم دخلت سنة خمس وخمسين
    ذكر الخبر عن الكائن فيها من الأحداث
    فمما كان فيها من ذلك مشتى سفيان بن عوف الأزدي بأرض الروم في قول الواقدي.
    وقال بعضهم: بل الذي كان شتا بأرض الروم في هذه السنه عمرو ابن محرز.
    وقال بعضهم: بل الذي شتا بها عبد الله بن قيس الفزاري.
    وقال بعضهم: بل ذلك مالك بن عبد الله.
    [ضعيف]

    وفيها عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان عن البصرة وولاها عبيد الله بن زياد.
    [وأما الذهبي فقد ذكر هذا ضمن أحداث سنة (54)ه ، والله أعلم]

    ذكر الخبر عن سبب عزل معاوية عبد الله بن عمرو بن غيلان وتوليته عبيد الله البصرة
    حدثني عمر، قال: حدثنا الوليد بن هشام وعلي بن محمد- قال: واختلفا في بعض الحديث- قالا: خطب عبد الله بن عمرو بن غيلان على منبر البصرة، فحصبه رجل من بني ضبة- قال عمر: قال أبو الحسن: يدعى جبير بن الضحاك أحد بني ضرار- فأمر به فقطعت يده، فقال:
    السمع والطاعة والتسليم ... خير وأعفى لبني تميم
    فأتته بنو ضبة، فقالوا: إن صاحبنا جنى ما جنى على نفسه، وقد بالغ الأمير في عقوبته، ونحن لا نأمن أن يبلغ خبره أمير المؤمنين، فيأتي من قبله عقوبة تخص أو تعم، فإن رأى الأمير أن يكتب لنا كتابا يخرج
    به أحدنا إلى أمير المؤمنين يخبره أنه قطعه على شبهة وأمر لم يضح، فكتب لهم بعد ذلك إلى معاوية، فأمسكوا الكتاب حتى بلغ رأس السنة- وقال أبو الحسن: لم يزد على ستة أشهر- فوجه إلى معاوية، ووافاه الضبيون، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنه قطع صاحبنا ظلما، وهذا كتابه إليك، وقرأ الكتاب، فقال: أما القود من عمالي فلا يصح، ولا سبيل إليه، ولكن إن شئتم وديت صاحبكم، قالوا: فده، فوداه من بيت المال، وعزل عبد الله، وقال لهم: اختاروا من تحبون أن أولي بلدكم، قالوا: يتخير لنا أمير المؤمنين، وقد علم رأي أهل البصرة في ابن عامر، فقال: هل لكم في ابن عامر؟ فهو من قد عرفتم في شرفه وعفافه وطهارته، قالوا: أمير المؤمنين أعلم، فجعل يردد ذلك عليهم ليسبرهم، ثم قال: قد وليت عليكم ابن أخي عبيد الله بن زياد.
    [إسناده معضل]
    قال عمر: حدثني علي بن محمد، قال: عزل معاوية عبد الله بن عمرو وولى عبيد الله بن زياد البصرة في سنة خمس وخمسين وولى عبيد الله اسلم ابن زرعة خراسان فلم يغز ولم يفتح بها شيئا، وولى شرطة عبد الله بن حصن، والقضاء زرارة بن أوفى ثم عزله، وولي القضاء ابن أذينة العبدي.
    [إسناده معضل]

    وفي هذه السنة عزل معاوية عبد الله بن خالد بن أسيد عن الكوفة وولاها الضحاك بن قيس الفهري.
    [ضعيف]

    وحج بالناس في هذه السنة مروان بن الحكم، حدثنى بذلك احمد ابن ثابت، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
    [في إسناده مبهم]



    وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
    أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

    تعليق

    • إيمان أحمد
      مشرفة الأقسام الإسلامية

      • 9 يون, 2006
      • 2427
      • موظفة
      • مسلمة

      #17
      رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

      ثم دخلت سنة ست وخمسين
      ذكر ما كان فيها من الأحداث
      ففيها كان مشتى جنادة بن أبي أمية بأرض الروم، وقيل: عبد الرحمن ابن مسعود.
      وقيل غزا فيها في البحر يزيد بن شجره الرهاوى، وفي البر عياض ابن الحارث.
      [إسناده ضعيف]

      وحج بالناس- فيما حدثني أحمد بن ثابت عمن حدثه، عن إسحاق ابن عيسى، عن أبي معشر- الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
      وفيها اعتمر معاوية في رجب.
      [في إسناده مبهم]

      ذكر خبر البيعة ليزيد بولاية العهد
      وفيها دعا معاوية الناس إلى بيعة ابنه يزيد من بعده، وجعله ولي العهد.
      ذكر السبب في ذلك:
      حدثني الحارث، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا أبو إسماعيل الهمداني وعلي بن مجاهد، قالا: قال الشعبي: قدم المغيرة على معاوية واستعفاه وشكا إليه الضعف، فأعفاه، وأراد أن يولي سعيد بن العاص، وبلغ كاتب المغيرة ذلك، فأتى سعيد بن العاص فأخبره وعنده رجل من أهل الكوفة يقال له ربيعة- أو الربيع- من خزاعة، فأتى المغيرة فقال: يا مغيرة، ما أرى أمير المؤمنين إلا قد قلاك، رأيت ابن خنيس كاتبك عند سعيد ابن العاص يخبره أن أمير المؤمنين يوليه الكوفة، قال المغيرة: أفلا يقول كما قال الأعشى:
      أم غاب ربك فاعترتك خصاصة ... ولعل ربك أن يعود مؤيدا
      رويدا! أدخل على يزيد، فدخل عليه فعرض له بالبيعة، فأدى ذلك يزيد إلى أبيه، فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة، فأمره أن يعمل في بيعة يزيد، فشخص المغيرة إلى الكوفة، فأتاه كاتبه ابن خنيس، فقال: والله ما غششتك ولا خنتك، ولا كرهت ولايتك، ولكن سعيدا كانت له عندي يد وبلاء، فشكرت ذلك له، فرضي عنه وأعاده إلى كتابته، وعمل المغيرة في بيعة يزيد، وأوفد في ذلك وافدا إلى معاوية.
      [علي بن مجاهد متروك إن كان الكابلي وإلا فمجهول وابو إسماعيل هذا لم نجد له ترجمة]

      حدثني الحارث، قال: حدثنا علي، عن مسلمة، قال: لما أراد معاوية أن يبايع ليزيد كتب إلى زياد يستشيره، فبعث زياد إلى عبيد بن كعب النميري، فقال: إن لكل مستشير ثقة، ولكل سر مستودع، وإن الناس قد أبدعت بهم خصلتان: إذاعة السر، وإخراج النصيحة إلى غير أهلها، وليس موضع السر إلا أحد رجلين: رجل آخرة يرجو ثوابا، ورجل دنيا له شرف في نفسه وعقل يصون حسبه، وقد عجمتهما منك، فأحمدت الذي قبلك، وقد دعوتك لأمر اتهمت عليه بطون الصحف، إن أمير المؤمنين كتب إلي يزعم أنه قد عزم على بيعة يزيد، وهو يتخوف نفرة الناس، ويرجو مطابقتهم، ويستشيرني، وعلاقة أمر الإسلام وضمانه عظيم، ويزيد صاحب رسلة وتهاون، مع ما قد أولع به من الصيد، فالق أمير المؤمنين مؤديا عني، فأخبره عن فعلات يزيد، فقال له: رويدك بالأمر، فأقمن أن يتم لك ما تريد، ولا تعجل فإن دركا في تأخير خير من تعجيل عاقبته الفوت فقال عبيد له: أفلا غير هذا! قال: ما هو؟ قال: لا تفسد على معاوية رأيه، ولا تمقت إليه ابنه، وألقى أنا يزيد سرا من معاوية فأخبره عنك أن أمير المؤمنين كتب إليك يستشيرك في بيعته، وأنك تخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها عليه، وأنك ترى له ترك ما ينقم عليه، فيستحكم لأمير المؤمنين الحجة على الناس، ويسهل لك ما تريد، فتكون قد نصحت يزيد وأرضيت أمير المؤمنين، فسلمت مما تخاف من علاقة أمر الأمة فقال زياد: لقد رميت الأمر بحجره، اشخص على بركة الله، فإن أصبت فما لا ينكر، وإن يكن خطأ فغير مستغش وأبعد بك إن شاء الله من الخطإ، قال: تقول بما ترى، ويقضي الله بغيب ما يعلم فقدم على يزيد فذاكره ذلك وكتب زياد إلى معاوية يأمره بالتؤده، والا يعجل، فقبل ذلك معاوية، وكف يزيد عن كثير مما كان يصنع، ثم قدم عبيد على زياد فأقطعه قطيعة.
      [إسناده ضعيف]

      حدثني الحارث، قال: حدثنا علي، قال: لما مات زياد دعا معاوية بكتاب فقرأه على الناس باستخلاف يزيد، أن حدث به حدث الموت فيزيد ولي عهد، فاستوسق له الناس على البيعة ليزيد غير خمسة نفر.
      [إسناده معضل]

      فحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال:
      حدثنا ابن عون، قال: حدثني رجل بنخلة، قال: بايع الناس ليزيد بن معاوية غير الحسين بن علي وابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عباس، فلما قدم معاوية ارسل الى الحسين بن على، فقال: يا بن أخي، قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي، فما إربك إلى الخلاف؟ قال: أنا أقودهم! قال: نعم، أنت تقودهم، قال: فأرسل إليهم، فإن بايعوا كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قال: وتفعل؟ قال: نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا قال: فالتوى عليه، ثم أعطاه ذلك، فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلا بالطريق قال: يقول لك أخوك ابن الزبير: ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئا.
      ثم أرسل بعده إلى ابن الزبير، فقال له: قد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، يا بن أخي! فما إربك إلى الخلاف؟
      قال: أنا أقودهم! قال: نعم، أنت تقودهم، قال: فأرسل إليهم فإن بايعوا كنت رجلا منهم، وإلا لم تكن عجلت علي بأمر، قال: وتفعل؟ قال:
      نعم، قال: فاخذ عليه الا يخبر بحديثهم أحدا، قال: يا أمير المؤمنين، نحن في حرم الله عز وجل، وعهد الله سبحانه ثقيل، فأبى عليه، وخرج.
      ثم أرسل بعده إلى ابن عمر فكلمه بكلام هو ألين من كلام صاحبه، فقال: إني أرهب أن أدع أمة محمد بعدي كالضأن لا راعى لها، وقد استوسق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم، فما إربك إلى الخلاف! قال: هل لك في أمر يذهب الذم، ويحقن الدم، وتدرك به حاجتك؟ قال: وددت! قال: تبرز سريرك، ثم أجيء فأبايعك، على أني أدخل بعدك فيما تجتمع عليه الأمة، فو الله لو أن الأمة اجتمعت بعدك على عبد حبشي لدخلت فيما تدخل فيه الأمة، قال: وتفعل؟ قال: نعم، ثم خرج فأتى منزله فأطبق بابه، وجعل الناس يجيئون فلا يأذن لهم.
      فأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال: يا بن أبي بكر، بأية يد أو رجل تقدم على معصيتي! قال: أرجو أن يكون ذلك خيرا لي، فقال:
      والله لقد هممت أن أقتلك، قال: لو فعلت لأتبعك الله به لعنة في الدنيا، وأدخلك به في الآخرة النار.
      قال: ولم يذكر ابن عباس .
      [في إسناده مبهم]

      وكان سبب ولايته خراسان ما حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: أخبرني محمد بن حفص، قال: سأل سعيد بن عثمان معاوية أن يستعمله على خراسان، فقال: إن بها عبيد الله بن زياد، فقال: أما لقد اصطنعك أبي ورفاك حتى بلغت باصطناعه المدى الذي لا يجارى إليه ولا يسامى، فما شكرت بلاءه، ولا جازيته بآلائه، وقدمت علي هذا- يعني يزيد بن معاوية- وبايعت له، وو الله لأنا خير منه أبا واما ونفسا، فقال: فقال معاوية: أما بلاء أبيك فقد يحق علي الجزاء به، وقد كان من شكري لذلك أني طلبت بدمه حتى تكشفت الأمور، ولست بلائم لنفسي في التشمير، وأما فضل أبيك على أبيه فأبوك والله خير مني واقرب برسول الله ص، وأما فضل أمك على أمه فما ينكر، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، واما فضلك عليه فو الله ما أحب أن الغوطة دحست ليزيد رجالا مثلك. فقال له يزيد: يا أمير المؤمنين، ابن عمك، وأنت أحق من نظر في امره، وقد عتب عليك فأعتبه، قال: فولاه حرب خراسان، وولى إسحاق ابن طلحة خراجها، وكان إسحاق ابن خالة معاوية، أمه أم ابان ابنه عتبة ابن ربيعة، فلما صار بالري مات إسحاق بن طلحة فولي سعيد خراج خراسان وحربها.
      [إسناده ضعيف]

      حدثني عمر، قال: حدثني علي، قال: أخبرنا مسلمة، قال: خرج سعيد إلى خراسان وخرج معه أوس بن ثعلبة التيمي صاحب قصر أوس، وطلحه ابن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة وربيعة بن عسل أحد بني عمرو بن يربوع، قال: وكان قوم من الأعراب يقطعون الطريق على الحاج ببطن فلج، فقيل لسعيد: ان هاهنا قوما يقطعون
      الطريق على الحاج ويخيفون السبيل، فلو أخرجتهم معك! قال: فأخرج قوما من بني تميم، منهم مالك بن الريب المازني في فتيان كانوا معه، وفيهم يقول الراجز:
      ألله أنجاك من القصيم ... ومن أبي حردبة الأثيم
      ومن غويث فاتح العكوم ... ومالك وسيفه المسموم
      قال علي: قال مسلمة: قدم سعيد بن عثمان، فقطع النهر إلى سمرقند، فخرج إليه أهل الصغد، فتواقفوا يوما إلى الليل ثم انصرفوا من غير قتال، فقال مالك بن الريب يذم سعيدا:
      ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا ... من الجبن حتى خفت أن تتنصرا
      وما كان في عثمان شيء علمته ... سوى نسله في رهطه حين أدبرا
      ولولا بنو حرب لظلت دماؤكم ... بطون العظايا من كسير وأعورا
      قال: فلما كان الغد خرج إليهم سعيد بن عثمان، وناهضه الصغد، فقاتلهم فهزمهم وحصرهم في مدينتهم، فصالحوه وأعطوه رهنا منهم خمسين غلاما يكونون في يده من أبناء عظمائهم، وعبر فأقام بالترمذ، ولم يف لهم، وجاء بالغلمان الرهن معه إلى المدينة.
      قال: وقدم سعيد بن عثمان خراسان وأسلم بن زرعة الكلابي بها من قبل عبيد الله بن زياد، فلم يزل أسلم بن زرعة بها مقيما حتى كتب إليه عبيد الله بن زياد بعهده على خراسان الثانية، فلما قدم كتاب عبيد الله على أسلم طرق سعيد بن عثمان ليلا، فأسقطت جارية له غلاما، فكان سعيد
      يقول: لأقتلن به رجلا من بني حرب، وقدم على معاوية فشكا أسلم إليه، وغضبت القيسية، قال: فدخل همام بن قبيصة النمري فنظر إليه معاوية محمر العينين، فقال: يا همام، إن عينيك لمحمرتان، قال همام: كانتا يوم صفين أشد حمرة، فغم معاوية ذلك، فلما رأى ذلك سعيد كف عن أسلم، فأقام أسلم بن زرعة على خراسان واليا لعبيد الله بن زياد سنتين.
      [إسناده مرسل ضعيف]



      وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
      أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

      تعليق

      • إيمان أحمد
        مشرفة الأقسام الإسلامية

        • 9 يون, 2006
        • 2427
        • موظفة
        • مسلمة

        #18
        رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

        ثم دخلت سنة سبع وخمسين
        وكان فيها مشتى عبد الله بن قيس بأرض الروم.
        وفيها صرف مروان عن المدينة في ذي القعدة في قول الواقدي، وقال غيره: كان مروان اليه المدينة في هذه السنة.
        وقال الواقدي: استعمل معاوية على المدينة حين صرف عنها مروان الوليد بن عتبة بن أبي سفيان.
        وكالذي قال الواقدي قال أبو معشر، حدثني بذلك أحمد بن ثابت الرازي، عمن حدثه، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
        [ضعيف وكذلك قال خليفة (تأريخ خليفة/224)]

        ثم دخلت سنة ثمان وخمسين
        ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
        ففيها نزع معاوية مروان عن المدينة في ذي القعدة في قول أبي معشر، وأمر الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عليها، حدثني بذلك أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عنه.
        [إسناده ضعيف]

        وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي أرض الروم.
        وفيها قتل يزيد بن شجرة في البحر في السفن في قول الواقدي قال:
        ويقال عمرو بن يزيد الجهني، وكان الذي شتا بأرض الروم، وقد قيل:
        ان الذي غزا في البحر في هذه السنة جنادة بن أبي أمية.
        [ضعيف]

        وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر، وكذلك قال الواقدى وغيره.
        [ضعيف]

        عزل الضحاك عن الكوفة واستعمال عبد الرحمن بن أم الحكم
        وفي هذه السنة ولى معاوية الكوفة عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الله بن عثمان بن ربيعة الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية بن أبي سفيان، وعزل عنها الضحاك بن قيس، ففي عمله في هذه السنة خرجت الطائفة الذين كان المغيرة بن شعبة حبسهم في السجن من الخوارج الذين كانوا بايعوا المستورد بن علفة، فظفر بهم فاستودعهم السجن، فلما مات المغيرة خرجوا من السجن.
        [ضعيف]

        فذكر هشام بن محمد أن أبا مخنف، حدثه عن عبد الرحمن بن جندب، عن عبد الله بن عقبة الغنوي أن حيان بن ظبيان السلمي جمع إليه أصحابه، ثم إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال لهم: أما بعد، فإن الله عز
        وجل كتب علينا الجهاد، فمنا من قضى نحبه، ومنا من ينتظر، وأولئك الأبرار الفائزون بفضلهم، ومن يكن منا من ينتظر فهو من سلفنا القاضين نحبهم، السابقين بإحسان، فمن كان منكم يريد الله وثوابه فليسلك سبيل أصحابه وإخوانه يؤته الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله مع المحسنين.
        قال معاذ بن جوين الطائي: يا أهل الإسلام، إنا والله لو علمنا أنا إذا تركنا جهاد الظلمة وإنكار الجور، كان لنا به عند الله عذر، لكان تركه أيسر علينا، وأخف من ركوبه، ولكنا قد علمنا واستيقنا أنه لا عذر لنا، وقد جعل لنا القلوب والأسماع حتى ننكر الظلم، ونغير الجور، ونجاهد الظالمين، ثم قال: ابسط يدك نبايعك، فبايعه وبايعه القوم، فضربوا على يد حيان بن ظبيان، فبايعوه، وذلك في إمارة عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي، وهو ابن أم الحكم، وكان على شرطته زائدة بن قدامة الثقفي.
        ثم إن القوم اجتمعوا بعد ذلك بأيام إلى منزل معاذ بن جوين بن حصين الطائي فقال لهم حيان بن ظبيان: عباد الله، أشيروا برأيكم، أين تأمروني أن أخرج؟ فقال له معاذ: إني أرى أن تسير بنا إلى حلوان حتى ننزلها، فإنها كورة بين السهل والجبل، وبين المصر والثغر- يعني بالثغر الري- فمن كان يرى رأينا من أهل المصر والثغر والجبال والسواد لحق بنا فقال له حيان: عدوك معاجلك قبل اجتماع الناس إليك، لعمري لا يتركونكم حتى يجتمعوا إليكم، ولكن قد رأيت أن أخرج معكم في جانب الكوفة والسبخة أو زرارة والحيرة، ثم نقاتلهم حتى نلحق بربنا، فإني والله لقد علمت أنكم لا تقدرون وأنتم دون المائة رجل أن تهزموا عدوكم، ولا ان تشتد نكايتكم فيهم، ولكن متى علم الله أنكم قد أجهدتم أنفسكم في جهاد عدوه وعدوكم كان لكم به العذر، وخرجتم من الإثم قالوا: رأينا رأيك، فقال لهم عتريس ابن عرقوب أبو سليمان الشيباني: ولكن لا أرى راى جماعتكم، فانظروا في راى لكم، إني لا إخالكم تجهلون معرفتي بالحرب، وتجربتي بالأمور، فقالوا له: أجل، أنت كما ذكرت، فما رأيك؟ قال: ما أرى أن تخرجوا على الناس بالمصر، إنكم قليل في كثير، والله ما تزيدون على أن تجزروهم أنفسكم، وتقروا أعينهم بقتلكم، وليس هكذا تكون المكايدة إذ آثرتم أن تخرجوا على قومكم، فكيدوا عدوكم ما يضرهم، قالوا: فما الرأي؟ قال: تسيرون إلى الكورة التي أشار بنزولها معاذ بن جوين بن حصين- يعني حلوان- أو تسيرون بنا إلى عين التمر فنقيم بها، فإذا سمع بنا إخواننا أتونا من كل جانب وأوب، فقال له حيان بن ظبيان: إنك والله لو سرت بنا أنت وجميع أصحابك نحو أحد هذين الوجهين ما اطمأننتم به حتى يلحق بكم خيول أهل المصر، فأنى تشفون أنفسكم! فو الله ما عدتكم بالكثيرة التي ينبغي أن تطمعوا معها بالنصر في الدنيا على الظالمين المعتدين، فاخرجوا بجانب من مصركم هذا فقاتلوا عن أمر الله من خالف طاعة الله، ولا تربصوا ولا تنتظروا فإنكم إنما تبادرون بذلك إلى الجنة، وتخرجون أنفسكم بذلك من الفتنة قالوا: أما إذا كان لا بد لنا فإنا لن نخالفك، فاخرج حيث أحببت.
        فمكث حتى إذا كان آخر سنة من سني ابن أم الحكم في أول السنة- وهو أول يوم من شهر ربيع الآخر- اجتمع أصحاب حيان بن ظبيان إليه، فقال لهم: يا قوم، إن الله قد جمعكم لخير وعلى خير، والله الذي لا إله غيره ما سررت بشيء قط في الدنيا بعد ما أسلمت سروري لمخرجي هذا على الظلمة الاثمه، فو الله ما أحب أن الدنيا بحذافيرها لي وأن الله حرمني في مخرجي هذا الشهادة وأني قد رأيت أن نخرج حتى ننزل جانب دار جرير، فإذا خرج إليكم الأحزاب ناجزتموهم فقال عتريس بن عرقوب البكري: أما إن نقاتلهم في جوف المصر فإنه يقاتلنا الرجال، وتصعد النساء والصبيان والإماء فيرموننا بالحجارة، فقال لهم رجل منهم: انزلوا بنا إذا من وراء المصر الجسر- وهو موضع زرارة، وإنما بنيت زرارة بعد ذلك إلا أبياتا يسيرة كانت منها قبل ذلك- فقال لهم معاذ بن جوين بن حصين الطائي: لا، بل سيروا بنا فلننزل بانقيا فما أسرع ما يأتيكم عدوكم، فإذا كان ذلك استقبلنا القوم بوجوهنا، وجعلنا البيوت في ظهورنا، فقاتلناهم من وجه واحد فخرجوا، فبعث إليهم جيش، فقتلوا جميعا
        ثم ان عبد الرحمن بن أم الحكم طرده أهل الكوفة، فحدثت عن هشام ابن محمد، قال: استعمل معاوية ابن أم الحكم على الكوفة فأساء السيرة فيهم، فطردوه، فلحق بمعاوية وهو خاله، فقال له: أوليك خيرا منها، مصر، قال: فولاه، فتوجه إليها، وبلغ معاوية بن حديج السكوني الخبر، فخرج فاستقبله على مرحلتين من مصر، فقال: ارجع إلى خالك فلعمري لا تسير فينا سيرتك في إخواننا من أهل الكوفة.
        قال: فرجع إلى معاويه، واقبل معاويه بن حديج وافدا، قال: وكان إذا جاء قلست له الطريق- يعني ضربت له قباب الريحان- قال: فدخل على معاوية وعنده أم الحكم، فقالت: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال:
        بخ! هذا معاوية بن حديج، قالت: لا مرحبا به! تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، فقال: على رسلك يا أم الحكم! أما والله لقد تزوجت فما أكرمت، وولدت فما أنجبت، أردت أن يلي ابنك الفاسق علينا فيسير فينا كما سار في إخواننا من أهل الكوفة، ما كان الله ليريه ذلك، ولو فعل ذلك لضربناه ضربا يطأطئ منه، وإن كره ذلك الجالس فالتفت إليها معاوية، فقال: كفي
        [إسناده تالف]

        وأما مرداس بن أدية فإنه خرج بالأهواز وقد كان ابن زياد قبل ذلك حبسه- فيما حدثني عمر، قال: حدثني خلاد بن يزيد الباهلي، قال-:
        حبس ابن زياد- فيمن حبس- مرداس بن أدية، فكان السجان يرى عبادته واجتهاده، وكان يأذن له في الليل، فينصرف، فإذا طلع الفجر أتاه حتى يدخل السجن، وكان صديق لمرداس يسامر ابن زياد، فذكر ابن زياد الخوارج ليلة فعزم على قتلهم إذا أصبح، فانطلق صديق مرداس إلى منزل مرداس فأخبرهم، وقال: أرسلوا إلى أبي بلال في السجن فليعهد فإنه مقتول، فسمع ذلك مرداس، وبلغ الخبر صاحب السجن، فبات بليلة سوء إشفاقا من أن يعلم الخبر مرداس فلا يرجع، فلما كان الوقت الذي كان يرجع فيه إذا به قد طلع، فقال له السجان: هل بلغك ما عزم عليه الأمير؟ قال: نعم، قال: ثم غدوت! قال: نعم، ولم يكن جزاؤك مع إحسانك أن تعاقب بسبي، وأصبح عبيد الله فجعل يقتل الخوارج، ثم دعا بمرداس، فلما حضر وثب السجان- وكان ظئرا لعبيد الله- فأخذ بقدمه، ثم قال: هب هذا، وقص عليه قصته، فوهبه له وأطلقه.
        [إسناده معضل]

        وقيل: مات في هذه السنة عميرة بن يثربي قاضي البصرة، واستقضي مكانه عليها هشام بن هبيرة.
        وكان على الكوفة في هذه السنه عبد الرحمن بن أم الحكم وقال بعضهم:
        كان عليها الضحاك بن قيس الفهري، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح.
        وحج بالناس الوليد بن عتبة في هذه السنة، كذلك قال أبو معشر والواقدي.
        [ضعيف]



        وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
        أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

        تعليق

        • إيمان أحمد
          مشرفة الأقسام الإسلامية

          • 9 يون, 2006
          • 2427
          • موظفة
          • مسلمة

          #19
          رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

          ثم دخلت سنة ستين
          ذكر ما كان فيها من الأحداث
          ففي هذه السنة كانت غزوة مالك بن عبد الله سورية ودخول جنادة بن أبى أمية رودس، وهدمه مدينتها، في قول الواقديّ.

          ذكر عهد معاوية لابنه يزيد
          وفيها كان أخذ معاوية على الوفد الذين وفدوا إليه مع عبيد الله بن زياد البيعة لابنه يزيد، وعهد إلى ابنه يزيد حين مرض فيها ما عهد إليه في النفر الذين امتنعوا من البيعة ليزيد حين دعاهم إلى البيعة.
          [ضعيف]

          وكان عهده الذي عهد، ما ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال:
          حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، أن معاوية لما مرض مرضته التي هلك فيها دعا يزيد ابنه، فقال: يا بني، إني قد كفيتك الرحلة والترحال، ووطأت لك الأشياء، وذللت لك الأعداء، وأخضعت لك أعناق العرب، وجمعت لك من جمع واحد، وإني لا أتخوف أن ينازعك هذا الأمر الذي استتب لك إلا أربعة نفر من قريش:
          الحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن أبي بكر، فأما عبد الله بن عمر فرجل قد وقذته العبادة، وإذا لم يبق أحد غيره بايعك، وأما الحسين بن علي فإن أهل العراق لن يدعوه حتى يخرجوه، فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ماسة وحقا عظيما، وأما ابن أبي بكر فرجل إن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثلهم، ليس له همة إلا في النساء واللهو، وأما الذي يجثم لك جثوم الأسد، ويراوغك مراوغة الثعلب، فإذا أمكنته فرصة وثب، فذاك ابن الزبير، فإن هو فعلها بك فقدرت عليه فقطعه إربا إربا.
          [إسناده تالف ويكفي كشفا لزيف أبي مخنف إذا علمنا أن عبد الرحمن بن أبي بكر قد توفي قبل موت معاوية بسنتين كذلك قال ابن كثير وصححه (البداية والنهاية 8/118) وقال البلاذري : وروى بعضهم أن عبد الرحمن كان باقيا حتى مات ، وذلك باطل (أنساب الأشراف 4/146). وكعادة أبي مخنف فهو يستغل كل مناسبة ليكيل الشتائم ويطعن ويغمز ويلمز وما درى بأن أئمة الجرح والتعديل رحمهم الله قد قطعوا الطريق على أمثاله من الكذابين فبينوا أحوال كل من يستحق]

          قال هشام: قال عوانة: قد سمعنا في حديث آخر أن معاوية لما حضره الموت- وذلك في سنة ستين- وكان يزيد غائبا، فدعا بالضحاك بن قيس الفهري- وكان صاحب شرطته- ومسلم بن عقبة المري، فأوصى إليهما فقال: بلغا يزيد وصيتي، أنظر أهل الحجاز فإنهم أصلك، فأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وأنظر أهل العراق، فإن سألوك أن تعزل عنهم كل يوم عاملا فافعل، فإن عزل عامل أحب إلي من أن تشهر عليك مائة ألف سيف، وأنظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك، فإن نابك شيء من عدوك فانتصر بهم، فإذا أصبتهم فاردد أهل الشام إلى بلادهم، فإنهم إن أقاموا بغير بلادهم أخذوا بغير أخلاقهم، وإني لست أخاف من قريش إلا ثلاثة: حسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله ابن الزبير، فأما ابن عمر فرجل قد وقذه الدين، فليس ملتمسا شيئا قبلك، وأما الحسين بن علي فإنه رجل خفيف، وأرجو أن يكفيكه الله بمن قتل أباه، وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة، وحقا عظيما، وقرابة من محمد ص، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه، فإني لو أني صاحبه عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خب ضب، فإذا شخص لك فألبد له، إلا أن يلتمس منك صلحا، فإن فعل فاقبل، واحقن دماء قومك ما استطعت.
          [إسناده تالف]

          ذكر وفاة معاوية بن أبي سفيان
          وفي رجب منها -فقال هشام بن محمد-: مات معاوية لهلال رجب من سنة ستين.
          وقال الواقدي: مات معاوية للنصف من رجب.
          وقال علي بن محمد: مات معاوية بدمشق سنة ستين يوم الخميس لثمان بقين من رجب، حدثني بذلك الحارث عنه.
          [ضعيف]

          ذكر الخبر عن مدة ملكه
          وحدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار السعدي، عن أبيه، قالوا:
          توفي معاوية ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستين، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
          [الواقدي متروك]

          وحدثني عمر، قال: حدثنا علي، قال: بايع أهل الشام معاوية بالخلافة في سنة سبع وثلاثين في ذي القعدة حين تفرق الحكمان، وكانوا قبل بايعوه على الطلب بدم عثمان، ثم صالحه الحسن بن علي، وسلم له الأمر سنة إحدى وأربعين، لخمس بقين من شهر ربيع الأول، فبايع الناس جميعا معاوية، فقيل: عام الجماعة، ومات بدمشق سنة ستين، يوم الخميس لثمان بقين من رجب وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
          [إسناده معضل وفي متنه نكارة]

          قال: ويقال: كان بين موت علي ع وموت معاوية تسع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاث ليال.
          [ضعيف]

          وقال هشام بن محمد: بويع لمعاوية بالخلافة في جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، فولى تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر إلا أياما، ثم مات لهلال رجب من سنة ستين.
          [هشام بن محمد متروك]

          ذكر مدة عمره
          واختلفوا في مدة عمره، وكم عاش؟ فقال بعضهم: مات يوم مات وهو ابن خمس وسبعين سنة.
          ذكر من قال ذلك:
          حدثني عمر، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: أخبرني هشام بن الوليد، قال: قال ابن شهاب الزهري: سألني الوليد عن أعمار الخلفاء، فأخبرته أن معاوية مات وهو ابن خمس وسبعين سنة، فقال: بخ بخ! إن هذا لعمر.
          [هشام بن الوليد لم نعرف من هو]

          وقال آخرون: مات وهو ابن ثلاث وسبعين سنة.
          ذكر من قال ذلك:
          حدثني عمر، قال: حدثني أحمد بن زهير قال: قال علي بن محمد:
          مات معاوية وهو ابن ثلاث وسبعين، قال: ويقال ابن ثمانين سنة.
          وقال آخرون: توفي وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
          [إسناده معضل]

          ذكر من قال ذلك:
          حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني يحيى بن سعيد بن دينار، عن أبيه، قال: توفي معاوية وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
          [فيه الواقدي وهو متروك]

          وقال آخرون: توفي وهو ابن خمس وثمانين سنة، حدثت بذلك عن هشام بن محمد أنه كان يقوله عن أبيه.
          [هشام بن محمد متروك]

          ذكر العلة التي كانت فيها وفاته
          حدثني الحارث، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثنا أبو عبيدة، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عبد الملك بن عمير، قال: لما ثقل معاوية وحدث الناس أنه الموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمدا، وأوسعوا رأسي دهنا، ففعلوا، وبرقوا وجهه بالدهن، ثم مهد له، فجلس وقال: أسندوني، ثم قال: ائذنوا للناس فليسلموا قياما، ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائما فيراه مكتحلا مدهنا فيقول: يقول الناس: هو لمآبه، وهو أصح الناس، فلما خرجوا من عنده قال معاوية:
          وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
          وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
          قال: وكان به النفاثات، فمات من يومه ذلك.
          [إسناده ضعيف ومتنه منكر والصحيح الثابت عنه أنه كان يطلب المغفرة من ربه وينقطع لله سبحانه (راجع قسم الصحيح –الفصل الأخير)]

          حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، عن إسحاق بن أيوب، عن عبد الملك بن ميناس الكلبي، قال: قال معاوية، لابنتيه في مرضه الذي مات فيه وهما تقلبانه: تقلبان حولا قلبا، جمع المال من شب إلى دب إن لم يدخل النار، ثم تمثل:
          لقد سعيت لكم من سعي ذي نصب ... وقد كفيتكم التطواف والرحلا
          ويقال: من جمع ذي حسب.
          [(م/168):في إسناده عبد الملك بن ميناس لم نجد له ترجمة]

          ذكر الخبر عمن صلى على معاوية حين مات
          حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: صلى على معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وكان يزيد غائبا حين مات معاوية.
          [إسناده معضل ، وتفيد هذه الرواية أن ابنه يزيد كان غائبا حين توفي أبوه معاوية رضي الله عنه]

          وحدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى عبد الملك ابن نوفل بن مساحق بن عبد الله بن مخرمة، قال: لما مات معاوية خرج
          الضحاك بن قيس حتى صعد المنبر وأكفان معاوية على يديه تلوح، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن معاوية كان عود العرب، وحد العرب، قطع الله عز وجل به الفتنة، وملكه على العباد، وفتح به البلاد ألا إنه قد مات، فهذه أكفانه، فنحن مدرجوه فيها، ومدخلوه قبره، ومخلون بينه وبين عمله، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة، فمن كان منكم يريد أن يشهده فليحضر عند الأولى وبعث البريد إلى يزيد بوجع معاوية، فقال يزيد في ذلك:
          جاء البريد بقرطاس يخب به ... فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
          قلنا: لك الويل ماذا في كتابكم؟ ... قالوا: الخليفة أمسى مثبتا وجعا
          فمادت الأرض أو كادت تميد بنا ... كأن أغبر من أركانها انقطعا
          من لا تزل نفسه توفي على شرف ... توشك مقاليد تلك النفس أن تقعا
          لما انتهينا وباب الدار منصفق ... وصوت رملة ريع القلب فانصدعا
          [إسناده تالف]

          حدثني عمر، قال: حدثنا علي، عن إسحاق بن خليد، عن خليد بن عجلان مولى عباد، قال: مات معاوية ويزيد بحوارين، وكانوا كتبوا إليه حين مرض، فأقبل وقد دفن، فأتى قبره فصلى عليه، ودعا له، ثم أتى منزله، فقال: "جاء البريد بقرطاس..." الأبيات .
          [إسناده ضعيف ، وفي إسناده إسحاق بن خليد ، وخليد بن عجلان لم نجد لهما ترجمة.
          وأخرج البلاذري قال : حدثني العمري عن ابن عدي عن ابن عياش قال : كان يزيد بن معاوية حين مات أبوه بحوارين فقدم وقد دفن أبوه عند الباب الصغير بدمشق (أنساب الأشراف 4/156/ح437) ولا يخفى ضعف هذا الإسناد بسبب ابن عدي إضافة إلى أنه مرسل والله أعلم.
          أما الحافظ الذهبي فقد قال : قال أبو مسهر : صلى الضحاك بن قيس الفهري على معاوية (عهد معاوية /317).
          وأما تلميذه الحافظ ابن كثير فقد قال : قال محمد بن غسحاق ، والشافعي : صلى عليه ابنه يزيد (البداية والنهاية 8/146).
          قلنا : ولم نجد رواية صحيحة السند تؤيد أيَّا من الرأيين ولعل معاوية رضي الله عنه مات وابنه يزيد غائب فصلى عليه الضحاك بن قيس ثم لما جاء يزيد صلى على قبره والله تعالى أعلم]

          ذكر نسائه وولده
          ومنهن فاختة ابنة قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ولدت له عبد الرحمن وعبد الله بنى معاوية، وكان عبد الله محمقا ضعيفا، وكان يكنى أبا الخير حدثني أحمد، عن علي بن محمد، قال: مر عبد الله بن معاوية يوما بطحان قد شد بغله في الرحا للطحن، وجعل في عنقه جلاجل، فقال له: لم جعلت في عنق بغلك هذه الجلاجل؟ فقال الطحان: جعلتها في عنقه لأعلم إن قد قام فلم تدر الرحا، فقال له: أرأيت إن هو قام وحرك راسه كيف تعلم انه لا يدير الرحا؟ فقال له الطحان: إن بغلي هذا- أصلح الله الأمير- ليس له عقل مثل عقل الأمير! وأما عبد الرحمن فإنه مات صغيرا.
          [إسناده معضل]

          ومنهن نائلة بنت عمارة الكلبية، تزوجها، فحدثني أحمد، عن علي قال: لما تزوج معاوية نائلة قال لميسون: انطلقي فانظري إلى ابنة عمك، فنظرت إليها، فقال: كيف رأيتها؟ فقالت: جميلة كاملة، ولكن رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن رأس زوجها في حجرها، فطلقها معاوية، فتزوجها حبيب بن مسلمة الفهري، ثم خلف عليها بعد حبيب النعمان بن بشير الأنصاري، فقتل، ووضع رأسه في حجرها.
          [إسناده معضل]

          ذكر بعض ما حضرنا من ذكر أخباره وسيره
          حدثني أحمد بن زهير، عن علي، قال: لما بويع لمعاوية بالخلافة صير
          على شرطته قيس بن حمزة الهمداني، ثم عزله، واستعمل زميل بن عمرو العذري- ويقال ال***كى وكان كاتبه وصاحب امره سر جون بن منصور الرومي، وعلى حرسه رجل من الموالي يقال له المختار، وقيل: رجل يقال له مالك، ويكنى أبا المخارق، مولى لحمير وكان أول من اتخذ الحرس وكان على حجابه سعد مولاه، وعلى القضاء فضالة بن عبيد الأنصاري، فمات فاستقضى أبا إدريس عائذ الله بن عبد الله الخولاني الى هاهنا حديث أحمد عن علي.
          [إسناده معضل]

          وقال غير علي: وكان على ديوان الخاتم عبد الله بن محصن الحميري، وكان أول من اتخذ ديوان الخاتم قال: وكان سبب ذلك أن معاوية أمر لعمرو بن الزبير في معونته وقضاء دينه بمائة ألف درهم، وكتب بذلك إلى زياد بن سمية وهو على العراق، ففض عمرو الكتاب وصير المائة مائتين، فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية، فأخذ عمرا بردها وحبسه، فأداها عنه أخوه عبد الله بن الزبير، فأحدث معاويه عند ذلك ديوان الخاتم وخزم الكتب، ولم تكن تخزم.
          [ضعيف]

          حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، قال: قال عمر بن الخطاب: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية! حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: قرأت على عبد الله، عن فليح، قال: اخبرت ان عمرو ابن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر، فقال لهم عمرو: انظروا، إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلموا عليه بالخلافة، فإنه اعظم لكم في عينه، وصغروه وقد صغر أمري عند القوم، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشد تعتعة تقدرون عليها، فلا يبلغني رجل منهم إلا وقد همته نفسه بالتلف فكان أول من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له ابن الخياط، فدخل وقد تعتع، فقال: السلام عليك يا رسول الله، فتتابع القوم على ذلك، فلما خرجوا قال لهم عمرو: لعنكم الله! نهيتكم أن تسلموا عليه بالإمارة، فسلمتم عليه بالنبوة! قال: ولبس معاوية يوما عمامته الحرقانية واكتحل، وكان من أجمل الناس إذا فعل ذلك شك عبد الله فيه سمعه أو لم يسمعه.
          [في إسناده فليح صدوق كثير الخطأ ولم يدرك معاوية وفي متنه نكارة]

          حدثني أحمد بن زهير، عن علي بن محمد، قال: حدثنا أبو محمد الأموي، قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام، فرأى معاوية في موكب يتلقاه، وراح إليه في موكب، فقال له عمر: يا معاوية، تروح في موكب وتغدو في مثله، وبلغني أنك تصبح في منزلك وذوو الحاجات ببابك! قال: يا أمير المؤمنين، إن العدو بها قريب منا، ولهم عيون وجواسيس، فأردت يا أمير المؤمنين أن يروا للإسلام عزا، فقال له عمر: إن هذا لكيد رجل لبيب، أو خدعة رجل أريب، فقال معاوية: يا أمير المؤمنين، مرني بما شئت أصر إليه، قال: ويحك! ما ناظرتك في أمر أعيب عليك فيه إلا تركتني ما أدري آمرك أم أنهاك!
          [إسناده معضل]

          حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله، عن معمر، عن جعفر بن برقان، أن المغيرة كتب إلى معاوية: أما بعد، فإني قد كبرت سني، ودق عظمي، وشنفت لي قريش، فإن رأيت أن تعزلني فاعزلني.
          فكتب إليه معاوية: جاءني كتابك تذكر فيه أنه كبرت سنك، فلعمري ما أكل عمرك غيرك، وتذكر أن قريشا شنفت لك، ولعمري ما أصبت خيرا إلا منهم وتسألني أن أعزلك، فقد فعلت، فإن تك صادقا فقد شفعتك، وإن تك مخادعا فقد خدعتك.
          [رجاله ثقات غير جعفر بن برقان فهو صدوق بهم في حديث الزهري ولم يدرك زمن المغيرة والله أعلم]

          حدثني أحمد، عن علي بن محمد، عن علي بن مجاهد، قال: قال معاوية: إذا لم يكن الاموى مصلحا لما له، حليما، لم يشبه من هو منه، وإذا لم يكن الهاشمي سخيا جوادا لم يشبه من هو منه، ولا يقدمك من الهاشمي اللسان والسخاء والشجاعة.
          [في إسناده علي بن مجاهد فإن كان الكابلي فهو متروك وإلا فمجهول]

          حدثني أحمد، عن علي، عن عوانة وخلاد بن عبيدة، قال: تغدى معاوية يوما وعنده عبيد الله بن أبي بكرة، ومعه ابنه بشير- ويقال: غير بشير- فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله بن أبي بكرة، فأراد أن يغمز ابنه، فلم يمكنه، ولم يرفع رأسه حتى فرغ، فلما خرج لامه على ما صنع، ثم عاد إليه وليس معه ابنه، فقال معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اشتكى، فقال: قد علمت أن أكله سيورثه داء .
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، عن جويرية بن أسماء، قال: قدم أبو موسى على معاوية، فدخل عليه في برنس أسود، فقال: السلام عليك يا أمين الله، قال: وعليك السلام، فلما خرج قال معاوية: قدم الشيخ لأوليه، ولا والله لا أوليه.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، عن شهاب بن عبيد الله، عن يزيد بن سويد، قال: أذن معاوية للأحنف وكان يبدأ بإذنه، ثم دخل محمد بن الأشعث فجلس بين معاوية والأحنف، فقال معاوية: إنا لم نأذن له قبلك فتكون دونه، وقد فعلت فعال من احس من نفسه ذلا، إنا كما نملك أموركم
          نملك إذنكم، فأريدوا منا ما نريد منكم، فإنه أبقى لكم.
          [ضعيف]

          حدثني أحمد، عن علي، عن سحيم بن حفص، قال: خطب ربيعة بن عسل اليربوعي إلى معاوية، فقال معاوية: اسقوه سويقا، وقال له معاوية: يا ربيعة، كيف الناس عندكم؟ قال: مختلفون على كذا وكذا فرقة، قال: فمن أيهم أنت؟ قال: ما أنا على شيء من أمرهم، فقال معاوية: أراهم أكثر مما قلت، قال: يا أمير المؤمنين، أعني في بناء داري باثني عشر ألف جذع، قال معاوية: أين دارك؟ قال بالبصرة، وهي أكثر من فرسخين في فرسخين، قال: فدارك في البصرة، أو البصرة في دارك! فدخل رجل من ولده على ابن هبيرة فقال: أصلح الله الأمير! أنا ابن سيد قومه، خطب أبي إلى معاوية، فقال ابن هبيرة لسلم بن قتيبة: ما يقول هذا؟ قال: هذا ابن أحمق قومه، قال ابن هبيرة: هل زوج أباك معاوية؟ قال: لا، قال: فلا أرى أباك صنع شيئا.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، عن أبي محمد بن ذكوان القرشي، قال:
          تنازع عتبة وعنبسة ابنا أبي سفيان- وأم عتبة هند وأم عنبسة ابنة أبي أزيهر الدوسي- فأغلظ معاوية لعنبسة، وقال عنبسة: وأنت أيضا يا أمير المؤمنين! فقال: يا عنبسة، إن عتبة ابن هند، فقال عنبسة:
          كنا بخير صالحا ذات بيننا ... قديما فأمست فرقت بيننا هند
          فإن تك هند لم تلدني فإنني ... لبيضاء ينميها غطارفة نجد
          أبوها أبو الأضياف في كل شتوة ... ومأوى ضعاف لا تنوء من الجهد
          جفيناته ما إن تزال مقيمة ... لمن خاف من غوري تهامة أو نجد
          فقال معاوية: لا أعيدها عليك أبدا.
          [إسناده معضل]

          حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله بن المبارك، عن جرير بن حازم، قال: سمعت محمد بن الزبير يحدث، قال: حدثني عبد الله بن مسعدة بن حكمة الفزاري من بني آل بدر، قال: انتقل معاوية من بعض كور الشام إلى بعض عمله، فنزل منزلا بالشام، فبسط له على ظهر أجار مشرف على الطريق، فأذن لي، فقعدت معه، فمرت القطرات والرحائل والجوارى والخيول، فقال: يا بن مسعدة، رحم الله أبا بكر! لم يرد الدنيا ولم ترده الدنيا، وأما عمر- أو قال: ابن حنتمة- فأرادته الدنيا ولم يردها، وأما عثمان فأصاب من الدنيا وأصابت منه، وأما نحن فتمرغنا فيها، ثم كأنه ندم فقال: والله إنه لملك آتانا الله إياه.
          [في متنه نكارة شديدة وهو من قبل محمد بن الزبير متروك كما قال الحافظ ، وقال البخاري : منكر الحديث وفيه نظر وقال ابن حبان : منكر الحديث جدا (تهذيب الكمال ت 5819) ]

          حدثني أحمد عن علي بن محمد، عن علي بن عبيد الله، قال:
          كتب عمرو بن العاص إلى معاوية يسأله لابنه عبد الله بن عمرو ما كان أعطاه أباه من مصر، فقال معاوية: أراد أبو عبد الله أن يكتب فهدر، أشهدكم أني إن بقيت بعده فقد خلعت عهده قال: وقال عمرو بن العاص: ما رأيت معاوية متكئا قط واضعا إحدى رجليه على الأخرى كاسرا عينه يقول لرجل: تكلم، إلا رحمته.
          [إسناده معضل]

          قال أحمد: قال علي بن محمد: قال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين، ألست أنصح الناس لك؟ قال: بذلك نلت ما نلت.
          [إسناده معضل]

          قال أحمد: قال علي: عن جويرية بن أسماء، أن بسر بن أبي أرطاة نال من علي عند معاوية وزيد بن عمر بن الخطاب جالس، فعلاه بعصا فشجه، فقال معاوية لزيد: عمدت إلى شيخ من قريش سيد أهل الشام فضربته! وأقبل على بسر فقال: تشم عليا وهو جده وابن الفاروق على رءوس الناس، او كنت ترى أنه يصبر على ذلك! ثم أرضاهما جميعا.
          قال: وقال معاوية: إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكثر من حلمي، أو عورة لا أواريها بستري، أو إساءة أكثر من إحساني قال: وقال معاوية: زين الشريف العفاف، قال: وقال معاوية:
          ما من شيء أحب إلي من عين خرارة، في أرض خوارة، فقال عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من أن أبيت عروسا بعقيلة من عقائل العرب، فقال وردان مولى عمرو بن العاص: ما من شيء أحب إلي من الإفضال على الإخوان، فقال معاوية: أنا أحق بهذا منك، قال: ما تحب فافعل.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، عن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال:
          كان عامل معاوية على المدينة إذا أراد أن يبرد بريدا إلى معاوية أمر مناديه فنادى: من له حاجة يكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب زر بن حبيش- أو أيمن بن خريم- كتابا لطيفا ورمى به في الكتب، وفيه:
          إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
          وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
          فلما وردت الكتب عليه فقرأ هذا الكتاب، قال: نعى إلي نفسي.
          [إذا كان أحمد هو ابن إبراهيم بن المطلب الذي يروي عن أبيه فهو مقبول ، وإذا كان محمد بن إبراهيم بن عثمان ، فهو ثقة ولكن أبان ضعيف وللحديث شاهد]

          قال: وقال معاوية: ما من شيء ألذ عندي من غيظ أتجرعه.
          قال: وقال معاوية لعبد الرحمن بن الحكم بن ابى العاص: يا بن أخي، إنك قد لهجت بالشعر، فإياك والتشبيب بالنساء فتعر الشريفة، والهجاء فتعر كريما، وتستثير لئيما، والمدح، فإنه طعمة الوقاح، ولكن افخر بمفاخر قومك، وقل من الأمثال ما تزين به نفسك، وتؤدب به غيرك.
          [ضعيف]

          حدثني أحمد عن علي، قال: قال الحسن بن حماد: نظر معاوية إلى الثما في عباءة، فازدراه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن العباءة لا تكلمك، وإنما يكلمك من فيها.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد، عن علي، عن سليمان، قال: قال معاوية: رجلان إن ماتا لم يموتا، ورجل إن مات مات، أنا إن مت خلفني ابني، وسعيد إن مات خلفه عمرو، وعبد الله بن عامر إن مات مات، فبلغ مروان، فقال: أما ذكر ابني عبد الملك؟ قالوا: لا، قال: ما أحب أن لي بابني ابنيهما.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال:
          قال رجل لمعاوية: أي الناس أحب إليك؟ قال: أشدهم لي تحبيبا إلى الناس قال: وقال معاوية: العقل والحلم أفضل ما أعطي العبد، فإذا ذكر ذكر، وإذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا غضب كظم، وإذا قدر غفر، وإذا أساء استغفر، وإذا وعد أنجز.
          [إسناده معضل]

          حدثني أحمد عن علي، عن عبد الله، وهشام بن سعد، عن عبد الملك ابن عمير، قال: أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل له: أتحلم عن هذا؟
          فقال: إني لا أحول بين الناس وألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
          حدثني أحمد، عن علي، عن محمد بن عامر، قال: لام معاوية عبد الله بن جعفر على الغناء، فدخل يوما على معاوية ومعه بديح، ومعاوية واضع رجلا على رجل، فقال عبد الله لبديح: إيها يا بديح! فتغنى، فحرك معاوية رجله، فقال عبد الله: مه يا أمير المؤمنين! فقال معاوية: إن الكريم طروب.
          قال: وقدم عبد الله بن جعفر على معاوية ومعه سائب خاثر- وكان مولى لبني ليث، وكان فاجرا- فقال له: ارفع حوائجك، ففعل، ورفع فيها حاجة سائب خاثر، فقال معاوية: من هذا؟ فخبره، فقال: أدخله، فلما قام على باب المجلس غنى:
          لمن الديار رسومها قفر ... لعبت بها الأرواح والقطر!
          وخلالها من بعد ساكنها ... حجج خلون ثمان أو عشر
          والزعفران على ترائبها ... شرقا به اللبات والنحر
          فقال أحسنت، وقضى حوائجه .
          [إسناده معضل]

          حدثني عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثني سليمان، قال: حدثني عبد الله عن سفيان بن عيينة، عن مجالد، عن الشعبي، عن قبيصة بن جابر الأسدي قال: ألا أخبركم من صحبت؟ صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أفقه فقها، ولا أحسن مدارسة منه، ثم صحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلا أعطى للجزيل من غير مسألة منه، ثم صحبت معاوية فما رأيت رجلا أحب رفيقا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه، ولو أن المغيرة جعل في مدينة لا يخرج من أبوابها كلها إلا بالغدر لخرج منها.
          [في إسناده مجالد ليس بالقوي وتغير بآخره]

          خلافة يزيد بن معاوية
          وفي هذه السنة بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه، للنصف من رجب في قول بعضهم، وفي قول بعض: لثمان بقين منه- على ما ذكرنا قبل من وفاة والده معاوية- فأقر عبيد الله بن زياد على البصرة، والنعمان بن بشير على الكوفة. وقال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، ولي يزيد في هلال رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وأمير الكوفه النعمان ابن بشير الأنصاري، وأمير البصرة عبيد الله بن زياد، وأمير مكة عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم، فكتب إلى الوليد:
          بسم الله الرحمن الرحيم من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة، أما بعد، فإن معاوية كان عبدا من عباد الله، أكرمه الله واستخلفه، وخوله، ومكن له، فعاش بقدر، ومات بأجل، فرحمه الله، فقد عاش محمودا، ومات برا تقيا، والسلام.
          وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة:
          أما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام.
          فلما أتاه نعي معاوية فظع به، وكبر عليه، فبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه إليه- وكان الوليد يوم قدم المدينة قدمها مروان متكارها- فلما رأى ذلك الوليد منه شتمه عند جلسائه، فبلغ ذلك مروان، فجلس عنه وصرمه، فلم يزل كذلك حتى جاء نعي معاوية إلى الوليد، فلما عظم على الوليد هلاك معاوية وما أمر به من أخذ هؤلاء الرهط بالبيعة، فزع عند ذلك إلى مروان، ودعاه، فلما قرأ عليه كتاب يزيد، استرجع وترحم عليه، واستشاره الوليد في الأمر وقال: كيف ترى أن نصنع؟ قال: فإني أرى أن تبعث الساعة إلى هؤلاء النفر فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإن فعلوا قبلت منهم، وكففت عنهم، وإن أبوا قدمتهم فضربت أعناقهم قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل امرئ منهم في جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إلى نفسه لا أدري، أما ابن عمر فإني لا أراه يرى القتال، ولا يحب أنه يولى على الناس، إلا أن يدفع إليه هذا الأمر عفوا فأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان- وهو إذ ذاك غلام حدث- إليهما يدعوهما، فوجدهما في المسجد وهما جالسان، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، ولا يأتيانه في مثلها، فقال: أجيبا، الأمير يدعوكما، فقال له: انصرف، الآن نأتيه ثم أقبل أحدهما على الآخر، فقال عبد الله بن الزبير للحسين: ظن فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها! فقال حسين: قد ظننت، أرى طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر، فقال: وأنا ما أظن غيره قال: فما تريد أن تصنع؟ قال: أجمع فتياني الساعة، ثم أمشي إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه، ثم دخلت عليه. قال: فإني أخافه عليك إذا دخلت، قال: لا آتيه إلا وأنا على الامتناع قادر فقام فجمع إليه مواليه وأهل بيته، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد وقال لأصحابه: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي بأجمعكم، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم، فدخل فسلم عليه بالإمرة ومروان جالس عنده، فقال حسين، كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية: الصلة خير من القطيعة، أصلح الله ذات بينكما! فلم يجيباه في هذا بشيء، وجاء حتى جلس، فأقرأه الوليد الكتاب، ونعى له معاوية، ودعاه إلى البيعة، فقال حسين: إنا لله وإنا إليه راجعون! ورحم الله معاوية، وعظم لك الأجر! أما ما سألتني من البيعة فإن مثلي لا يعطي بيعته سرا، ولا أراك تجتزئ بها مني سرا دون أن نظهرها على رءوس الناس علانية، قال: أجل، قال: فإذا خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فقال له الوليد- وكان يحب العافية: فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين، فقال: يا بن الزرقاء، أنت تقتلني أم هو! كذبت والله وأثمت، ثم خرج فمر بأصحابه، فخرجوا معه حتى أتى منزله فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله لا يمكنك من مثلها من نفسه أبدا، قال الوليد: وبخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها، وأني قتلت حسينا، سبحان الله! أقتل حسينا إن قال: لا أبايع! والله إني لا أظن امرأ يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا له وهو غير الحامد له على رأيه.
          وأما ابن الزبير، فقال: الآن آتيكم، ثم أتى داره فكمن فيها، فبعث الوليد إليه فوجده مجتمعا في أصحابه متحرزا، فألح عليه بكثرة الرسل والرجال في إثر الرجال، فأما حسين فقال: كف حتى تنظر وننظر، وترى ونرى، وأما ابن الزبير فقال: لا تعجلوني فإني آتيكم، أمهلوني، فألحوا عليهما عشيتهما تلك كلها وأول ليلهما، وكانوا على حسين أشد إبقاء، وبعث الوليد إلى ابن الزبير موالي له فشتموه وصاحوا به: يا بن الكاهلية، والله لتأتين الأمير أو ليقتلنك، فلبث بذلك نهاره كله وأول ليله يقول: الآن أجيء، فإذا استحثوه قال: والله لقد استربت بكثرة الإرسال، وتتابع هذه الرجال، فلا تعجلوني حتى أبعث إلى الأمير من يأتيني برأيه وأمره، فبعث إليه أخاه جعفر بن الزبير فقال: رحمك الله! كف عن عبد الله فإنك قد أفزعته وذعرته بكثرة رسلك، وهو آتيك غدا إن شاء الله، فمر رسلك فلينصرفوا عنا فبعث إليهم فانصرفوا، وخرج ابن الزبير من تحت الليل فأخذ طريق الفرع هو وأخوه جعفر، ليس معهما ثالث، وتجنب الطريق الأعظم مخافة الطلب، وتوجه نحو مكة، فلما أصبح بعث إليه الوليد فوجده قد خرج، فقال مروان: والله إن أخطأ مكة فسرح في إثره الرجال، فبعث راكبا من موالي بني أمية في ثمانين راكبا، فطلبوه فلم يقدروا عليه، فرجعوا، فتشاغلوا عن حسين بطلب عبد الله يومهم ذلك حتى أمسوا، ثم بعث الرجال إلى حسين عند المساء فقال: أصبحوا ثم ترون ونرى، فكفوا عنه تلك الليلة، ولم يلحوا عليه، فخرج حسين من تحت ليلته، وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب سنة ستين.
          وكان مخرج ابن الزبير قبله بليلة، خرج ليلة السبت فأخذ طريق الفرع، فبينا عبد الله بن الزبير يساير أخاه جعفرا إذ تمثل جعفر بقول صبرة الحنظلي:
          وكل بني أم سيمسون ليلة ... ولم يبق من أعقابهم غير واحد
          فقال عبد الله! سبحان الله، ما أردت إلى ما أسمع يا أخي! قال: والله يا أخي ما أردت به شيئا مما تكره، فقال: فذاك والله أكره إلي أن يكون جاء على لسانك من غير تعمد- قال: وكأنه تطير منه- وأما الحسين فإنه خرج ببنيه وإخوته وبني أخيه وجل اهل بيته، الا محمد بن الحنفية فإنه قال له: يا أخي، أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فإن بايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك، إني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس، فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا، وأما أضيعها دما وأذلها أهلا، قال له الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإن اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال، وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنظر إلى ما يصير أمر الناس، وتعرف عند ذلك الرأي، فإنك اصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا حين تستقبل الأمور استقبالا، ولا تكون الأمور عليك أبدا أشكل منها حين تستدبرها استدبارا، قال: يا أخي، قد نصحت فأشفقت، فأرجو أن يكون رأيك سديدا موفقا .
          [في إسناده لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن أبي سعد المقبري، قال: نظرت إلى الحسين داخلا مسجد المدينة وإنه ليمشي وهو معتمد على رجلين، يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة، وهو يتمثل بقول ابن مفرغ:
          لا ذعرت السوام في فلق الصبح ... مغيرا ولا دعيت يزيدا
          يوم أعطى من المهابة ضيما ... والمنايا يرصدنني أن أحيدا
          قال: فقلت في نفسي: والله ما تمثل بهذين البيتين إلا لشيء يريد، قال: فما مكث إلا يومين حتى بلغني أنه سار إلى مكة.
          ثم إن الوليد بعث إلى عبد الله بن عمر فقال: بايع ليزيد، فقال: إذا بايع الناس بايعت، فقال رجل: ما يمنعك أن تبايع؟ انما تريد ان يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا، فإذا جهدهم ذلك قالوا: عليكم بعبد الله بن عمر، لم يبق غيره، بايعوه! قال عبد الله: ما أحب أن يقتتلوا ولا يختلفوا ولا يتفانوا، ولكن إذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت، قال: فتركوه وكانوا لا يتخوفونه قال: ومضى ابن الزبير حتى أتى مكة وعليها عمرو بن سعيد، فلما دخل مكة قال: إنما أنا عائذ، ولم يكن يصلي بصلاتهم، ولا يفيض بإفاضتهم، كان يقف هو وأصحابه ناحية، ثم يفيض بهم وحده، ويصلي بهم وحده، قال: فلما سار الحسين نحو مكة، قال: «فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين» فلما دخل مكة قال:
          «ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل »
          [في إسناده لوط بن يحيى التالف الهالك]

          ذكر عزل الوليد عن المدينة وولايه عمر بن سعيد
          وفي هذه السنة عزل يزيد الوليد بن عتبة عن المدينة، عزله في شهر رمضان، فأقر عليها عمرو بن سعيد الأشدق.
          وفيها قدم عمرو بن سعيد بن العاص المدينة في رمضان، فزعم الواقدي أن ابن عمر لم يكن بالمدينة حين ورد نعي معاوية وبيعة يزيد على الوليد، وأن ابن الزبير والحسين لما دعيا إلى البيعة ليزيد أبيا وخرجا من ليلتهما إلى مكة، فلقيهما ابن عباس وابن عمر جائيين من مكة، فسألاهما، ما وراءكما؟ قالا: موت معاوية والبيعة ليزيد، فقال لهما ابن عمر: اتقيا الله ولا تفرقا جماعة المسلمين، وأما ابن عمر فقدم فأقام أياما، فانتظر حتى جاءت البيعة من البلدان، فتقدم إلى الوليد بن عتبة فبايعه، وبايعه ابن عباس.
          وفي هذه السنة وجه عمرو بن سعيد عمرو بن الزبير إلى أخيه عبد الله بن الزبير لحربه.
          *ذكر الخبر عن ذلك:
          ذكر محمد بن عمر أن عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قدم المدينة في رمضان سنة ستين فدخل عليه أهل المدينة، فدخلوا على رجل عظيم الكبر مفوَّه.
          قال محمد بن عمر: حدثنا هشام بن سعيد، عن شيبة بن نصاح، قال:
          كانت الرسل تجري بين يزيد بن معاوية وابن الزبير في البيعه، فحلف يزيد الا يقبل منه حتى يؤتى به في جامعة، وكان الحارث بن خالد المخزومي على الصلاة، فمنعه ابن الزبير، فلما منعه كتب يزيد إلى عمرو بن سعيد، أن ابعث جيشا إلى ابن الزبير، وكان عمرو بن سعيد لما قدم المدينة ولى شرطته عمرو بن الزبير، لما كان يعلم ما بينه وبين عبد الله بن الزبير من البغضاء، فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضربا شديدا.
          قال محمد بن عمر: حدثني شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: نظر إلى كل من كان يهوى هوى ابن الزبير فضربه، وكان ممن ضرب المنذر ابن الزبير، وابنه محمد بن المنذر، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، وخبيب بن عبد الله بن الزبير، ومحمد ابن عمار بن ياسر، فضربهم الأربعين إلى الخمسين إلى الستين، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان وعبد الرحمن بن عمرو بن سهل في أناس إلى مكة، فقال عمرو بن سعيد لعمرو بن الزبير: من رجل نوجه إلى أخيك؟ قال: لا توجه إليه رجلا أبدا أنكأ له مني، فأخرج لأهل الديوان عشرات، وخرج من موالي أهل المدينة ناس كثير، وتوجه معه أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة، فوجهه في مقدمته، فعسكر بالجرف، فجاء مروان بن الحكم إلى عمرو بن سعيد فقال: لا تغز مكة، واتق الله، ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال عمرو بن الزبير والله لنقاتلنه ولنغزونه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك ليسوءني، فسار أنيس بن عمرو الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح، فأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه: بريمين الخليفة، واجعل في عنقك جامعة من فضة لا ترى، لا يضرب الناس بعضهم بعضا، واتق الله فإنك في بلد حرام.
          قال ابن الزبير: موعدك المسجد، فأرسل ابن الزبير عبد الله بن صفوان
          الجمحي إلى أنيس بن عمرو من قبل ذي طوى، وكان قد ضوى إلى عبد الله ابن صفوان قوم ممن نزل حول مكة، فقاتلوا انيس بن عمرو، فهزم انيس ابن عمرو اقبح هزيمه، وتفرق عن عمرو جماعة أصحابه، فدخل دار علقمة، فأتاه عبيدة بن الزبير فأجاره، ثم جاء إلى عبد الله بن الزبير فقال: إني قد أجرته، فقال: أتجير من حقوق الناس! هذا ما لا يصلح.
          قال محمد بن عمر: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبيد بن عمير فقال: أخبرني عمرو بن دينار، قال: كتب يزيد بن معاوية إلى عمرو ابن سعيد: أن استعمل عمرو بن الزبير على جيش، وابعثه إلى ابن الزبير، وابعث معه أنيس بن عمرو، قال: فسار عمرو بن الزبير حتى نزل في داره عند الصفا، ونزل أنيس بن عمرو بذي طوى، فكان عمرو بن الزبير يصلي بالناس، ويصلي خلفه عبد الله بن الزبير، فإذا انصرف شبك أصابعه في أصابعه، ولم يبق أحد من قريش إلا أتى عمرو بن الزبير، وقعد عبد الله بن صفوان فقال: ما لي لا أرى عبد الله بن صفوان! أما والله لئن سرت إليه ليعلمن أن بني جمح ومن ضوى إليه من غيرهم قليل، فبلغ عبد الله بن صفوان كلمته هذه، فحركته، فقال لعبد الله بن الزبير: إني أراك كأنك تريد البقيا على أخيك، فقال عبد الله: أنا أبقي عليه يا أبا صفوان! والله لو قدرت على عون الذر عليه لاستعنت بها عليه، فقال ابن صفوان: فأنا أكفيك أنيس بن عمرو، فاكفني أخاك، قال ابن الزبير: نعم، فسار عبد الله ابن صفوان إلى أنيس بن عمرو وهو بذي طوى، فلاقاه في جمع كثير من أهل مكة وغيرهم من الأعوان، فهزم أنيس بن عمرو ومن معه، وقتلوا مدبرهم، واجهزوا على جريحهم، وسار معصب بن عبد الرحمن إلى عمرو، وتفرق عنه أصحابه حتى تخلص إلى عمرو بن الزبير، فقال عبيدة بن الزبير لعمرو: تعال أنا أجيرك فجاء عبد الله بن الزبير، فقال: قد أجرت عمرا، فأجره لي، فأبى أن يجيره، وضربه بكل من كان ضرب بالمدينة، وحبسه بسجن عارم.
          قال الواقدي: قد اختلفوا علينا في حديث عمرو بن الزبير، وكتبت كل ذلك.
          حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، قال:
          لما قدم عمرو بن سعيد المدينة واليا، قدم في ذي القعدة سنة ستين، فولى عمرو ابن الزبير شرطته، وقال: قد أقسم أمير المؤمنين الا يقبل بيعة ابن الزبير إلا أن يؤتى به في جامعة، فليبر يمين أمير المؤمنين، فإني أجعل جامعة خفيفة من ورق أو ذهب، ويلبس عليها برنسا، ولا ترى إلا أن يسمع صوتها، وقال:
          خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متذلل
          أعامر إن القوم ساموك خطة ... ومالك في الجيران عذل معذل
          قال محمد: وحدثني رياح بن مسلم، عن أبيه، قال: بعث إلى عبد الله بن الزبير عمرو بن سعيد، فقال له أبو شريح: لا تغز مكة فإني سمعت رسول الله ص يقول: إنما أذن الله لي في القتال بمكة ساعة من نهار، ثم عادت كحرمتها، فأبى عمرو أن يسمع قوله، وقال: نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ، فبعث عمرو جيشا مع عمرو ومعه انيس ابن عمرو الأسلمي، وزيد غلام محمد بن عبد الله بن الحارث بن هشام، - وكانوا نحو ألفين- فقاتلهم أهل مكة، فقتل أنيس بن عمرو والمهاجر مولى القلمس في ناس كثير، وهزم جيش عمرو، فجاء عبيدة بن الزبير، فقال لأخيه عمرو: أنت في ذمتي، وأنا لك جار، فانطلق به إلى عبد الله، فدخل على ابن الزبير فقال: ما هذا الدم الذي في وجهك يا خبيث! فقال عمرو:
          لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
          فحبسه وأخفر عبيدة، وقال: أمرتك أن تجير هذا الفاسق المستحل لحرمات الله، ثم أقاد عمرا من كل من ضربه إلا المنذر وابنه، فإنهما أبيا
          أن يستقيدا، ومات تحت السياط قال: وإنما سمي سجن عارم لعبد كان يقال له: زيد عارم، فسمي السجن به، وحبس ابن الزبير أخاه عمرا فيه.
          قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن أبي يحيى، عن أبيه، قال: كان مع أنيس بن عمرو ألفان.
          قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى :
          وفي هذه السنة (أي:60 ه) وجه أهل الكوفة الرسل إلى الحسين عليه السلام وهو بمكة يدعونه إلى القدوم عليهم، فوجه إليهم ابن عمه مسلم بن عقيل بن أبي طالب .

          ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين عليه السلام
          للمصير إلى ما قبلهم وأمر مسلم بن عقيل رضي الله عنه

          حدثني زكريا بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أحمد بن جناب المصيصي- ويكنى أبا الوليد- قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القسري، قال: حدثنا عمار الدهني، قال: قلت لأبي جعفر: حدثني بمقتل الحسين حتى كأني حضرته، قال: مات معاوية والوليد بن عتبة بن أبي سفيان على المدينة، فأرسل إلى الحسين بن علي ليأخذ بيعته، فقال له: أخرني وارفق، فأخره، فخرج إلى مكة، فأتاه أهل الكوفة ورسلهم: إنا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الجمعة مع الوالي، فأقدم علينا- وكان النعمان بن بشير الأنصاري على الكوفة، قال: فبعث الحسين إلى مسلم بن عقيل بن أبي طالب ابن عمه فقال له: سر إلى الكوفة فانظر ما كتبوا به إلي، فإن كان حقا خرجنا إليهم فخرج مسلم حتى أتى المدينة، فأخذ منها دليلين، فمرا به في البرية، فأصابهم عطش، فمات أحد الدليلين، وكتب مسلم إلى الحسين يستعفيه، فكتب إليه الحسين: أن امض إلى الكوفة . فخرج حتى قدمها، ونزل على رجل من أهلها يقال له ابن عوسجة، قال: فلما تحدث أهل الكوفة بمقدمه دبوا إليه فبايعوه، فبايعه منهم اثنا عشر ألفا قال: فقام رجل ممن يهوى يزيد بن معاوية إلى النعمان بن بشير، فقال له: إنك ضعيف أو متضعف، قد فسد البلاد! فقال له النعمان: أن أكون ضعيفا وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قويا في معصية الله، وما كنت لأهتك سترا ستره الله.
          فكتب بقول النعمان إلى يزيد، فدعا مولى له يقال له: سرجون، - وكان يستشيره- فأخبره الخبر، فقال له: أكنت قابلا من معاوية لو كان حيا؟ قال: نعم، قال: فاقبل مني، فإنه ليس للكوفة إلا عبيد الله ابن زياد، فولها إياه- وكان يزيد عليه ساخطا، وكان هم بعزله عن البصرة- فكتب إليه برضائه، وأنه قد ولاه الكوفة مع البصرة، وكتب إليه أن يطلب مسلم بن عقيل فيقتله إن وجده.
          قال: فأقبل عبيد الله في وجوه أهل البصرة حتى قدم الكوفة متلثما، ولا يمر على مجلس من مجالسهم فيسلم الا قالوا: عليك السلام يا بن بنت رسول الله- وهم يظنون أنه الحسين بن على ع- حتى نزل القصر، فدعا مولى له فأعطاه ثلاثة آلاف، وقال له: اذهب حتى تسأل عن الرجل الذي يبايع له أهل الكوفة فأعلمه أنك رجل من أهل حمص جئت لهذا الأمر، وهذا مال تدفعه إليه ليتقوى فلم يزل يتلطف ويرفق به حتى دل على شيخ من أهل الكوفة يلي البيعة، فلقيه فأخبره، فقال له الشيخ: لقد سرني لقاؤك إياي، وقد ساءني، فأما ما سرني من ذلك فما هداك الله له، وأما ما ساءني فإن أمرنا لم يستحكم بعد فأدخله إليه، فأخذ منه المال وبايعه، ورجع إلى عبيد الله فأخبره.
          فتحول مسلم حين قدم عبيد الله بن زياد من الدار التي كان فيها إلى منزل هانئ بن عروة المرادي، وكتب مسلم بن عقيل إلى الحسين بن على عليه السلام يخبره ببيعة اثني عشر ألفا من أهل الكوفة، ويأمره بالقدوم.
          وقال عبيد الله لوجوه أهل الكوفة: ما لي أرى هانئ بن عروة لم يأتني فيمن أتاني! قال: فخرج إليه محمد بن الأشعث في ناس من قومه وهو على باب داره، فقالوا: إن الأمير قد ذكرك واستبطأك، فانطلق إليه، فلم يزالوا به حتى ركب معهم وسار حتى دخل على عبيد الله وعنده شريح القاضي، فلما نظر إليه قال لشريح: أتتك بحائن رجلاه، فلما سلم عليه قال: يا هانئ، أين مسلم؟ قال: ما أدري، فأمر عبيد الله مولاه صاحب الدراهم فخرج إليه، فلما رآه قطع به، فقال: أصلح الله الأمير! والله ما دعوته إلى منزلي ولكنه جاء فطرح نفسه علي، قال: ائتني به، قال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه، قال: أدنوه إلي، فأدني فضربه على حاجبه فشجه، قال: وأهوى هانئ إلى سيف شرطي ليسله، فدفع عن ذلك، وقال: قد أحل الله دمك، فأمر به فحبس في جانب القصر.
          [ولنا وقفة عند غسناد الطبري هذا ، فأما شيخه زكريا بن يحيى الضرير فقد ترجم له الخطيب دون جرح أو تعديل .
          وأما خالد بن يزيد القسري ، فقد سكت عنه ابن حجر في التقريب وهو ضعيف ، وقال ابن عدي : أحاديثه كلها لا يتابع عليها .
          وسيرجع الطبري مرة أخرى إلى هذا الإسناد عند الحديث عن استشهاد الحسين رضي الله عنه.
          وقال غير أبي جعفر : الذي جاء بهانيء بن عروة إلى عبيد الله بن زياد عمرو بن الحجاج الزبيدي :
          *ذكر من قال ذلك :
          حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا أبو قتينة ، قال : حدثنا يوني بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث ، قال : حدثنا عمارة بن عقبة بن أبي معيط ، فجلس في مجلس بن زياد فحدث ، قال : طردت اليوم حمرا فاصبت منه حمارا فعقرته ، فقال له عمرو بن الحجاج الزبيدي : إن حمارا تعقره أنت لحمار حائن ؛ فقال : ألا أخبرك بأحين من هذا كله ! رجل جيء بأبيه كافرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر أن يضرب عنقه ، فقال : يا محمد فمن للصبية؟ قال : النار ، فأنت من الصبية ، وأنت في النار ؛ قال : فضحك بن زياد ]

          رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني، عن أبي جعفر قال: فبينا هو
          كذلك إذ خرج الخبر إلى مذحج، فإذا على باب القصر جلبة سمعها عبيد الله، فقال: ما هذا؟ فقالوا: مذحج، فقال لشريح: اخرج إليهم فأعلمهم أني إنما حبسته لأسائله، وبعث عينا عليه من مواليه يسمع ما يقول، فمر بهانىء بن عروة، فقال له هانئ: اتق الله يا شريح، فإنه قاتلي، فخرج شريح حتى قام على باب القصر، فقال: لا بأس عليه، إنما حبسه الأمير ليسائله، فقالوا: صدق، ليس على صاحبكم بأس، فتفرقوا، فأتى مسلما الخبر، فنادى بشعاره، فاجتمع إليه أربعة آلاف من أهل الكوفة، فقدم مقدمته، وعبى ميمنته وميسرته، وسار في القلب إلى عبيد الله، وبعث عبيد الله إلى وجوه أهل الكوفة فجمعهم عنده في القصر، فلما سار إليه مسلم فانتهى إلى باب القصر أشرفوا على عشائرهم فجعلوا يكلمونهم ويردونهم، فجعل أصحاب مسلم يتسللون حتى امسى في خمسمائة، فلما اختلط الظلام ذهب أولئك أيضا.
          فلما رأى مسلم أنه قد بقي وحده يتردد في الطرق أتى بابا فنزل عليه، فخرجت إليه امرأة، فقال لها: اسقيني، فسقته، ثم دخلت فمكثت ما شاء الله، ثم خرجت فإذا هو على الباب، قالت: يا عبد الله، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، قال: إني أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوى؟ قالت: نعم، ادخل، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فلما علم به الغلام انطلق إلى محمد فأخبره، فانطلق محمد إلى عبيد الله فأخبره، فبعث عبيد الله عمرو بن حريث المخزومي- وكان صاحب شرطه- إليه، ومعه عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث، فلم يعلم مسلم حتى أحيط بالدار، فلما رأى ذلك مسلم خرج إليهم بسيفه فقاتلهم، فأعطاه عبد الرحمن الأمان، فأمكن من يده، فجاء به إلى عبيد الله، فأمر به فأصعد إلى أعلى القصر فضربت عنقه، وألقى جثته إلى الناس، وأمر بهانىء فسحب إلى الكناسة، فصلب هنالك، وقال شاعرهم في ذلك:
          فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السوق وابن عقيل
          أصابهما أمر الإمام فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
          أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وقد طلبته مذحج بذحول!
          وأما أبو مخنف فإنه ذكر من قصة مسلم بن عقيل وشخوصه إلى الكوفة ومقتله قصة هي أشبع وأتم من خبر عمار الدهني عن أبي جعفر الذي ذكرناه، ما حدثت عن هشام بن محمد، عنه، قال: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: حدثني عقبة بن سمعان مولى الرباب ابنة امرئ القيس الكلبية امرأة حسين- وكانت مع سكينة ابنة حسين، وهو مولى لأبيها، وهي إذ ذاك صغيرة- قال: خرجنا فلزمنا الطريق الأعظم، فقال للحسين أهل بيته: لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير لا يلحقك الطلب، قال: لا، والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو أحب إليه، قال:
          فاستقبلنا عبد الله بن مطيع فقال للحسين: جعلت فداك! أين تريد؟ قال:
          أما الآن فإني أريد مكة، وأما بعدها فانى أستخير الله، قال: خار الله لك، وجعلنا فداك، فإذا أنت أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة، فإنها بلدة مشئومة، بها قتل أبوك، وخذل أخوك، واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه، الزم الحرم، فإنك سيد العرب، لا يعدل بك والله أهل الحجاز أحدا، ويتداعى إليك الناس من كل جانب، لا تفارق الحرم فداك عمى وخالي، فو الله لئن هلكت لنسترقن بعدك !
          فأقبل حتى نزل مكة، فأقبل أهلها يختلفون إليه ويأتونه ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق، وابن الزبير بها قد لزم الكعبة، فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف، ويأتي حسينا فيمن يأتيه، فيأتيه اليومين المتواليين، ويأتيه بين كل يومين مرة، ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير، قد عرف أن أهل الحجاز لا يبايعونه ولا يتابعونه أبدا ما دام حسين بالبلد، وإن حسينا أعظم في أعينهم وأنفسهم منه،.
          وأطوع في الناس منه.
          فلما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسين وابن الزبير، ولحقا بمكة، فكتب أهل الكوفة إلى حسين، وعليهم النعمان بن بشير.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: فحدثني الحجاج بن علي، عن محمد بن بشر الهمداني، قال: اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، فذكرنا هلاك معاوية، فحمدنا الله عليه، فقال لنا سليمان بن صرد: إن معاوية قد هلك، وإن حسينا قد تقبض على القوم ببيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغروا الرجل من نفسه، قالوا: لا، بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قال: فاكتبوا إليه، فكتبوا إليه:
          بسم الله الرحمن الرحيم لحسين بن علي من سليمان بن صرد والمسيب ابن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمر عليها بغير رضا منها، ثم قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا له كما بعدت ثمود! إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والنعمان ابن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك.
          قال: ثم سرحنا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، وأمرناهما بالنجاء، فخرج الرجلان مسرعين حتى قدما على حسين لعشر مضين من شهر رمضان بمكة، ثم لبثنا يومين، ثم سرحنا اليه قيس ابن مسهر الصيداوي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي وعمارة بن عبيد السلولي، فحملوا معهم نحوا من ثلاثة وخمسين صحيفة، [الصحيفة] من الرجل والاثنين والأربعة.
          قال: ثم لبثنا يومين آخرين، ثم سرحنا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحتفى، وكتبنا معهما:
          بسم الله الرحمن الرحيم لحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فحيهلا، فإن الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، والسلام عليك.
          وكتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم وعزرة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي:
          أما بعد، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجند، والسلام عليك.
          وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن أمر الناس، ثم كتب مع هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي، وكانا آخر الرسل:
          بسم الله الرحمن الرحيم من حسين بن علي إلى الملإ من المؤمنين والمسلمين، أما بعد، فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكانا آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم: إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الهدى والحق وقد بعثت إليكم أخي وابن عمى وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت علي به رسلكم، وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكا إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله والسلام.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: وذكر أبو المخارق الراسبي، قال: اجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية ابنة سعد- أو منقذ- أياما، وكانت تشيع، وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه، وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين، فكتب إلى عامله بالبصرة ان يضع المناظر ويأخذ الطريق.
          قال: فأجمع يزيد بن نبيط الخروج- وهو من عبد القيس- إلى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيكم يخرج معي؟ فانتدب معه ابنان له: عبد الله وعبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج، فقالوا له: إنا نخاف عليك أصحاب ابن زياد، فقال: انى والله لو قد استوت اخفافهما بالجدد لهان علي طلب من طلبني.
          قال: ثم خرج فتقدى في الطريق حتى انتهى الى حسين ع، فدخل في رحله بالأبطح، وبلغ الحسين مجيئه، فجعل يطلبه، وجاء الرجل إلى رحل الحسين، فقيل له: قد خرج إلى منزلك، فأقبل في أثره، ولما لم يجده الحسين جلس في رحله ينتظره، وجاء البصري فوجده في رحله جالسا، فقال: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» قال: فسلم عليه، وجلس إليه، فخبره بالذي جاء له، فدعا له بخير، ثم أقبل معه حتى أتى فقاتل معه، فقتل معه هو وابناه ثم دعا مسلم بن عقيل فسرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبيد السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله بن الكدن الأرحبي، فأمره بتقوى الله وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك.
          فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله ص، وودع من أحب من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس، فأقبلا به، فضلا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشا فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي إلى حسين، وذلك بالمضيق من بطن الخبيت:
          أما بعد، فإني أقبلت من المدينة معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلا، واشتد علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء، فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيرت من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه، وبعثت غيري، والسلام
          فكتب إليه حسين:
          أما بعد، فقد خشيت ألا يكون حملك على الكتاب إلي في الاستعفاء من الوجه الذي وجهتك له إلا الجبن، فامض لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك.
          فقال مسلم لمن قرأ الكتاب: هذا ما لست أتخوفه على نفسي، فأقبل كما هو حتى مر بماء لطيئ، فنزل بهم، ثم ارتحل منه، فإذا رجل يرمي الصيد، فنظر إليه قد رمى ظبيا حين أشرف له، فصرعه، فقال مسلم: يقتل عدونا إن شاء الله، ثم أقبل مسلم حتى دخل الكوفه، فنزل دار المختار ابن أبي عبيد- وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيب- وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون.
          فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
          أما بعد، فإني لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرك منهم، والله لأحدثنك عما أنا موطن نفسي عليه، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله.
          فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي، فقال: رحمك الله! قد قضيت ما في نفسك، بواجز من قولك، ثم قال: وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما هذا عليه.
          ثم قال الحنفي مثل ذلك فقال الحجاج بن علي: فقلت لمحمد بن بشر: فهل كان منك أنت قول؟ فقال: إن كنت لأحب أن يعز الله أصحابي بالظفر، وما كنت لأحب أن أقتل، وكرهت أن أكذب.
          واختلفت الشيعة إليه حتى علم مكانه، فبلغ ذلك النعمان بن بشير.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
          أما بعد، فاتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيهما يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال- وكان حليما ناسكا يحب العافية- قال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب علي، ولا أشاتمكم، ولا أتحرش بكم، ولا أخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم امامكم، فو الله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل.
          قال: فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال: إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم، إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله، ثم نزل.
          وخرج عبد الله بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فإن مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف، أو هو يتضعف فكان أول من كتب إليه.
          ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه، ثم كتب اليه عمر بن سعد ابن أبي وقاص بمثل ذلك.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال هشام: قال عوانة: فلما اجتمعت الكتب عند يزيد ليس بين كتبهم إلا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية فقال: ما رأيك؟
          فإن حسينا قد توجه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيئ- وأقرأه كتبهم- فما ترى من أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد، فقال سرجون: أرأيت معاوية لو نشر لك، أكنت آخذا برأيه؟ قال: نعم، فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب فأخذ برأيه وضم المصرين إلى عبيد الله، وبعث إليه بعهده على الكوفة.
          ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي- وكان عنده- فبعثه إلى عبيد الله بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه: أما بعد، فإنه كتب إلي شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشق عصا المسلمين، فسر حين قرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الحرزه حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام.
          فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيد الله بالبصرة، فأمر عبيد الله بالجهاز والتهيؤ والمسير إلى الكوفة من الغد.
          وقد كان حسين كتب إلى أهل البصرة كتابا، قال هشام: قال أبو مخنف:
          حدثني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب حسين مع مولى لهم يقال له: سليمان، وكتب بنسخة إلى رءوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، والى قيس ابن الهيثم، والى عمرو بن عبيد الله بن معمر، فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها: أما بعد، فان الله اصطفى محمدا ص على خلقه، وأكرمه بنبوته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه وقد نصح لعباده، وبلغ ما ارسل به ص، وكنا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحق الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنا أحق بذلك الحق المستحق علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا، وتحروا الحق، فرحمهم الله، وغفر لنا ولهم. وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنه نبيه ص، فإن السنة قد أميتت، وإن البدعة قد أحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة الله.
          فكل من قرأ ذلك الكتاب من أشراف الناس كتمه، غير المنذر بن الجارود، فإنه خشي بزعمه أن يكون دسيسا من قبل عبيد الله، فجاءه بالرسول من العشية التي يريد صبيحتها أن يسبق إلى الكوفة، وأقرأه كتابه، فقدم الرسول فضرب عنقه وصعد عبيد الله منبر البصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
          أما بعد، فو الله ما تقرن بي الصعبة، ولا يقعقع لي بالشنان، وإني لنكل لمن عاداني، وسم لمن حاربني، أنصف القارة من راماها يا أهل البصره، ان امير المؤمنين ولانى الكوفه وأنا غاد إليها الغداة، وقد استخلفت عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، وإياكم والخلاف والارجاف، فو الذى لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه، ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي، ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطيء الحصى ولم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم.
          ثم خرج من البصرة واستخلف أخاه عثمان بن زياد، وأقبل إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء، وهو متلثم والناس قد بلغهم إقبال حسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس الا سلموا عليه، وقالوا: مرحبا بك يا بن رسول الله! قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين ع ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو لما أكثروا: تأخروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد، فاخذ حين أقبل على الظهر، وإنما معه بضعة عشر رجلا، فلما دخل القصر وعلم الناس أنه عبيد الله بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيد الله ما سمع منهم، وقال: ألا أرى هؤلاء كما أرى.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال هشام: قال أبو مخنف: فحدثني المعلى بن كليب، عن أبي وداك، قال: لما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة، قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن أمير المؤمنين أصلحه الله ولاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم، وانا
          متبع فيكم أمره، ومنفذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البر، وسوطي وسيفي على من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه. الصدق ينبئ عنك لا الوعيد، ثم نزل.
          فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا، فقال: اكتبوا إلي الغرباء، ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين، ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبرئ، ومن لم يكتب لنا أحدا، فيضمن لنا ما في عرافته الا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره، والقيت تلك العرافة من العطاء، وسير إلى موضع بعمان الزارة.
          وأما عيسى بن يزيد الكناني فإنه قال- فيما ذكر عمر بن شبة، عن هارون بن مسلم، عن علي بن صالح، عنه- قال: لما جاء كتاب يزيد إلى عبيد الله بن زياد، انتخب من اهل البصره خمسمائة، فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل، وشريك بن الأعور- وكان شيعة لعلي، فكان أول من سقط بالناس شريك، فيقال: إنه تساقط غمرة ومعه ناس- ثم سقط عبد الله ابن الحارث وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عبيد الله ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى من سقط، ويمضي حتى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه، فقال: أيا مهران، على هذه الحال، إن أمسكت عنك حتى تنظر إلى القصر فلك مائة ألف، قال: لا، والله ما أستطيع فنزل عبيد الله فأخرج ثيابا مقطعة من مقطعات اليمن، ثم اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته، ثم انحدر راجلا وحده، فجعل يمر بالمحارس فكلما نظروا إليه لم يشكوا أنه الحسين، فيقولون: مرحبا بك يا بن رسول الله! وجعل لا يكلمهم، وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم، وسمع بهم النعمان بن بشير فغلق عليه وعلى خاصته، وانتهى إليه عبيد الله وهو لا يشك أنه الحسين، ومعه الخلق يضجون، فكلمه النعمان، فقال: أنشدك
          الله ألا تنحيت عني! ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتلك من أرب، فجعل لا يكلمه ثم إنه دنا وتدلى الآخر بين شرفين، فجعل يكلمه فقال: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك، فسمعها إنسان خلفه، فتكفى إلى القوم، فقال: أي قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره! فقالوا: ويحك! إنما هو الحسين، ففتح له النعمان، فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس، فانفضوا، وأصبح فجلس على المنبر فقال: أيها الناس، إني لأعلم أنه قد سار معي، وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظن أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه، والله ما عرفت منكم أحدا، ثم نزل.
          وأخبر أن مسلم بن عقيل قدم قبله بليلة، وأنه بناحية الكوفة، فدعا مولى لبني تميم فأعطاه مالا، وقال: انتحل هذا الأمر، وأعنهم بالمال، واقصد لهانئ ومسلم وانزل عليه، فجاء هانئا فأخبره أنه شيعة، وأن معه مالا وقدم شريك بن الأعور شاكيا، فقال لهانئ: مر مسلما يكن عندي، فإن عبيد الله يعودني، وقال شريك لمسلم: أرأيتك إن أمكنتك من عبيد الله أضاربه أنت بالسيف؟ قال: نعم والله وجاء عبيد الله شريكا يعوده في منزل هانئ- وقد قال شريك لمسلم: إذا سمعتني أقول: اسقوني ماء فاخرج عليه فاضربه- وجلس عبيد الله على فراش شريك، وقام على رأسه مهران، فقال: اسقوني ماء، فخرجت جارية بقدح، فرأت مسلما، فزالت، فقال شريك: اسقوني ماء، ثم قال الثالثة: ويلكم تحموني الماء! اسقونيه ولو كانت فيه نفسي، ففطن مهران فغمز عبيد الله، فوثب، فقال شريك: أيها الأمير، إني أريد أن أوصي إليك، قال: أعود إليك، فجعل مهران يطرد به، وقال: أراد والله قتلك، قال: وكيف مع إكرامي شريكا وفي بيت هانئ ويد أبي عنده يد! فرجع فأرسل إلى أسماء بن خارجة ومحمد بن الأشعث فقال: ائتياني بهانىء، فقالا له: إنه لا يأتي إلا بالأمان، قال: وما له وللأمان! وهل أحدث حدثا! انطلقا فإن لم يأت إلا بأمان فآمناه، فأتياه فدعواه، فقال: إنه إن أخذني قتلني، فلم يزالا به حتى جاءا به وعبيد الله يخطب يوم الجمعة، فجلس في المسجد، وقد رجل هانئ غديرتيه، فلما صلى عبيد الله، قال: يا هانئ، فتبعه، ودخل فسلم، فقال عبيد الله: يا هانئ، أما تعلم أن أبي قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة إلا قتله غير أبيك وغير حجر، وكان من حجر ما قد علمت، ثم لم يزل يحسن صحبتك، ثم كتب إلى أمير الكوفة: إن حاجتي قبلك هانئ؟ قال: نعم، قال: فكان جزائي أن خبأت في بيتك رجلا ليقتلني! قال: ما فعلت، فأخرج التميمي الذي كان عينا عليهم، فلما رآه هانئ علم أن قد أخبره الخبر، فقال: أيها الأمير، قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عني، فأنت آمن وأهلك، فسر حيث شئت.
          فكبا عبيد الله عندها، ومهران قائم على رأسه في يده معكزة، فقال:
          وا ذلاه! هذا العبد الحائك يؤمنك في سلطانك! فقال: خذه، فطرح المعكزة، وأخذ بضفيرتي هانئ، ثم أقنع بوجهه، ثم أخذ عبيد الله المعكزة فضرب بها وجه هانئ، وندر الزج، فارتز في الجدار، ثم ضرب وجهه حتى كسر أنفه وجبينه، وسمع الناس الهيعة، وبلغ الخبر مذحج، فأقبلوا، فأطافوا بالدار، وأمر عبيد الله بهانىء فألقي في بيت، وصيح المذحجيون، وأمر عبيد الله مهران أن يدخل عليه شريحا، فخرج، فأدخله عليه، ودخلت الشرط معه، فقال: يا شريح، قد ترى ما يصنع بي! قال: أراك حيا، قال: وحي أنا مع ما ترى! أخبر قومي أنهم إن انصرفوا قتلني، فخرج إلى عبيد الله فقال: قد رأيته حيا، ورأيت أثرا سيئا، قال: وتنكر أن يعاقب الوالي رعيته! اخرج إلى هؤلاء فأخبرهم، فخرج، وأمر عبيد الله الرجل فخرج معه، فقال لهم شريح: ما هذه الرعة السيئة! الرجل حي، وقد عاتبه سلطانه بضرب لم يبلغ نفسه، فانصرفوا ولا تحلوا بأنفسكم ولا بصاحبكم.
          فانصرفوا.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          وذكر هشام، عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قال: نزل شريك بن الأعور على هانئ بن عروة المرادي، وكان شريك شيعيا، وقد شهد صفين مع عمار.
          وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، فخرج من دار المختار- وقد علم به- حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة المرادي، فدخل بابه، وأرسل إليه أن اخرج، فخرج إليه هانئ، فكره هانئ مكانه حين رآه، فقال له مسلم: أتيتك لتجيرني وتضيفني، فقال: رحمك الله! لقد كلفتني شططا، ولولا دخولك داري وثقتك لأحببت ولسألتك أن تخرج عني، غير أنه يأخذني من ذلك ذمام، وليس مردود مثلي على مثلك عن جهل، أدخل.
          فآواه، وأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ بن عروة، ودعا ابن زياد مولى له يقال له معقل، فقال له: خذ ثلاثة آلاف درهم، ثم اطلب مسلم ابن عقيل، واطلب لنا أصحابه، ثم أعطهم هذه الثلاثة آلاف، فقل لهم:
          استعينوا بها على حرب عدوكم، وأعلمهم أنك منهم، فإنك لو قد أعطيتها إياهم اطمأنوا إليك، ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئا من أخبارهم، ثم اغد عليهم ورح ففعل ذلك، فجاء حتى أتى إلى مسلم بن عوسجة الأسدي من بني سعد بن ثعلبة في المسجد الأعظم وهو يصلي، وسمع الناس يقولون: إن هذا يبايع للحسين، فجاء فجلس حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبد الله، إني امرؤ من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت وحب من أحبهم، فهذه ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفه يبايع لابن بنت رسول الله ص، وكنت أريد لقاءه فلم أجد أحدا يدلني عليه ولا يعرف مكانه، فإني لجالس آنفا في المسجد إذ سمعت نفرا من المسلمين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت، وإني أتيتك لتقبض هذا المال وتدخلني على صاحبك فأبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه، فقال: أحمد الله على لقائك إياي، فقد سرني ذلك لتنال ما تحب، ولينصر الله بك أهل بيت نبيه، ولقد ساءني معرفتك إياي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته.
          فأخذ بيعته قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق المغلظة ليناصح وليكتمن، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثم قال له: اختلف إلي أياما في منزلي، فأنا طالب لك الإذن على صاحبك فأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن فمرض هانئ بن عروة، فجاء عبيد الله عائدا له، فقال له عمارة بن عبيد السلولي: إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، فقد أمكنك الله منه فاقتله، قال هانئ: ما أحب أن يقتل في داري، فخرج فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور- وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء، وكان شديد التشيع- فأرسل إليه عبيد الله: أني رائح إليك العشية، فقال لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحد يحول بينك وبينه، فإن برئت من وجعي هذا أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها.
          فلما كان من العشي أقبل عبيد الله لعيادة شريك، فقام مسلم بن عقيل ليدخل، وقال له شريك: لا يفوتنك إذا جلس، فقام هانئ بن عروة إليه فقال: إني لا أحب أن يقتل في داري- كأنه استقبح ذلك- فجاء عبيد الله ابن زياد فدخل فجلس، فسأل شريكا عن وجعه، وقال: ما الذي تجد؟ ومتى أشكيت؟ فلما طال سؤاله إياه، ورأى أن الآخر لا يخرج، خشي أن يفوته، فأخذ يقول:
          ما تنتظرون بسلمى أن تحيوها
          أسقنيها وإن كانت فيها نفسي، فقال ذلك مرتين أو ثلاثا، فقال عبيد الله، ولا يفطن ما شأنه: أترونه يهجر؟ فقال له هانئ: نعم أصلحك الله! ما زال هذا ديدنه قبيل عماية الصبح حتى ساعته هذه ثم إنه قام فانصرف، فخرج مسلم، فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: خصلتان: أما إحداهما فكراهة هانئ أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديث حدثه الناس عن النبي ص: أن الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، فقال هانئ: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا، ولكن كرهت أن يقتل في داري ولبث شريك بن الأعور بعد ذلك ثلاثا ثم مات، فخرج ابن زياد فصلى عليه، وبلغ عبيد الله بعد ما قتل مسلما وهانئا أن ذلك الذي كنت سمعت من شريك في مرضه إنما كان يحرض مسلما، ويأمره بالخروج إليك ليقتلك، فقال عبيد الله: والله لا أصلي على جنازة رجل من اهل العراق ابدا، وو الله لولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا.
          ثم إن معقلا مولى ابن زياد الذي دسه بالمال إلى ابن عقيل وأصحابه، اختلف إلى مسلم بن عوسجة أياما ليدخله على ابن عقيل، فأقبل به حتى أدخله عليه بعد موت شريك بن الأعور، فأخبره خبره كله، فأخذ ابن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصائدي، فقبض ماله الذي جاء به- وهو الذي كان يقبض أموالهم، وما يعين به بعضهم بعضا، يشتري لهم السلاح، وكان به بصيرا، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة- وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أول داخل وآخر خارج، يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، ثم ينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد قال: وكان هانئ يغدو ويروح إلى عبيد الله، فلما نزل به مسلم انقطع من الاختلاف وتمارض، فجعل لا يخرج، فقال ابن زياد لجلسائه: ما لي لا أرى هانئا! فقالوا: هو شاك، فقال: لو علمت بمرضه لعدته!
          قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، قال: دعا عبيد الله محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: حدثني الحسن بن عقبة المرادي أنه بعث معهما عمرو بن الحجاج الزبيدي.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: وحدثني نمير بن وعلة، عن أبي الوداك، قال: كانت روعة أخت عمرو بن الحجاج تحت هانئ بن عروة، وهي أم يحيى بن هانئ فقال لهم: ما يمنع هانئ بن عروة من إتياننا؟ قالوا: ما ندري أصلحك الله!
          وإنه ليتشكى، قال: قد بلغني أنه قد برأ، وهو يجلس على باب داره، فالقوه، فمروه الا يدع ما عليه في ذلك من الحق، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على بابه، فقالوا: ما يمنعك من لقاء الأمير، فإنه قد ذكرك، وقد قال: لو أعلم أنه شاك لعدته؟ فقال لهم: الشكوى تمنعني، فقالوا له: يبلغه أنك تجلس كل عشية على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا! فدعا بثيابه فلبسها، ثم دعا ببغلة فركبها حتى إذا دنا من القصر، كأن نفسه أحست ببعض الذى كان، فقال لحسان ابن أسماء بن خارجه: يا بن أخي، إني والله لهذا الرجل لخائف، فما ترى؟ قال: أي عم، والله ما أتخوف عليك شيئا، ولم تجعل على نفسك سبيلا وأنت بريء؟ وزعموا أن أسماء لم يعلم في أي شيء بعث إليه عبيد الله، فأما محمد فقد علم به، فدخل القوم على ابن زياد، ودخل معهم، فلما طلع قال عبيد الله: أتتك بحائن رجلاه! وقد عرس عبيد الله إذ ذاك بأم نافع ابنة عمارة بن عقبة، فلما دنا من ابن زياد وعنده شريح القاضي التفت نحوه، فقال:
          أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
          وقد كان له أول ما قدم مكرما ملطفا، فقال له هانئ: وما ذاك أيها الأمير؟ قال: إيه يا هانئ بن عروة! ما هذه الأمور التي تربص في دورك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين! جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أن ذلك يخفى علي لك!
          قال: ما فعلت، وما مسلم عندي، قال: بلى قد فعلت، قال: ما فعلت، قال: بلى، فلما كثر ذلك بينهما، وأبى هانئ إلا مجاحدته ومناكرته، دعا ابن زياد معقلا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه فقال: أتعرف هذا؟
          قال: نعم، وعلم هانئ عند ذلك أنه كان عينا عليهم، وأنه قد أتاه باخبارهم، فسقط في خلده ساعة ثم إن نفسه راجعته، فقال له: اسمع مني، وصدق مقالتي، فو الله لا أكذبك، والله الذي لا إله غيره ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشيء من أمره، حتى رأيته جالسا على بابي، فسألني النزول علي، فاستحييت من رده، ودخلني من ذلك ذمام، فأدخلته داري وضفته وآويته، وقد كان من أمره الذي بلغك، فإن شئت أعطيت الآن موثقا مغلظا وما تطمئن اليه الا أبغيك سوءا، وإن شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه فأمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرج من ذمامه وجواره، فقال: لا والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به، فقال: لا، والله لا أجيئك أبدا، أنا أجيئك بضيفي تقتله! قال: والله لتأتيني به، قال: والله لا آتيك به.
          فلما كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره- فقال: أصلح الله الأمير! خلني وإياه حتى أكلمه، لما رأى لجاجته وتأبيه على ابن زياد أن يدفع إليه مسلما، فقال لهانئ: قم الى هاهنا حتى أكلمك، فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه على ذلك قريب حيث يراهما، إذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان، وإذا خفضا خفي عليه ما يقولان، فقال له مسلم: يا هانئ، إني أنشدك الله أن تقتل نفسك، وتدخل البلاء على قومك وعشيرتك! فو الله إني لأنفس بك عن القتل، وهو يرى أن عشيرته ستحرك في شأنه أن هذا الرجل ابن عم القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليه فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنما تدفعه إلى السلطان، قال: بلى، والله إن علي في ذلك للخزي والعار، أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد، كثير الأعوان! والله لو لم أكن إلا واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه. فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه إليه أبدا، فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه مني، فأدنوه منه، فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك، قال: إذا تكثر البارقة حول دارك، فقال: والهفا عليك! أبا لبارقه تخوفني! وهو يظن أن عشيرته سيمنعونه، فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدني، فاستعرض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه، وسيل الدماء على ثيابه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب، وضرب هانئ بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الرجال، وجابذه الرجل ومنع، فقال عبيد الله: احروري سائر اليوم! أحللت بنفسك، قد حل لنا قتلك، خذوه فألقوه في بيت من بيوت الدار، وأغلقوا عليه بابه، واجعلوا عليه حرسا، ففعل ذلك به، فقام اليه أسماء ابن خارجة فقال: أرسل غدر سائر اليوم! أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتى إذا جئناك به وأدخلناه عليك هشمت وجهه، وسيلت دمه على لحيته، وزعمت أنك تقتله! فقال له عبيد الله: وانك لهاهنا! فأمر به فلهز وتعتع به، ثم ترك فحبس.
          وأما محمد بن الأشعث فقال: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنما الأمير مؤدب وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل، فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمرو بن الحجاج، هذه فرسان مذحج ووجوهها، لم تخلع طاعه، ولم تفارق جماعة، وقد بلغهم أن صاحبهم يقتل، فأعظموا ذلك، فقيل لعبيد الله: هذه مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثم اخرج فأعلمهم أنه حي لم يقتل، وأنك قد رأيته، فدخل إليه شريح فنظر إليه.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          فقال أبو مخنف: فحدثني الصقعب بن زهير، عن عبد الرحمن بن شريح، قال: سمعته يحدث إسماعيل بن طلحة، قال: دخلت على هانئ، فلما رآني قال: يا لله يا للمسلمين! اهلكت عشيرتي؟ فأين أهل الدين! وأين أهل المصر! تفاقدوا! يخلوني، وعدوهم وابن عدوهم! والدماء
          تسيل على لحيته، إذ سمع الرجة على باب القصر، وخرجت واتبعني، فقال: يا شريح، إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني، قال: فخرجت إليهم ومعي حميد بن بكير الأحمري- أرسله معي ابن زياد، وكان من شرطه ممن يقوم على رأسه- وايم الله لولا مكانه معي لكنت أبلغت أصحابه ما أمرني به، فلما خرجت إليهم قلت: إن الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم، وأن أعلمكم أنه حي، وأن الذي بلغكم من قتله كان باطلا فقال عمرو واصحابه: فاما إذ لم يقتل فالحمد لله، ثم انصرفوا.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: حدثني الحجاج بن علي، عن محمد بن بشر الهمداني، قال: لما ضرب عبيد الله هانئا وحبسه خشي أن يثب الناس به، فخرج فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجفوا وتحرموا، إن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر.
          قال: ثم ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل! فدخل عبيد الله القصر مسرعا، وأغلق أبوابه.
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

          قال أبو مخنف: حدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن خازم، قال:
          أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر إلى ما صار أمر هانئ، قال:
          فلما ضرب وحبس ركبت فرسي وكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، وإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عثرتاه! يا ثكلاه! فدخلت على مسلم بن عقيل بالخبر، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ منهم الدور حوله، وقد بايعه ثمانية عشر ألفا، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فقال لي: ناد: يا منصور أمت، فناديت: يا منصور أمت، وتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كندة وربيعة، وقال: سر أمامي في الخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد، وقال: انزل في الرجال فأنت عليهم، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم أقبل نحو القصر، فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر، وغلق الأبواب .
          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]



          وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
          أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

          تعليق

          • إيمان أحمد
            مشرفة الأقسام الإسلامية

            • 9 يون, 2006
            • 2427
            • موظفة
            • مسلمة

            #20
            رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

            قال أبو مخنف: وحدثني يونس بن أبي إسحاق، عن عباس الجدلي قال: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر الا ونحن ثلاثمائة.
            قال: وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر، ثم إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فو الله ما لبثنا إلا قليلا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، وما زالوا يثوبون حتى المساء، فضاق بعبيد الله ذرعه، وكان كبر أمره أن يتمسك بباب القصر، وليس معه إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين، وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم، فينظرون إليهم فيتقون أن يرموهم بالحجارة، وأن يشتموهم وهم لا يفترون على عبيد الله وعلى أبيه ودعا عبيد الله كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة، ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب، ويحذرهم عقوبة السلطان، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشا إليهم لقلة عدد من معه من الناس، وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثني أبو جناب الكلبي : أن كثيرا ألفى رجلا من
            كلب يقال له عبد الأعلى بن يزيد، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنما أردتك، قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك، فأمر به فحبس، وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن ابن شريح الشبامي، فلما رأى محمد بن الأشعث كثرة من أتاه، أخذ يتنحى ويتأخر، وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد بن الأشعث: قد جلت على ابن عقيل من العرار، فتأخر عن موقفه، فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قبل دار الروميين، فلما اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمد والقعقاع فيمن أطاعهم من قومهم، قال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم، فأبى عبيد الله، وعقد لشبث بن ربعي لواء، فأخرجه، وأقام الناس مع ابن عقيل يكبرون ويثوبون حتى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم إليه، ثم قال: أشرفوا على الناس فمنوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم.
            قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن عبد الله بن خازم الكثيري من الأزد، من بني كثير، قال: أشرف علينا الأشراف، فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهدا: لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها، وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون، وأخذوا ينصرفون.
            قال أبو مخنف: فحدثني المجالد بن سعيد، أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر! انصرف فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفسا فلما رأى إنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجها نحو أبواب كندة، وبلغ الأبواب ومعه منهم عشرة، ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان، والتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق، ولا يدله على منزل ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدو، فمضى على وجهه يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة- أم ولد كانت للأشعث بن قيس، فأعتقها، فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا، وكان بلال، قد خرج مع الناس وأمه قائمة تنتظره- فسلم عليها ابن عقيل، فردت عليه، فقال لها: يا أمة الله، اسقيني ماء، فدخلت فسقته، فجلس وأدخلت الإناء، ثم خرجت فقالت: يا عبد الله ألم تشرب! قال: بلى، قالت: فاذهب إلى أهلك، فسكت، ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت، ثم قالت له: في الله، سبحان الله يا عبد الله! فمر إلى أهلك عافاك الله، فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي، ولا أحله لك، فقام فقال: يا أمة الله، ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك إلى أجر ومعروف، ولعلي مكافئك به بعد اليوم! فقالت: يا عبد الله، وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم وغروني، قالت: أنت مسلم! قال: نعم قالت: ادخل، فأدخلته بيتا في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش، ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه، فقال: والله إنه
            ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه! إن لك لشأنا، قالت: يا بني، اله عن هذا، قال لها: والله لتخبرني: قالت: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء، فألح عليها، فقالت: يا بني، لا تحدثن أحدا من الناس بما أخبرك به، وأخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت- وزعموا أنه قد كان شريدا من الناس وقال بعضهم: كان يشرب مع أصحاب له- ولما طال على ابن زياد، وأخذ لا يسمع لأصحاب ابن عقيل صوتا كما كان يسمعه قبل ذلك قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحدا! فأشرفوا فلم يروا أحدا، قال: فانظروا لعلهم تحت الظلال قد كمنوا لكم، ففرعوا بحابح المسجد، وجعلوا يخفضون شعل النار في أيديهم، ثم ينظرون: هل في الظلال أحد؟ وكانت أحيانا تضيء لهم، وأحيانا لا تضيء لهم كما يريدون، فدلوا القناديل وأنصاف الطنان تشد بالحبال، ثم تجعل فيها النيران، ثم تدلى، حتى تنتهي إلى الأرض ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها حتى فعلوا ذلك بالظلة التي فيها المنبر، فلما لم يروا شيئا أعلموا ابن زياد، ففتح باب السدة التي في المسجد ثم خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا حوله قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمة من رجل من الشرطة والعرفاء أو المناكب أو المقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد، فلم يكن له إلا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثم أمر مناديه فأقام الصلاة، فقال الحصين بن تميم: إن شئت صليت بالناس، أو يصلي بهم غيرك، ودخلت أنت فصليت في القصر، فإني لا آمن أن يغتالك بعض أعدائك! فقال: مر حرسي فليقوموا ورائي كما كانوا يقفون، ودر فيهم فإني لست بداخل إذا. فصلى بالناس، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن ابن عقيل السفيه الجاهل، قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا يا حصين بن تميم، ثكلتك أمك إن صاح باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غدا واستبر الدور وجس خلالها حتى تأتيني بهذا الرجل- وكان الحصين على شرطه، وهو من بني تميم- ثم نزل ابن زياد فدخل وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمره على الناس، فلما أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمد بن الأشعث فقال: مرحبا بمن لا يستغش ولايتهم! ثم أقعده إلى جنبه، وأصبح ابن تلك العجوز وهو بلال بن أسيد الذي آوت أمه ابن عقيل، فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه، قال: فأقبل عبد الرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد، فساره، فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ قال: أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا، فنخس بالقضيب في جنبه ثم قال: قم فأتني به الساعة.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعيد بن زائدة بن قدامة الثقفي، أن ابن الأشعث حين قام ليأتيه بابن عقيل بعث إلى عمرو بن حريث وهو في المسجد خليفته على الناس، أن ابعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلهم من قيس- وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أن كل قوم يكرهون أن يصادف فيهم مثل ابن عقيل- فبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في ستين أو سبعين من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنه قد أتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشد عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار، ثم عادوا إليه، فشد عليهم كذلك، فاختلف هو وبكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بكير فم مسلم فقطع شفته العليا، وأشرع السيف في السفلى، ونصلت لها ثنيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه منكرة، وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النار في أطنان القصب، ثم يقلبونها عليه من فوق البيت، فلما رأى ذلك خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة فقاتلهم، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال: يا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك، فأقبل يقاتلهم، وهو يقول:
            أقسمت لا أقتل إلا حرا ... وإن رأيت الموت شيئا نكرا
            كل امرئ يوما ملاق شرا ... ويخلط البارد سخنا مرا
            رد شعاع الشمس فاستقر ... أخاف أن أكذب أو أغرا
            فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تخدع ولا تغر، إن القوم بنو عمك، وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وقد أثخن بالحجارة، وعجز عن القتال وانبهر، فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمد بن الأشعث فقال: لك الأمان، فقال: آمن أنا؟ قال: نعم، وقال القوم: أنت آمن، غير عمرو بن عبيد الله بن العباس السلمي فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى.
            وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم وأتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله، وانتزعوا سيفه من عنقه، فكأنه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أول الغدر، قال محمد ابن الاشعث: أرجو الا يكون عليك بأس، قال: ما هو إلا الرجاء، أين أمانكم! إنا لله وإنا إليه راجعون! وبكى، فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس: إن من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك، قال: إني والله ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا، ولكن أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي لحسين وآل حسين! ثم أقبل على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني أراك والله ستعجز عن أماني، فهل عندك خير! تستطيع أن تبعث من عندك رجلا على لساني يبلغ حسينا، فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم مقبلا، او هو خرج غدا هو وأهل بيته، وإن ما ترى من جزعي لذلك، فيقول: إن ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير لا يرى أن تمشي حتى تقتل، وهو يقول: ارجع بأهل بيتك، ولا يغرك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني، وليس لمكذب رأي، فقال ابن الأشعث: والله لأفعلن، ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك قال أبو مخنف: فحدثني جعفر بن حذيفة الطائي- وقد عرف سعيد ابن شيبان الحديث- قال: دعا محمد بن الأشعث إياس بن العثل الطائي من بني مالك ابن عمرو بن ثمامة، وكان شاعرا، وكان لمحمد زوارا، فقال له: الق حسينا فأبلغه هذا الكتاب، وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك، ومتعة لعيالك، فقال: من أين لي براحلة، فإن راحلتي قد أنضيتها؟ قال: هذه راحلة فاركبها برحلها ثم خرج فاستقبله بزبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر، وبلغه الرسالة، فقال له حسين: كل ما حم نازل، وعند الله نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا .
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            وقد كان مسلم بن عقيل حيث تحول إلى دار هانئ بن عروة وبايعه ثمانية عشر ألفا، قدم كتابا إلى حسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري:
            أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا، فعجل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإن الناس كلهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى، والسلام.
            وأقبل محمد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، فاستأذن فأذن له، فأخبر عبيد الله خبر ابن عقيل وضرب بكير إياه، فقال: بعدا له! فأخبره محمد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إياه، فقال عبيد الله: ما أنت والأمان! كأنا أرسلناك تؤمنه! انما أرسلناك لتأتينا به، فسكت وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناس جلوس ينتظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد أن مسلم بن عقيل حين
            انتهى إلى باب القصر فإذا قلة باردة موضوعة على الباب، فقال ابن عقيل: اسقوني من هذا الماء، فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا والله لا تذوق منها قطرة أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم! قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟ قال: أنا ابن من عرف الحق إذ أنكرته، ونصح لإمامه إذ غششته، وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت، أنا مسلم بن عمرو الباهلي، فقال ابن عقيل: لأمك الثكل! ما أجفاك، وما أفظك، وأقسى قلبك واغلظك! أنت يا بن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني، ثم جلس متساندا إلى حائط.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاما يدعى سليمان، فجاءه بماء في قلة فسقاه.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: وحدثني سعيد بن مدرك بن عمارة، أن عمارة بن عقبة بعث غلاما له يدعى قيسا، فجاءه بقلة عليها منديل ومعه قدح فصب فيه ماء، ثم سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما، فلما ملأ القدح المرة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيتاه فيه، فقال: الحمد لله! لو كان لي من الرزق المقسوم شربته وأدخل مسلم على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمرة، فقال له الحرسي: ألا تسلم على الأمير! فقال له: إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه! وإن كان لا يريد قتلي فلعمري ليكثرن سلامي عليه، فقال له ابن زياد: لعمري لتقتلن، قال: كذلك؟ قال: نعم، قال: فدعني أوص إلى بعض قومي، فنظر إلى جلساء عبيد الله وفيهم عمر بن سعد، فقال: يا عمر، ان بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وقد يجب لي عليك نجح حاجتي، وهو سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله: لا تمتنع أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه فجلس حيث ينظر إليه ابن زياد، فقال له: إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة، سبعمائة درهم، فاقضها عني، وانظر جثتي فاستوهبها من ابن زياد، فوارها، وابعث إلى حسين من يرده، فإني قد كتبت إليه أعلمه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلا، فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال لي؟ إنه ذكر كذا وكذا، قال له ابن زياد: إنه لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن، أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك أن تصنع فيه ما أحببت، وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لن نشفعك فيها، إنه ليس بأهل منا لذلك، قد جاهدنا وخالفنا، وجهد على هلاكنا. وزعموا أنه قال: اما جثته فانا لا نبالى إذ قتلناه ما صنع بها ثم إن ابن زياد قال: ايه يا بن عقيل! أتيت الناس وأمرهم جميع، وكلمتهم واحدة، لتشتتهم، وتفرق كلمتهم، وتحمل بعضهم على بعض! قال: كلا، لست أتيت، ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم، وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب، قال: وما أنت وذاك يا فاسق! او لم نكن نعمل بذاك فيهم إذ أنت بالمدينة تشرب الخمر! قال: أنا أشرب الخمر! والله إن الله ليعلم أنك غير صادق، وأنك قلت بغير علم، وأني لست كما ذكرت وان أحق بشرب الخمر مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها، ويقتل النفس بغير النفس، ويسفك الدم الحرام، ويقتل على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأن لم يصنع شيئا فقال له ابن زياد: يا فاسق، إن نفسك تمنيك ما حال الله دونه، ولم يرك أهله، قال: فمن اهله يا بن زياد؟ قال: أمير المؤمنين يزيد فقال: الحمد لله على كل حال، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم، قال: كأنك تظن أن لكم في الأمر شيئا! قال: والله ما هو بالظن، ولكنه اليقين، قال: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام! قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما لم يكن فيه، أما إنك لا تدع سوء القتلة، وقبح المثلة، وخبث السيرة، ولؤم الغلبة، ولا أحد من الناس أحق بها منك وأقبل ابن سمية يشتمه ويشتم حسينا وعليا وعقيلا، وأخذ مسلم لا يكلمه وزعم أهل العلم أن عبيد الله أمر له بماء فسقي بخزفة، ثم قال له: إنه لم يمنعنا أن نسقيك فيها إلا كراهة أن تحرم بالشرب فيها، ثم نقتلك، ولذلك سقيناك في هذا، ثم قال: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه، ثم اتبعوا جسده راسه، فقال: يا بن الأشعث، أما والله لولا أنك آمنتني ما استسلمت، قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك، ثم قال: يا بن زياد، أما والله لو كانت بيني وبينك قرابة ما قتلتني، ثم قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف وعاتقه؟ فدعي، فقال: اصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه، فصعد به وهو يكبر ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ورسله وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا وكذبونا وأذلونا وأشرف به على موضع الجزارين اليوم، فضربت عنقه، وأتبع جسده رأسه.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة قال: نزل الأحمري بكير بن حمران الذي قتل مسلما، فقال له ابن زياد:
            قتله؟ قال: نعم، قال: نعم، قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟ قال: كان يكبر ويسبح ويستغفر، فلما أدنيته لأقتله قال: اللهم احكم بيننا وبين قوم كذبونا وغرونا وخذلونا وقتلونا، فقلت له: ادن منى، الحمد لله الذي أقادني منك، فضربته ضربة لم تغن شيئا، فقال أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد! فقال ابن زياد: او فخرا عند الموت! قال: ثم ضربته الثانية فقتلته.
            قال: وقام محمد بن الأشعث إلى عبيد الله بن زياد فكلمه في هانئ بن عروة، وقال: إنك قد عرفت منزلة هانئ بن عروة في المصر، وبيته في العشيرة، وقد علم قومه أني وصاحبي سقناه إليك، فأنشدك الله لما وهبته لي، فإني أكره عداوة قومه، هم أعز أهل المصر، وعدد أهل اليمن!.
            قال: فوعده أن يفعل، فلما كان من أمر مسلم بن عقيل ما كان، بدا له فيه، وأبى أن يفي له بما قال.
            قال: فأمر بهانىء بن عروة حين قتل مسلم بن عقيل فقال: اخرجوا الى السوق فاضربوا عنقه، قال: فاخرج بهانىء حتى انتهى إلى مكان من
            السوق كان يباع فيه الغنم وهو مكتوف، فجعل يقول: وا مذحجاه! ولا مذحج لي اليوم! وا مذحجاه، وأين مني مذحج! فلما رأى أن أحدا لا ينصره جذب يده فنزعها من الكتاف، ثم قال: أما من عصا أو سكين أو حجر أو عظم يجاحش به رجل عن نفسه!
            قال: ووثبوا إليه فشدوه وثاقا، ثم قيل له: امدد عنقك، فقال: ما أنا بها مجد سخي، وما أنا بمعينكم على نفسي.
            قال: فضربه مولى لعبيد الله بن زياد- تركي يقال له رشيد- بالسيف، فلم يصنع سيفه شيئا، فقال هانئ: إلى الله المعاد! اللهم إلى رحمتك ورضوانك! ثم ضربه أخرى فقتله.
            قال: فبصر به عبد الرحمن بن الحصين المرادي بخازر، وهو مع عبيد الله بن زياد، فقال الناس: هذا قاتل هانئ بن عروة، فقال ابن الحصين: قتلني الله إن لم أقتله أو أقتل دونه! فحمل عليه بالرمح فطعنه فقتله ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأتي به، فقال له:
            أخبرني بأمرك، فقال: أصلحك الله! خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب، فقال له: فعليك وعليك، من الأيمان المغلظة، إن كان أخرجك إلا ما زعمت! فأبى أن يحلف، فقال عبيد الله: انطلقوا بهذا إلى جبانة السبيع فاضربوا عنقه بها، قال: فانطلق به فضربت عنقه، قال: وأخرج عمارة بن صلخب الأزدي- وكان ممن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره- فأتي به أيضا عبيد الله فقال له: ممن أنت؟ قال: من الأزد. قال: انطلقوا به إلى قومه، فضربت عنقه فيهم، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتلة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادى- ويقال: قاله الفرزدق:
            ان كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السوق وابن عقيل
            إلى بطل قد هشم السيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار قتيل
            أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسري بكل سبيل
            ترى جسدا قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
            فتى هو أحيا من فتاة حيية ... وأقطع من ذي شفرتين صقيل
            أيركب أسماء الهماليج آمنا ... وقد طلبته مذحج بذحول!
            تطيف حواليه مراد وكلهم ... على رقبه من سائل ومسول
            فان أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغايا أرضيت بقليل
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: عن أبي جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، قال: ثم إن عبيد الله بن زياد لما قتل مسلما وهانئا بعث برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الوادعي والزبير بن الأروح التميمي إلى يزيد بن معاوية، وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهانئ، فكتب إليه كتابا أطال فيه- وكان أول من أطال في الكتب- فلما نظر فيه عبيد الله بن زياد كرهه، وقال: ما هذا التطويل وهذه الفضول؟ اكتب:
            أما بعد، فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وأني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما، وقد بعثت إليك برءوسهما مع هانئ بن أبي حية الهمداني والزبير بن الأروح التميمي- وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة- فليسألهما أمير المؤمنين عما أحب من أمر، فإن عندهما علما وصدقا، وفهما وورعا، والسلام.
            فكتب إليه يزيد: أما بعد، فإنك لم تعد أن كنت كما أحب، عملت عمل الحازم، وصلت صولة الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليك فسألتهما، وناجيتهما فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرت، فاستوص بهما خيرا، وإنه قد بلغني أن الحسين بن علي قد توجه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظن، وخذ على التهمه، غير الا تقتل إلا من قاتلك، واكتب إلي في كل ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة الله.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عون بن أبي جحيفة، قال: كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين- ويقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكة مقبلا إلى الكوفة بيوم- قال: وكان مخرج الحسين من المدينة إلى مكة يوم الأحد لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مكة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان، فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة، ثم خرج منها لثمان مضين من ذي الحجة يوم الثلاثاء يوم التروية في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل.
            وذكر هارون بن مسلم، عن علي بن صالح، عن عيسى بن يزيد، أن المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل كانا خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبد الله براية حمراء، وعليه ثياب حمر، وجاء المختار برايته فركزها على باب عمرو بن حريث، وقال: إنما خرجت لأمنع عمرا، وإن ابن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلما وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالا شديدا، وأن شبثا جعل يقول: انتظروا بهم الليل يتفرقوا، فقال له القعقاع: إنك قد سددت على الناس وجه مصيرهم، فافرج لهم ينسربوا، وإن عبيد الله أمر أن يطلب المختار وعبد الله بن الحارث، وجعل فيهما جعلا، فاتى بهما فحبسا.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            ذكر مسير الحسين إلى الكوفة
            وفي هذه السنة كان خروج الحسين عليه السلام من مكة متوجها إلى الكوفة.
            ذكر الخبر عن مسيره إليها وما كان من أمره في مسيره ذلك:
            قال هشام عن أبي مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، قال: لما قدمت كتب أهل العراق إلى الحسين وتهيأ للمسير إلى العراق، أتيته فدخلت عليه وهو بمكة، فحمدت الله وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني أتيتك يا بن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني وإلا كففت عما اريد ان اقول، فقال: قل، فو الله ما اظنك بسيئ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل، قال: قلت له: إنه قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحب إليه ممن يقاتلك معه، فقال الحسين: جزاك الله خيرا يا بن عم، فقد والله علمت أنك مشيت بنصح، وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمر يكن، أخذت برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير، وأنصح ناصح .
            قال: فانصرفت من عنده فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام، فسألني: هل لقيت حسينا؟ فقلت له: نعم، قال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلت كذا وكذا، وقال كذا وكذا، فقال: نصحته ورب المروة الشهباء، أما ورب البنية إن الرأي لما رأيته، قبله أو تركه، ثم قال:
            رب مستنصح يغش ويردي ... وظنين بالغيب يلفى نصيحا
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: وحدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان، أن حسينا لما أجمع المسير إلى الكوفة أتاه عبد الله بن عباس فقال: يا بن عم، إنك قد أرجف الناس إنك سائر إلى العراق، فبين لي ما أنت صانع؟ قال: إني قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: فإني أعيذك بالله من ذلك، أخبرني رحمك الله! أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فسر إليهم، وإن كانوا إنما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنهم إنما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغروك ويكذبوك، ويخالفوك ويخذلوك، وأن يستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك، فقال له حسين: وإني أستخير الله وأنظر ما يكون .
            قال: فخرج ابن عباس من عنده، وأتاه ابن الزبير فحدثه ساعة، ثم قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين، وولاة هذا الأمر دونهم! خبرني ما تريد أن تصنع؟ فقال الحسين: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إلي شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله، فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها، قال: ثم إنه خشي أن يتهمه فقال: أما إنك لو أقمت بالحجاز ثم اردت هذا الأمر هاهنا ما خولف عليك إن شاء الله، ثم قام فخرج من عنده، فقال الحسين: ها إن هذا ليس شيء يؤتاه من الدنيا أحب إليه من أن أخرج من الحجاز إلى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شيء، وأن الناس لم يعدلوه بي، فود أني خرجت منها لتخلو له .
            قال: فلما كان من العشي أو من الغد، أتى الحسين عبد الله بن العباس فقال: يا بن عم إني أتصبر ولا أصبر، إني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إن أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنهم، أقم بهذا البلد فإنك سيد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوهم، ثم أقدم عليهم، فإن أبيت الا انه تخرج فسر إلى اليمن فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وترسل، وتبث دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحب في عافية، فقال له الحسين: يا بن عم، إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكني قد أزمعت وأجمعت على المسير، فقال له ابن عباس: فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيتك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ثم قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إياه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحد معك، والله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني لفعلت ذلك قال: ثم خرج ابن عباس من عنده، فمر بعبد الله بن الزبير، فقال: قرت عينك يا بن الزبير! ثم قال:
            يا لك من قبره بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
            ونقري ما شئت أن تنقري.
            هذا حسين يخرج إلى العراق، وعليك بالحجاز.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: قال أبو جناب يحيى بن أبي حية، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا:
            خرجنا حاجين من الكوفة حتى قدمنا مكة، فدخلنا يوم التروية، فإذا نحن بالحسين وعبد الله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى فيما بين الحجر والباب، قالا: فتقربنا منهما، فسمعنا ابن الزبير وهو يقول للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك، ونصحنا لك وبايعناك، فقال له الحسين: إن أبي حدثني أن بها كبشا يستحل حرمتها، فما أحب أن أكون أنا ذلك الكبش، فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتوليني أنا الأمر فتطاع ولا تعصى، فقال: وما أريد هذا أيضا، قالا: ثم إنهما أخفيا كلامهما دوننا، فما زالا يتناجيان حتى سمعنا دعاء الناس رائحين متوجهين إلى منى عند الظهر، قالا: فطاف الحسين بالبيت وبين الصفا والمروة، وقص من شعره، وحل من عمرته، ثم توجه نحو الكوفة، وتوجهنا نحو الناس إلى منى.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: عن أبي سعيد عقيصى، عن بعض أصحابه، قال: سمعت الحسين بن علي وهو بمكة وهو واقف مع عبد الله بن الزبير، فقال له ابن الزبير الى يا بن فاطمة، فأصغى إليه، فساره، قال: ثم التفت إلينا الحسين فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟ فقلنا: لا ندري، جعلنا الله فداك! فقال: قال: أقم في هذا المسجد أجمع لك الناس، ثم قال الحسين: والله لأن أقتل خارجا منها بشبر أحب إلي من أن أقتل داخلا منها بشبر، وايم الله لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم، وو الله ليعتدن علي كما اعتدت اليهود في السبت .
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن عقبة بن سمعان قال: لما خرج الحسين من مكة اعترضه رسل عمرو بن سعيد بن العاص، عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين تذهب! فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان، فاضطربوا بالسياط ثم ان الحسين واصحابه امتنعوا امتناعا قويا، ومضى الحسين ع على وجهه، فنادوه:
            يا حسين، ألا تتقي الله! تخرج من الجماعة، وتفرق بين هذه الأمة! فتأول حسين قول الله عز وجل: «لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون » .
            قال: ثم إن الحسين أقبل حتى مر بالتنعيم، فلقي بها عيرا قد أقبل بها من اليمن، بعث بها بحير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، - وكان عامله على اليمن- وعلى العمير الورس والحلل ينطلق بها إلى يزيد
            فأخذها الحسين، فانطلق بها، ثم قال لأصحاب الإبل: لا أكرهكم، من أحب أن يمضي معنا إلى العراق أوفينا كراءه وأحسنا صحبته، ومن أحب أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ما قطع من الأرض، قال: فمن فارقه منهم حوسب فأوفي حقه، ومن مضى منهم معه أعطاه كراءه وكساه .
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف، عن أبي جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله ابن سليم والمذري قالا: أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسينا فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب، فقال له الحسين: بين لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء، فقال له الحسين: صدقت، لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، أن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته، والتقوى سريرته، ثم حرك الحسين راحلته فقال: السلام عليك، ثم افترقا .
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال هشام، عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بن الفرزدق بن غالب، عن أبيه، قال: حججت بأمي، فأنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم في أيام الحج، وذلك في سنة ستين، إذ لقيت الحسين بن علي خارجا من مكة معه أسيافه وتراسه، فقلت: لمن هذا القطار؟ فقيل: للحسين بن علي، فأتيته فقلت: بابى وأمي يا بن رسول الله! ما أعجلك عن الحج؟ فقال: لو لم أعجل لأخذت، قال: ثم سألني: ممن أنت؟ فقلت له: امرؤ من العراق، قال: فو الله ما فتشني عن أكثر من ذلك، واكتفى بها مني، فقال: أخبرني عن الناس خلفك؟ قال: فقلت له: القلوب معك، والسيوف مع بني أمية، والقضاء بيد الله، قال: فقال لي: صدقت، قال: فسألته عن أشياء، فأخبرني بها من نذور ومناسك، قال: وإذا هو ثقيل اللسان من
            برسام أصابه بالعراق، قال: ثم مضيت فإذا بفسطاط مضروب في الحرم، وهيئته حسنة، فأتيته فإذا هو لعبد الله بن عمرو بن العاص، فسألني، فأخبرته بلقاء الحسين بن علي، فقال لي: ويلك! فهلا اتبعته، فو الله ليملكن، ولا يجوز السلاح فيه ولا في أصحابه، قال: فهممت والله أن ألحق به، ووقع في قلبي مقالته، ثم ذكرت الأنبياء وقتلهم، فصدني ذلك عن اللحاق بهم، فقدمت على اهلى بعسفان، قال: فو الله إني لعندهم إذ أقبلت عير قد امتارت من الكوفة، فلما سمعت بهم خرجت في آثارهم حتى إذا أسمعتهم الصوت وعجلت عن إتيانهم صرخت بهم: ألا ما فعل الحسين ابن علي؟ قال: فردوا علي: ألا قد قتل، قال: فانصرفت وأنا ألعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: وكان أهل ذلك الزمان يقولون ذلك الأمر، وينتظرونه في كل يوم وليلة قال: وكان عبد الله بن عمرو يقول: لا تبلغ الشجرة ولا النخلة ولا الصغير حتى يظهر هذا الأمر، قال: فقلت له: فما يمنعك أن تبيع الوهط؟ قال: فقال لي: لعنة الله على فلان- يعني معاوية- وعليك، قال: فقلت: لا، بل عليك لعنة الله، قال: فزادني من اللعن ولم يكن عنده من حشمه أحد فألقى منهم شرا، قال: فخرجت وهو لا يعرفني- والوهط حائط لعبد الله بن عمرو بالطائف، قال: وكان معاوية قد ساوم به عبد الله بن عمرو، وأعطاه به مالا كثيرا، فأبى أن يبيعه بشيء- قال: وأقبل الحسين مغذا لا يلوي على شيء حتى نزل ذات عرق.
            قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب الوالبي، عن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب قال: لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنيه: عون ومحمد: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، إن هلكت اليوم طفئ نور الأرض، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإني في أثر الكتاب، والسلام.
            قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه.
            وقال: اكتب إلى الحسين كتابا تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن إلى ذلك فيرجع، فقال عمرو ابن سعيد: اكتب ما شئت وأتني به حتى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمرو بن سعيد فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئن نفسه إليه، ويعلم أنه الجد منك، ففعل، وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة، قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثم انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب، وجهدنا به، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رايت رؤيا فيها رسول الله ص، وأمرت فيها بأمر أنا ماض له، علي كان اولى، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحدا بها، وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي.
            قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني اسال الله ان يصرفك عما يوبقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلي معهما، فإن لك عندي الأمان والصلة والبر وحسن الجوار لك، الله علي بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك.
            قال: وكتب إليه الحسين: أما بعد، فإنه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عز وجل وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا توجب لنا أمانة يوم
            القيامه، فان كنت نويت بالكتاب صلى وبري، فجزيت خيرا في الدنيا والآخرة، والسلام.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            رجع الحديث إلى حديث عمار الدهني عن أبي جعفر فحدثني زكرياء بن يحيى الضرير، قال: حدثنا أحمد بن جناب المصيصي قال:
            حدثنا خالد بن يزيد بن عبد الله القسري قال: حدثنا عمار الدهني قال:
            قلت لأبي جعفر: حدثني عن مقتل الحسين حتى كأني حضرته، قال: فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال، لقيه الحر بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟
            قال: أريد هذا المصر، قال له: ارجع فإني لم أدع لك خلفي خيرا أرجوه، فهم أن يرجع، وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل، فقال: لا خير في الحياة بعدكم! فسار فلقيته أوائل خيل عبيد الله، فلما رأى ذلك عدل إلى كربلاء فأسند ظهره إلى قصباء وخلا كيلا يقاتل إلا من وجه واحد، فنزل وضرب أبنيته، وكان أصحابه خمسة وأربعين فارسا ومائة راجل، وكان عمر بن سعد بن أبي وقاص قد ولاه عبيد الله بن زياد الري وعهد إليه عهده فقال: اكفني هذا الرجل، قال: أعفني، فأبى أن يعفيه، قال: فأنظرني الليلة، فأخره، فنظر في أمره فلما أصبح غدا عليه راضيا بما أمر به، فتوجه إليه عمر بن سعد، فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي! فقال له الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا ، فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته، وجاء سهم فأصاب ابنا له معه في حجره، فجعل يمسح الدم عنه ويقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا فقتلونا، ثم أمر بحبرة فشققها، ثم
            لبسها وخرج بسيفه، فقاتل حتى قتل ص، قتله رجل من مذحج وحز رأسه، وانطلق به إلى عبيد الله وقال:
            أوقر ركابي فضة وذهبا ... فقد قتلت الملك المحجبا
            قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
            وأوفده إلى يزيد بن معاوية ومعه الرأس، فوضع رأسه بين يديه وعنده أبو برزة الأسلمي، فجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول:
            يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
            فقال له أبو برزه: ارفع قضيبك، فو الله لربما رايت فا رسول الله ص على فيه يلثمه! وسرح عمر بن سعد بحرمه وعياله إلى عبيد الله، ولم يكن بقي من أهل بيت الحسين بن علي ع إلا غلام كان مريضا مع النساء، فأمر به عبيد الله ليقتل، فطرحت زينب نفسها عليه وقالت: والله لا يقتل حتى تقتلوني! فرق لها، فتركه وكف عنه.
            قال: فجهزهم وحملهم إلى يزيد، فلما قدموا عليه جمع من كان بحضرته من أهل الشام، ثم أدخلوهم، فهنئوه بالفتح، قال رجل منهم أزرق أحمر ونظر إلى وصيفة من بناتهم فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه، فقالت زينب: لا والله ولا كرامة لك ولا له إلا أن يخرج من دين الله، قال:
            فأعادها الأزرق، فقال له يزيد: كف عن هذا، ثم أدخلهم على عياله، فجهزهم وحملهم إلى المدينة، فلما دخلوها خرجت امرأة من بني عبد المطلب ناشرة شعرها، واضعة كمها على رأسها تلقاهم وهي تبكي وتقول:
            ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم!
            بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
            ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي!
            [قلنا : أما شيخ الطبري : زكريا بن يحيى الضرير فلم نجد له ترجمة إلا عند الخطيب البغدادي فقد ترجم له ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وذكر له أكثر من روايين فهو مجهول الحال (تاريخ بغداد 8/457) وأما خالد بن يزيد القسري فقد سكت عنه ابن حجر في التقريب . وقال ابن عدي : وهو عندي ضعيف إلا أن أحاديثه إفرادات ومع ضعفه كان يكتب حديثه (الكامل 8/578).
            وقال أيضا : أحاديثه كلها لا يتابع عليها.
            وقال أبو حاتم : ليس بالقوي .
            وذكره ابن حبان في الثقات (6/256) وهو والي العراق في العهد الأموي (ميزان الاعتدال /ت2479).
            قلنا : هذا حال هذا الإسناد ولكنه أحسن حالا ألف مرة من تلفيقات أبو مخنف ، وشبهات الواقدي وغيرهما .
            وفي متن هذه الرواية من المقاطع ما يؤيدها من الرواية الصحيحة الأولى عند الطبري (5/391) ، وهي من طريق الحصين ، وسنذكر ما في متن هذه الرواية الثانية من أمور لا توافقها الروايات الصحيحة :
            -تذكر هذه الرواية (الثانية) أي : رواية عمار الدهني عن أبي جعفر أن الحر بن يزيد لقي الحسين بن علي على بعد ثلاثة أميال من القادسية وحذره من مغبة القدوم فهم الحسين أن يرجع.
            بينما تذكر رواية الحصين أنا الحسين أوجس في نفسه حين سأل العراب فأخبروه أنهم لا يعرفون م الأمر وانهم منعوا من الدخول أو الخروج فانطلق يريد الشام ثم إن الحر بن يزيد لقيه أثناء المعركة وانضم إلى صفوف افمام رضي الله عنه وأرضاه.
            -والأمر الثاني هو أن عمار الدهني ذكر في روايته عن أبي جعفر : أن ابن زياد أكرم بقية أهل بيت الحسين ، وامر لهم بمنزل في مكان منعزل وأجرى لهم الرزق والكسوة والنفقة وأنه همَّ بضرب عنق من أساء إليهم وقتل منهم غلامين وهما يفران –وهما لعبد الله بن جعفر – ثم أمر ابن زياد بهدم دار ذلك الرجل وهو من طييء.
            - وذكر أبو عمار الدهني في روايته عن أبي جعفر : ان ابن زياد ارسل الرأس غلى يزيد .
            بينما في الرواية الأولى عند الطبري فإن الحصين ذكر أن ابن زياد أرسل رأس الحسين إلى يزيد ولكنه أبهم اسم الرواي الذي أخبره –أي : أخبر الحصين- بذلك ووصفه بقوله : وحدثني مولى لمعاوية بن ابي سفيان قال : لما أتي يزيد برأس الحسين فوضع بين يديه.
            -وأخيرا فإن هذه الرواية الضعيفة السند في متنها : أن أبا برزة الأسلمي كان عند يزيد حين وضع الرأس الشريف بين يديه وهذا غريب لأن ابا برزة كان اعتزل الجميع وهو يرى أن الأطراف جميعا تقاقتل من أجل الملك فكيف يجالس يزيدا ؟
            فرواية البخاري تذكر رأيته الواضح في الاعتزال في تلك المحنة.]

            قال حصين: فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة، كأنما تلطخ الحوائط بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع.
            قال: وحدثني العلاء بن أبي عاثة قال: حدثني رأس الجالوت، عن أبيه قال: ما مررت بكربلاء إلا وأنا أركض دابتي حتى أخلف المكان، قال: قلت: لم؟ قال: كنا نتحدث أن ولد نبي مقتول في ذلك المكان، قال: وكنت أخاف أن أكون أنا، فلما قتل الحسين قلنا: هذا الذي كنا نتحدث قال: وكنت بعد ذلك إذا مررت بذلك المكان أسير ولا أركض.
            حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثني علي بن محمد،
            عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي، فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة، فقدم للعراق فقتل بنينوى يوم عاشوراء سنة إحدى وستين.
            قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال:
            قتل الحسين بن علي ع في صفر سنة إحدى وستين وهو يومئذ ابن خمس وخمسين.
            حدثني بذلك أفلح بن سعيد، عن ابن كعب القرظي، قال الحارث:
            حدثنا ابن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عمر، عن أبي معشر، قال: قتل الحسين لعشر خلون من المحرم قال الواقدي: هذا أثبت.
            قال الحارث: قال ابن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا عطاء ابن مسلم، عمن أخبره، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش، قال: أول رأس رفع على خشبة، رأس الحسين رضي الله عنه وصلى الله على روحه.
            قال أبو مخنف: عن هشام بن الوليد، عمن شهد ذلك، قال: اقبل الحسين ابن على باهله من مكة ومحمد بن الحنفية بالمدينة، قال: فبلغه خبره وهو يتوضأ في طست، قال: فبكى حتى سمعت وكف دموعه في الطست.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: حدثني يونس بن أبي إسحاق السبيعي، قال: ولما بلغ عبيد الله إقبال الحسين من مكة الى الكوفه، بعث الحصين بن تميم صاحب شرطه حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وإلى لعلع، وقال الناس: هذا الحسين يريد العراق.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: وحدثني محمد بن قيس أن الحسين أقبل حتى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى أهل الكوفة، وكتب معه إليهم:
            بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا، والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية،، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا امركم ووجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
            وكان مسلم ابن عقيل قد كان كتب إلى الحسين قبل أن يقتل لسبع وعشرين ليلة: أما بعد، فإن الرائد لا يكذب أهله، إن جمع أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك.
            قال: فأقبل الحسين بالصبيان والنساء معه لا يلوي على شيء، وأقبل قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحصين بن تميم فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله: اصعد إلى القصر فسب الكذاب ابن الكذاب، فصعد ثم قال: أيها الناس، إن هذا الحسين بن علي خير خلق الله، ابن فاطمة بنت رسول الله، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب قال: فامر به عبيد الله ابن زياد أن يرمى به من فوق القصر، فرمي به، فتقطع فمات ثم أقبل الحسين سيرا إلى الكوفة، فانتهى إلى ماء من مياه العرب، فإذا عليه عبد الله بن مطيع العدوى، وهو نازل هاهنا، فلما رأى الحسين قام إليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا بن رسول الله! ما أقدمك! واحتمله فأنزله، فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم، فقال له عبد الله بن مطيع: اذكرك الله يا بن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك! أنشدك الله في حرمه رسول الله ص! أنشدك الله في حرمه العرب! فو الله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحدا أبدا والله إنها لحرمة الإسلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل، ولا تأت الكوفة، ولا تعرض لبني أمية، قال: فأبى إلا ان يمضى، قال: فاقبل الحسين حتى كان بالماء فوق زرود.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثني السدي، عن رجل من بني فزارة قال: لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة التي في التمارين، التي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عمرو بن يشكر من بجيلة، وكان أهل الشام لا يدخلونها، فكنا مختبئين فيها، قال: فقلت للفزاري: حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي، قال: كنا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين، فلم يكن شيء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بدا من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب، ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم، ثم دخل فقال: يا زهير بن القين، إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه، قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رءوسنا الطير.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين، قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه! سبحان الله! لو أتيته فسمعت من كلامه! ثم انصرفت، قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه، قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فإني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فإنه آخر العهد، إني سأحدثكم حديثا، غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم، وأصبتم من الغنائم! فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم، فأما
            أنا فإني أستودعكم الله، قال: ثم والله ما زال في أول القوم حتى قتل.
            قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة الأسدي، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: لما قضينا حجنا لم يكن لنا همة إلا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه، فأقبلنا ترقل بنا ناقتانا مسرعين حتى لحقناه بزرود، فلما دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين، قالا: فوقف الحسين كأنه يريده، ثم تركه، ومضى ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإن كان عنده خبر الكوفة علمناه، فمضينا حتى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك، قال: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم قلنا: فمن الرجل؟ قال: أسدي: فقلنا: فنحن أسديان فمن أنت؟ قال: أنا بكير بن المثعبة، فانتسبنا له، ثم قلنا: أخبرنا عن الناس وراءك، قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، فرأيتهما يجران بأرجلهما في السوق، قالا: فأقبلنا حتى لحقنا بالحسين، فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسيا، فجئناه حين نزل، فسلمنا عليه فرد علينا، فقلنا له: يرحمك الله، إن عندنا خبرا، فإن شئت حدثنا علانية، وإن شئت سرا، قال: فنظر إلى أصحابه وقال: ما دون هؤلاء سر، فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته، فقلنا: قد استبرأنا لك خبره، وكفيناك مسألته، وهو امرؤ من أسد منا، ذو رأي وصدق، وفضل وعقل، وإنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة، وحتى رآهما يجران في السوق بأرجلهما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحمة الله عليهما، فردد ذلك مرارا، فقلنا: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك إلا انصرفت من مكانك هذا، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن تكون عليك! قال: فوثب عند ذلك بنو عقيل بن أبي طالب.
            قال أبو مخنف: حدثني عمر بن خالد، عن زيد بن علي بن حسين، وعن داود بن علي بن عبد الله بن عباس، أن بني عقيل قالوا: لا والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا، أو نذوق ما ذاق أخونا.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين، قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، قالا: فعلمنا أنه قد عزم له رأيه على المسير، قالا: فقلنا: خار الله لك! قالا: فقال: رحمكما الله! قالا:
            فقال له بعض أصحابه: إنك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع، قال الأسديان: ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء فاستقوا وأكثروا، ثم ارتحلوا وساروا حتى انتهوا إلى زبالة.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال أبو مخنف: حدثني أبو علي الأنصاري، عن بكر بن مصعب المزني، قال: كان الحسين لا يمر بأهل ماء إلا اتبعوه حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عبد الله بن بقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري أنه قد أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن تميم بالقادسية، فسرح به إلى عبيد الله بن زياد، فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثم انزل حتى أرى فيك رأيي! قال: فصعد، فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس، إني رسول الحسين ابن فاطمه بنت رسول الله ص لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدعي فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذلك عليه قال: إنما أردت أن أريحه.
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            قال هشام: حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره، قال: والله ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك بن عمير قال: فأتى ذلك الخبر حسينا وهو بزبالة، فأخرج للناس كتابا، فقرأ عليهم:
            بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم ابن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن
            أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.
            قال: فتفرق الناس عنه تفرقا، فأخذوا يمينا وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، وإنما فعل ذلك لأنه ظن أنما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلدا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه إلا من يريد مواساته والموت معه قال: فلما كان من السحر أمر فتيانه فاستقوا الماء وأكثروا، ثم سار حتى مر ببطن العقبة، فنزل بها .
            قال أبو مخنف: فحدثني لوذان أحد بني عكرمة إن أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام أين تريد؟ فحدثه، فقال له: إني أنشدك الله لما انصرفت، فو الله لا تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف، فإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال، ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيا، فأما على هذه الحال التي تذكرها فإني لا أرى لك أن تفعل. قال: فقال له: يا عبد الله، إنه ليس يخفى علي، الرأي ما رأيت، ولكن الله لا يغلب على أمره، ثم ارتحل منها .
            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

            ونزع يزيد بن معاوية في هذه السنة الوليد بن عتبة عن مكة، وولاها عمرو بن سعيد بن العاص، وذلك في شهر رمضان منها، فحج بالناس عمرو ابن سعيد في هذه السنة، حدثني بذلك أحمد بن ثابت، عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
            وكان عامله على مكة والمدينة في هذه السنة بعد ما عزل الوليد بن عتبة عمرو بن سعيد، وعلى الكوفة والبصرة وأعمالهما عبيد الله بن زياد، وعلى قضاء الكوفة شريح بن الحارث، وعلى قضاء البصرة هشام بن هبيرة .

            وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
            أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

            تعليق

            • إيمان أحمد
              مشرفة الأقسام الإسلامية

              • 9 يون, 2006
              • 2427
              • موظفة
              • مسلمة

              #21
              رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

              ثم دخلت سنة إحدى وستين
              ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
              فمن ذلك مقتل الحسين رضوان الله عليه

              حدثت عن هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو جناب، عن عدي بن حرملة، عن عبد الله بن سليم والمذري بن المشمعل الأسديين قالا: أقبل الحسين ع حتى نزل شراف، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا منها، فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار ثم إن رجلا قال: الله أكبر! فقال الحسين: الله أكبر ما كبرت؟ قال: رأيت النخل، فقال له الأسديان: إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل، فقال: وأنا والله أرى ذلك، فقال الحسين: أما لنا ملجأ نلجأ إليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حسم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد، قالا:
              فاخذ اليه ذات اليسار، قالا: وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيناها، وعدنا، فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير، قال: فاستبقنا إلى ذي حسم، فسبقناهم إليه، فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفا، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم، وأقبلوا يملئون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه، وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال هشام: حدثني لقيط، عن علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثم قال:
              يا بن أخ، أنخ الجمل، فأنخته، فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين: اخنث السقاء- أي اعطفه- قال:
              فجعلت لا أدري كيف أفعل! قال: فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيت فرسي قال: وكان مجيء الحر بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية، وذلك أن عبيد الله بن زياد لما بلغه اقبال الحسين بعث الحصين ابن تميم التميمي- وكان على شرطه- فأمره أن ينزل القادسية، وأن يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة إلى خفان، وقدم الحر بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية، فيستقبل حسينا قال: فلم يزل موافقا حسينا حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين في إزار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنها معذرة إلى الله عز وجل وإليكم، إني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم: أن أقدم علينا، فإنه ليس لنا إمام، لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فان تعطونى ما اطمان إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلت منه إليكم قال: فسكتوا عنه وقالوا للمؤذن: أقم، فأقام الصلاة، فقال الحسين ع للحر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك، قال: فصلى بهم الحسين، ثم إنه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحر إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفهم الذي كانوا فيه، فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها، فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيئوا للرحيل ثم إنه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر، وأقام فاستقدم الحسين فصلى بالقوم ثم سلم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وإن أنتم كرهتمونا، وجهلتم حقنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم، وقدمت به علي رسلكم، انصرفت عنكم، فقال له الحر بن يزيد: إنا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر! فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صحفا، فنشرها بين أيديهم، فقال الحر: فإنا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أمرنا إذا نحن لقيناك الا نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد، فقال له الحسين: الموت أدنى إليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائنا من كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه، فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد والله أن أنطلق بك إلى عبيد الله بن زياد، قال له الحسين: إذن والله لا أتبعك، فقال له الحر: إذن والله لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات، ولما كثر الكلام بينهما قال له الحر: إني لم أومر بقتالك، وإنما أمرت الا أفارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقا لا تدخلك الكوفة، ولا تردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفا حتى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت الى يزيد ابن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيد الله بن زياد إن شئت، فلعل الله إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من امرك، قال: فخذ هاهنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا ثم إن الحسين سار في أصحابه والحر يسايره.
              قال أبو مخنف: عن عقبة بن أبي العيزار، إن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، ان رسول الله ص قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله، وأنا أحق من غير، قد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن على، وابن فاطمه بنت رسول الله ص، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
              وقال عقبة بن أبي العيزار: قام حسين ع بذي حسم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت جدا، فلم يبق منها الا صبابه
              كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا، فإني لا أرى الموت إلا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برما .
              قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: تكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا، بل تكلم، فحمد الله فأثنى عليه ثم قال: قد سمعنا هداك الله يا بن رسول الله مقالتك، والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين، إلا أن فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها.
              قال: فدعا له الحسين ثم قال له خيرا، وأقبل الحر يسايره وهو يقول له:
              يا حسين، إني أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى، فقال له الحسين: أفبالموت تخوفني! وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني! ما أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله ص، فقال له:
              أين تذهب؟ فإنك مقتول، فقال:
              سأمضي وما بالموت عار على الفتى ... إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما
              وآسى الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا يغش ويرغما
              قال: فلما سمع ذلك منه الحر تنحى عنه، وكان يسير بأصحابه في ناحية وحسين في ناحية أخرى، حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات، وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك، فإذا هم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبون فرسا لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه، وهو يقول:
              يا ناقتي لا تذعري من زجري ... وشمري قبل طلوع الفجر
              بخير ركبان وخير سفر ... حتى تحلي بكريم النجر
              الماجد الحر رحيب الصدر ... أتى به الله لخير أمر
              ثمت أبقاه بقاء الدهر.
              قال: فلما انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات، فقال: أما والله إني لأرجو أن يكون خيرا ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا، قال: وأقبل إليهم الحر بن يزيد فقال: إن هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادهم، فقال له الحسين: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني الا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك، قال: هم أصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإن تممت على ما كان بيني وبينك وإلا ناجزتك، قال: فكف عنهم الحر، قال: ثم قال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العائذي، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألب واحد عليك، وأما سائر الناس بعد، فإن أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غدا مشهورة عليك، قال: أخبروني، فهل لكم برسولي إليكم؟ قالوا: من هو؟ قال: قيس بن مسهر الصيداوي، فقالوا: نعم، أخذه الحصين ابن تميم فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إلى نصرتك، وأخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر، فترقرقت عينا حسين ع ولم يملك دمعه، ثم قال: «منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، وأجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، ورغائب مذخور ثوابك!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني جميل بن مرثد من بنى معن، عن الطرماح ابن عدي، أنه دنا من الحسين فقال له: والله إني لأنظر فما أرى معك أحدا، ولو لم يقاتلك إلا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفي بهم، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة إليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعا أكثر منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحون إلى الحسين، فأنشدك الله ان قدرت على الا تقدم عليهم شبرا إلا فعلت! فإن أردت أن تنزل بلدا يمنعك الله به حتى ترى من رأيك، ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، والله إن دخل علينا ذل قط، فأسير معك حتى أنزلك القرية، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيئ، فو الله لا ياتى عليك عشره ايام حتى تأتيك طيئ رجالا وركبانا، ثم أقم فينا ما بدا لك، فإن هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل إليك أبدا ومنهم عين تطرف، فقال له:
              جزاك الله وقومك خيرا! إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبه!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فحدثني جميل بن مرثد، قال: حدثنى الطرماح ابن عدي، قال: فودعته وقلت له: دفع الله عنك شر الجن والإنس، إني قد امترت لأهلي من الكوفة ميرة، ومعي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثم أقبل إليك ان شاء الله، فان الحقك فو الله لأكونن من أنصارك، قال: فإن كنت فاعلا فعجل رحمك الله، قال: فعلمت أنه مستوحش إلى الرجال حتى يسألني التعجيل، قال: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرتك هذه شيئا ما كنت تصنعه قبل اليوم، فأخبرتهم بما أريد، وأقبلت في طريق بني ثعل حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات، استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه الى، فرجعت، قال: ومضى الحسين ع حتى انتهى إلى قصر بني مقاتل، فنزل به، فإذا هو بفسطاط مضروب.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله ابن الحر الجعفي، قال: ادعوه لي، وبعث إليه، فلما أتاه الرسول، قال:
              هذا الحسين بن علي يدعوك، فقال عبيد الله بن الحر: إنا لله وإنا إليه راجعون! والله ما خرجت من الكوفة إلا كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن أراه ولا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الحسين نعليه فانتعل، ثم قام فجاءه حتى دخل عليه، فسلم وجلس، ثم دعاه إلى الخروج معه، فأعاد إليه ابن الحر تلك المقاله، فقال: فالا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فو الله لا يسمع واعيتنا أحد ثم لا ينصرنا إلا هلك، قال: أما هذا فلا يكون أبدا إن شاء الله ثم قام الحسين ع من عنده حتى دخل رحله.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، عن عقبة بن سمعان قال: لما كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء، ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، قال: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، قال: ففعل ذلك مرتين أو ثلاثا، قال: فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، يا أبت، جعلت فداك! مم حمدت الله واسترجعت؟ قال: يا بني، إني خفقت برأسي خفقة فعن لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نعيت إلينا، قال له: يا أبت، لا أراك الله سوءا، ألسنا على الحق! قال: بلى والذي إليه مرجع العباد، قال: يا أبت، إذا لا نبالي، نموت محقين، فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولدا عن والده، قال: فلما أصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم إلى الكوفة ردا شديدا امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حتى انتهوا إلى نينوى، المكان الذي نزل به الحسين، قال: فإذا راكب على نجيب له وعليه السلاح متنكب قوسا مقبل من الكوفة، فوقفوا جميعا ينتظرونه، فلما انتهى إليهم سلم على الحر بن يزيد وأصحابه، ولم يسلم على الحسين ع وأصحابه، فدفع إلى الحر كتابا من عبيد الله ابن زياد فإذا فيه: أما بعد، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.
              قال: فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله، وقد امره الا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إلى رسول عبيد الله يزيد ابن زياد بن المهاصر أبو الشعثاء الكندي ثم البهدلي فعن له، فقال: أمالك بن النسير البدي؟ قال: نعم- وكان أحد كندة- فقال له يزيد ابن زياد: ثكلتك أمك! ماذا جئت فيه؟ قال: وما جئت فيه! أطعت إمامي، ووفيت ببيعتي، فقال له أبو الشعثاء: عصيت ربك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قال الله عز وجل: «وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون» ، فهو إمامك قال: وأخذ الحر بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية، يعنون نينوى- أو هذه القرية- يعنون الغاضرية- أو هذه الاخرى- يعنون شفيه. فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث إلي عينا، فقال له زهير بن القين: يا بن رسول الله، إن قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به، فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال، فقال له زهير بن القين: سر بنا الى هذه القرية حتى تنزلها فإنها حصينة، وهي على شاطئ الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فقال له الحسين: وأية قرية هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللهم إني أعوذ بك من العقر، ثم نزل، وذلك يوم الخميس، وهو اليوم الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كان من الغد قدم عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف قال: وكان سبب خروج ابن سعد الى الحسين ع أن عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبى، وكانت الديلم قد خرجوا إليها وغلبوا عليها، فكتب إليه ابن زياد عهده على الري، وأمره بالخروج.
              فخرج معسكرا بالناس بحمام أعين، فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة دعا ابن زياد عمر بن سعد، فقال: سر إلى الحسين، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه سرت إلى عملك، فقال له عمر بن سعد: إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل، فقال له عبيد الله: نعم، على أن ترد لنا عهدنا، قال: فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتى انظر، قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحدا إلا نهاه، قال: وجاء حمزه ابن المغيرة بن شعبة- وهو ابن أخته- فقال: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك! فو الله لان تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك، خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين! فقال له عمر بن سعد: فإني أفعل إن شاء الله.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال هشام: حدثني عوانة بن الحكم، عن عمار بن عبد الله بن يسار
              الجهني، عن أبيه، قال: دخلت على عمر بن سعد، وقد أمر بالمسير إلى الحسين، فقال لي: إن الأمير أمرني بالمسير إلى الحسين، فأبيت ذلك عليه، فقلت له: أصاب الله بك، أرشدك الله، أحل فلا تفعل ولا تسر إليه.
              قال: فخرجت من عنده، فأتاني آت وقال: هذا عمر بن سعد يندب الناس إلى الحسين، قال: فأتيته فإذا هو جالس، فلما رآني أعرض بوجهه فعرفت أنه قد عزم على المسير إليه، فخرجت من عنده، قال: فاقبل عمر ابن سعد إلى ابن زياد فقال: أصلحك الله! إنك وليتني هذا العمل، وكتبت لي العهد، وسمع به الناس، فإن رأيت أن تنفذ لي ذلك فافعل وابعث إلى الحسين في هذا الجيش من أشراف الكوفة من لست بأغنى ولا أجزأ عنك في الحرب منه، فسمى له أناسا، فقال له ابن زياد: لا تعلمني بأشراف أهل الكوفة، ولست أستأمرك فيمن أريد أن أبعث إن سرت بجندنا، وإلا فابعث إلينا بعهدنا، فلما رآه قد لج قال: فإني سائر، قال: فأقبل في أربعة آلاف حتى نزل بالحسين من الغد من يوم نزل الحسين نينوى.
              قال: فبعث عمر بن سعد الى الحسين ع عزره بن قيس الأحمسي، فقال: ائته فسله ما الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين فاستحيا منه أن يأتيه قال: فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، فكلهم أبى وكرهه قال: وقام إليه كثير بن عبد الله الشعبي- وكان فارسا شجاعا ليس يرد وجهه شيء- فقال: أنا أذهب إليه، والله لئن شئت لأفتكن به، فقال له عمر بن سعد: ما أريد أن يفتك به، ولكن ائته فسله ما الذي جاء به؟ قال: فأقبل إليه، فلما رآه أبو ثمامة الصائدي قال للحسين: أصلحك الله أبا عبد الله! قد جاءك شر أهل الأرض وأجرؤه على دم وأفتكه، فقام إليه، فقال: ضع سيفك، قال: لا والله ولا كرامة، إنما أنا رسول، فإن سمعتم مني أبلغتكم ما أرسلت به إليكم، وإن أبيتم انصرفت عنكم، فقال له: فإني آخذ بقائم سيفك، ثم تكلم بحاجتك، قال: لا والله، لا تمسه فقال له: أخبرني ما جئت به وأنا أبلغه عنك، ولا أدعك تدنو منه، فإنك فاجر، قال: فاستبا، ثم انصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، قال: فدعا عمر قرة بن قيس الحنظلي فقال له: ويحك يا قرة! الق حسينا فسله ما جاء به؟ وماذا يريد؟ قال: فأتاه قرة بن قيس، فلما رآه الحسين مقبلا قال: أتعرفون هذا؟ فقال حبيب بن مظاهر: نعم، هذا رجل من حنظلة تميمي، وهو ابن أختنا، ولقد كنت أعرفه بحسن الرأي، وما كنت أراه يشهد هذا المشهد، قال: فجاء حتى سلم على الحسين، وأبلغه رساله عمر بن سعد اليه له، فقال الحسين: كتب إلي أهل مصركم هذا إن اقدم، فاما إذ كرهوني فأنا أنصرف عنهم، قال: ثم قال له حبيب بن مظاهر: ويحك يا قرة ابن قيس! أنى ترجع إلى القوم الظالمين! انصر هذا الرجل الذي بآبائه أيدك الله بالكرامة وإيانا معك، فقال له قرة: ارجع إلى صاحبي بجواب رسالته، وأرى رأيي، قال: فانصرف إلى عمر بن سعد فأخبره الخبر، فقال له عمر بن سعد: إني لأرجو أن يعافيني الله من حربه وقتاله.
              قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني النضر بن صالح بن حبيب ابن زهير العبسي، عن حسان بن فائد بن بكير العبسي، قال: أشهد أن كتاب عمر بن سعد جاء إلى عبيد الله بن زياد وأنا عنده فإذا فيه:
              بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما أقدمه، وماذا يطلب ويسأل، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني به رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فاما إذ كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم، فلما قرئ الكتاب على ابن زياد قال:
              الآن إذ علقت مخالبنا به ... يرجو النجاة ولات حين مناص!
              قال: وكتب إلى عمر بن سعد:
              بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية هو وجميع أصحابه، فإذا فعل ذلك رأينا رأينا، والسلام.
              قال: فلما أتى عمر بن سعد الكتاب، قال: قد حسبت الا يقبل ابن زياد العافية.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة، كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة، وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يسقوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث. قال: ونازله عبد الله بن أبي حصين الأزدي- وعداده في بجيلة- فقال: يا حسين، ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء! والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشا، فقال حسين: اللهم اقتله عطشا، ولا تغفر له أبدا. قال حميد بن مسلم: والله لعدته بعد ذلك في مرضه، فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيته يشرب حتى بغر، ثم يقيء، ثم يعود فيشرب حتى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دابه حتى لفظ عصبه يعني نفسه- قال: ولما اشتد على الحسين وأصحابه العطش دعا العباس بن علي بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارسا وعشرين راجلا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتى دنوا من الماء ليلا واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجاج الزبيدى: من الرجل؟ فجيء فقال: ما جاء بك؟ قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه، قال: فاشرب هنيئا، قال: لا والله، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه، فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء، فلما دنا منه أصحابه قال لرجاله: املئوا قربكم، فشد الرجالة فملئوا قربهم، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن علي ونافع بن هلال فكفوهم، ثم انصرفوا إلى رحالهم، فقالوا: امضوا، ووقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه واطردوا قليلا ثم إن رجلا من صداء طعن من أصحاب عمرو بن الحجاج، طعنه نافع بن هلال، فظن أنها ليست بشيء، ثم إنها انتقضت بعد ذلك، فمات منها، وجاء أصحاب حسين بالقرب فأدخلوها عليه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب، عن هانئ بن ثبيت الحضرمي- وكان قد شهد قتل الحسين، قال: بعث الحسين ع إلى عمر بن سعد عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري: ان القنى الليل بين عسكري وعسكرك.
              قال: فخرج عمر بن سعد في نحو من عشرين فارسا، وأقبل حسين في مثل ذلك، فلما التقوا أمر حسين أصحابه أن يتنحوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، قال: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما، فتكلما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيع، ثم انصرف كل واحد منهما إلى عسكره بأصحابه، وتحدث الناس فيما بينهما، ظنا يظنونه أن حسينا قال لعمر بن سعد: اخرج معي إلى يزيد بن معاوية وندع العسكرين، قال عمر: إذن تهدم داري، قال: أنا أبنيها لك، قال: إذن تؤخذ ضياعي، قال: إذن أعطيك خيرا منها من مالي بالحجاز قال: فتكره ذلك عمر، قال: فتحدث الناس بذلك، وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئا ولا علموه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: وأما ما حدثنا به المجالد بن سعيد والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدثين، فهو ما عليه جماعة المحدثين، قالوا: إنه قال: اختاروا مني خصالا ثلاثا: إما أن أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه، وإما أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإما أن تسيروني إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلا من أهله، لي ما لهم وعلي ما عليهم.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فأما عبد الرحمن بن جندب فحدثني عن عقبة بن سمعان قال: صحبت حسينا فخرجت معه من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى
              العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة ولا بمكة ولا في الطريق ولا بالعراق ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلا وقد سمعتها ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس وما يزعمون، من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر الناس.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد الهمداني والصقعب بن زهير، أنهما كانا التقيا مرارا ثلاثا أو أربعا، حسين وعمر بن سعد، قال: فكتب عمر ابن سعد إلى عبيد الله بن زياد: أما بعد، فإن الله قد أطفأ النائرة، وجمع الكلمة، وأصلح أمر الأمة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيره إلى أي ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلا من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضا، وللأمة صلاح قال: فلما قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره، مشفق على قومه، نعم قد قبلت قال: فقام إليه شمر بن ذي الجوشن، فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك إلى جنبك! والله لئن رحل من بلدك، ولم يضع يده في يدك، ليكونن أولى بالقوة والعزة ولتكونن أولى بالضعف والعجز، فلا تعطه هذه المنزلة فإنها من الوهن، ولكن لينزل على حكمك هو وأصحابه، فإن عاقبت فأنت ولي العقوبة، وإن غفرت كان ذلك لك، والله لقد بلغني أن حسينا وعمر بن سعد يجلسان بين العسكرين فيتحدثان عامة الليل، فقال له ابن زياد: نعم ما رأيت! الرأي رأيك.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال:ثم إن عبيد الله بن زياد دعا شمر بن ذي الجوشن فقال له: اخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فليعرض على الحسين وأصحابه النزول على حكمي، فإن فعلوا فليبعث بهم إلي سلما، وإن هم أبوا فليقاتلهم، فإن فعل فاسمع له وأطع، وإن هو أبى فقاتلهم، فأنت أمير الناس، وثب عليه فاضرب عنقه، وابعث إلي برأسه .
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي، قال: ثم كتب عبيد الله ابن زياد إلى عمر بن سعد: أما بعد، فإني لم أبعثك إلى حسين لتكف عنه ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة والبقاء، ولا لتقعد له عندي شافعا انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم واستسلموا، فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون، فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، فإنه عاق مشاق، قاطع ظلوم، وليس دهري في هذا أن يضر بعد الموت شيئا، ولكن علي قول لو قد قتلته فعلت هذا به إن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه بأمرنا، والسلام .
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، قال: لما قبض شمر بن ذي الجوشن الكتاب قام هو وعبد الله بن أبي المحل- وكانت عمته أم البنين ابنة حزام عند على بن ابى طالب ع، فولدت له العباس وعبد الله وجعفرا وعثمان- فقال عبد الله بن أبي المحل بن حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب:
              أصلح الله الأمير! إن بني أختنا مع الحسين، فإن رأيت أن تكتب لهم أمانا فعلت، قال: نعم ونعمة عين فأمر كاتبه، فكتب لهم أمانا، فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له: كزمان، فلما قدم عليهم دعاهم، فقال: هذا أمان بعث به خالكم، فقال له الفتية: أقرئ خالنا السلام، وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية قال: فأقبل شمر بن ذي الجوشن بكتاب عبيد الله بن زياد الى عمر ابن سعد، فلما قدم به عليه فقرأه قال له عمر: ما لك ويلك! لا قرب الله دارك، وقبح الله ما قدمت به علي! والله إني لأظنك أنت ثنيته أن يقبل ما كتبت به إليه، أفسدت علينا أمرا كنا رجونا أن يصلح، لا يستسلم والله حسين، إن نفسا أبية لبين جنبيه، فقال له شمر: أخبرني ما أنت صانع؟ أتمضي لأمر أميرك وتقتل عدوه، وإلا فخل بيني وبين الجند والعسكر، قال: لا ولا كرامة لك، وأنا أتولى ذلك، قال: فدونك، وكن أنت على الرجال، قال: فنهض إليه عشية الخميس لتسع مضين من المحرم، قال: وجاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين، فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس وجعفر وعثمان بنو على، فقالوا له: مالك وما تريد؟ قال: أنتم يا بني أختي آمنون، قال له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك! لئن كنت خالنا أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! قال: ثم إن عمر بن سعد نادى: يا خيل الله اركبي وأبشري فركب في الناس، ثم زحف نحوهم بعد صلاة العصر، وحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، وسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها، فقالت: يا أخي، أما تسمع الأصوات قد اقتربت! قال: فرفع الحسين رأسه فقال: انى رايت رسول الله ص في المنام فقال لي: إنك تروح إلينا، قال : فلطمت أخته وجهها وقالت: يا ويلتا! فقال: ليس لك الويل يا أخية، اسكني رحمك الرحمن! وقال العباس بن علي: يا أخي، أتاك القوم، قال: فنهض، ثم قال: يا عباس، اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عما جاء بهم؟ فأتاهم العباس، فاستقبلهم في نحو من عشرين فارسا فيهم زهير بن القين وحبيب ابن مظاهر، فقال لهم العباس: ما بدا لكم؟ وما تريدون؟ قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم، قال: فلا تعجلوا. حتى أرجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم، قال: فوقفوا ثم قالوا: القه فأعلمه ذلك، ثم القنا بما يقول، قال: فانصرف العباس راجعا يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب ابن مظاهر لزهير بن القين: كلم القوم إن شئت وإن شئت كلمتهم، فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكن أنت تكلمهم، فقال له حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غدا قوم يقدمون عليه قد قتلوا ذرية نبيه عليه السلام وعترته واهل بيته ص وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيرا، فقال له عزرة بن قيس: انك لتزكى نفسك ما استطعت، فقال له زهير: يا عزرة، إن الله قد زكاها وهداها، فاتق الله يا عزرة فإني لك من الناصحين، أنشدك الله يا عزرة أن تكون ممن يعين الضلال على قتل النفوس الزكية! قال: يا زهير، ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنما كنت عثمانيا، قال: أفلست تستدل بموقفي هذا أني منهم! أما والله ما كتبت إليه كتابا قط، ولا أرسلت إليه رسولا قط، ولا وعدته نصرتي قط، ولكن الطريق جمع بيني وبينه، فلما رايته ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانه منه، وعرفت ما يقدم عليه من عدوه وحزبكم، فرأيت أن أنصره، وأن أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه، حفظا لما ضيعتم من حق الله وحق رسوله ع قال: وأقبل العباس بن علي يركض حتى انتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، إن أبا عبد الله يسألكم ان تنصرفوا هذه العشية حتى ينظر في هذا الأمر، فإن هذا أمر لم يجر بينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا إن شاء الله، فإما رضيناه فأتينا بالأمر الذي تسألونه وتسومونه، أو كرهنا فرددناه، وإنما أراد بذلك أن يردهم عنه تلك العشية حتى يأمر بأمره، ويوصي أهله، فلما أتاهم العباس بن علي بذلك قال عمر بن سعد: ما ترى يا شمر؟ قال: ما ترى أنت، أنت الأمير والرأي رأيك، قال: قد أردت الا أكون، ثم أقبل على الناس فقال: ماذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج بن سلمة الزبيدي: سبحان الله! والله لو كانوا من الديلم ثم سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها، وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدوة، فقال: والله لو أعلم أن يفعلوا ما أخرجتهم العشية، قال: وكان العباس بن علي حين أتى حسينا بما عرض عليه عمر بن سعد قال: ارجع إليهم، فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة وتدفعهم عند العشية لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك
              العامري، عن علي بن الحسين قال: أتانا رسول من قبل عمر بن سعد فقام مثل حيث يسمع الصوت فقال: إنا قد أجلناكم إلى غد، فإن استسلمتم سرحنا بكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم .
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: وحدثني عبد الله بن عاصم الفائشي، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي- بطن من همدان- ان الحسين بن على ع جمع أصحابه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: وحدثني أيضا الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن شريك العامري، عن علي بن الحسين، قالا: جمع الحسين اصحابه بعد ما رجع عمر بن سعد، وذلك عند قرب المساء، قال علي بن الحسين: فدنوت منه لأسمع وأنا مريض، فسمعت أبي وهو يقول لأصحابه: أثني على الله تبارك وتعالى أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين، أما بعد، فإني لا أعلم أصحابا أولى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا خيرا، ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، ألا وإني قد رأيت لكم فانطلقوا جميعا في حل، ليس عليكم مني ذمام، هذا ليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا .
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثنا عبد الله بن عاصم الفائشي- بطن من همدان- عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: قدمت ومالك بن النضر الأرحبي على الحسين، فسلمنا عليه، ثم جلسنا إليه، فرد علينا، ورحب بنا، وسألنا عما جئنا له، فقلنا: جئنا لنسلم عليك، وندعو الله لك بالعافية، ونحدث بك عهدا، ونخبرك خبر الناس، وإنا نحدثك أنهم قد جمعوا على حربك فر رأيك فقال الحسين ع: حسبي الله ونعم الوكيل! قال: فتذممنا وسلمنا عليه، ودعونا الله له، قال: فما يمنعكما من نصرتي؟ فقال مالك ابن النضر: علي دين، ولي عيال، فقلت له: إن علي دينا، وإن لي لعيالا، ولكنك إن جعلتني في حل من الانصراف إذا لم أجد مقاتلا قاتلت عنك ما كان لك نافعا، وعنك دافعا! قال: قال: فأنت في حل، فأقمت معه، فلما كان الليل قال: هذا الليل قد غشيكم، فاتخذوه جملا، ثم ليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من اهل بيتى، تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني لهوا عن طلب غيري، فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر: لم نفعل لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبدا، بدأهم بهذا القول العباس بن علي ثم إنهم تكلموا بهذا ونحوه، فقال الحسين ع: يا بني عقيل، حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم، قالوا: فما يقول الناس! يقولون إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم، ولم نطعن معهم برمح، ولم نضرب معهم بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن تفديك أنفسنا وأموالنا وأهلونا، ونقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فقام إليه مسلم بن عوسجة الأسدي فقال: أنحن نخلي عنك ولما نعذر إلى الله في أداء حقك! أما والله حتى أكسر في صدورهم رمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولا أفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك.
              قال: وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا غيبه رسول الله ص فيك، والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر، يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، فكيف لا أفعل ذلك! وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
              قال: وقال زهير بن القين: والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف قتلة، وأن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك قال: وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا في وجه واحد، فقالوا: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا، وقضينا ما علينا.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني الحارث بن كعب وابو الضحاك، عن على ابن الحسين بن علي قال: إني جالس في تلك العشية التي قتل أبي صبيحتها، وعمتي زينب عندي تمرضني، إذ اعتزل أبي بأصحابه في خباء له، وعنده حوي، مولى أبي ذر الغفاري، وهو يعالج سيفه ويصلحه وأبي يقول:
              يا دهر أف لك من خليل ... كم لك بالإشراق والأصيل
              من صاحب أو طالب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
              وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حي سالك السبيل
              قال: فأعادها مرتين او ثلاثا حتى فهمتها، فعرفت ما أراد، فخنقتني عبرتي، فرددت دمعي ولزمت السكون، فعلمت أن البلاء قد نزل، فأما عمتي فإنها سمعت ما سمعت، وهي امرأة، وفي النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجر ثوبها، وانها لحاسره حتى انتهت اليه، فقالت: وا ثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي وحسن أخي، يا خليفة الماضي، وثمال الباقي، قال: فنظر إليها الحسين ع فقال: يا أخية، لا يذهبن حلمك الشيطان، قالت: بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! استقتلت نفسي فداك، فرد غصته، وترقرقت عيناه، وقال: لو ترك القطا ليلا لنام، قالت: يا ويلتى، افتغصب نفسك اغتصابا، فذلك أقرح لقلبي، وأشد على نفسي! ولطمت وجهها، وأهوت إلى جيبها وشقته، وخرت مغشيا عليها، فقام إليها الحسين فصب على وجهها الماء، وقال لها: يا أخية، اتقي الله وتعزي بعزاء الله،، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأن أهل السماء لا يبقون، وأن كل شيء هالك إلا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون، وهو فرد وحده، أبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولهم ولكل مسلم برسول الله أسوة، قال: فعزاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخية، إني أقسم عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت،] قال: ثم جاء بها حتى أجلسها عندي، وخرج إلى أصحابه فأمرهم أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض، وأن يكونوا هم بين البيوت إلا الوجه الذي يأتيهم منه عدوهم.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: عن عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: فلما أمسى حسين وأصحابه قاموا الليل كله يصلون ويستغفرون، ويدعون ويتضرعون، قال: فتمر بنا خيل لهم تحرسنا، وإن حسينا ليقرأ: «ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب» فسمعها رجل من تلك الخيل التي كانت تحرسنا، فقال: نحن ورب الكعبة الطيبون، ميزنا منكم.
              قال: فعرفته فقلت لبرير بن حضير: تدري من هذا؟ قال: لا، قلت هذا أبو حرب السبيعي عبد الله بن شهر- وكان مضحاكا بطالا، وكان شريفا شجاعا فاتكا، وكان سعيد بن قيس ربما حبسه في جناية- فقال له برير بن حضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيبين! فقال له: من أنت؟ قال: أنا برير بن حضير، قال: إنا لله! عز علي! هلكت والله، هلكت والله يا برير! قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العظام! فو الله إنا لنحن الطيبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون، قال: وأنا على ذلك من الشاهدين، قلت: ويحك! أفلا ينفعك معرفتك! قال: جعلت فداك! فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي من عنز بن وائل! قال: ها هو ذا معي، قال: قبح الله رأيك على كل حال! أنت سفيه قال: ثم انصرف عنا، وكان الذي يحرسنا بالليل في الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وكان على الخيل، قال: فلما صلى عمر بن سعد الغداة يوم السبت- وقد بلغنا أيضا أنه كان يوم الجمعة، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء- خرج فيمن معه من الناس.
              قال: وعبأ الحسين أصحابه، وصلى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بن القين في ميمنة أصحابه، وحبيب بن مظاهر في ميسرة أصحابه، وأعطى رايته العباس بن علي أخاه، وجعلوا البيوت في ظهورهم، وأمر بحطب وقصب كان من وراء البيوت يحرق بالنار مخافة أن يأتوهم من ورائهم قال: وكان الحسين ع أتي بقصب وحطب إلى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية، فحفروه في ساعة من الليل، فجعلوه كالخندق، ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب، وقالوا: إذا عدوا علينا فقاتلونا ألقينا فيه النار كيلا نؤتى من ورائنا، وقاتلنا القوم من وجه واحد ففعلوا، وكان لهم نافعا.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي، عن محمد بن بشر، عن عمرو الحضرمي، قال: لما خرج عمر بن سعد بالناس كان على ربع أهل المدينة يومئذ عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي، وعلى ربع مذحج وأسد عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلى ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قيس، وعلى ربع تميم وهمدان الحر بن يزيد الرياحي، فشهد هؤلاء كلهم مقتل الحسين إلا الحر بن يزيد فإنه عدل إلى الحسين، وقتل معه وجعل عمر على ميمنته عمرو بن الحجاج الزبيدي، وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن بن شرحبيل بن الأعور بن عمر بن معاوية- وهو الضباب بن كلاب- وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجال شبث بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويدا مولاه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني عمرو بن مرة الجملي، عن أبي صالح الحنفي،
              عن غلام لعبد الرحمن بن عبد ربه الأنصاري، قال: كنت مع مولاي، فلما حضر الناس وأقبلوا إلى الحسين، أمر الحسين بفسطاط فضرب، ثم أمر بمسك فميث في جفنة عظيمة أو صحفة، قال: ثم دخل الحسين ذلك الفسطاط فتطلى بالنورة قال: ومولاي عبد الرحمن بن عبد ربه وبرير ابن حضير الهمداني على باب الفسطاط تحتك مناكبهما، فازدحما أيهما يطلي على أثره، فجعل برير يهازل عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن:
              دعنا، فو الله ما هذه بساعة باطل، فقال له برير: والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل شابا ولا كهلا، ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون، والله إن بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم، ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم قال: فلما فرغ الحسين دخلنا فاطلينا، قال: ثم إن الحسين ركب دابته ودعا بمصحف فوضعه أمامه، قال: فاقتتل أصحابه بين يديه قتالا شديدا، فلما رأيت القوم قد صرعوا أفلت وتركتهم.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف، عن بعض أصحابه، عن أبي خالد الكاهلي، قال: لما صبحت الخيل الحسين رفع الحسين يديه، فقال: اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة .
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فحدثني عبد الله بن عاصم، قال: حدثني الضحاك المشرقي، قال: لما أقبلوا نحونا فنظروا إلى النار تضطرم في الحطب والقصب الذي كنا ألهبنا فيه النار من ورائنا لئلا يأتونا من خلفنا، إذ أقبل إلينا منهم رجل يركض على فرس كامل الأداة، فلم يكلمنا حتى مر على أبياتنا، فنظر إلى أبياتنا فإذا هو لا يرى إلا حطبا تلتهب النار فيه، فرجع راجعا، فنادى بأعلى صوته: يا حسين، استعجلت النار في الدنيا قبل يوم القيامة! فقال الحسين: من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! فقالوا: نعم، أصلحك الله! هو هو، فقال: يا بن راعية المعزى، أنت أولى بها صليا، فقال له مسلم بن عوسجة: يا بن رسول الله، جعلت فداك! ألا أرميه بسهم! فإنه قد أمكنني، وليس يسقط مني سهم، فالفاسق من أعظم الجبارين، فقال له الحسين: لا ترمه، فإني أكره أن أبدأهم، وكان مع الحسين فرس له يدعى لاحقا حمل عليه ابنه علي بن الحسين، قال: فلما دنا منه القوم عاد براحلته فركبها، ثم نادى باعلى صوته دعاء يسمع جل الناس: أيها الناس، اسمعوا قولي، ولا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم «فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون» ، «إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين» قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن وبكين، وبكى بناته فارتفعت أصواتهن، فأرسل إليهن أخاه العباس ابن علي وعليا ابنه، وقال لهما: أسكتاهن، فلعمري ليكثرن بكاؤهن، قال: فلما ذهبا ليسكتاهن قال: لا يبعد ابن عباس، قال: فظننا أنه إنما قالها حين سمع بكاؤهن، لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد الله وأثنى عليه، وذكر الله بما هو اهله، وصلى على محمد ص وعلى ملائكته وأنبيائه، فذكر من ذلك ما الله أعلم وما لا يحصى ذكره. قال: فو الله ما سمعت متكلما قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه، ثم قال: أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا، هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم ص وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله والمصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه! او ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي! أوليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمى! او لم يبلغكم قول مستفيض فيكم: إن رسول الله ص قال لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة! فإن صدقتموني بما أقول- وهو الحق- فو الله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقاله من رسول الله ص لي ولأخي.
              أفما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي! فقال له شمر بن ذي الجوشن:
              هو يعبد الله على حرف ان كان يدرى ما يقول! فقال له حبيب بن مظاهر:
              والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك، ثم قال لهم الحسين: فإن كنتم في شك من هذا القول أفتشكون أثرا ما أني ابن بنت نبيكم! فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة. أخبروني، أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟ قال: فأخذوا لا يكلمونه، قال: فنادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل! قالوا له: لم نفعل، فقال: سبحان الله! بلى والله، لقد فعلتم، ثم قال: أيها الناس، إذ كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض، قال: فقال له قيس بن الاشعث: او لا تنزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه؟ فقال الحسين: أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد عباد الله، إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب، قال: ثم إنه أناخ راحلته، وأمر عقبة بن سمعان فعقلها، وأقبلوا يزحفون نحوه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فحدثني علي بن حنظلة بن أسعد الشامي، عن رجل من قومه شهد مقتل الحسين حين قتل يقال له كثير بن عبد الله الشعبي، قال: لما زحفنا قبل الحسين خرج إلينا زهير بن قين على فرس له ذنوب، شاك في السلاح، فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله نذار! إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتى الآن إخوة، وعلى دين واحد وملة واحدة، ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا أمة وأنتم أمة، إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ص لينظر ما نحن وأنتم عاملون، إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا بسوء عمر سلطانهما كله، ليسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويمثلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم، أمثال حجر بن عدي وأصحابه، وهانئ بن عروة وأشباهه، قال:
              فسبوه، وأثنوا على عبيد الله بن زياد، ودعوا له، وقالوا: والله لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلما، فقال لهم: عباد الله، إن ولد فاطمة رضوان الله عليها أحق بالود والنصر من ابن سمية، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم، فخلوا بين الرجل وبين ابن عمه يزيد بن معاوية، فلعمري إن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، قال: فرماه شمر بن ذي الجوشن بسهم وقال: اسكت أسكت الله نأمتك، أبرمتنا بكثرة كلامك! فقال له زهير: يا بن البوال على عقبيه، ما إياك أخاطب، إنما أنت بهيمة، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم، فقال له شمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة، قال: أفبالموت تخوفني!
              فو الله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم، قال: ثم أقبل على الناس رافعا صوته، فقال: عباد الله، لا يغرنكم من دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فو الله لا تنال شفاعه محمد ص قوما هراقوا دماء ذريته وأهل بيته، وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم، قال: فناداه رجل فقال له: إن أبا عبد الله يقول لك: أقبل، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لو نفع النصح والإبلاغ!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: عن أبي جناب الكلبي، عن عدي بن حرملة، قال: ثم إن الحر بن يزيد لما زحف عمر بن سعد قال له: أصلحك الله! مقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرءوس وتطيح الأيدي، قال: أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرض عليكم رضا؟ قال عمر بن سعد: أما والله لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى ذلك، قال: فأقبل حتى وقف من الناس موقفا، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن قيس، فقال: يا قرة، هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: إنما تريد أن تسقيه؟ قال: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، وكره أن أراه حين يصنع ذلك، فيخاف أن أرفعه عليه، فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فساقيه، قال: فاعتزلت ذلك المكان الذي كان فيه، قال: فو الله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين، قال: فأخذ يدنو من حسين قليلا قليلا، فقال له رجل من قومه يقال له المهاجر ابن أوس: ما تريد يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يزيد؟ أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذه مثل العرواء، فقال له يا بن يزيد، والله إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل شيء أراه الآن، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة رجلا ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك! قال: إني والله أخير نفسي بين الجنه والنار، وو الله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت، ثم ضرب فرسه فلحق بحسين ع، فقال له: جعلني الله فداك يا بن رسول الله! أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، والله الذي لا إله إلا هو ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا، ولا يبلغون منك هذه المنزلة فقلت في نفسي: لا أبالي أن أطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أني خرجت من طاعتهم وأما هم فسيقبلون من حسين هذه الخصال التي يعرض عليهم، وو الله لو ظننت أنهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإني قد جئتك تائبا مما كان مني إلى ربي، ومواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى ذلك لي توبة؟ قال: نعم، يتوب الله عليك، ويغفر لك، ما اسمك؟ قال: أنا الحر بن يزيد، قال: أنت الحر كما سمتك أمك، أنت الحر إن شاء الله في الدنيا والآخرة، انزل، قال: أنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري قال الحسين: فاصنع يرحمك الله ما بدا لك فاستقدم أمام أصحابه ثم قال: أيها القوم، ألا تقبلون من حسين خصلة من هذه الخصال التي عرض عليكم فيعافيكم الله من حربه وقتاله؟ قالوا: هذا الأمير عمر بن سعد فكلمه، فكلمه بمثل ما كلمه به قبل، وبمثل ما كلم به أصحابه، قال عمر: قد حرصت، لو وجدت إلى ذلك سبيلا فعلت، فقال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل والعبر إذ دعوتموه حتى إذا أتاكم اسلمتموه، وزعمتم انكم قاتلو أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب، فمنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة حتى يأمن ويأمن أهل بيته، وأصبح في أيديكم كالأسير لا يملك لنفسه نفعا، ولا يدفع ضرا، وحلأتموه ونساءه وأصيبيته وأصحابه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهودي والمجوسي والنصراني، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه، وها هم أولاء قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته! لا سقاكم الله يوم الظمإ إن لم تتوبوا وتنزعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه فحملت عليه رجالة لهم ترميه بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف، عن الصقعب بن زهير وسليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: وزحف عمر بن سعد نحوهم، ثم نادى: يا ذويد، أدن رايتك، قال: فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه، ثم رمى فقال:
              اشهدوا أني أول من رمى.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب، قال: كان منا رجل يدعى عبد الله بن عمير، من بني عليم، كان قد نزل الكوفة، واتخذ عند بئر الجعد من همدان دارا، وكانت معه امراه له من النمر بن قاسط يقال لها أم وهب بنت عبد، فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين، قال:
              فسأل عنهم، فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله ص، فقال: والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصا، وإني لأرجو ألا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيهم أيسر ثوابا عند الله من ثوابه إياي في جهاد المشركين، فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع، وأعلمها بما يريد، فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك، افعل وأخرجني معك، قال: فخرج بها ليلا حتى أتى حسينا، فأقام معه، فلما دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس، فلما ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان وسالم مولى عبيد الله بن زياد، فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم، قال: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير، فقال لهما حسين: اجلسا، فقام عبد الله بن عمير الكلبي فقال: أبا عبد الله، رحمك الله! ائذن لي فلأخرج إليهما، فرأى حسين رجلا آدم طويلا شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين، فقال حسين: إني لأحسبه للأقران قتالا، اخرج إن شئت، قال: فخرج إليهما، فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك، ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير بن حضير، ويسار مستنتل أمام سالم، فقال له الكلبى: يا بن الزانية، وبك رغبة عن مبارزة أحد من الناس، وما يخرج إليك أحد من الناس الا وهو
              خير منك، ثم شد عليه فضربه بسيفه حتى برد، فإنه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شد عليه سالم، فصاح به: قد رهقك العبد، قال: فلم يأبه له حتى غشيه فبدره الضربة، فاتقاه الكلبي بيده اليسرى، فأطار أصابع كفه اليسرى، ثم مال عليه الكلبي فضربه حتى قتله، وأقبل الكلبي مرتجزا وهو يقول، وقد قتلهما جميعا:
              إن تنكروني فانا ابن كلب ... حسبي بيتى في عليم حسبي
              إن امرؤ ذو مرة وعصب ... ولست بالخوار عند النكب
              إني زعيم لك أم وهب ... بالطعن فيهم مقدما والضرب
              ضرب غلام مؤمن بالرب.
              فأخذت أم وهب امرأته عمودا، ثم أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمي! قاتل دون الطيبين ذرية محمد، فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه، ثم قالت: إني لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين، فقال: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهن، فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن .
              قال: وحمل عمرو بن الحجاج وهو على ميمنة الناس في الميمنة، فلما أن دنا من حسين جثوا له على الركب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم خيلهم على الرماح، فذهبت الخيل لترجع، فرشقوهم بالنبل، فصرعوا منهم رجالا، وجرحوا منهم آخرين.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: فحدثني حسين أبو جعفر، قال: ثم إن رجلا من بني تميم- يقال له عبد الله بن حوزة- جاء حتى وقف أمام الحسين، فقال:
              يا حسين، يا حسين! فقال حسين: ما تشاء؟ قال: أبشر بالنار، قال:
              كلا، إني أقدم على رب رحيم، وشفيع مطاع، من هذا؟ قال له أصحابه:
              هذا ابن حوزة، قال: رب حزه إلى النار، قال: فاضطرب به فرسه في
              جدول فوقع فيه، وتعلقت رجله بالركاب، ووقع راسه في الارض، ونفر الفرس، فاخذ يمر به فيضرب برأسه كل حجر وكل شجرة حتى مات.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: وأما سويد بن حية، فزعم لي أن عبد الله بن حوزة حين وقع فرسه بقيت رجله اليسرى في الركاب، وارتفعت اليمنى فطارت، وعدا به فرسه يضرب رأسه كل حجر وأصل شجرة حتى مات.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف عن عطاء بن السائب، عن عبد الجبار بن وائل الحضرمي، عن أخيه مسروق بن وائل، قال: كنت في أوائل الخيل ممن سار إلى الحسين، فقلت: أكون في أوائلها لعلي أصيب رأس الحسين، فأصيب به منزلة عند عبيد الله بن زياد، قال: فلما انتهينا إلى حسين تقدم رجل من القوم يقال له ابن حوزة، فقال: أفيكم حسين؟ قال: فسكت حسين، فقالها ثانية، فأسكت حتى إذا كانت الثالثة قال: قولوا له: نعم، هذا حسين، فما حاجتك؟ قال: يا حسين، أبشر بالنار، قال: كذبت، بل أقدم على رب غفور وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قال: ابن حوزة، قال، فرفع الحسين يديه حتى رأينا بياض إبطيه من فوق الثياب ثم قال: اللهم حزه إلى النار، قال: فغضب ابن حوزة، فذهب ليقحم إليه الفرس وبينه وبينه نهر، قال: فعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس فسقط عنها، قال: فانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر متعلقا بالركاب قال: فرجع مسروق وترك الخيل من ورائه، قال: فسألته، فقال: لقد رأيت من أهل هذا البيت شيئا لا أقاتلهم أبدا، قال: ونشب القتال.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: وحدثني يوسف بن يزيد، عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس- وكان قد شهد مقتل الحسين- قال: وخرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس، فقال: يا برير ابن حضير، كيف ترى الله صنع بك! قال: صنع الله والله بي خيرا،
              وصنع الله بك شرا، قال: كذبت، وقبل اليوم ما كنت كذابا، هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفا، وإن معاوية بن أبي سفيان ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال له برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي، فقال له يزيد بن معقل: فإني أشهد أنك من الضالين، فقال له برير بن حضير:
              هل لك فلا باهلك، ولندع الله أن يلعن الكاذب وأن يقتل المبطل، ثم اخرج فلأبارزك، قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحق المبطل، ثم برز كل واحد منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن حضير ضربة خفيفة لم تضره شيئا، وضربه برير بن حضير ضربة قدت المغفر، وبلغت الدماغ، فخر كأنما هوى من حالق، وان سيف ابن حضير لثابت في رأسه، فكأني أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضي بن منقذ العبدي فاعتنق بريرا، فاعتركا ساعة ثم إن بريرا قعد على صدره فقال رضي: أين أهل المصاع والدفاع؟ قال: فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت: إن هذا برير بن حضير القارئ الذي كان يقرئنا القرآن في المسجد، فحمل عليه بالرمح حتى وضعه في ظهره، فلما وجد مس الرمح برك عليه فعض بوجهه، وقطع طرف انفه، فطعنه كعب ابن جابر حتى ألقاه عنه، وقد غيب السنان في ظهره، ثم أقبل عليه يضربه بسيفه حتى قتله، قال عفيف: كأني أنظر إلى العبدي الصريع قام ينفض التراب عن قبائه، ويقول: أنعمت علي يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبدا، قال: فقلت: أنت رأيت هذا؟ قال: نعم، رأي عيني وسمع أذني.
              فلما رجع كعب بن جابر قالت له امرأته، أو أخته النوار بنت جابر:
              أعنت على ابن فاطمة، وقتلت سيد القراء، لقد أتيت عظيما من الأمر، والله لا أكلمك من رأسي كلمة أبدا.
              وقال كعب بن جابر:
              سلي تخبري عني وأنت ذميمة ... غداة حسين والرماح شوارع
              ألم آت أقصى ما كرهت ولم يخل ... علي غداة الروع ما أنا صانع
              معي يزني لم تخنه كعوبه ... وأبيض مخشوب الغرارين قاطع
              فجردته في عصبة ليس دينهم ... بديني وإني بابن حرب لقانع
              ولم تر عيني مثلهم في زمانهم ... ولا قبلهم في الناس إذ أنا يافع
              أشد قراعا بالسيوف لدى الوغى ... ألا كل من يحمي الذمار مقارع
              وقد صبروا للطعن والضرب حسرا ... وقد نازلوا لو أن ذلك نافع
              فأبلغ عبيد الله إما لقيته ... بأني مطيع للخليفة سامع
              قتلت بريرا ثم حملت نعمة ... أبا منقذ لما دعا: من يماصع؟
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب، قال: سمعته في إمارة مصعب بن الزبير، وهو يقول: يا رب إنا قد وفينا، فلا تجعلنا يا رب كمن قد غدر، فقال له أبي: صدق، ولقد وفى وكرم، وكسبت لنفسك شرا، قال: كلا، إني لم أكسب لنفسي شرا، ولكني كسبت لها خيرا.
              قال: وزعموا أن رضي بن منقذ العبدي رد بعد على كعب بن جابر جواب قوله، فقال:
              لو شاء ربي ما شهدت قتالهم ... ولا جعل النعماء عندي ابن جابر
              لقد كان ذاك اليوم عارا وسبة ... يعيره الأبناء بعد المعاشر
              فيا ليت أني كنت من قبل قتله ... ويوم حسين كنت في رمس قابر
              قال: وخرج عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول:
              قد علمت كتيبة الأنصار ... أني سأحمي حوزة الذمار
              ضرب غلام غير نكس شاري ... دون حسين مهجتي وداري
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: عن ثابت بن هبيرة، فقتل عمرو بن قرظة بن كعب، وكان مع الحسين، وكان علي أخوه مع عمر بن سعد، فنادى على بن قريظة:
              يا حسين، يا كذاب ابن الكذاب، أضللت أخي وغررته حتى قتله [قال:
              إن الله لم يضل أخاك، ولكنه هدى أخاك وأضلك،] قال: قتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك، فحمل عليه، فاعترضه نافع بن هلال المرادي، فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه، فدووي بعد فبرأ.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني النضر بن صالح أبو زهير العبسي أن الحر بن يزيد لما لحق بحسين قال رجل من بني تميم من بني شقرة وهم بنو الحارث بن تميم، يقال له يزيد بن سفيان: أما والله لو أني رأيت الحر بن يزيد حين خرج لأتبعته السنان، قال: فبينا الناس يتجاولون ويقتتلون والحر بن يزيد يحمل على القوم مقدما ويتمثل قول عنترة:
              ما زلت أرميهم بثغرة نحره ... ولبانه حتى تسربل بالدم
              قال: وإن فرسه لمضروب على أذنيه وحاجبه، وإن دماءه لتسيل، فقال الحصين بن تميم- وكان على شرطة عبيد الله، فبعثه إلى الحسين، وكان مع عمر بن سعد، فولاه عمر مع الشرطة المجففة- ليزيد بن سفيان: هذا الحر بن يزيد الذي كنت تتمنى، قال: نعم فخرج إليه فقال له: هل لك يا حر بن يزيد في المبارزة؟ قال: نعم قد شئت، فبرز له، قال: فأنا سمعت الحصين بن تميم يقول: والله لأبرز له، فكأنما كانت نفسه في يده،
              فما لبثه الحر حين خرج إليه أن قتله.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني يحيى بن هانئ بن عروة، أن نافع بن هلال كان يقاتل يومئذ وهو يقول: أنا الجملي، أنا على دين علي.
              قال: فخرج إليه رجل يقال له مزاحم بن حريث، فقال: أنا على دين عثمان، فقال له: أنت على دين شيطان، ثم حمل عليه فقتله، فصاح عمرو ابن الحجاج بالناس: يا حمقى، أتدرون من تقاتلون! فرسان المصر، قوما مستميتين، لا يبرزن لهم منكم احد، فإنهم قليل، وقلما يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألا يبارز رجل منكم رجلا منهم.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني الحسين بن عقبة المرادي، قال: الزبيدي:
              إنه سمع عمرو بن الحجاج حين دنا من أصحاب الحسين يقول: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل من مرق من الدين، وخالف الإمام، فقال له الحسين: يا عمرو بن الحجاج، أعلي تحرض الناس؟ أنحن مرقنا وأنتم ثبتم عليه؟ أما والله لتعلمن لو قد قبضت أرواحكم، ومتم على أعمالكم، أينا مرق من الدين، ومن هو أولى بصلي النار! قال: ثم إن عمرو بن الحجاج حمل على الحسين في ميمنة عمر بن سعد من نحو الفرات، فاضطربوا ساعة، فصرع مسلم بن عوسجة الأسدي أول أصحاب الحسين، ثم انصرف عمرو بن الحجاج وأصحابه، وارتفعت الغبرة، فإذا هم به صريع، فمشى إليه الحسين فإذا به رمق، فقال: رحمك ربك يا مسلم بن عوسجة، «فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا » .
              ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة، فقال له مسلم قولا ضعيفا: بشرك الله بخير! فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين، قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله- وأهوى بيده إلى الحسين- أن تموت دونه، قال: أفعل ورب الكعبة، قال: فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم، وصاحت جارية له فقالت: يا بن عوسجتاه! يا سيداه! فتنادى أصحاب عمرو بن الحجاج: قتلنا مسلم بن عوسجة الأسدي، فقال شبث لبعض من حوله من أصحابه: ثكلتكم أمهاتكم! إنما تقتلون أنفسكم بأيديكم، وتذللون أنفسكم لغيركم، تفرحون أن يقتل مثل مسلم بن عوسجة! أما والذي أسلمت له لرب موقف له قد رأيته في المسلمين كريم! لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون!
              قال: وكان الذي قتل مسلم بن عوسجة مسلم بن عبد الله الضبابي وعبد الرحمن بن أبي خشكارة البجلي قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن في الميسرة على أهل الميسرة فثبتوا له، فطاعنوه وأصحابه، وحمل على حسين وأصحابه من كل جانب، فقتل الكلبي وقد قتل رجلين بعد الرجلين الأولين، وقاتل قتالا شديدا، فحمل عليه هانئ بن ثبيت الحضرمى وبكير ابن حي التيمي من تيم الله بن ثعلبة، فقتلاه، وكان القتيل الثاني من أصحاب الحسين، وقاتلهم أصحاب الحسين قتالا شديدا، وأخذت خيلهم تحمل وإنما هم اثنان وثلاثون فارسا، وأخذت لا تحمل على جانب من خيل أهل الكوفة إلا كشفته، فلما رأى ذلك عزرة بن قيس- وهو على خيل أهل الكوفة- أن خيله تنكشف من كل جانب، بعث الى عمر بن سعد عبد الرحمن ابن حصن، فقال: أما ترى ما تلقى خيلي مذ اليوم من هذه العدة اليسيرة! أبعث إليهم الرجال والرماة، فقال لشبث بن ربعي: ألا تقدم إليهم! فقال: سبحان الله! أتعمد الى شيخ مضر وأهل المصر عامة تبعثه في الرماة! لم تجد من تندب لهذا ويجزى عنك غيري! قال: وما زالوا يرون من شبث الكراهة لقتاله قال: وقال أبو زهير العبسي: فأنا سمعته في إمارة مصعب يقول: لا يعطي الله أهل هذا المصر خيرا أبدا، ولا يسددهم لرشد، ألا تعجبون أنا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية! ضلال يا لك من ضلال!
              قال: ودعا عمر بن سعد الحصين بن تميم فبعث معه المجففة وخمسمائة من المرامية، فأقبلوا حتى إذا دنوا من الحسين وأصحابه رشقوهم بالنبل، فلم يلبثوا أن عقروا خيولهم، وصاروا رجالة كلهم.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة أن أيوب بن مشرح الخيواني كان يقول: أنا والله عقرت بالحر بن يزيد فرسه، حشأته سهما، فما لبث أن أرعد الفرس واضطرب وكبا، فوثب عنه الحر كأنه ليث والسيف في يده وهو يقول:
              إن تعقروا بي فأنا ابن الحر ... أشجع من ذي لبد هزبر
              قال: فما رأيت أحدا قط يفري فريه، قال: فقال له أشياخ من الحي:
              أنت قتلته؟ قال: لا والله ما انا قتلته، ولكن قتله غيري، وما أحب أني قتلته، فقال له أبو الوداك: ولم؟ قال: إنه كان زعموا من الصالحين، فو الله لئن كان ذلك إثما لأن ألقى الله بإثم الجراحة والموقف أحب إلي من أن ألقاه بإثم قتل أحد منهم، فقال له أبو الوداك: ما أراك إلا ستلقى الله بإثم قتلهم أجمعين، أرأيت لو أنك رميت ذا فعقرت ذا، ورميت آخر، ووقفت موقفا، وكررت عليهم، وحرضت أصحابك، وكثرت أصحابك، وحمل عليك فكرهت أن تفر، وفعل آخر من أصحابك كفعلك، وآخر وآخر، كان هذا وأصحابه يقتلون! أنتم شركاء كلكم في دمائهم، فقال له: يا أبا الوداك، إنك لتقنطنا من رحمة الله، إن كنت ولي حسابنا يوم القيامة فلا غفر الله لك إن غفرت لنا! قال: هو ما أقول لك، قال: وقاتلوهم حتى انتصف النهار أشد قتال خلقه الله، وأخذوا لا يقدرون على أن يأتوهم إلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقارب بعضها من بعض .
              قال: فلما رأى ذلك عمر بن سعد أرسل رجالا يقوضونها عن أيمانهم وعن شمائلهم ليحيطوا بهم، قال: فأخذ الثلاثة والأربعة من أصحاب الحسين يتخللون البيوت فيشدون على الرجل وهو يقوض وينتهب فيقتلونه ويرمونه من قريب ويعقرونه فأمر بها عمر بن سعد عند ذلك فقال: أحرقوها بالنار، ولا تدخلوا بيتا ولا تقوضوه، فجاءوا بالنار، فأخذوا يحرقون، فقال حسين: دعوهم فليحرقوها، فإنهم لو قد حرقوها لم يستطيعوا أن يجوزوا إليكم منها، وكان ذلك كذلك، وأخذوا لا يقاتلونهم إلا من وجه واحد قال: وخرجت امرأة الكلبي تمشي إلى زوجها حتى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئا لك الجنة! فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود، فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها، قال: وحمل شمر بن ذي الجوشن حتى طعن فسطاط الحسين برمحه، ونادى: علي بالنار حتى أحرق هذا البيت على أهله، قال: فصاح النساء وخرجن من الفسطاط، قال: وصاح به الحسين: يا بن ذي الجوشن، أنت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي، حرقك الله بالنار!
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: قلت لشمر بن ذي الجوشن: سبحان الله! إن هذا لا يصلح لك، أتريد أن تجمع على نفسك خصلتين تعذب بعذاب الله، وتقتل الولدان والنساء! والله إن في قتلك الرجال لما ترضي به أميرك، قال: فقال: من أنت؟ قال: قلت: لا أخبرك من أنا، قال: وخشيت والله أن لو عرفني أن يضرني عند السلطان، قال: فجاءه رجل كان أطوع له مني، شبث بن ربعي فقال: ما رأيت مقالا أسوأ من قولك، ولا موقفا أقبح من موقفك، أمرعبا للنساء صرت! قال: فأشهد أنه استحيا، فذهب لينصرف وحمل عليه زهير ابن القين في رجال من أصحابه عشرة، فشد على شمر بن ذي الجوشن
              وأصحابه، فكشفهم عن البيوت حتى ارتفعوا عنها، فصرعوا أبا عزة الضبابي فقتلوه، فكان من أصحاب شمر، وتعطف الناس عليهم فكثروهم، فلا يزال الرجل من أصحاب الحسين قد قتل، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبين فيهم، وأولئك كثير لا يتبين فيهم ما يقتل منهم، قال: فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبد الله الصائدي قال للحسين: يا أبا عبد الله، نفسي لك الفداء! إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله، وأحب أن ألقى ربي وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها، قال: فرفع الحسين رأسه ثم قال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين! نعم، هذا أول وقتها، ثم قال: سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي، فقال لهم الحصين بن تميم: إنها لا تقبل، فقال له حبيب بن مظاهر: لا تقبل زعمت! الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل وتقبل منك يا حمار! قال: فحمل عليهم حصين بن تميم، وخرج إليه حبيب بن مظاهر، فضرب وجه فرسه بالسيف، فشب ووقع عنه، وحمله أصحابه فاستنقذوه، وأخذ حبيب يقول:
              أقسم لو كنا لكم أعدادا .... أو شطركم وليتم أكتادا
              يا شر قوم حسبا وآدا.
              قال: وجعل يقول يومئذ:
              أنا حبيب وأبي مظاهر .... فارس هيجاء وحرب تسعر
              أنتم أعد عدة وأكثر .... ونحن أوفى منكم وأصبر
              ونحن أعلى حجة وأظهر .... حقا وأتقى منكم وأعذر
              وقاتل قتالا شديدا، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله- وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان- وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: إني لشريكك في قتله، فقال الآخر: والله ما قتله غيري، فقال الحصين: أعطنيه أعلقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله، ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيد الله بن زياد، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه قال: فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر قد علقه في عنق فرسه، ثم دفعه بعد ذلك إليه، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر فبصر به ابنه القاسم بن حبيب، وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس لا يفارقه، كلما دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بني تتبعني! قال: لا شيء، قال: بلى، يا بني أخبرني، قال له: إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي، أفتعطينيه حتى أدفنه؟ قال: يا بني، لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا، قال له الغلام: لكن الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب، أما والله لقد قتلت خيرا منك، وبكى فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همة إلا اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة فيقتله بأبيه، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجميرا دخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتى برد.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

              قال أبو مخنف: حدثني محمد بن قيس، قال: لما قتل حبيب بن مظاهر هد ذلك حسينا وقال عند ذلك: أحتسب نفسي وحماة أصحابي، قال: فأخذ الحر يرتجز ويقول:
              أليت لا أقتل حتى أقتلا ... ولن أصاب اليوم الا مقبلا
              أضربهم بالسيف ضربا مقصلا ... لا ناكلا عنهم ولا مهللا
              وأخذ يقول أيضا:
              أضرب في أعراضهم بالسيف ... عن خير من حل منى والخيف
              فقاتل هو وزهير بن القين قتالا شديدا، فكان إذا شد أحدهما، فإن استلحم شد الآخر حتى يخلصه، ففعلا ذلك ساعة ثم إن رجالة شدت على الحر بن يزيد فقتل، وقتل أبو ثمامة الصائدي ابن عم له كان عدوا له، ثم صلوا الظهر، صلى بهم الحسين صلاة الخوف، ثم اقتتلوا بعد الظهر فاشتد قتالهم، ووصل إلى الحسين، فاستقدم الحنفي أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يمينا وشمالا قائما بين يديه، فما زال يرمى حتى سقط وقاتل زهير بن القين قتالا شديدا، وأخذ يقول:
              أنا زهير وأنا ابن القين ... أذودهم بالسيف عن حسين
              قال: وأخذ يضرب على منكب حسين ويقول:
              أقدم هديت هاديا مهديا ... فاليوم تلقى جدك النبيا
              وحسنا والمرتضى عليا .... وذا الجناحين الفتى الكميا
              وأسد الله الشهيد الحيا.
              قال: فشد عليه كثير بن عبد الله الشعبي ومهاجر بن أوس فقتلاه، قال: وكان نافع بن هلال الجملي قد كتب اسمه على أفواق نبله، فجعل يرمي بها مسومة وهو يقول: "أنا الجملي، أنا على دين علي".
              فقتل اثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح، قال:
              فضرب حتى كسرت عضداه وأخذ أسيرا، قال: فأخذه شمر بن ذي الجوشن
              ومعه أصحاب له يسوقون نافعا حتى أتي به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك! قال: إن ربي يعلم ما أردت، قال: والدماء تسيل على لحيته وهو يقول: والله لقد قتلت منكم اثني عشر سوى من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني، فقال له شمر: اقتله أصلحك الله! قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله، قال: فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما والله إن لو كنت من المسلمين لعظم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه، فقتله.
              قال: ثم أقبل شمر يحمل عليهم وهو يقول:
              خلوا عداة الله خلوا عن شمر ... يضربهم بسيفه ولا يفر
              وهو لكم صاب وسم ومقر.
              قال: فلما رأى أصحاب الحسين أنهم قد كثروا، وأنهم لا يقدرون على أن يمنعوا حسينا ولا أنفسهم، تنافسوا في أن يقتلوا بين يديه، فجاءه عبد الله وعبد الرحمن ابنا عزرة الغفاريان، فقالا: يا أبا عبد الله، عليك السلام، حازنا العدو إليك، فأحببنا أن نقتل بين يديك، نمنعك وندفع عنك، قال: مرحبا بكما! ادنوا مني، فدنوا منه، فجعلا يقاتلان قريبا منه، وأحدهما يقول:
              قد علمت حقا بنو غفار .... وخندف بعد بني نزار
              لنضربن معشر الفجار .... بكل عضب صارم بتار
              يا قوم ذودوا عن بني الأحرار ... بالمشرفي والقنا الخطار
              قال: وجاء الفتيان الجابريان: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك ابن عبد بن سريع، وهما ابنا عم، وأخوان لأم، فأتيا حسينا فدنوا منه وهما يبكيان، فقال: أي ابني أخي، ما يبكيكما؟ فو الله إني لأرجو أن تكونا عن ساعة قريري عين، قالا: جعلنا الله فداك! لا والله ما على أنفسنا نبكي، ولكنا نبكي عليك، نراك قد أحيط بك، ولا نقدر على ان نمنعك، فقال: جزاكما الله يا بنى أخي بوحدكما من ذلك ومواساتكما إياي بأنفسكما أحسن جزاء المتقين، قال: وجاء حنظلة بن أسعد الشبامي فقام بين يدي حسين، فأخذ ينادي: «يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب. مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد» يا قوم تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب «وقد خاب من افترى» فقال له حسين: يا بن اسعد، رحمك الله، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردوا عليك ما دعوتهم إليه من الحق، ونهضوا إليك ليستبيحوك وأصحابك، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين! قال: صدقت، جعلت فداك! أنت أفقه مني وأحق بذلك، أفلا نروح إلى الآخرة ونلحق بإخواننا؟ فقال: رح إلى خير من الدنيا وما فيها، وإلى ملك لا يبلى، فقال: السلام عليك أبا عبد الله، صلى الله عليك وعلى أهل بيتك، وعرف بيننا وبينك في جنته، فقال: آمين آمين، فاستقدم فقاتل حتى قتل .
              قال: ثم استقدم الفتيان الجابريان يلتفتان إلى حسين ويقولان: السلام عليك يا بن رسول الله، فقال: وعليكما السلام ورحمة الله، فقاتلا حتى قتلا، قال: وجاء عابس بن أبي شبيب الشاكري ومعه شوذب مولى شاكر، فقال: يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟ قال: ما أصنع! أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقتل، قال: ذلك الظن بك، إما لا فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى
              به مني بك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى أحتسبه، فإن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه، فإنه لا عمل بعد اليوم، وإنما هو الحساب، قال: فتقدم فسلم على الحسين، ثم مضى فقاتل حتى قتل ثم قال عابس بن أبي شبيب: يا أبا عبد الله، أما والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي ولا أحب إلي منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز علي من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبد الله، أشهد الله أني على هديك وهدي أبيك، ثم مشى بالسيف مصلتا نحوهم وبه ضربة على جبينه.
              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]



              وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
              أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

              تعليق

              • إيمان أحمد
                مشرفة الأقسام الإسلامية

                • 9 يون, 2006
                • 2427
                • موظفة
                • مسلمة

                #22
                رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                قال أبو مخنف: حدثني نمير بن وعلة، عن رجل من بني عبد من همدان يقال له ربيع بن تميم شهد ذلك اليوم، قال: لما رأيته مقبلا عرفته وقد شاهدته في المغازي، وكان أشجع الناس، فقلت: أيها الناس، هذا الأسد الأسود، هذا ابن أبي شبيب، لا يخرجن إليه أحد منكم، فأخذ ينادي:
                ألا رجل لرجل! فقال عمر بن سعد: أرضخوه بالحجارة، قال: فرمي بالحجارة من كل جانب، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره، ثم شد على الناس، فو الله لرأيته يكرد أكثر من مائتين من الناس، ثم إنهم تعطفوا عليه من كل جانب، فقتل، قال: فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة، هذا يقول: أنا قتلته، وهذا يقول: أنا قتلته، فأتوا عمر بن سعد فقال: لا تختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد، ففرق بينهم بهذا القول.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم، عن الضحاك بن عبد الله المشرقي، قال: لما رأيت أصحاب الحسين قد أصيبوا، وقد خلص إليه وإلى أهل بيته، ولم يبق معه غير سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمى وبشير ابن عمرو الحضرمى، قلت له: يا بن رسول الله، قد علمت ما كان بيني وبينك، قلت لك: أقاتل عنك ما رأيت مقاتلا، فإذا لم أر مقاتلا فأنا في حل من الانصراف، فقلت لي: نعم، قال: فقال: صدقت، وكيف لك
                بالتجاء! إن قدرت على ذلك فأنت في حل، قال: فأقبلت إلى فرسي وقد كنت حيث رأيت خيل أصحابنا تعقر، أقبلت بها حتى أدخلتها فسطاطا لأصحابنا بين البيوت، وأقبلت أقاتل معهم راجلا، فقتلت يومئذ بين يدي الحسين رجلين، وقطعت يد آخر، وقال لي الحسين يومئذ مرارا: لا تشلل، لا يقطع الله يدك، جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك صلى الله عليه وسلم ! فلما أذن لي استخرجت الفرس من الفسطاط، ثم استويت على متنها، ثم ضربتها حتى إذا قامت على السنابك رميت بها عرض القوم، فأفرجوا لي، واتبعني منهم خمسة عشر رجلا حتى انتهيت إلى شفية، قرية قريبة من شاطئ الفرات، فلما لحقوني عطفت عليهم، فعرفني كثير بن عبد الله الشعبي وأيوب بن مشرح الخيواني وقيس بن عبد الله الصائدي، فقالوا: هذا الضحاك بن عبد الله المشرقي، هذا ابن عمنا، ننشدكم الله لما كففتم عنه! فقال ثلاثة نفر من بني تميم كانوا معهم: بلى والله لنجيبن إخواننا وأهل دعوتنا إلى ما أحبوا من الكف عن صاحبهم، قال: فلما تابع التميميون أصحابي كف الآخرون، قال: فنجاني الله.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج الكندي أن يزيد بن زياد، وهو أبو الشعثاء الكندي من بني بهدلة جثا على ركبتيه بين يدي الحسين، فرمى بمائة سهم ما سقط منها خمسة أسهم، وكان راميا، فكان كلما رمى قال: أنا ابن بهدلة، فرسان العرجلة، ويقول حسين: اللهم سدد رميته، واجعل ثوابه الجنة، فلما رمى بها قام فقال: ما سقط منها إلا خمسة أسهم، ولقد تبين لي أني قد قتلت خمسة نفر، وكان في أول من قتل، وكان رجزه يومئذ:
                أنا يزيد وأبي مهاصر ... أشجع من ليث بغيل خادر
                يا رب إني للحسين ناصر ... ولابن سعد تارك وهاجر
                وكان يزيد بن زياد بن المهاصر ممن خرج مع عمر بن سعد إلى الحسين، فلما ردوا الشروط على الحسين مال إليه فقاتل معه حتى قتل، فأما الصيداوي عمر بن خالد، وجابر بن الحارث السلماني، وسعد مولى عمر بن خالد، ومجمع بن عبد الله العائذي، فإنهم قاتلوا في أول القتال، فشدوا مقدمين بأسيافهم على الناس، فلما وغلوا عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم غير بعيد، فحمل عليهم العباس بن علي فاستنقذهم، فجاءوا قد جرحوا، فلما دنا منهم عدوهم شدوا بأسيافهم فقاتلوا في أول الأمر حتى قتلوا في مكان واحد .
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني زهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي، قال: كان آخر من بقي مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي، قال: وكان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ علي الأكبر بن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وذلك أنه أخذ يشد على الناس وهو يقول:
                أنا علي بن حسين بن علي ... نحن ورب البيت أولى بالنبي
                تالله لا يحكم فينا ابن الدعي.
                قال: ففعل ذلك مرارا، فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي، فقال: علي آثام العرب إن مر بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه، فمر يشد على الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ، فطعنه فصرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم الأزدي، قال: سماع أذني يومئذ من الحسين يقول: قتل الله قوما قتلوك يا بني! ما أجرأهم على الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء .
                قال: وكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة كأنها الشمس الطالعه تنادى:
                يا اخياه! ويا بن أخياه! قال: فسألت عليها، فقيل: هذه زينب ابنه فاطمه ابنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءت حتى أكبت عليه، فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردها إلى الفسطاط، وأقبل الحسين إلى ابنه، وأقبل فتيانه إليه، فقال: احملوا أخاكم، فحملوه من مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه قال: ثم إن عمرو بن صبيح الصدائي رمى عبد الله بن مسلم بن عقيل بسهم فوضع كفه على جبهته، فأخذ لا يستطيع أن يحرك كفيه، ثم انتحى له بسهم آخر ففلق قلبه، فاعتورهم الناس من كل جانب، فحمل عبد الله بن قطبة الطائي ثم النبهاني على عون بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب فقتله، وحمل عامر بن نهشل التيمي على محمد بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقتله، قال: وشد عثمان بن خالد ابن أسير الجهني، وبشر بن سوط الهمداني ثم القابضى على عبد الرحمن ابن عقيل بن أبي طالب فقتلاه، ورمى عبد الله بن عزره الخثعمى جعفر ابن عقيل بن أبي طالب فقتله.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: خرج إلينا غلام كأن وجهه شقة قمر، في يده السيف، عليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، ما أنسى أنها اليسرى، فقال لي عمرو ابن سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه، فقلت له: سبحان الله! وما تريد إلى ذلك! يكفيك قتل هؤلاء الذين تراهم قد احتولوهم، قال: فقال:
                والله لأشدن عليه، فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف، فوقع الغلام لوجهه، فقال: يا عماه! قال: فجلى الحسين كما يجلى الصقر، ثم شد شده ليث غضب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح، ثم تنحى عنه، وحملت خيل لأهل الكوفة ليستنقذوا عمرا من حسين، فاستقبلت عمرا بصدورها، فحركت حوافرها وجالت الخيل بفرسانها عليه، فوطئته حتى مات، وانجلت الغبرة، فإذا أنا بالحسين قائم على رأس الغلام، والغلام يفحص برجليه، وحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدك! ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك! صوت والله كثر واتره، وقل ناصره ثم احتمله فكأني أنظر إلى رجلي الغلام يخطان في الأرض، وقد وضع حسين صدره على صدره، قال: فقلت في نفسي: ما يصنع به! فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين وقتلى قد قتلت حوله من أهل بيته، فسألت عن الغلام، فقيل: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال: ومكث الحسين طويلا من النهار كلما انتهى إليه رجل من الناس انصرف عنه، وكره أن يتولى قتله وعظيم إثمه عليه، قال: وإن رجلا من كندة يقال له مالك بن النسير من بني بداء، أتاه فضربه على رأسه بالسيف، وعليه برنس له، فقطع البرنس، وأصاب السيف رأسه، فأدمى رأسه، فامتلأ البرنس دما، فقال له الحسين: لا أكلت بها ولا شربت، وحشرك الله مع الظالمين! قال: فألقى ذلك البرنس، ثم دعا بقلنسوة فلبسها، واعتم، وقد أعيا وبلد، وجاء الكندي حتى أخذ البرنس- وكان من خز- فلما قدم به بعد ذلك على امرأته أم عبد الله ابنة الحر أخت حسين بن الحر البدي، أقبل يغسل البرنس من الدم، فقالت له امرأته: أسلب ابن بنت رسول الله ص تدخل بيتي! أخرجه عني، فذكر أصحابه أنه لم يزل فقيرا بشر حتى مات قال: ولما قعد الحسين أتى بصبي له فأجلسه في حجره زعموا أنه عبد الله بن الحسين.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: قال عقبة بن بشير الأسدي: قال لي أبو جعفر محمد ابن علي بن الحسين: إن لنا فيكم يا بني أسد دما، قال: قلت: فما ذنبي أنا في ذلك رحمك الله يا أبا جعفر! وما ذلك؟ قال: أتي الحسين بصبي له، فهو في حجره، إذ رماه أحدكم يا بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسين دمه، فلما ملأ كفيه صبه في الأرض ثم قال: رب إن تك حبست عنا النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء الظالمين، قال: ورمى عبد الله بن عقبة الغنوي أبا بكر بن الحسين بن علي بسهم فقتله، فلذلك يقول الشاعر، وهو ابن أبي عقب:
                وعند غني قطرة من دمائنا ... وفي أسد أخرى تعد وتذكر
                قال: وزعموا أن العباس بن علي قال لإخوته من أمه: عبد الله، وجعفر
                وعثمان: يا بني أمي، تقدموا حتى أرثكم، فإنه لا ولد لكم، ففعلوا، فقتلوا.
                وشد هانئ بن ثبيت الحضرمي على عبد الله بن علي بن أبي طالب فقتله، ثم شد على جعفر بن علي فقتله وجاء برأسه، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي بن أبي طالب بسهم، ثم شد عليه رجل من بني أبان بن دارم فقتله، وجاء برأسه، ورمى رجل من بني أبان بن دارم محمد بن علي بن أبي طالب فقتله وجاء برأسه.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: حدثني أبو الهذيل- رجل من السكون- عن هانئ بن ثبيت الحضرمي، قال: رأيته جالسا في مجلس الحضرميين في زمان خالد بن عبد الله وهو شيخ كبير، قال: فسمعته وهو يقول: كنت ممن شهد قتل الحسين، قال: فو الله إني لواقف عاشر عشرة ليس منا رجل إلا على فرس، وقد جالت الخيل وتصعصعت، إذ خرج غلام من آل الحسين وهو ممسك بعود من تلك الأبنية، عليه إزار وقميص، وهو مذعور، يتلفت يمينا وشمالا، فكأني أنظر إلى درتين في أذنيه تذبذبان كلما التفت، إذ أقبل رجل يركض، حتى إذا دنا منه مال عن فرسه، ثم اقتصد الغلام فقطعه بالسيف.
                قال هشام: قال السكوني: هانئ بن ثبيت هو صاحب الغلام، فلما عتب عليه كنى عن نفسه.
                قال هشام: حدثني عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، قال: عطش الحسين حتى اشتد عليه العطش، فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بن تميم بسهم، فوقع في فمه، فجعل يتلقى الدم من فمه، ويرمي به إلى السماء، ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم جمع يديه فقال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تذر على الأرض منهم أحدا.
                قال هشام، عن أبيه محمد بن السائب، عن القاسم بن الأصبغ بن نباته، قال: حدثني من شهد الحسين في عسكره أن حسينا حين غلب على عسكره ركب المسناة يريد الفرات، قال: فقال رجل من بنى ابان بن دارم: ويلكم! حولوا بينه وبين الماء لا تتام إليه شيعته، قال: وضرب فرسه، وأتبعه الناس حتى حالوا بينه وبين الفرات، فقال الحسين: اللهم أظمه، قال: وينتزع الأباني بسهم، فأثبته في حنك الحسين، قال: فانتزع الحسين السهم، ثم بسط كفيه فامتلأت دما، ثم قال الحسين: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك، قال: فو الله إن مكث الرجل إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ، فجعل لا يروى.
                قال القاسم بن الأصبغ: لقد رأيتني فيمن يروح عنه والماء يبرد له فيه السكر وعساس فيها اللبن، وقلال فيها الماء، وإنه ليقول: ويلكم! اسقوني قتلني الظمأ، فيعطى القلة أو العس كان مرويا أهل البيت فيشربه، فإذا نزعه من فيه اضطجع الهنيهة ثم يقول: ويلكم! اسقونى قتلني الظما، قال: فو الله ما لبث إلا يسيرا حتى انقد بطنه انقداد بطن البعير.
                قال أبو مخنف في حديثه: ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في نفر نحو من عشرة من رجالة أهل الكوفة قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، فقال الحسين: ويلكم! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحرارا ذوي أحساب، امنعوا رحلي وأهلي من طغامكم وجهالكم، فقال ابن ذي الجوشن : ذلك لك يا بن فاطمة، قال: وأقدم عليه بالرجالة، منهم أبو الجنوب- واسمه عبد الرحمن الجعفي- والقشعم بن عمرو بن يزيد الجعفي، وصالح بن وهب اليزني، وسنان بن أنس النخعي، وخولي بن يزيد الأصبحي، فجعل شمر ابن ذي الجوشن يحرضهم، فمر بأبي الجنوب وهو شاك في السلاح فقال له: أقدم عليه، قال: وما يمنعك أن تقدم عليه أنت! فقال له شمر: ألي تقول ذا! قال: وأنت لي تقول ذا! فاستبا، فقال له أبو الجنوب- وكان شجاعا: والله لهممت أن أخضخض السنان في عينك، قال: فانصرف عنه شمر وقال: والله لئن قدرت على أن أضرك لأضرنك قال: ثم إن شمر بن ذي الجوشن أقبل في الرجالة نحو الحسين، فأخذ الحسين يشد عليهم فينكشفون عنه. ثم إنهم أحاطوا به إحاطة، وأقبل إلى الحسين غلام من أهله، فأخذته أخته
                زينب ابنة علي لتحبسه، فقال لها الحسين: احبسيه، فأبى الغلام، وجاء يشتد إلى الحسين، فقام إلى جنبه، قال: وقد أهوى بحر بن كعب بن عبيد الله- من بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة- إلى الحسين بالسيف، فقال الغلام: يا بن الخبيثة، أتقتل عمي! فضربه بالسيف، فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يا أمتاه! فأخذه الحسين فضمه الى صدره، وقال: يا بن أخي، اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله ص وعلي بن أبي طالب وحمزة وجعفر والحسن بن علي، صلى الله عليهم أجمعين .
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال:
                سمعت الحسين يومئذ وهو يقول: اللهم أمسك عنهم قطر السماء، وامنعهم بركات الأرض، اللهم فإن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض عنهم الولاة أبدا، فإنهم دعونا لينصرونا، فعدوا علينا فقتلونا قال: وضارب الرجالة حتى انكشفوا عنه، قال: ولما بقي الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل محققة يلمع فيها البصر، يماني محقق، ففزره ونكثه لكيلا يسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبست تحته تبانا! قال: ذلك ثوب مذلة، ولا ينبغي لي أن ألبسه، قال: فلما قتل أقبل بحر بن كعب فسلبه إياه فتركه مجردا.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: فحدثني عمرو بن شعيب، عن محمد بن عبد الرحمن أن يدي بحر بن كعب كانتا في الشتاء تنضحان الماء، وفي الصيف تيبسان كأنهما عود.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: عن الحجاج، عن عبد الله بن عمار بن عبد يغوث البارقى، وعتب على عبد الله بن عمار بعد ذلك مشهده قتل الحسين، فقال عبد الله بن عمار: إن لي عند بني هاشم ليدا، قلنا له: وما يدك عندهم؟ قال: حملت على حسين بالرمح فانتهيت اليه، فو الله لو شئت لطعنته، ثم انصرفت عنه غير بعيد، وقلت: ما أصنع بأن أتولى قتله! يقتله غيري قال: فشد عليه رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل على من عن يمينه حتى ابذعروا، وعلى من عن شماله حتى ابذعروا، وعليه قميص له من خز وهو معتم، قال: فو الله ما رأيت مكسورا قط قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشا، ولا أمضى جنانا ولا أجرأ مقدما منه، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، ان كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب، قال: فو الله إنه لكذلك إذ خرجت زينب ابنة فاطمة أخته، وكأني أنظر إلى قرطها يجول بين أذنيها وعاتقها وهي تقول: ليت السماء تطابقت على الأرض! وقد دنا عمر بن سعد من حسين، فقالت: يا عمر بن سعد، أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه! قال: فكأني أنظر إلى دموع عمر وهي تسيل على خديه ولحيته، قال: وصرف بوجهه عنها.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن حميد بن مسلم، قال: كانت عليه جبة من خز، وكان معتما، وكان مخضوبا بالوسمة، قال: وسمعته يقول قبل أن يقتل، وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقى الرميه، ويفترض العورة، ويشد على الخيل، وهو يقول: أعلى قتلي تحاثون! أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله الله أسخط عليكم لقتله مني، وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم، ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما والله أن لو قد قتلتموني لقد ألقى الله بأسكم بينكم، وسفك دماءكم، ثم لا يرضى لكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم قال: ولقد مكث طويلا من النهار ولو شاء الناس أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء، قال:
                فنادى شمر في الناس: ويحكم، ماذا تنظرون بالرجل! اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم! قال: فحمل عليه من كل جانب، فضربت كفه اليسرى ضربة، ضربها زرعة بن شريك التميمي، وضرب على عاتقه، ثم انصرفوا وهو ينوء ويكبو، قال: وحمل عليه في تلك الحال سنان بن أنس بن عمرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع، ثم قال لخولي بن يزيد الأصبحي: احتز رأسه، فأراد أن يفعل، فضعف فأرعد، فقال له سنان بن أنس: فت الله عضديك، وأبان يديك! فنزل إليه فذبحه واحتز رأسه، ثم دفع إلى خولي بن يزيد، وقد ضرب قبل ذلك بالسيوف.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف، عن جعفر بن محمد بن علي، قال: وجد بالحسين ع حين قتل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، قال: وجعل سنان بن أنس لا يدنو أحد من الحسين إلا شد عليه مخافة أن يغلب على رأسه، حتى أخذ رأس الحسين فدفعه إلى خولي، قال: وسلب الحسين ما كان عليه، فأخذ سراويله بحر بن كعب، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته- وكانت من خز، وكان يسمى بعد قيس قطيفة- وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود، وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بن دارم، فوقع بعد ذلك إلى أهل حبيب بن بديل، قال: ومال الناس على الورس والحلل والإبل وانتهبوها، قال: ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإن كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب به منها.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني زهير بن عبد الرحمن الخثعمي، أن سويد بن عمرو بن أبي المطاع كان صرع فأثخن، فوقع بين القتلى مثخنا، فسمعهم يقولون: قتل الحسين، فوجد إفاقة، فإذا معه سكين وقد أخذ سيفه، فقاتلهم بسكينه ساعة، ثم إنه قتل، قتله عروة بن بطار التغلبي، وزيد بن رقاد الجنبي، وكان آخر قتيل.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم،
                قال، انتهيت إلى علي بن الحسين بن علي الأصغر وهو منبسط على فراش له، وهو مريض، وإذا شمر بن ذي الجوشن في رجالة معه يقولون: ألا نقتل هذا؟ قال: فقلت: سبحان الله! أنقتل الصبيان! إنما هذا صبي، قال: فما زال ذلك دأبي أدفع عنه كل من جاء حتى جاء عمر بن سعد، فقال: ألا لا يدخلن بيت هؤلاء النسوة أحد، ولا يعرضن لهذا الغلام المريض، ومن أخذ من متاعهم شيئا فليرده عليهم قال: فو الله ما رد أحد شيئا، قال: فقال علي بن الحسين: جزيت من رجل خيرا! فو الله لقد دفع الله عني بمقالتك شرا ، قال: فقال الناس لسنان بن أنس: قتلت حسين بن علي وابن فاطمة ابنة رسول الله ص، قتلت أعظم العرب خطرا، جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم، فأت أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلا، فأقبل على فرسه، وكان شجاعا شاعرا، وكانت به لوثة، فأقبل حتى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثم نادى بأعلى صوته:
                أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا
                قتلت خير الناس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
                فقال عمر بن سعد: أشهد إنك لمجنون ما صححت قط، أدخلوه علي، فلما أدخل حذفه بالقضيب ثم قال: يا مجنون، أتتكلم بهذا الكلام! أما والله لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك، قال: وأخذ عمر بن سعد عقبة بن سمعان- وكان مولى للرباب بنت امرئ القيس الكلبية، وهي أم سكينة بنت الحسين- فقال له: ما أنت؟ قال: أنا عبد مملوك، فخلي سبيله، فلم ينج منهم أحد غيره، إلا أن المرقع بن ثمامة الأسدي كان قد نثر نبله وجثا على ركبتيه، فقاتل، فجاءه نفر من قومه، فقالوا له: أنت آمن، أخرج إلينا، فخرج إليهم، فلما قدم بهم عمر بن سعد على ابن زياد وأخبره خبره سيره إلى الزارة قال: ثم إن عمر بن سعد نادى في أصحابه: من ينتدب للحسين ويوطئه فرسه؟ فانتدب عشرة: منهم إسحاق بن حيوة الحضرمي،
                وهو الذي سلب قميص الحسين- فبرص بعد- واحبش بن مرثد بن علقمه ابن سلامة الحضرمي، فأتوا فداسوا الحسين بخيولهم حتى رضوا ظهره وصدره، فبلغني أن أحبش بن مرثد بعد ذلك بزمان أتاه سهم غرب، وهو واقف في قتال ففلق قلبه، فمات، قال: فقتل من اصحاب الحسين ع اثنان وسبعون رجلا، ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضرية من بني أسد بعد ما قتلوا بيوم، وقتل من أصحاب عمر بن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى الجرحى، فصلى عليهم عمر بن سعد ودفنهم، قال: وما هو إلا أن قتل الحسين، فسرح برأسه من يومه ذلك مع خولي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد، فأقبل به خولي فأراد القصر، فوجد باب القصر مغلقا، فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله، وله امرأتان: امرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يقال لها النوار ابنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرمية .
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: فحدثني أبي، عن النوار بنت مالك، قالت: أقبل خولي برأس الحسين فوضعه تحت إجانة في الدار، ثم دخل البيت، فأوى إلى فراشه، فقلت له: ما الخبر؟ ما عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، قالت: فقلت: ويلك- جاء الناس بالذهب والفضه وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت أبدا، قالت: فقمت من فراشي، فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلست أنظر، قالت: فو الله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة، ورأيت طيرا بيضا ترفرف حولها.
                قال: فلما أصبح غدا بالرأس إلى عبيد الله بن زياد، وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثم أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعلى ابن الحسين مريض.
                قال أبو مخنف: فحدثني أبو زهير العبسي، عن قرة بن قيس التميمي،
                قال: نظرت إلى تلك النسوة لما مررن بحسين وأهله وولده صحن ولطمن وجوههن قال: فاعترضتهن على فرس، فما رأيت منظرا من نسوة قط كان أحسن من منظر رأيته منهن ذلك اليوم، والله لهن أحسن من مهايبرين.
                قال: فما نسيت من الأشياء لا انس قول زينب ابنة فاطمة حين مرت بأخيها الحسين صريعا وهي تقول: يا محمداه، يا محمداه! صلى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، يا محمداه! وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة، تسفي عليها الصبا قال: فأبكت والله كل عدو وصديق، قال: وقطف رءوس الباقين، فسرح باثنين وسبعين رأسا مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتى قدموا بها على عبيد الله بن زياد.
                قال أبو مخنف: حدثني سليمان بن أبي راشد، عن حميد بن مسلم، قال: دعاني عمر بن سعد فسرحني إلى أهله لأبشرهم بفتح الله عليه وبعافيته، فأقبلت حتى أتيت أهله، فأعلمتهم ذلك، ثم أقبلت حتى أدخل فأجد ابن زياد قد جلس للناس، وأجد الوفد قد قدموا عليه، فأدخلهم، وأذن للناس، فدخلت فيمن دخل، فإذا رأس الحسين موضوع بين يديه، وإذا هو ينكت بقضيب بين ثنيتيه ساعة، فلما رآه زيد بن أرقم: لا ينجم عن نكته بالقضيب، قال له: اعل بهذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الذى لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله ص على هاتين الشفتين يقبلهما، ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك! فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج، فلما خرج سمعت الناس يقولون: والله لقد قال زيد بن أرقم قولا لو سمعه ابن زياد لقتله، قال: فقلت: ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبدا، فاتخذهم تلدا، أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فرضيتم بالذل، فبعدا لمن رضي بالذل!
                قال: فلما دخل برأس حسين وصبيانه وأخواته ونسائه على عبيد الله بن زياد لبست زينب ابنة فاطمة أرذل ثيابها، وتنكرت، وحفت بها إماؤها، فلما دخلت جلست، فقال عبيد الله بن زياد: من هذه الجالسة؟ فلم تكلمه، فقال ذلك ثلاثا، كل ذلك لا تكلمه، فقال بعض إمائها: هذه زينب ابنة فاطمة، قال: فقال لها عبيد الله: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم! فقالت: الحمد لله الذى أكرمنا بمحمد ص وطهرنا تطهيرا، لا كما تقول أنت، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، قال: فكيف رأيت صنع الله بأهل بيتك! قالت: كتب عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتحاجون إليه، وتخاصمون عنده، قال: فغضب ابن زياد واستشاط، قال: فقال له عمرو ابن حريث: أصلح الله الأمير! إنما هي امرأة، وهل تؤاخذ المرأة بشيء من منطقها! إنها لا تؤاخذ بقول، ولا تلام على خطل، فقال لها ابن زياد: قد أشفى الله نفسي من طاغيتك، والعصاة المردة من أهل بيتك، قال: فبكت ثم قالت: لعمري لقد قتلت كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت، فقال لها عبيد الله: هذه شجاعة، قد لعمري كان أبوك شاعرا شجاعا، قالت: ما للمرأة والشجاعة! إن لي عن الشجاعة لشغلا، ولكن نفثي ما أقول.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف، عن المجالد بن سعيد: إن عبيد الله بن زياد لما نظر إلى علي بن الحسين قال لشرطي: انظر هل أدرك ما يدرك الرجال؟ فكشط إزاره عنه، فقال: نعم، قال انطلقوا به فاضربوا عنقه، فقال له على: إن كان بينك وبين هؤلاء النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن، فقال له ابن زياد: تعال أنت، فبعثه معهن.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: وأما سليمان بن أبي راشد، فحدثني عن حميد بن مسلم
                قال: إني لقائم عند ابن زياد حين عرض عليه علي بن الحسين فقال له:
                ما اسمك؟ قال: أنا علي بن الحسين، قال: او لم يقتل الله علي بن الحسين! فسكت، فقال له ابن زياد: ما لك لا تتكلم! قال: قد كان لي أخ يقال له أيضا علي، فقتله الناس، قال: إن الله قد قتله، قال: فسكت علي، فقال له: ما لك لا تتكلم! قال: «الله يتوفى الأنفس حين موتها» «وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله» ، قال: أنت والله منهم، ويحك! انظروا هل أدرك؟ والله إني لأحسبه رجلا، قال: فكشف عنه مري بن معاذ الأحمري، فقال: نعم قد أدرك، فقال: اقتله، فقال علي بن الحسين:
                من توكل بهؤلاء النسوة؟ وتعلقت به زينب عمته فقالت: يا بن زياد، حسبك منا، أما رويت من دمائنا! وهل أبقيت منا أحدا! قال: فاعتنقته فقالت: أسألك بالله إن كنت مؤمنا إن قتلته لما قتلتني معه! قال: وناداه علي فقال: يا بن زياد، إن كانت بينك وبينهن قرابة فابعث معهن رجلا تقيا يصحبهن بصحبة الإسلام، قال: فنظر إليها ساعة، ثم نظر إلى القوم فقال: عجبا للرحم! والله إني لأظنها ودت لو أني قتلته أني قتلتها معه، دعوا الغلام، انطلق مع نسائك.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال حميد بن مسلم: لما دخل عبيد الله القصر ودخل الناس، نودي:
                الصلاة جامعة! فاجتمع الناس في المسجد الأعظم، فصعد المنبر ابن زياد فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله، ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب، الحسين بن علي وشيعته، فلم يفرغ ابن زياد من مقالته حتى وثب إليه عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي، ثم أحد بني والبة- وكان من شيعة علي كرم الله وجهه، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل مع علي، فلما كان يوم صفين ضرب على رأسه ضربة، وأخرى على حاجبه، فذهبت عينه الأخرى، فكان لا يكاد يفارق المسجد الأعظم يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف- قال: فلما سمع مقاله ابن زياد، قال: يا بن مرجانة، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذى ولاك وأبوه، يا بن مرجانة، أتقتلون أبناء النبيين، وتكلمون بكلام الصديقين! فقال ابن زياد: علي به، قال: فوثبت عليه الجلاوزة فأخذوه، قال: فنادى بشعار الأزد: يا مبرور- قال: وعبد الرحمن بن مخنف الأزدي جالس- فقال: ويح غيرك! أهلكت نفسك، وأهلكت قومك، قال: وحاضر الكوفة يومئذ من الأزد سبعمائة مقاتل، قال: فوثب إليه فتية من الأزد فانتزعوه فأتوا به أهله، فأرسل إليه من أتاه به، فقتله وأمر بصلبه في السبخة، فصلب هنالك.
                قال أبو مخنف: ثم إن عبيد الله بن زياد نصب رأس الحسين بالكوفة، فجعل يدار به في الكوفة، ثم دعا زحر بن قيس فسرح معه برأس الحسين ورءوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بها الشام على يزيد بن معاوية.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: فحدثني عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه، عن الغاز بن ربيعة الجرشي، من حمير، قال: والله انا لعند يزيد ابن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: ويلك! ما وراءك؟ وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر من أهل بيته وستين من شيعته، فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فعدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى إذا أخذت السيوف مأخذها من هام القوم، يهربون إلى غير وزر، ويلوذون منا بالآكام والحفر، لواذا كما لاذ الحمائم من صقر، فو الله يا أمير المؤمنين ما كان إلا جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجردة، وثيابهم مرملة، وخدودهم معفرة، تصهرهم الشمس، وتسفى عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقي سبسب قال: فدمعت عين يزيد، وقال: قد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية! أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم الله الحسين! ولم يصله بشيء.
                قال: ثم إن عبيد الله أمر بنساء الحسين وصبيانه فجهزن، وامر بعلى ابن الحسين فغل بغل إلى عنقه، ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة العائذي، عائذة قريش ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتى قدموا على يزيد، فلم يكن علي بن الحسين يكلم أحدا منهما في الطريق كلمة حتى بلغوا، فلما انتهوا إلى باب يزيد رفع محفز بن ثعلبة صوته، فقال: هذا محفز بن ثعلبة أتى أمير المؤمنين باللئام الفجرة، قال: فأجابه يزيد بن معاوية: ما ولدت أم محفز شر وألأم.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني الصقعب بن زهير، عن القاسم بن عبد الرحمن مولى يزيد بن معاوية، قال: لما وضعت الرءوس بين يدي يزيد- رأس الحسين وأهل بيته وأصحابه- قال يزيد:
                يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
                أما والله يا حسين، لو أنا صاحبك ما قتلتك.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني أبو جعفر العبسي، عن أبي عمارة العبسي، قال:
                فقال يحيى بن الحكم أخو مروان بن الحكم:
                لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
                سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل
                قال: فضرب يزيد بن معاوية في صدر يحيى بن الحكم وقال: اسكت.
                قال: ولما جلس يزيد بن معاوية دعا أشراف أهل الشام فأجلسهم حوله، ثم دعا بعلي بن الحسين وصبيان الحسين ونسائه، فأدخلوا عليه والناس ينظرون، فقال يزيد لعلي: يا علي، أبوك الذي قطع رحمي، وجهل حقي، ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما قد رأيت! قال: فقال علي: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها» ، فقال يزيد لابنه خالد: اردد عليه، قال: فما درى خالد ما يرد عليه، فقال له يزيد: قل: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير» ، ثم سكت عنه، قال: ثم دعا بالنساء والصبيان فأجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح الله ابن مرجانة! لو كانت بينه وبينكم رحم أو قرابة ما فعل هذا بكم، ولا بعث بكم هكذا.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف، عن الحارث بن كعب، عن فاطمة بنت علي، قالت:
                لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا، وأمر لنا بشيء، وألطفنا، قالت: ثم إن رجلا من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه- يعنيني، وكنت جارية وضيئة- فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذلك جائز لهم، وأخذت بثياب أختي زينب، قالت: وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت:
                كذبت والله ولؤمت! ما ذلك لك وله، فغضب يزيد، فقال: كذبت والله، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، قالت: فغضب يزيد واستطار، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا! إنما خرج من الدين ابوك
                وأخوك، فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت: أنت أمير مسلط، تشتم ظالما، وتقهر بسلطانك، قالت: فو الله لكأنه استحيا، فسكت، ثم عاد الشامي فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية، قال: اعزب، وهب الله لك حتفا قاضيا! قالت: ثم قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير:
                جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلا من أهل الشام أمينا صالحا، وابعث معه خيلا وأعوانا فيسير بهم إلى المدينة، ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة، معهن ما يصلحهن، وأخوهن معهن علي بن الحسين، في الدار التي هن فيها قال: فخرجن حتى دخلن دار يزيد فلم تبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثا، وكان يزيد لا يتغدى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين إليه، قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمر بن الحسن بن علي وهو غلام صغير، فقال لعمر بن الحسن: أتقاتل هذا الفتى؟ يعني خالدا ابنه، قال: لا، ولكن أعطني سكينا وأعطه سكينا، ثم أقاتله، فقال له يزيد، وأخذه فضمه إليه ثم قال: شنشنة أعرفها من أخزم، هل تلد الحية إلا حية! قال: ولما أرادوا أن يخرجوا دعا يزيد علي بن الحسين ثم قال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني وأنه كل حاجة تكون لك، قال: وكساهم وأوصى بهم ذلك الرسول، قال: فخرج بهم وكان يسايرهم بالليل فيكونون أمامه حيث لا يفوتون طرفه، فإذا نزلوا تنحى عنهم وتفرق هو وأصحابه حولهم كهيئة الحرس لهم، وينزل منهم بحيث إذا أراد إنسان منهم وضوءا أو قضاء حاجة لم يحتشم، فلم يزل ينازلهم في الطريق هكذا، ويسألهم عن حوائجهم، ويلطفهم حتى دخلوا المدينة.
                وقال الحارث بن كعب: فقالت لي فاطمة بنت علي: قلت لأختي زينب: يا أخية، لقد أحسن هذا الرجل الشامي إلينا في صحبتنا، فهل لك أن نصله؟ فقالت: والله ما معنا شيء نصله به إلا حلينا، قالت لها: فنعطيه حلينا، قالت: فأخذت سواري ودملجي وأخذت أختي سوارها ودملجها، فبعثنا بذلك إليه، واعتذرنا إليه، وقلنا له: هذا جزاؤك بصحبتك إيانا بالحسن من الفعل، قال: فقال: لو كان الذي صنعت إنما هو للدنيا كان في حليكن ما يرضيني ودونه، ولكن والله ما فعلته إلا لله، ولقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي فإنه قال: لما قتل الحسين وجيء بالأثقال والأسارى حتى وردوا بهم الكوفة إلى عبيد الله، فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر في السجن، معه كتاب مربوط، وفي الكتاب خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوما، وراجع في كذا وكذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرا فهو الأمان إن شاء الله، قال: فلما كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجر قد ألقي في السجن، ومعه كتاب مربوط وموسى، وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنما ينتظر البريد يوم كذا وكذا فجاء البريد ولم يسمع التكبير، وجاء كتاب بأن سرح الأسارى إلي قال: فدعا عبيد الله ابن زياد محفز بن ثعلبة وشمر بن ذي الجوشن، فقال: انطلقوا بالثقل والرأس إلى أمير المؤمنين يزيد بن معاوية، قال: فخرجوا حتى قدموا على يزيد، فقام محفز بن ثعلبة فنادى بأعلى صوته: جئنا برأس أحمق الناس وألأمهم، فقال يزيد: ما ولدت أم محفز ألأم وأحمق، ولكنه قاطع ظالم، قال: فلما نظر يزيد إلى رأس الحسين، قال:
                يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
                ثم قال: أتدرون من أين أتي هذا؟ قال: أبي علي خير من أبيه، وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده، وأنا خير منه وأحق
                بهذا الأمر منه، فأما قوله: أبوه خير من أبي، فقد حاج أبي أباه، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله: أمي خير من أمه، فلعمري فاطمة ابنة رسول الله ص خير من أمي، وأما قوله: جدي خير من جده، فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عدلا ولا ندا، ولكنه إنما أتي من قبل فقهه، ولم يقرأ: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير» ثم أدخل نساء الحسين على يزيد، فصاح نساء آل يزيد وبنات معاوية وأهله وولولن. ثم إنهن أدخلن على يزيد، فقالت فاطمة بنت الحسين- وكانت أكبر من سكينة: أبنات رسول الله سبايا يا يزيد! فقال يزيد: يا ابنة أخي، أنا لهذا كنت أكره، قالت: والله ما ترك لنا خرص، قال: يا ابنه أخي ما آت إليك أعظم مما أخذ منك، ثم أخرجن فأدخلن دار يزيد بن معاوية، فلم تبق امرأة من آل يزيد إلا أتتهن، وأقمن المأتم، وأرسل يزيد إلى كل امرأة: ماذا أخذ لك؟ وليس منهن امرأة تدعي شيئا بالغا ما بلغ إلا قد أضعفه لها، فكانت سكينة تقول: ما رأيت رجلا كافرا بالله خيرا من يزيد ابن معاوية ثم أدخل الأسارى إليه وفيهم علي بن الحسين، فقال له يزيد: إيه يا علي! فقال علي: «ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير. لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور » فقال يزيد: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير» ثم جهزه وأعطاه مالا، وسرحه إلى المدينة.
                قال هشام، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو حمزة الثمالي، عن عبد الله الثمالي، عن القاسم بن بخيت، قال: لما أقبل وفد أهل الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق، فقال لهم مروان بن الحكم: كيف صنعتم؟
                قالوا: ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا، فأتينا والله على آخرهم، وهذه الرءوس والسبايا، فوثب مروان فانصرف، وأتاهم أخوه يحيى بن الحكم، فقال: ما صنعتم؟ فأعادوا عليه الكلام، فقال: حجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبدا ثم قام فانصرف، ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه، وحدثوه الحديث قال: فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله ابن عامر بن كريز- وكانت تحت يزيد بن معاوية- فتقنعت بثوبها، وخرجت فقالت: يا أمير المؤمنين، أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله! قال: نعم فأعولي عليه، وحدي على ابن بنت رسول الله ص وصريحة قريش، عجل عليه ابن زياد فقتله قتله الله! ثم أذن للناس فدخلوا والرأس بين يديه، ومع يزيد قضيب فهو ينكت به في ثغره، ثم قال: إن هذا وإيانا كما قال الحصين بن الحمام المري:
                يفلقن هاما من رجال أحبة ... إلينا وهم كانوا أعق وأظلما
                قال: فقال رجل من اصحاب رسول الله ص يقال له أبو برزة الأسلمي: أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين! اما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذا، لربما رأيت رسول الله ص يرشفه، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك، ويجيء هذا يوم القيامه ومحمد صلى الله عليه وسلم شفيعه، ثم قام فولى.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: حدثني عوانة بن الحكم، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي وجيء برأسه إليه، دعا عبد الملك بن أبي الحارث السلمي فقال: انطلق حتى تقدم المدينة على عمرو بن سعيد بن العاص فبشره بقتل الحسين- وكان عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يومئذ- قال: فذهب ليعتل له، فزجره- وكان عبيد الله لا يصطلى بناره- فقال: انطلق حتى تأتي المدينة، ولا يسبقك الخبر، وأعطاه دنانير، وقال: لا تعتل، وإن قامت بك راحلتك فاشتر راحلة، قال عبد الملك: فقدمت المدينة، فلقيني رجل من قريش، فقال: ما الخبر؟ فقلت: الخبر عند الأمير، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! قتل الحسين بن على، فدخلت على عمرو بن سعيد فقال: ما وراءك؟ فقلت: ما سر الأمير، قتل الحسين بن علي، فقال: ناد بقتله، فناديت بقتله، فلم أسمع والله واعية قط مثل واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين، فقال عمرو بن سعيد وضحك:
                عجت نساء بني زياد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
                والأرنب: وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، من رهط عبد المدان، وهذا البيت لعمرو بن معديكرب، ثم قال عمرو:
                هذه واعية بواعية عثمان بن عفان، ثم صعد المنبر فأعلم الناس قتله.
                قال هشام، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن ابن عبيد أبي الكنود، قال: لما بلغ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب مقتل ابنيه مع الحسين، دخل عليه بعض مواليه والناس يعزونه- قال: ولا أظن مولاه ذلك إلا أبا اللسلاس- فقال: هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين! قال: فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا بن اللخناء، أللحسين تقول هذا! والله لو شهدته لأحببت الا أفارقه حتى أقتل معه، والله إنه لمما يسخي بنفسي عنهما، ويهون علي المصاب بهما، أنهما أصيبا مع أخي وابن عمي مواسيين له، صابرين معه ثم أقبل على جلسائه فقال: الحمد لله عز وجل على مصرع الحسين، الا تكن آست حسينا يدي، فقد آساه ولدي قال: ولما أتى أهل المدينة مقتل الحسين خرجت ابنة عقيل بن أبي طالب ومعها نساؤها وهي حاسرة تلوي بثوبها وهي تقول:
                ماذا تقولون إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
                بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم!
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام: عن عوانة، قال: قال عبيد الله بن زياد لعمر بن سعد بعد قتله الحسين: يا عمر، أين الكتاب الذي كتبت به إليك في قتل الحسين؟
                قال: مضيت لأمرك وضاع الكتاب، قال: لتجيئن به، قال: ضاع، قال: والله لتجيئني به، قال: ترك والله يقرأ على عجائز قريش اعتذارا إليهن بالمدينة، أما والله لقد نصحتك في حسين نصيحه لو نصحتها ابى سعد ابن أبي وقاص كنت قد أديت حقه، قال عثمان بن زياد أخو عبيد الله:
                صدق والله، لوددت أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامه وان حسينا لم يقتل، قال: فو الله ما أنكر ذلك عليه عبيد الله.
                قال هشام: حدثني بعض أصحابنا، عن عمرو بن أبي المقدام، قال:
                حدثني عمرو بن عكرمة، قال: أصبحنا صبيحة قتل الحسين بالمدينة، فإذا مولى لنا يحدثنا، قال: سمعت البارحة مناديا ينادي وهو يقول:
                أيها القاتلون جهلا حسينا ... أبشروا بالعذاب والتنكيل
                كل أهل السماء يدعو عليكم ... من نبي وملاك وقبيل
                قد لعنتم على لسان ابن داود ... وموسى وحامل الإنجيل
                قال هشام: حدثني عمر بن حيزوم الكلبي، عن أبيه، قال: سمعت هذا الصوت.

                ذكر أسماء من قتل من بني هاشم مع الحسين ع وعدد من قتل من كل قبيلة من القبائل التي قاتلته
                قال هشام: قال أبو مخنف: ولما قتل الحسين بن على ع جيء
                برءوس من قتل معه من أهل بيته وشيعته وأنصاره إلى عبيد الله بن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا، وصاحبهم قيس بن الأشعث، وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن، وجاءت تميم بسبعة عشر رأسا، وجاءت بنو أسد بستة أرؤس، وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر الجيش بسبعة أرؤس، فذلك سبعون رأسا.
                قال: وقتل الحسين- وأمه فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله سنان بن أنس النخعي ثم الأصبحي وجاء برأسه خولي بن يزيد، وقتل العباس بن علي بن أبي طالب- وأمه أم البنين ابنة حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد، قتله زيد بن رقاد الجنبي- وحكيم بن الطفيل السنبسي، وقتل جعفر بن علي بن أبي طالب- وأمه أم البنين أيضا- وقتل عبد الله بن على ابن أبي طالب- وأمه أم البنين أيضا- وقتل عثمان بن علي بن أبي طالب- وأمه أم البنين أيضا- رماه خولي بن يزيد بسهم فقتله، وقتل محمد بن علي بن أبي طالب- وأمه أم ولد- قتله رجل من بني أبان بن دارم، وقتل أبو بكر بن علي بن أبي طالب- وأمه ليلى ابنة مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل بن نهشل بن دارم، وقد شك في قتله- وقتل على ابن الحسين بن علي- وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود بن معتب الثقفي، وأمها ميمونة ابنة أبي سفيان بن حرب- قتله مرة بن منقذ بن النعمان العبدي، وقتل عبد الله بن الحسين بن على- وأمه الرباب ابنه إمرئ القيس ابن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم من كلب- قتله هانئ ابن ثبيت الحضرمي، واستصغر علي بن الحسين بن علي فلم يقتل، وقتل أبو بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب- وأمه أم ولد- قتله عبد الله بن عقبة الغنوي، وقتل عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب- وأمه أم ولد- قتله حرملة بن الكاهن، رماه بسهم، وقتل القاسم بن الحسن بن علي- وأمه أم ولد- قتله سعد بن عمرو بن نفيل الأزدي، وقتل عون بن عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب- وأمه جمانة ابنة المسيب بن نجبة بن ربيعة بن رياح من بني فزارة- قتله عبد الله بن قطبه الطائي ثم النبهاني، وقتل محمد ابن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- وأمه الخوصاء ابنة خصفة بن ثقيف بن ربيعة بن عائذ بن الحارث بن تيم الله بن ثعلبة من بكر بن وائل- قتله عامر ابن نهشل التيمي، وقتل جعفر بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم البنين ابنة الشقر بن الهضاب- قتله بشر بن حوط الهمداني، وقتل عبد الرحمن ابن عقيل- وأمه أم ولد- قتله عثمان بن خالد بن أسير الجهني، وقتل عبد الله بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم ولد- رماه عمرو بن صبيح الصدائي فقتله، وقتل مسلم بن عقيل بن أبي طالب- وأمه أم ولد، ولد بالكوفة- وقتل عبد الله بن مسلم بن عقيل بن أبي طالب- وأمه رقية ابنة علي بن أبي طالب وأمها أم ولد- قتله عمرو بن صبيح الصدائي، وقيل: قتله اسيد بن مالك الحضرمي، وقتل محمد بن أبي سعيد بن عقيل- وأمه أم ولد- قتله لقيط بن ياسر الجهني، واستصغر الحسن بن الحسن بن علي، وأمه خولة ابنة منظور بن زبان بن سيار الفزارى، واستصغر عمر بن الحسن بن على فترك فلم يقتل- وأمه أم ولد- وقتل من الموالي سليمان مولى الحسين بن علي، قتله سليمان بن عوف الحضرمي، وقتل منجح مولى الحسين بن علي، وقتل عبد الله بن بقطر رضيع الحسين بن علي.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الأزدي، أن عبيد الله ابن زياد بعد قتل الحسين تفقد أشراف أهل الكوفة، فلم ير عبيد الله بن الحر، ثم جاءه بعد أيام حتى دخل عليه، فقال: اين كنت يا بن الحر؟ قال: كنت مريضا، قال: مريض القلب، أو مريض البدن! قال: أما قلبي فلم يمرض، وأما بدني فقد من الله علي بالعافية، فقال له ابن زياد: كذبت، ولكنك كنت مع عدونا، قال: لو كنت مع عدوك لرئى مكاني، وما كان مثل مكاني يخفى، قال: وغفل عنه ابن زياد غفلة، فخرج ابن الحر فقعد على فرسه، فقال ابن زياد: أين ابن الحر؟ قالوا: خرج الساعة، قال: علي به، فأحضرت الشرط فقالوا له: أجب الأمير، فدفع فرسه ثم قال: أبلغوه أني لا آتيه والله طائعا أبدا، ثم خرج حتى أتى منزل أحمر بن زياد الطائي فاجتمع إليه في منزله أصحابه، ثم خرج حتى أتى كربلاء فنظر إلى مصارع القوم، فاستغفر لهم هو وأصحابه، ثم مضى حتى نزل المدائن، وقال في ذلك:
                يقول أمير غادر حق غادر: ... ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه!
                فيا ندمي ألا أكون نصرته ... ألا كل نفس لا تسدد نادمه
                وإني لأني لم أكن من حماته ... لذو حسرة ما إن تفارق لازمه
                سقى الله أرواح الذين تأزروا ... على نصره سقيا من الغيث دائمه
                وقفت على أجداثهم ومجالهم ... فكاد الحشا ينفض والعين ساجمه
                لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى ... سراعا إلى الهيجا حماة خضارمه
                تآسوا على نصر ابن بنت نبيهم ... بأسيافهم آساد غيل ضراغمه
                فإن يقتلوا فكل نفس تقية ... على الأرض قد أضحت لذلك واجمه
                وما إن رأى الراءون أفضل منهم ... لدى الموت سادات وزهرا قماقمه
                أتقتلهم ظلما وترجو ودادنا ... فدع خطة ليست لنا بملائمه!
                لعمري لقد راغمتمونا بقتلهم ... فكم ناقم منا عليكم وناقمه
                أهم مرارا أن أسير بجحفل ... إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه
                فكفوا وإلا ذدتكم في كتائب ... أشد عليكم من زحوف الديالمة.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                ذكر خبر مقتل مرداس بن عمرو بن حدير
                وفي هذه السنة قتل أبو بلال مرداس بن عمرو بن حدير، من ربيعة بن حنظله
                ذكر سبب مقتله:
                قال أبو جعفر الطبري: قد تقدم ذكر سبب خروجه، وما كان من توجيه عبيد الله بن زياد إليه أسلم بن زرعة الكلابي في ألفي رجل، والتقائهم بآسك وهزيمة أسلم وجيشه منه ومن أصحابه فيما مضى من كتابنا هذا.
                ولما هزم مرداس أبو بلال أسلم بن زرعة، وبلغ عبيد الله بن زياد، سرح إليه- فيما حدثت عن هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثنى ابو المخارق الراسبى- ثلاثة آلاف، عليهم عباد بن الأخضر التميمي، فأتبعه عباد يطلبه حتى لحقه بتوج، فصف له، فحمل عليهم أبو بلال وأصحابه، فثبتوا وتعطف الناس عليهم فلم يكونوا شيئا وقال أبو بلال لأصحابه: من كان منكم إنما خرج للدنيا فليذهب، ومن كان منكم إنما أراد الآخرة ولقاء ربه فقد سبق ذلك إليه، وقرأ: «من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب» ، فنزل ونزل أصحابه معه لم يفارقه منهم إنسان، فقتلوا من عند آخرهم، ورجع عباد بن الأخضر، وذلك الجيش الذي كان معه إلى البصرة، وأقبل عبيدة بن هلال معه ثلاثة نفر هو رابعهم، فرصد عباد بن الأخضر، فأقبل يريد قصر الإمارة وهو مردف ابنا له غلاما، صغيرا، فقالوا: يا عبد الله، قف حتى نستفتيك، فوقف، فقالوا: نحن إخوة أربعة، قتل أخونا، فما ترى؟ قال: استعدوا الأمير، قالوا: قد استعديناه فلم يعدنا، قال: فاقتلوه، قتله الله! فوثبوا عليه فحكموا، والقى ابنه فقتلوه .
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                ذكر خبر ولايه سلم بن زياد على خراسان وسجستان

                وفي هذه السنة ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد سجستان وخراسان.
                ذكر سبب توليته إياه:
                حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: حدثنا مسلمة بن
                محارب بن سلم بن زياد، قال: وفد سلم بن زياد على يزيد بن معاوية وهو ابن أربع وعشرين سنة، فقال له يزيد: يا أبا حرب، أوليك عمل أخويك: عبد الرحمن وعباد؟ فقال: ما أحب أمير المؤمنين، فولاه خراسان وسجستان، فوجه سلم الحارث بن معاوية الحارثي جد عيسى بن شبيب من الشام إلى خراسان، وقدم سلم البصرة، فتجهز وسار إلى خراسان، فأخذ الحارث بن قيس بن الهيثم السلمي فحبسه، وضرب ابنه شبيبا، وأقامه في سراويل، ووجه أخاه يزيد بن زياد إلى سجستان فكتب عبيد الله بن زياد إلى عباد أخيه- وكان له صديقا- يخبره بولاية سلم، فقسم عباد ما في بيت المال في عبيده، وفضل فضل فنادى مناديه: من أراد سلفا فليأخذ، فأسلف كل من أتاه، وخرج عباد عن سجستان فلما كان بجيرفت بلغه مكان سلم- وكان بينهما جبل- فعدل عنه، فذهب لعباد تلك الليلة ألف مملوك، أقل ما مع أحدهم عشرة آلاف قال: فأخذ عباد على فارس، ثم قدم على يزيد، فقال له يزيد: أين المال؟ قال كنت صاحب ثغر، فقسمت ما أصبت بين الناس قال: ولما شخص سلم إلى خراسان شخص معه عمران بن الفصيل البرجمي، وعبد الله بن خازم السلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي والمهلب بن أبي صفرة، وحنظلة بن عرادة، وابو حزابه الوليد بن نهيك أحد بني ربيعة بن حنظلة، ويحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل، وخلق كثير من فرسان البصرة وأشرافهم، فقدم سلم بن زياد بكتاب يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد بنخبة ألفي رجل ينتخبهم- وقال غيره: بل نخبة ستة آلاف- قال: فكان سلم ينتخب الوجوه والفرسان ورغب قوم في الجهاد فطلبوا إليه أن يخرجهم، فكان أول من أخرجه سلم حنظلة بن عرادة، فقال له عبيد الله بن زياد: دعه لي، قال: هو بيني وبينك، فإن اختارك فهو لك، وإن اختارني فهو لي، قال: فاختار سلما، وكان الناس يكلمون سلما ويطلبون إليه أن يكتبهم معه، وكان صلة بن أشيم العدوي يأتي الديوان فيقول له الكاتب: يا أبا الصهباء، ألا أثبت اسمك، فانه وجه فيه جهاد وفضل؟ فيقول له: أستخير الله وأنظر، فلم يزل يدافع حتى فرغ من أمر الناس، فقالت له امرأته معاذة ابنة عبد الله العدوية: ألا تكتب نفسك؟ قال: حتى أنظر، ثم صلى واستخار الله، قال: فرأى في منامه آتيا أتاه، فقال له: اخرج فإنك تربح وتفلح وتنجح، فأتى الكاتب فقال له: أثبتني، قال: قد فرغنا ولن أدعك، فأثبته وابنه، فخرج سلم فصيره سلم مع يزيد بن زياد فسار إلى سجستان.
                قال علي بن محمد: ذكر الحسن بن رشيد الجوزجاني، عن شيخ من خزاعة، عن أبيه، عن جده، قال: غزوت مع سلم بن زياد خوارزم،
                فصالحوه على مال كثير، ثم عبر إلى سمرقند فصالحه أهلها، وكانت معه امرأته أم محمد، فولدت له في غزاته تلك ابنا، وأرسلت إلى امرأة صاحب الصغد تستعير منها حليا، فبعثت إليها بتاجها، وقفلوا، فذهبت بالتاج.

                ذكر سبب عزل يزيد عمرو بن سعيد عن المدينة وتوليته عليها الوليد بن عتبة
                وكان السبب في ذلك وسبب إظهار عبد الله بن الزبير الدعاء إلى نفسه- فيما ذكر هشام، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل- قال: حدثني أبي، قال: لما قتل الحسين ع قام ابن الزبير في أهل مكة وعظم مقتله، وعاب على أهل الكوفة خاصة، ولام أهل العراق عامة، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم : إن أهل العراق غدر فجر إلا قليلا، وإن أهل الكوفة شرار أهل العراق، وإنهم دعوا حسينا لينصروه ويولوه عليهم، فلما قدم عليهم ثاروا إليه، فقالوا له: إما أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية سلما فيمضي فيك حكمه، وإما أن تحارب، فراى والله أنه هو وأصحابه قليل في كثير، وان كان الله عز وجل لم يطلع على الغيب أحدا أنه مقتول، ولكنه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة، فرحم الله حسينا، وأخزى قاتل حسين! لعمري لقد كان من خلافهم إياه وعصيانهم ما كان في مثله واعظ وناه عنهم، ولكنه ما حم نازل، وإذا أراد الله أمرا لن يدفع أفبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهدا! لا، ولا نراهم لذلك أهلا، أما والله لقد قتلوه طويلا بالليل قيامه، كثيرا في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدل بالقرآن الغناء، ولا بالبكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شرب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر الركض في تطلاب الصيد- يعرض بيزيد- فسوف يلقون غيا.
                فثار إليه أصحابه فقالوا له: أيها الرجل أظهر بيعتك، فإنه لم يبق أحد إذ هلك حسين ينازعك هذا الأمر وقد كان يبايع الناس سرا، ويظهر أنه عائذ بالبيت، فقال لهم: لا تعجلوا- وعمرو بن سعيد بن العاص يومئذ عامل مكة، وقد كان أشد شيء عليه وعلى أصحابه، وكان مع شدته عليهم يداري ويرفق- فلما استقر عند يزيد بن معاوية ما قد جمع ابن الزبير من الجموع بمكة، أعطى الله عهدا ليوثقنه في سلسلة، فبعث بسلسلة من فضة، فمر بها البريد على مروان بن الحكم بالمدينة، فاخبر خبر ما قدم له وبالسلسلة التي معه، فقال مروان:
                خذها فليست للعزيز بخطة ... وفيها مقال لامرئ متضعف
                ثم مضى من عنده حتى قدم على ابن الزبير، فأتى ابن الزبير فأخبره بممر البريد على مروان، وتمثل مروان بهذا البيت، فقال ابن الزبير: لا والله لا أكون أنا ذلك المتضعف، ورد ذلك البريد ردا رقيقا.
                وعلا أمر ابن الزبير بمكة، وكاتبه أهل المدينة، وقال الناس: أما إذ هلك الحسين ع فليس أحد ينازع ابن الزبير.
                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                قال هشام، عن خالد بن سعيد، عن أبيه سعيد بن عمرو بن سعيد: أن عمرو بن سعيد لما رأى الناس قد اشرأبوا إلى ابن الزبير ومدوا إليه أعناقهم، ظن أن تلك الأمور تامة له، فبعث إلى عبد الله بن عمرو بن العاص- وكانت له صحبة، وكان مع أبيه بمصر، وكان قد قرأ كتب دانيال هنالك، وكانت قريش إذ ذاك تعده عالما- فقال له عمرو بن سعيد: أخبرني عن هذا الرجل، أترى ما يطلب تاما له؟ وأخبرني عن صاحبي إلى ما ترى أمره صائرا إليه؟ فقال: لا أرى صاحبك إلا أحد الملوك الذين تتم لهم أمورهم حتى يموتوا وهم ملوك فلم يزدد عند ذاك إلا شدة على ابن الزبير وأصحابه، مع الرفق بهم، والمداراة لهم.
                ثم إن الوليد بن عتبة وناسا معه من بني أمية قالوا ليزيد بن معاوية:
                لو شاء عمرو بن سعيد لأخذ ابن الزبير وبعث به إليك، فسرح الوليد بن عتبة على الحجاز أميرا، وعزل عمرا.


                وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                تعليق

                • إيمان أحمد
                  مشرفة الأقسام الإسلامية

                  • 9 يون, 2006
                  • 2427
                  • موظفة
                  • مسلمة

                  #23
                  رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                  ثم دخلت سنة اثنتين وستين
                  ذكر الخبر عما كان في هذه السنة من الأحداث
                  فمن ذلك مقدم وفد أهل المدينة على يزيد بن معاوية

                  ذكر الخبر عن سبب مقدمهم عليه:
                  وكان السبب في ذلك- فيما ذكر لوط بن يحيى، عن عبد الملك بن نوفل ابن مساحق، عن عبد الله بن عروة- أن يزيد بن معاويه لما سرح الوليد ابن عتبة على الحجاز أميرا، وعزل عمرو بن سعيد، قدم الوليد المدينة فأخذ غلمانا كثيرا لعمرو وموالي له، فحبسهم، فكلمه فيهم عمرو، فأبى أن يخليهم، وقال له: لا تجزع يا عمرو، فقال أخوه أبان بن سعيد بن العاص: أعمرو يجزع! والله لو قبضتم على الجمر وقبض عليه ما تركه حتى تتركوه، وخرج عمرو سائرا حتى نزل من المدينة على ليلتين، وكتب إلى غلمانه ومواليه وهم نحو من ثلاثمائة رجل: أني باعث إلى كل رجل منكم جملا وحقيبه وأداته، وتناخ لكم الإبل في السوق، فإذا أتاكم رسولي فاكسروا باب السجن، ثم ليقم كل رجل منكم إلى جمله فليركبه، ثم أقبلوا علي حتى تأتوني، فجاء رسوله حتى اشترى الإبل، ثم جهزها بما ينبغي لها، ثم أناخها في السوق، ثم أتاهم حتى أعلمهم ذلك، فكسروا باب السجن، ثم خرجوا إلى الإبل فاستووا عليها، ثم أقبلوا حتى انتهوا إلى عمرو بن سعيد فوجدوه حين قدم على يزيد بن معاوية فلما دخل عليه رحب به وأدنى مجلسه.
                  ثم إنه عاتبه في تقصيره في أشياء كان يأمره بها في ابن الزبير، فلا ينفذ منها إلا ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وإن جل أهل مكة وأهل المدينة قد كانوا مالوا إليه وهووه وأعطوه الرضا، ودعا بعضهم بعضا سرا وعلانية، ولم يكن معي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته، وقد كان يحذرني ويتحرز مني، وكنت أرفق به وأداريه
                  لأستمكر منه فأثب عليه، مع أني قد ضيقت عليه، ومنعته من أشياء كثيرة لو تركته وإياها ما كانت له إلا معونة، وجعلت على مكة وطرقها وشعابها رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا إلي باسمه واسم أبيه، ومن أي بلاد الله هو، وما جاء به وما يريد، فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرا، وإن كان ممن لا أتهم، خليت سبيله وقد بعثت الوليد، وسيأتيك من عمله وأثره ما لعلك تعرف به فضل مبالغتي في أمرك، ومناصحتي لك إن شاء الله، والله يصنع لك، ويكبت عدوك يا أمير المؤمنين!.
                  فقال له يزيد: أنت أصدق ممن رقى هذه الأشياء عنك، وحملني بها عليك، وأنت ممن أثق به، وأرجو معونته، وأدخره لرأب الصدع، وكفاية المهم، وكشف نوازل الأمور العظام، فقال له عمرو: وما أرى يا أمير المؤمنين أن أحدا أولى بالقيام بتشديد سلطانك، وتوهين عدوك، والشدة على من نابذك مني .
                  وأقام الوليد بن عتبة يريد ابن الزبير فلا يجده إلا متحذرا متمنعا، وثار نجدة بن عامر الحنفي باليمامة حين قتل الحسين ، وثار ابن الزبير، فكان الوليد يفيض من المعرف، وتفيض معه عامة الناس، وابن الزبير واقف وأصحابه، ونجدة واقف في أصحابه، ثم يفيض ابن الزبير بأصحابه ونجدة بأصحابه، لا يفيض واحد منهم بإفاضة صاحبه. وكان نجدة يلقى ابن الزبير فيكثر حتى ظن الناس أنه سيبايعه ثم إن ابن الزبير عمل بالمكر في أمر الوليد بن عتبة، فكتب إلى يزيد بن معاوية: إنك بعثت إلينا رجلا أخرق، لا يتجه لأمر رشد، ولا يرعوي لعظة الحكيم، ولو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق، لين الكتف، رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها، وأن يجتمع ما تفرق، فانظر في ذلك، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا إن شاء الله، والسلام.
                  فبعث يزيد بن معاوية إلى الوليد فعزله وبعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان- فيما ذكر أبو مخنف، عن عبد الملك ابن نوفل بن مساحق، عن حميد ابن حمزة، مولى لبني أمية- قال: فقدم فتى غر حدث غمر لم يجرب الأمور، ولم يحنكه السن، ولم تضرسه التجارب، وكان لا يكاد ينظر في شيء من سلطانه ولا عمله، وبعث إلى يزيد وفدا من أهل المدينة فيهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، والمنذر بن الزبير، ورجالا كثيرا من أشراف أهل المدينة، فقدموا على يزيد بن معاوية، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأعظم جوائزهم ثم انصرفوا من عنده، وقدموا المدينة كلهم الا المنذر ابن الزبير فإنه قدم على عبيد الله بن زياد بالبصرة- وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف درهم- فلما قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعتبة، وقالوا: إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويعزف بالطنابير، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسامر الخراب والفتيان، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه، فتابعهم الناس.
                  [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                  قال لوط بن يحيى: فحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، أن الناس أتوا عبد الله بن حنظلة الغسيل فبايعوه وولوه عليهم.
                  [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                  قال لوط: وحدثني أيضا محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عوف:
                  ورجع المنذر من عند يزيد بن معاوية، فقدم على عبيد الله بن زياد البصرة، فأكرمه وأحسن ضيافته، وكان لزياد صديقا، إذ سقط إليه كتاب من يزيد بن معاوية حيث بلغه أمر أصحابه بالمدينة أن أوثق المنذر بن الزبير واحبسه عندك حتى يأتيك فيه امرى، فكره ذلك عبيد الله ابن زياد لأنه ضيفه، فدعاه فأخبره بالكتاب وأقرأه إياه، وقال له: إنك كنت لزياد ودا وقد أصبحت لي ضيفا، وقد آتيت إليك معروفا، فأنا أحب أن أسدي ذلك كله بإحسان، فإذا اجتمع الناس عندي فقم فقل: ائذن لي فلأنصرف إلى بلادي، فإذا قلت: لا بل أقم عندي فإن لك الكرامة والمواساة والأثرة، فقل: لي ضيعة وشغل، لا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فإني آذن لك عند ذلك، فالحق بأهلك.
                  فلما اجتمع الناس عند عبيد الله قام إليه فاستأذنه فقال: لا بل أقم عندي فإني مكرمك ومواسيك ومؤثرك، فقال له: إن لي ضيعه وشغلا، ولا أجد من الانصراف بدا فأذن لي، فأذن له فانطلق حتى لحق بالحجاز، فأتى أهل المدينة، فكان فيمن يحرض الناس على يزيد، وكان من قوله يومئذ: إن يزيد والله لقد أجازني بمائة ألف درهم، وإنه لا يمنعني ما صنع إلي أن أخبركم خبره، وأصدقكم عنه، والله إنه ليشرب الخمر، وإنه ليسكر حتى يدع الصلاة، وعابه بمثل ما عابه به أصحابه الذين كانوا معه وأشد، فكان سعيد بن عمرو يحدث بالكوفة أن يزيد بن معاوية بلغه قوله فيه فقال: اللهم إني آثرته وأكرمته، ففعل ما قد رأيت، فاذكره بالكذب والقطيعة.
                  [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                  قال أبو مخنف: فحدثني سعيد بن زيد أبو المثلم أن يزيد بن معاوية بعث النعمان بن بشير الأنصاري فقال له: ائت الناس وقومك فافثأهم عما يريدون، فإنهم إن لم ينهضوا في هذا الأمر لم يجترئ الناس على خلافي، وبها من عشيرتي من لا أحب أن ينهض في هذه الفتنة فيهلك .
                  فأقبل النعمان بن بشير فأتى قومه، ودعا الناس إليه عامة، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة، وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام، فقال عبد الله بن مطيع العدوي: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا! فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحا الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جنبيها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين- يعني الأنصار- يقتلون في سككهم ومساجدهم، وعلى أبواب دورهم! فعصاه الناس، فانصرف وكان والله كما قال.
                  [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                  وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                  أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                  تعليق

                  • إيمان أحمد
                    مشرفة الأقسام الإسلامية

                    • 9 يون, 2006
                    • 2427
                    • موظفة
                    • مسلمة

                    #24
                    رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                    ثم دخلت سنة ثلاث وستين
                    ذكر الخبر عن الأحداث التي كانت فيها
                    فمن ذلك ما كان من إخراج أهل المدينة عامل يزيد بن معاوية
                    عثمان بن محمد بن أبي سفيان من المدينة، وإظهارهم خلع يزيد بن معاوية، وحصارهم من كان بها من بني أمية

                    ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، أن أهل المدينة لما بايعوا عبد الله بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد بن معاوية، وثبوا على عثمان ابن محمد بن أبي سفيان ومن بالمدينة من بنى اميه ومواليهم ومن رأى رأيهم من قريش، فكانوا نحوا من الف رجل، فخرجوا بجماعتهم حتى نزلوا دار مروان بن الحكم، فحاصرهم الناس فيها حصارا ضعيفا قال: فدعت بنو أمية حبيب بن كرة، وكان الذي بعث إليه منهم مروان بن الحكم وعمرو ابن عثمان بن عفان، وكان مروان هو يدبر أمرهم فأما عثمان بن محمد بن أبي سفيان فإنما كان غلاما حدثا لم يكن له رأي قال عبد الملك بن نوفل: فحدثني حبيب بن كرة، قال: كنت مع مروان، فكتب معي هو وجماعة من بني أمية كتابا إلى يزيد بن معاوية، فأخذ الكتاب عبد الملك بن مروان حتى خرج معي إلى ثنية الوداع، فدفع إلي الكتاب وقال: قد أجلتك اثنتي عشرة ليلة ذاهبا واثنتي عشرة ليلة مقبلا، فوافني لأربع وعشرين ليلة في هذا المكان تجدني إن شاء الله في هذه الساعة جالسا أنتظرك وكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد حصرنا في دار مروان بن الحكم، ومنعنا العذب، ورمينا بالجبوب، فيا غوثاه يا غوثاه!
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال: فأخذت الكتاب ومضيت به حتى قدمت على يزيد وهو جالس على كرسي، واضع قدميه في ماء طست من وجع كان يجده فيهما- ويقال: كان به النقرس- فقرأه ثم قال فيما بلغنا متمثلا:
                    لقد بدلوا الحلم الذي من سجيتي ... فبدلت قومي غلظة بليان
                    ثم قال: أما يكون بنو أمية ومواليهم ألف رجل بالمدينة؟ قال: قلت: بلى، والله وأكثر، قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، أجمع الناس كلهم عليهم، فلم يكن لهم بجمع الناس طاقة، قال: فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب، وأخبره الخبر، وأمره أن يسير إليهم في الناس، فقال له: قد كنت ضبطت لك البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذ صارت إنما هي دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذلك، يتولاها منهم من هو أبعد منهم مني قال: فبعثني بذلك الكتاب إلى مسلم بن عقبة المري- وهو شيخ كبير ضعيف مريض- فدفعت إليه الكتاب، فقرأه، وسألني عن الخبر فأخبرته، فقال لي مثل مقالة يزيد: أما يكون بنو أمية ومواليهم وأنصارهم بالمدينة ألف رجل! قال: قلت: بلى يكونون، قال: فما استطاعوا أن يقاتلوا ساعة من نهار! ليس هؤلاء بأهل أن ينصروا حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ثم جاء حتى دخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، لا تنصر هؤلاء فإنهم الأذلاء، أما استطاعوا أن يقاتلوا يوما واحدا أو شطره أو ساعة منه! دعهم يا أمير المؤمنين حتى يجهدوا أنفسهم في جهاد عدوهم، وعز سلطانهم، ويستبين لك من يقاتل منهم على طاعتك، ويصبر عليها أو يستسلم، قال: ويحك! إنه لا خير في العيش بعدهم، فاخرج فأنبئني نبأك، وسر بالناس، فخرج مناديه فنادى: أن سيروا إلى الحجاز على أخذ أعطياتكم كملا ومعونة مائة دينار توضع في يد الرجل من ساعته، فانتدب لذلك اثنا عشر ألف رجل .
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، قال: كتب يزيد إلى ابن مرجانة: أن اغز ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبدا، اقتل ابن بنت رسول الله ص، وأغزو البيت!
                    قال: وكانت مرجانة امرأة صدق، فقالت لعبيد الله حين قتل الحسين ع: ويلك! ماذا صنعت! وماذا ركبت!
                    رجع الحديث إلى حديث حبيب بن كرة قال: فأقبلت حتى أوافي عبد الملك بن مروان في ذلك المكان في تلك الساعة أو بعيدها شيئا.
                    قال: فوجدته جالسا متقنعا تحت شجرة، فأخبرته بالذي كان، فسر به، فانطلقنا حتى دخلنا دار مروان على جماعة بني أمية، فنبأتهم بالذي قدمت به، فحمدوا الله عز وجل.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال عبد الملك بن نوفل: حدثني حبيب، أنه بلغه في عشرة قال: فلم أبرح حتى رأيت يزيد بن معاوية خرج إلى الخيل يتصفحها وينظر إليها، قال: فسمعته وهو يقول وهو متقلد سيفا، متنكب قوسا عربية:
                    أبلغ أبا بكر إذا الليل سرى ... وهبط القوم على وادي القرى
                    عشرون ألفا بين كهل وفتى ... أجمع سكران من القوم ترى!
                    أم جمع يقظان نفي عنه الكرى! ... يا عجبا من ملحد يا عجبا!
                    مخادع في الدين يقفو بالعرى
                    قال عبد الملك بن نوفل: وفصل ذلك الجيش من عند يزيد وعليهم مسلم بن عقبة، وقال له: إن حدث بك حدث فاستخلف على الجيش حصين بن نمير السكوني، وقال له: ادع القوم ثلاثا، فإن هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا اظهرت عليهم فأبحها ثلاثا، فما فيها من مال أو رقة أو سلاح أو طعام فهو للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس، وأنظر علي بن الحسين، فاكفف عنه،، واستوص به خيرا، وأدن مجلسه، فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه، وقد أتاني كتابه وعلي لا يعلم بشيء مما أوصى به يزيد بن معاوية مسلم بن عقبة، وقد كان علي بن الحسين لما خرج بنو أمية نحو الشام أوى إليه ثقل مروان بن الحكم، وامرأته عائشة بنت عثمان بن عفان، وهي أم أبان بن مروان.
                    وقد حدثت عن محمد بن سعد، عن محمد بن عمر، قال: لما أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد من المدينة، كلم مروان بن الحكم ابن عمر أن يغيب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل، وكلم علي بن الحسين، وقال:
                    يا أبا الحسن، إن لي رحما، وحرمي تكون مع حرمك، فقال: افعل، فبعث بحرمه إلى علي بن الحسين، فخرج بحرمه وحرم مروان حتى وضعهم بينبع، وكان مروان شاكرا لعلي بن الحسين، مع صداقة كانت بينهما قديمة.
                    رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل، قال:
                    وأقبل مسلم بن عقبة بالجيش حتى إذا بلغ أهل المدينة إقباله وثبوا على من معهم من بني أمية، فحصروهم في دار مروان، وقالوا: والله لا نكف عنكم حتى نستنزلكم ونضرب أعناقكم، أو تعطونا عهد الله وميثاقه لا تبغونا غائلة، ولا تدلوا لنا على عورة، ولا تظاهروا علينا عدوا، فنكف عنكم ونخرجكم عنا، فأعطوهم عهد الله وميثاقه لا نبغيكم غائلة، ولا ندل لكم على عورة، فأخرجوهم من المدينة، فخرجت بنو أمية بأثقالهم حتى لقوا مسلم بن عقبة بوادي القرى، وخرجت عائشة بنت عثمان بن عفان إلى الطائف، فتمر بعلي بن حسين وهو بمال له إلى جنب المدينة قد اعتزلها كراهية أن يشهد شيئا من أمرهم، فقال لها: احملي ابني عبد الله معك إلى الطائف، فحملته إلى الطائف حتى نقضت أمور أهل المدينة.
                    ولما قدمت بنو أمية على مسلم بن عقبة بوادي القرى دعا بعمرو بن
                    عثمان بن عفان أول الناس فقال له: أخبرني خبر ما وراءك، وأشر علي، قال: لا أستطيع أن أخبرك، أخذ علينا العهود والمواثيق ألا ندل على عورة، ولا نظاهر عدوا، فانتهره ثم قال: والله لولا أنك ابن عثمان لضربت عنقك، وايم الله لا أقيلها قرشيا بعدك فخرج بما لقي من عنده إلى أصحابه، فقال مروان بن الحكم لابنه عبد الملك: ادخل قبلي لعله يجتزئ بك عني، فدخل عليه عبد الملك، فقال: هات ما عندك، أخبرني خبر الناس، وكيف ترى؟ فقال له: نعم أرى أن تسير بمن معك، فتنكب هذا الطريق إلى المدينة، حتى إذا انتهيت إلى أدنى نخل بها نزلت، فاستظل الناس في ظله، وأكلوا من صقره، حتى إذا كان الليل أذكيت الحرس الليل كله عقبا بين أهل العسكر، حتى إذا أصبحت صليت بالناس الغداة، ثم مضيت بهم وتركت المدينة ذات اليسار، ثم أدرت بالمدينة حتى تأتيهم من قبل الحرة مشرقا، ثم تستقبل القوم، فإذا استقبلتهم وقد أشرقت عليهم وطلعت الشمس طلعت بين أكتاف أصحابك، فلا تؤذيهم، وتقع في وجوههم فيؤذيهم حرها، ويصيبهم أذاها، ويرون ما دمتم مشرقين من ائتلاق بيضكم وحرابكم، وأسنة رماحكم وسيوفكم ودروعكم وسواعدكم ما لا ترونه أنتم لشيء من سلاحهم ما داموا مغربين، ثم قاتلهم واستعن بالله عليهم، فإن الله ناصرك، إذ خالفوا الإمام، وخرجوا من الجماعة فقال له مسلم: لله أبوك! أي امرئ ولد إذ ولدك! لقد رأى بك خلفا ثم إن مروان دخل عليه فقال له: إيه! قال: أليس قد دخل عليك عبد الملك! قال: بلى، وأي رجل عبد الملك! قلما كلمت من رجال قريش رجلا به شبيها، فقال له مروان: إذا لقيت عبد الملك فقد لقيتني، قال: أجل، ثم ارتحل من مكانه ذلك، وارتحل الناس معه حتى نزل المنزل الذي أمره به عبد الملك، فصنع فيه ما أمره به، ثم مضى في الحرة حتى نزلها، فأتاهم من قبل المشرق ثم دعاهم مسلم بن عقبة، فقال: يا أهل المدينة، إن أمير المؤمنين يزيد بن معاوية يزعم أنكم الأصل، وأني أكره هراقة دمائكم، وأني أؤجلكم ثلاثا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه، وانصرفت عنكم، وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليكم- وذلك في ذي الحجة من سنة أربع وستين، هكذا وجدته في كتابي، وهو خطأ، لأن يزيد هلك في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت وقعة الحرة في ذي الحجة من سنة ثلاث وستين يوم الأربعاء لليلتين بقيتا منه .
                    ولما مضت الأيام الثلاثة قال: يا أهل المدينة، قد مضت الأيام الثلاثة، فما تصنعون؟ أتسالمون أم تحاربون؟ فقالوا: بل نحارب، فقال لهم: لا تفعلوا، بل ادخلوا في الطاعة، ونجعل حدنا وشوكتنا على هذا الملحد الذي قد جمع إليه المراق والفساق من كل أوب فقالوا لهم: يا أعداء الله، والله لو أردتم أن تجوزوا إليهم ما تركناكم حتى نقاتلكم، نحن ندعكم أن تأتوا بيت الله الحرام، وتخيفوا أهله، وتلحدوا فيه، وتستحلوا حرمته! لا والله لا نفعل.
                    وقد كان أهل المدينة اتخذوا خندقا في جانب المدينة، ونزله جمع منهم عظيم، وكان عليهم عبد الرحمن بن زهير بن عبد عوف ابن عم عبد الرحمن ابن عوف الزهري، وكان عبد الله بن مطيع على ربع آخر في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي على ربع آخر في جانب المدينة، وكان أمير جماعتهم عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، في أعظم تلك الأرباع وأكثرها عددا.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: وأما عوانة بن الحكم الكلبي، فذكر أن عبد الله بن مطيع كان على قريش من أهل المدينة، وعبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار، ومعقل بن سنان على المهاجرين.
                    قال هشام، عن أبي مخنف: قال عبد الملك بن نوفل: وصمد مسلم ابن عقبة بجميع من معه، فأقبل من قبل الحرة حتى ضرب فسطاطه على
                    طريق الكوفة، ثم وجه الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل ابن الغسيل على الخيل في الرجال الذين معه حتى كشف الخيل، حتى انتهوا إلى مسلم بن عقبة، فنهض في وجوههم بالرجال، وصاح بهم، فانصرفوا فقاتلوا قتالا شديدا.
                    ثم إن الفضل بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب جاء الى عبد الله ابن حنظلة الغسيل فقاتل في نحو من عشرين فارسا قتالا شديدا حسنا، ثم قال لعبد الله: مر من معك فارسا فليأتني فليقف معى، فإذا حملت فليحملوا، فو الله لا أنتهي حتى أبلغ مسلما، فإما أن أقتله، وإما أن أقتل دونه فقال عبد الله بن حنظلة لعبد الله بن الضحاك من بني عبد الأشهل من الأنصار: ناد في الخيل فلتقف مع الفضل بن العباس، فنادى فيهم فجمعهم إلى الفضل، فلما اجتمعت الخيل إليه حمل على أهل الشام فانكشفوا، فقال لأصحابه: الا ترونهم كشفا لئاما! احملوا اخرى جعلت فداكم! فو الله لئن عاينت أميرهم، لأقتلنه أو لأقتلن دونه، ان صبر ساعه معقب سرور أبد، إنه ليس بعد لصبرنا إلا النصر ثم حمل وحمل أصحابه معه، فانفرجت خيل أهل الشام عن مسلم بن عقبة في نحو من خمسمائة راجل جثاة على الركب، مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى كما هو نحو رايته حتى يضرب رأس صاحب الراية، وإن عليه لمغفرا، فقط المغفر، وفلق هامته فخر ميتا، فقال: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! فظن أنه قتل مسلما، فقال: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة، فقال مسلم: أخطأت استك الحفرة! وإنما كان ذلك غلاما له، يقال له: رومي، وكان شجاعا. فأخذ مسلم رايته ونادى: يا أهل الشام، أهذا القتال قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يعزوا به نصر إمامهم! قبح الله قتالكم منذ اليوم! ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي! اما والله ما جزاؤكم عليه الا ان تحرموا العطاء، وأن تجمروا في أقاصي الثغور شدوا مع هذه الراية، ترح الله وجوهكم إن لم تعتبوا! فمشى برايته، وشدت تلك الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين اطناب مسلم بن عقبه الا نحو من عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف، وقتل معه ابراهيم ابن نعيم العدوي، في رجال من أهل المدينة كثير.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام، عن عوانة: وقد بلغنا في حديث آخر أن مسلم بن عقبة كان مريضا يوم القتال، وأنه أمر بسرير وكرسي فوضع بين الصفين، ثم قال:
                    يا أهل الشام، قاتلوا عن أميركم أو دعوا ثم زحفوا نحوهم فأخذوا لا يصمدون لربع من تلك الأرباع إلا هزموه، ولا يقاتلون إلا قليلا حتى تولوا.
                    ثم إنه أقبل إلى عبد الله بن حنظلة فقاتله أشد القتال، واجتمع من أراد القتال من تلك الأرباع إلى عبد الله بن حنظلة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فحمل الفضل ابن العباس بن ربيعه في جماعه من وجوه الناس وفرسانهم يريد مسلم بن عقبة، ومسلم على سريره مريض، فقال: احملوني فضعوني في الصف، فوضعوه بعد ما حملوه أمام فسطاطه في الصف، وحمل الفضل بن العباس هو وأصحابه أولئك حتى انتهى إلى السرير، وكان الفضل أحمر، فلما رفع السيف ليضربه صاح بأصحابه: إن العبد الأحمر قاتلي، فأين أنتم يا بني الحرائر! اشجروه بالرماح، فوثبوا إليه فطعنوه حتى سقط.
                    قال هشام: قال أبو مخنف: ثم إن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله ابن حنظلة الغسيل ورجاله بعده- كما حدثني عبد الله بن منقذ- حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرسا له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام، إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها ولا أنسابها، ولا أكثرها عددا، ولا أوسعها بلدا، ولم يخصصكم الله بالذي خصكم به من النصر على عدوكم، وحسن المنزلة عند أئمتكم، إلا بطاعتكم واستقامتكم، وإن هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والفلج ثم جاء حتى انتهى إلى مكانه الذي كان فيه، وأمر الخيل أن تقدم على ابن الغسيل وأصحابه، فأخذت الخيل إذا أقدمت على الرجال فثاروا في وجوهها بالرماح والسيوف نفرت وابذعرت وأحجمت، فنادى فيهم مسلم بن عقبة: يا أهل الشام، ما جعلهم الله أولى بالأرض منكم، يا حصين بن نمير، انزل في جندك، فنزل في أهل حمص، فمشى إليهم، فلما رآهم قد أقبلوا يمشون تحت راياتهم نحو ابن الغسيل قام في أصحابه فقال: يا هؤلاء، إن عدوكم قد أصابوا وجه القتال الذي كان ينبغي أن تقاتلوهم به، وإني قد ظننت ألا تلبثوا إلا ساعة حتى يفصل الله بينكم وبينهم إما لكم وإما عليكم أما إنكم أهل البصيرة ودار الهجرة، والله ما أظن ربكم أصبح عن أهل بلد من بلدان المسلمين بأرضى منه عنكم، ولا على أهل بلد من بلدان العرب بأسخط منه على هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم ان لكل امرئ منكم ميتة هو ميت بها، والله ما من ميتة بأفضل من ميتة الشهادة، وقد ساقها الله إليكم فاغتنموها، فو الله ما كل ما أردتموها وجدتموها ثم مشى برايته غير بعيد، ثم وقف، وجاء ابن نمير برايته حتى أدناها، وأمر مسلم بن عقبة عبد الله بن عضاه الأشعري فمشى في خمسمائة مرام حتى دنوا من ابن الغسيل وأصحابه، فأخذوا ينضحونهم بالنبل، فقال ابن الغسيل: علام تستهدفون لهم! من أراد التعجل إلى الجنة فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال: الغدو الى ربكم، فو الله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعة قريري عين، فنهض القوم بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئى في ذلك الزمان ساعة من نهار، وأخذ يقدم بنيه أمامه واحدا واحدا حتى قتلوا بين يديه، وابن الغسيل يضرب بسيفه، ويقول:
                    بعدا لمن رام الفساد وطغى ... وجانب الحق وآيات الهدى
                    لا يبعد الرحمن إلا من عصى.
                    فقتل، وقتل معه أخوه لأمه محمد بن ثابت بن قيس بن شماس، استقدم فقاتل حتى قتل، وقال: ما أحب أن الديلم قتلوني مكان هؤلاء القوم، ثم قاتل حتى قتل وقتل معه محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، فمر عليه مروان بن الحكم وكأنه برطيل من فضة، فقال: رحمك الله! فرب سارية قد رأيتك تطيل القيام في الصلاة إلى جنبها.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: فحدثني عوانة، قال: فبلغنا أن مسلم بن عقبة كان يجلس على كرسي ويحمله الرجال وهو يقاتل ابن الغسيل يوم الحرة وهو يقول:
                    أحيا أباه هاشم بن حرمله ... يوم الهباتين ويوم اليعمله
                    كل الملوك عنده مغربله ... ورمحه للوالدات مثكله
                    لا يلبث القتيل حتى يجدله ... يقتل ذا الذنب ومن لا ذنب له
                    قال هشام، عن أبي مخنف: وخرج محمد بن سعد بن أبي وقاص يومئذ يقاتل، فلما انهزم الناس مال عليهم يضربهم بسيفه حتى غلبته الهزيمة، فذهب فيمن ذهب من الناس وأباح مسلم المدينة ثلاثا يقتلون الناس ويأخذون الأموال، فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فبصر به رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم عليه الغار.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال أبو مخنف: فحدثني الحسن بن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: دخل إلي الشامي يمشي بسيفه، قال: فانتضيت سيفي فمشيت إليه لأرعبه لعله ينصرف عني، فأبى إلا الإقدام علي، فلما رأيت أن قد جد شمت سيفي، ثم قلت له: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين» ، فقال لي: من أنت لله أبوك! فقلت: أنا أبو سعيد الخدري، قال: صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، فانصرف عني.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: حدثني عوانة، قال: دعا الناس مسلم بن عقبة بقباء إلى البيعة، وطلب الأمان لرجلين من قريش: ليزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ومحمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي ولمعقل ابن سنان الأشجعي، فأتي بهما بعد الوقعة بيوم فقال: بايعا، فقال القرشيان: نبايعك على كتاب الله وسنة نبيه، فقال: لا والله لا أقيلكم هذا ابدا، فقد مهما فضرب أعناقهما، فقال له مروان: سبحان الله! أتقتل رجلين من قريش أتيا ليؤمنا فضربت أعناقهما! فنخس بالقضيب في خاصرته ثم قال: وأنت والله لو قلت بمقالتهما ما رأيت السماء إلا برقة.
                    قال هشام: قال أبو مخنف: وجاء معقل بن سنان، فجلس مع القوم، فدعا بشراب ليسقى، فقال له مسلم: أي الشراب أحب إليك؟ قال: العسل، قال: اسقوه، فشرب حتى ارتوى، فقال له: أقضيت ريك من شرابك؟ قال: نعم، قال: لا والله لا تشرب بعده شرابا أبدا إلا الحميم في نار جهنم، أتذكر مقالتك لأمير المؤمنين: سرت شهرا، ورجعت شهرا، وأصبحت صفرا، اللهم غير- تعني يزيد! فقدمه فضرب عنقه.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: وأما عوانة بن الحكم فذكر أن مسلم بن عقبة بعث عمرو بن محرز الأشجعي فأتاه بمعقل بن سنان فقال له مسلم: مرحبا بأبي محمد! أراك عطشان! قال: أجل، قال: شوبوا له عسلا بالثلج الذي حملتموه معنا- وكان له صديقا قبل ذلك- فشابوه له، فلما شرب معقل قال له:
                    سقاك الله من شراب الجنة، فقال له مسلم: أما والله لا تشرب بعدها شرابا أبدا حتى تشرب من شراب الحميم، قال: أنشدك الله والرحيم! فقال له مسلم: أنت الذي لقيتني بطبرية ليلة خرجت من عند يزيد، فقلت: سرنا شهرا ورجعنا من عند يزيد صفرا، نرجع إلى المدينة فنخلع هذا الفاسق، ونبايع لرجل من أبناء المهاجرين! فيم غطفان وأشجع من الخلع والخلافة! إني آليت بيمين لا ألقاك في حرب أقدر فيه على ضرب عنقك إلا فعلت، ثم أمر به فقتل.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: قال عوانه: واتى يزيد بن وهب بن زمعة، فقال: بايع، قال:
                    أبايعك على سنة عمر، قال: اقتلوه، قال: أنا أبايع، قال: لا والله لا أقيلك عثرتك، فكلمه مروان بن الحكم- لصهر كان بينهما- فأمر بمروان فوجئت عنقه، ثم قال: بايعوا على أنكم خول ليزيد بن معاوية، ثم أمر به فقتل.
                    قال هشام: قال عوانة، عن أبي مخنف قال: قال عبد الملك بن نوفل ابن مساحق: ثم إن مروان أتي بعلي بن الحسين، وقد كان علي بن الحسين حين أخرجت بنو أمية منع ثقل مروان وامرأته وآواها، ثم خرجت إلى الطائف، فهي أم أبان ابنة عثمان بن عفان، فبعث ابنه عبد الله معها، فشكر ذلك له مروان- وأقبل علي بن الحسين يمشي بين مروان وعبد الملك يلتمس بهما عند مسلم الأمان، فجاء حتى جلس عنده بينهما، فدعا مروان بشراب ليتحرم بذلك من مسلم، فأتي له بشراب، فشرب منه مروان شيئا يسيرا، ثم ناوله عليا، فلما وقع في يده قال له مسلم: لا تشرب من شرابنا، فأرعدت كفه، ولم يأمنه على نفسه، وأمسك القدح بكفه لا يشربه ولا يضعه، فقال: إنك إنما جئت تمشي بين هؤلاء لتأمن عندي، والله لو كان هذا الأمر إليهما لقتلتك، ولكن أمير المؤمنين أوصاني بك، وأخبرني أنك كاتبته، فذلك نافعك عندي، فإن شئت فاشرب شرابك الذي في يدك، وإن شئت دعونا بغيره، فقال: هذه التي في كفى اريد، قال: اشربها، ثم قال: الى هاهنا، فأجلسه معه.
                    [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                    قال هشام: وقال عوانة بن الحكم: لما أتي بعلي بن الحسين إلى مسلم، قال: من هذا؟ قالوا: هذا علي بن الحسين، قال: مرحبا وأهلا، ثم أجلسه معه على السرير والطنفسة، ثم قال: إن أمير المؤمنين أوصاني بك قبلا، وهو يقول: إن هؤلاء الخبثاء شغلوني عنك وعن وصلتك، ثم قال
                    لعلي: لعل أهلك فزعوا! قال: إي والله، فأمر بدابته فأسرجت، ثم حمله فرده عليها.
                    قال هشام: وذكر عوانة أن عمرو بن عثمان لم يكن فيمن خرج من بني أمية، وأنه أتى به يومئذ إلى مسلم بن عقبة فقال: يا أهل الشام، تعرفون هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا الخبيث ابن الطيب، هذا عمرو بن عثمان بن عفان امير المؤمنين، هيه يا عمرو! إذا ظهر أهل المدينة قلت: أنا رجل منكم، وإن ظهر أهل الشام قلت: أنا ابن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فأمر به فنتفت لحيته، ثم قال: يا أهل الشام، إن أم هذا كانت تدخل الجعل في فيها ثم تقول: يا أمير المؤمنين حاجيتك، ما في فمي؟ وفي فمها ما ساءها وناءها، فخلى سبيله، وكانت أمه من دوس.


                    وقعة الحرة
                    وقد ذكر من أمر وقعة الحرة ومقتل ابن الغسيل أمر غير الذي روي عن أبي مخنف، عن الذين روى ذلك عنهم، وذلك ما حدثني أحمد بن زهير قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا جويرية بن أسماء، قال: سمعت أشياخ أهل المدينة يحدثون أن معاوية لما حضرته الوفاة دعا يزيد فقال له: إن لك من اهل الدنيا يوما، فإن فعلوا فارمهم بمسلم بن عقبة، فإنه رجل قد عرفت نصيحته فلما هلك معاوية وفد إليه وفد من أهل المدينة، وكان ممن وفد عليه عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، وكان شريفا فاضلا سيدا عابدا، معه ثمانية بنين له، فأعطاه مائة ألف درهم، وأعطى بنيه لكل واحد منهم عشرة آلاف سوى كسوتهم وحملانهم، فلما قدم المدينة عبد الله بن حنظلة أتاه الناس فقالوا: ما وراءك؟ قال: جئتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بني هؤلاء لجاهدته بهم، قالوا: قد بلغنا أنه أجداك وأعطاك وأكرمك، قال: قد فعل، وما قبلت منه إلا لأتقوى به، وحضض الناس فبايعوه، فبلغ ذلك يزيد، فبعث مسلم بن عقبة إليهم، وقد بعث أهل المدينة إلى كل ماء بينهم وبين الشام، فصبوا فيه زقا من قطران، وعور، فأرسل الله السماء عليهم، فلم يستقوا بدلو حتى وردوا المدينة، فخرج إليهم أهل المدينة، بجموع كثيرة، وهيئة لم ير مثلها فلما رآهم أهل الشام هابوهم وكرهوا قتالهم، ومسلم شديد الوجع، فبينما الناس في قتالهم إذ سمعوا التكبير من خلفهم في جوف المدينة، وأقحم عليهم بنو حارثة أهل الشام، وهم على الجد، فانهزم الناس، فكان من أصيب في الخندق أكثر ممن قتل من الناس، فدخلوا المدينة، وهزم الناس وعبد الله بن حنظلة مستند إلى أحد بنيه يغط نوما، فنبهه ابنه، فلما فتح عينيه فرأى ما صنع الناس أمر أكبر بنيه، فتقدم حتى قتل، فدخل مسلم بن عقبة المدينة، فدعا الناس للبيعة على أنهم خول ليزيد بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء.



                    وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                    أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                    تعليق

                    • إيمان أحمد
                      مشرفة الأقسام الإسلامية

                      • 9 يون, 2006
                      • 2427
                      • موظفة
                      • مسلمة

                      #25
                      رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                      ثم دخلت سنة أربع وستين
                      ذكر الخبر عما كان فيها من الأحداث
                      قال أبو جعفر: فمن ذلك مسير أهل الشام إلى مكة لحرب عبد الله بن الزبير ومن كان على مثل رأيه في الامتناع على يزيد بن معاوية.
                      ولما فرغ مسلم بن عقبة من قتال أهل المدينة وإنهاب جنده أموالهم ثلاثا، شخص بمن معه من الجند متوجها الى مكة، كالذي ذكر هشام ابن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني عبد الملك بن نوفل، أن مسلما خرج بالناس إلى مكة يريد ابن الزبير، وخلف على المدينة روح بن زنباع الجذامي.
                      وأما الواقدي فإنه قال: خلف عليها عمرو بن محرز الأشجعي، قال:
                      ويقال: خلف عليها روح بن زنباع الجذامي.

                      ذكر موت مسلم بن عقبة ورمي الكعبة وإحراقها
                      رجع الحديث إلى أبي مخنف قال: حتى إذا انتهى إلى المشلل- ويقال:
                      إلى قفا المشلل- نزل به الموت، وذلك في آخر المحرم من سنة أربع وستين، فدعا حصين بن نمير السكوني فقال له: يا بن برذعة الحمار، أما والله لو كان هذا الأمر إلي ما وليتك هذا الجند، ولكن أمير المؤمنين ولاك بعدي، وليس لأمر أمير المؤمنين مرد، خذ عني أربعا: أسرع السير، وعجل الوقاع، وعم الأخبار، ولا تمكن قرشيا من أذنك ثم إنه مات، فدفن بقفا المشلل.
                      [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                      قال هشام بن محمد الكلبي: وذكر عوانة أن مسلم بن عقبة شخص يريد ابن الزبير، حتى إذا بلغ ثنية هرشا نزل به الموت، فبعث إلى رءوس الأجناد، فقال: إن أمير المؤمنين عهد إلي إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السكوني، والله لو كان الأمر إلي ما فعلت، ولكن أكره معصية أمر أمير المؤمنين عند الموت، ثم دعا به فقال: انظر يا برذعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به، عم الأخبار، ولا ترع سمعك قريشا أبدا، ولا تردن أهل الشام، عن عدوهم، ولا تقيمن إلا ثلاثا حتى تناجز ابن الزبير الفاسق، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملا قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أحب إلي من قتلي أهل المدينة، ولا أرجي عندي في الآخرة ثم قال لبني مرة: زراعتي التي بحوران صدقة على مرة، وما أغلقت عليه فلانة بابها فهو لها- يعني أم ولده- ثم مات.
                      ولما مات خرج حصين بن نمير بالناس، فقدم على ابن الزبير مكة وقد بايعه أهلها وأهل الحجاز.
                      قال هشام: قال عوانة: قال مسلم قبل الوصية: إن ابني يزعم أن أم ولدي هذه سقتني السم، وهو كاذب، هذا داء يصيبنا في بطوننا أهل البيت قال: وقدم عليه- يعني ابن الزبير- كل أهل المدينة، وقد قدم عليه نجدة بن عامر الحنفي في أناس من الخوارج يمنعون البيت، فقال لأخيه المنذر: ما لهذا الأمر ولدفع هؤلاء القوم غيري وغيرك- وأخوه المنذر ممن شهد الحرة، ثم لحق به- فجرد إليهم أخاه في الناس، فقاتلهم ساعة قتالا شديدا. ثم إن رجلا من أهل الشام دعا المنذر إلى المبارزة- قال: والشامي على بغلة له- فخرج إليه المنذر، فضرب كل واحد منهما صاحبه ضربة خر صاحبه لها ميتا، فجثا عبد الله بن الزبير على ركبتيه وهو يقول: يا رب أبرها من أصلها ولا تشدها، وهو يدعو على الذي بارز أخاه ثم ان اهل الشام شدوا عليهم شدة منكرة، وانكشف أصحابه انكشافة، وعثرت بغلته فقال: تعسا! ثم نزل وصاح بأصحابه: إلي، فأقبل إليه المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة، ومصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري، فقاتلوا حتى قتلوا جميعا وصابرهم ابن الزبير يجالدهم حتى الليل، ثم انصرفوا عنه، وهذا في الحصار الأول ثم إنهم أقاموا عليه يقاتلونه بقية المحرم وصفر كله، حتى إذا مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأول يوم السبت سنة أربع وستين قذفوا البيت بالمجانيق، وحرقوه بالنار، وأخذوا يرتجزون ويقولون:
                      خطارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها أعواد هذا المسجد
                      قال هشام: قال أبو عوانة: جعل عمرو بن حوط السدوسي يقول:
                      كيف ترى صنيع أم فروه ... تأخذهم بين الصفا والمروه
                      يعني بأم فروة المنجنيق.
                      وقال الواقدي: سار الحصين بن نمير حين دفن مسلم بن عقبة بالمشلل لسبع بقين من المحرم، وقدم مكة لأربع بقين من المحرم، فحاصر ابن الزبير أربعا وستين يوما حتى جاءهم نعي يزيد بن معاويه لهلال ربيع الآخر

                      ذكر الخبر عن حرق الكعبة
                      وفي هذه السنة حرقت الكعبة.
                      ذكر السبب في إحراقها:
                      قال محمد بن عمر: احترقت الكعبة يوم السبت لثلاث ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يوما، وجاء نعيه لهلال ربيع الآخر ليلة الثلاثاء.
                      قال محمد بن عمر: حدثنا رياح بن مسلم، عن أبيه، قال: كانوا يوقدون حول الكعبة، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة، واحترق خشب البيت يوم السبت لثلاث ليال خلون من ربيع الأول.
                      قال محمد بن عمر: وحدثني عبد الله بن زيد، قال: حدثني عروة بن
                      أذينة، قال: قدمت مكة مع أمي يوم احترقت الكعبة قد خلصت إليها النار، ورأيتها مجردة من الحرير، ورأيت الركن قد اسود وانصدع في ثلاثة أمكنة، فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب عبد الله بن الزبير، قالوا: هذا احترقت بسببه، أخذ قبسا في رأس رمح له فطيرت الريح به، فضربت أستار الكعبة ما بين الركن اليماني والأسود.

                      وأما هشام بن محمد الكلبي فإنه قال في سن يزيد خلاف الذي ذكره الزهري، والذي قال هشام في ذلك- فيما حدثنا عنه-: استخلف ابو خالد يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة وأشهر في هلال رجب سنة ستين، وولي سنتين وثمانية أشهر، وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ثلاث وستين وهو ابن خمس وثلاثين، وأمه ميسون بنت بحدل بن أنيف بن ولجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن حارثة الكلبى.

                      خلافة معاوية بن يزيد
                      فحدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا عبد العزيز بن خالد بن رستم الصنعاني أبو محمد قال: حدثنا زياد بن جيل، قال: بينا حصين بن نمير يقاتل ابن الزبير، إذ جاء موت يزيد، فصاح بهم ابن الزبير، فقال: إن طاغيتكم قد هلك، فمن شاء منكم أن يدخل فيما دخل فيه الناس فليفعل، فمن كره فليلحق بشامه، فغدوا عليه يقاتلونه.
                      قال: فقال ابن الزبير للحصين بن نمير: ادن مني أحدثك، فدنا منه فحدثه، فجعل فرس أحدهما يجفل- والجفل: الروث- فجاء حمام الحرم يلتقط من الجفل، فكف الحصين فرسه عنهن، فقال له ابن الزبير: ما لك؟ قال: أخاف أن يقتل فرسي حمام الحرم، فقال له ابن الزبير: اتتحرج من هذا وتريد أن تقتل المسلمين! فقال له: لا أقاتلك، فأذن لنا نطف بالبيت، وننصرف عنك، ففعل فانصرفوا.
                      وأما عوانة بن الحكم فإنه قال- فيما ذكر هشام، عنه- قال: لما بلغ ابن الزبير موت يزيد- وأهل الشام لا يعلمون بذلك، قد حصروه حصارا شديدا وضيقوا عليه- أخذ يناديهم هو وأهل مكة: علام تقاتلون؟ قد هلك طاغيتكم، وأخذوا لا يصدقونه حتى قدم ثابت بن قيس بن المنقع النخعي من أهل الكوفة في رءوس أهل العراق، فمر بالحصين بن نمير- وكان له صديقا، وكان بينهما صهر، وكان يراه عند معاوية، فكان يعرف فضله وإسلامه وشرفه- فسأل عن الخبر، فأخبره بهلاك يزيد، فبعث الحصين ابن نمير إلى عبد الله بن الزبير، فقال: موعد ما بيننا وبينك الليلة الأبطح، فالتقيا، فقال له الحصين: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك، ثم اخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذين معي هم وجوه اهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل الحرة، فكان سعيد بن عمرو يقول: ما منعه أن يبايعهم ويخرج إلى الشام إلا تطير، لأن مكة التي منعه الله بها، وكان ذلك من جند مروان، وإن عبد الله والله لو سار معهم حتى يدخل الشام ما اختلف عليه منهم اثنان فزعم بعض قريش أنه قال: أنا أهدر تلك الدماء! أما والله لا أرضى أن أقتل بكل رجل منهم عشرة، وأخذ الحصين يكلمه سرا، وهو يجهر جهرا، وأخذ يقول: لا والله لا أفعل، فقال له الحصين بن نمير: قبح الله من يعدك بعد هذه داهيا قط أو أديبا! قد كنت أظن أن لك رأيا ألا أراني أكلمك سرا وتكلمني جهرا، وأدعوك إلى الخلافة، وتعدني القتل والهلكة!
                      ثم قام فخرج وصاح في الناس، فأقبل فيهم نحو المدينة، وندم ابن الزبير على الذي صنع، فأرسل إليه: أما أن أسير إلى الشام فلست فاعلا، وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هنالك فإني مؤمنكم وعادل فيكم.
                      فقال له الحصين: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هنالك أناسا كثيرا من أهل هذا البيت يطلبونها يجيبهم الناس، فما أنا صانع؟ فأقبل بأصحابه ومن معه نحو المدينة، فاستقبله علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ومعه قت وشعير، وهو على راحلة له، فسلم على الحصين، فلم يكد يلتفت إليه، ومع الحصين بن نمير فرس له عتيق، وقد فني قته وشعيره، فهو غرض، وهو يسب غلامه ويقول: من أين نجد هنا لدابتنا علفا! فقال له علي بن الحسين: هذا علف عندنا، فاعلف منه دابتك، فأقبل على علي عند ذلك بوجهه، فأمر له بما كان عنده من علف، واجترأ أهل المدينة وأهل الحجاز على أهل الشام فذلوا حتى كان لا ينفرد منهم رجل إلا أخذ بلجام دابته ثم نكس عنها، فكانوا يجتمعون في معسكرهم فلا يفترقون.
                      وقالت لهم بنو أمية: لا تبرحوا حتى تحملونا معكم إلى الشام، ففعلوا، ومضى ذلك الجيش حتى دخل الشام، وقد أوصى يزيد بن معاوية بالبيعة لابنه معاويه ابن يزيد، فلم يلبث إلا ثلاثة أشهر حتى مات.
                      [والنكارة أن ابن الزبير عالم من علماء الصحابة ولم يصح أنه قال عن يزيد بانه طاغية بل كل ما أخذه عليه أنه لا يستحق أن يكون خليفة لربما لفسقه أو لغير ذلك وامتنع عن البيعة له ، أما ان يقول له : طاغية فلا ولم يصح والله أعلم]


                      ذكر الخبر عما كان من أمر عبيد الله بن زياد
                      وأمر أهل البصرة معه بها بعد موت يزيد

                      حدثني عمر، قال زهير: قال: حدثنا وهب، قال : وحدثنا الأسود بن شيبان، عن خالد بن سمير، أن شقيق بن ثور ومالك بن مسمع وحضين ابن المنذر أتوا عبيد الله ليلا وهو في دار الإمارة، فبلغ ذلك رجلا من الحي من بني سدوس، قال: فانطلقت فلزمت دار الإمارة، فلبثوا معه حتى مضى عليه الليل، ثم خرجوا ومعهم بغل موقر مالا، قال: فأتيت حضينا فقلت: مر لي من هذا المال بشيء، فقال: عليك ببني عمك، فأتيت شقيقا فقلت: مر لي من هذا المال بشيء- قال: وعلى المال مولى له يقال له: أيوب- فقال: يا أيوب، أعطه مائة درهم، قلت: أما مائة درهم والله لا أقبلها، فسكت عني ساعة، وسار هنيهة، فأقبلت عليه فقلت:
                      مر لي من هذا المال بشيء، فقال: يا أيوب، أعطه مائتي درهم، قلت:
                      لا اقبل والله مائتين، ثم امر بثلاثمائة ثم أربعمائة، فلما انتهينا إلى الطفاوة قلت: مر لي بشيء، قال: أرأيت إن لم أفعل ما أنت صانع؟ قلت: أنطلق والله حتى إذا توسطت دور الحي وضعت إصبعي في أذني، ثم صرخت بأعلى صوتي: يا معشر بكر بن وائل، هذا شقيق بن ثور وحضين بن المنذر ومالك بن المسمع، قد انطلقوا إلى ابن زياد، فاختلفوا في دمائكم، قال: ما له فعل الله به وفعل! ويلك أعطه خمسمائة درهم، قال: فأخذتها ثم صبحت غاديا على مالك- قال وهب: فلم أحفظ ما أمر له به مالك- قال: ثم رايت حضينا فدخلت عليه، فقال: ما صنع ابن عمك؟ فأخبرته وقلت: أعطني من هذا المال، فقال: إنا قد أخذنا هذا المال ونجونا به، فلن نخشى من الناس شيئا، فلم يعطني شيئا.
                      قال أبو جعفر: وحدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى أن يونس بن حبيب الجرمي حدثه، قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن على ع وبني أبيه، بعث برءوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسر بقتلهم أولا، وحسنت بذلك منزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلا حتى ندم على قتل الحسين، فكان يقول: وما كان علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي في داري، وحكمته فيما يريد، وإن كان علي في ذلك وكف ووهن في سلطاني، حفظا لرسول الله ص ورعاية لحقه وقرابته! لعن الله ابن مرجانة، فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأله أن يخلي سبيله ويرجع فلم يفعل، أو يضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله عز وجل فلم يفعل، فأبى ذلك ورده عليه وقتله، فبغضنى بقتله الى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر، بما استعظم الناس من قتلي حسينا، ما لي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه!
                      ثم إن عبيد الله بعث مولى يقال له أيوب بن حمران إلى الشام ليأتيه بخبر يزيد، فركب عبيد الله ذات يوم حتى إذا كان في رحبة القصابين، إذا هو بأيوب بن حمران قد قدم، فلحقه فأسر إليه موت يزيد بن معاوية، فرجع عبيد الله من مسيره ذلك فأتى منزله، وأمر عبد الله بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: الصلاة جامعة.
                      قال أبو عبيدة: وأما عمير بن معن الكاتب، فحدثني قال: الذي بعثه عبيد الله، حمران مولاه، فعاد عبيد الله عبد الله بن نافع أخي زياد لأمه، ثم خرج عبيد الله ماشيا من خوخة كانت في دار نافع إلى المسجد، فلما كان في صحنه إذا هو بمولاه حمران أدنى ظلمة عند المساء- وكان حمران رسول عبيد الله بن زياد إلى معاوية حياته وإلى يزيد- فلما رآه ولم يكن آن له أن يقدم- قال: مهيم! قال: خير، قال: وما وراءك؟ قال: أدنو منك؟ قال: نعم- وأسر إليه موت يزيد واختلاف أمر الناس بالشام، وكان يزيد مات يوم الخميس للنصف من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين- فأقبل عبيد الله من فوره، فأمر مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر فنعى يزيد، وعرض بثلبه لقصد يزيد إياه قبل موته حتى يخافه عبيد الله، فقال الأحنف لعبيد الله: إنه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة، وكان يقال: أعرض عن ذي فنن، فأعرض عنه، ثم قام عبيد الله يذكر اختلاف أهل الشام، وقال: إني قد وليتكم ثم ذكر نحو حديث عمر بن شبة، عن زهير بن حرب إلى: فبايعوه عن رضا منهم ومشورة.
                      ثم قال: فلما خرجوا من عنده جعلوا يمسحون أكفهم بباب الدار وحيطانه، ويقولون: ظن ابن مرجانة أنا نوليه أمرنا في الفرقة! قال: فأقام عبيد الله أميرا غير كثير حتى جعل سلطانه يضعف، ويأمرنا بالأمر فلا يقضى، ويرى الرأي فيرد عليه، ويأمر بحبس المخطئ فيحال بين أعوانه وبينه.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني غير واحد، عن سبرة بن الجارود الهذلي، عن أبيه الجارود، قال: وقال عبيد الله في خطبته: يا أهل البصرة، والله لقد لبسنا الخز واليمنة واللين من الثياب حتى لقد أجمنا ذلك وأجمته جلودنا، فما بنا إلى أن نعقبها الحديد! يا أهل البصرة، والله لو اجتمعتم على ذنب عير لتكسروه ما كسرتموه قال الجارود: فو الله ما رمي بجماح حتى هرب، فتوارى عند مسعود فلما قتل مسعود لحق بالشام.
                      قال يونس: وكان في بيت مال عبيد الله يوم خطب الناس قبل خروج سلمة ثمانية آلاف ألف أو أقل- وقال علي بن محمد: تسعة عشر ألف
                      الف- فقال للناس: ان هذا فيئكم، فخذوا أعطياتكم وأرزاق ذراريكم منه، وأمر الكتبة بتحصيل الناس وتخريج الأسماء، واستعجل الكتاب في ذلك حتى وكل بهم من يحبسهم بالليل في الديوان، وأسرجوا بالشمع.
                      قال: فلما صنعوا ما صنعوا وقعدوا عنه، وكان من خلاف سلمة عليه ما كان، كف عن ذلك، ونقلها حين هرب، فهي إلى اليوم تردد في آل زياد، فيكون فيهم العرس أو المأتم فلا يرى في قريش مثلهم، ولا في قريش أحسن منهم في الغضارة والكسوة فدعا عبيد الله رؤساء خاصة السلطان، فأرادهم أن يقاتلوا معه، فقالوا: إن أمرنا قوادنا قاتلنا معك، فقال إخوة عبيد الله لعبيد الله: والله ما من خليفة فتقاتل عنه فإن هزمت فئت إليه وإن استمددته أمدك، وقد علمت أن الحرب دول، فلا ندري لعلها تدول عليك، وقد اتخذنا بين أظهر هؤلاء القوم أموالا، فإن ظفروا أهلكونا وأهلكوها، فلم تبق لك باقية وقال له أخوه عبد الله لأبيه وأمه مرجانة: والله لئن قاتلت القوم لأعتمدن على ظبة السيف حتى يخرج من صلبي فلما رأى ذلك عبيد الله أرسل إلى حارث بن قيس بن صهبان بن عون بن علاج بن مازن بن أسود بن جهضم بن جذيمة بن مالك بن فهم، فقال له: يا حار، إن أبي كان أوصاني إن احتجت إلى الهرب يوما أن اختاركم، وإن نفسي تأبى غيركم، فقال الحارث: قد أبلوك في أبيك ما قد علمت، وابلوه فلم يجدوا عنده ولا عندك مكافأة، وما لك مرد إذا اخترتنا، وما أدري كيف أتاني لك إن أخرجتك نهارا! إني أخاف ألا أصل بك إلى قومي حتى تقتل وأقتل، ولكني أقيم معك حتى إذا وارى دمس دمسا وهدأت القدم، ردفت خلفي لئلا تعرف، ثم أخذتك على أخوالي بني ناجية، قال عبيد الله: نعم ما رأيت، فأقام حتى إذا قيل: أخوك أم الذئب، حمله خلفه، وقد نقل تلك الأموال فأحرزها، ثم انطلق به يمر به على الناس، وكانوا يتحارسون مخافة الحرورية فيسأل عبيد الله أين نحن؟ فيخبره، فلما كانوا في بني سليم قال عبيد الله: أين نحن؟ قال: في بني سليم، قال: سلمنا إن شاء الله، فلما أتى بني ناجيه قال: اين نحن؟ قال: في بني ناجية، قال: نجونا إن شاء الله، فقال بنو ناجية: من أنت؟ قال: الحارث بن قيس، قالوا: ابن أختكم، وعرف رجل منهم عبيد الله فقال: ابن مرجانة! فأرسل سهما فوقع في عمامته، ومضى به الحارث حتى ينزله دار نفسه في الجهاضم، ثم مضى إلى مسعود بن عمرو بن عدي بن محارب بن صنيم بن مليح بن شرطان بن معن بن مالك بن فهم، فقالت الأزد ومحمد بن أبي عيينة، فلما رآه مسعود قال: يا حار، قد كان يتعوذ من سوء طوارق الليل، فنعوذ بالله من شر ما طرقتنا به، قال الحارث: لم أطرقك إلا بخير، وقد علمت أن قومك قد أنجوا زيادا فوفوا له، فصارت لهم مكرمة في العرب يفتخرون بها عليهم، وقد بايعتم عبيد الله بيعة الرضا، رضا عن مشورة، وبيعة أخرى قد كانت في أعناقكم قبل البيعة- يعني بيعة الجماعة- فقال له مسعود: يا حار، أترى لنا أن نعادي أهل مصرنا في عبيد الله، وقد أبلينا في أبيه ما أبلينا، ثم لم نكافأ عليه، ولم نشكر! ما كنت أحسب أن هذا من رأيك، قال الحارث: إنه لا يعاديك أحد على الوفاء ببيعتك حتى تبلغه مأمنه.

                      هروب عبيد الله بن زياد من البصرة متوجها إلى اشلام بعد اضطراب
                      الأمور في العراق سنة 64ه بعد وفاة يزيد

                      قال وهب: فحدثنا أبو بكر بن الفضل، عن قبيصة بن مروان انهم جعلوا يقولون: أين ترونه توجه؟ فقالت عجوز من بني عقيل: أين ترونه توجه! اندحس والله في أجمة أبيه.
                      وكانت وفاة يزيد حين جاءت ابن زياد وفي بيوت مال البصرة ستة عشر ألف ألف، ففرق ابن زياد طائفة منها في بني أبيه، وحمل الباقي معه، وقد كان دعا البخارية إلى القتال معه، ودعا بني زياد إلى ذلك فأبوا عليه.
                      حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا الأسود بن شيبان، عن عبد الله بن جرير المازني، قال: بعث إلي شقيق بن ثور فقال لي: إنه قد بلغني أن ابن منجوف هذا وابن مسمع يدلجان بالليل إلى دار مسعود ليردا ابن زياد إلى الدار ليصلوا بين هذين الغارين، فيهريقوا دماءكم، ويعزوا أنفسهم، ولقد هممت أن أبعث إلى ابن منجوف فأشده وثاقا، وأخرجه عنى، فاذهب الى مسعود فاقرا ع مني، وقل له: إن ابن منجوف وابن مسمع يفعلان كذا وكذا، فأخرج هذين الرجلين عنك قال: وكان معه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد قال: فدخلت على مسعود وابنا زياد عنده: أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، فقلت: السلام عليك أبا قيس، قال: وعليك السلام، قلت: بعثني إليك شقيق بن ثور يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنه بلغني، فرد الكلام بعينه إلي فأخرجهما عنك، قال مسعود: والله فعلت ذاك، فقال عبيد الله: كيف أبا ثور- ونسي كنيته، إنما كان يكنى أبا الفضل- فقال أخوه عبد الله: إنا والله لا نخرج عنكم، قد أجرتمونا، وعقدتم لنا ذمتكم، فلا نخرج حتى نقتل بين أظهركم، فيكون عارا عليكم إلى يوم القيامة.
                      قال أصحابنا: دعت مضر إلى العباس بن الأسود بن عوف الزهري، ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، ودعت اليمن إلى عبد الله بن الحارث بن نوفل، فتراضى الناس إن حكموا قيس بن الهيثم والنعمان بن صهبان الراسبي لينظرا في أمر الرجلين، فاتفق رأيهما على أن يوليا المضري الهاشمي إلى أن يجتمع أمر الناس على إمام، فقيل في ذلك:
                      نزعنا وولينا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
                      فلما أمروا ببة على البصرة ولى شرطته هميان بن عدي السدوسي.
                      قال أبو جعفر: وأما أبو عبيدة فإنه- فيما حدثني محمد بن علي، عن أبي سعدان، عنه- قص من خبر مسعود وعبيد الله بن زياد وأخيه غير القصة التي قصها وهب بن جرير، عمن روى عنهم خبرهم، قال: حدثنى مسلمه ابن محارب بن سلم بن زياد وغيره من آل زياد، عمن أدرك ذلك منهم ومن مواليهم والقوم أعلم بحديثهم، أن الحارث بن قيس لم يكلم مسعودا، ولكنه آمن عبيد الله، فحمل معه مائة ألف درهم، ثم أتى بها إلى أم بسطام امرأة مسعود، وهي بنت عمه، ومعه عبيد الله وعبد الله ابنا زياد، فاستأذن عليها، فأذنت له، فقال لها الحارث: قد أتيتك بأمر تسودين به نساءك وتتمين به شرف قومك، وتعجلين غنى ودنيا لك خاصة، هذه مائة ألف درهم فاقبضيها، فهي لك، وضمي عبيد الله قالت، إني أخاف ألا يرضى مسعود بذلك ولا يقبله، فقال الحارث: ألبسيه ثوبا من أثوابي، وأدخليه بيتك، وخلي بيننا وبين مسعود، فقبضت المال، وفعلت، فلما جاء مسعود أخبرته، فأخذ برأسها، فخرج عبيد الله والحارث من حجلتها عليه، فقال عبيد الله: قد أجارتني ابنة عمك عليك، وهذا ثوبك علي، وطعامك في بطني، وقد التف علي بيتك، وشهد له على ذلك الحارث، وتلطفا له حتى رضي.
                      قال أبو عبيدة: وأعطى عبيد الله الحارث نحوا من خمسين ألفا، فلم يزل عبيد الله في بيت مسعود حتى قتل مسعود.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني يزيد بن سمير الجرمي، عن سوار بن عبد الله بن سعيد الجرمي، قال: فلما هرب عبيد الله غبر أهل البصرة بغير أمير، فاختلفوا فيمن يؤمرون عليهم، ثم تراضوا برجلين يختاران لهم خيرة، فيرضون بها إذا اجتمعا عليها، فتراضوا بقيس بن الهيثم السلمي، وبنعمان بن سفيان الراسبى- راسب بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة- أن يختارا من يرضيان لهم، فذكرا عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- وأمه هند بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية- وكان يلقب ببه، وهو جد سليمان ابن عبد الله بن الحارث، وذكرا عبد الله بن الأسود الزهري فلما أطبقا عليهما اتعدا المربد، وواعدا الناس أن تجتمع آراؤهم على أحد هذين.
                      قال: فحضر الناس، وحضرت معهم قارعه المربد، اى اعلاه، فجاء قيس ابن الهيثم، ثم جاء النعمان بعد، فتجاول قيس والنعمان، فأرى النعمان قيسا أن هواه في ابن الأسود، ثم قال: إنا لا نستطيع أن نتكلم معا، وأراده أن يجعل الكلام إليه، ففعل قيس وقد اعتقد أحدهما على الآخر، فأخذ النعمان على الناس عهدا ليرضون بما يختار قال: ثم أتى النعمان عبد الله ابن الأسود فأخذ بيده، وجعل يشترط عليه شرائط حتى ظن الناس أنه مبايعه، ثم تركه، وأخذ بيد عبد الله بن الحارث، فاشترط عليه مثل ذلك، ثم حمد الله تعالى واثنى عليه، وذكر النبي ص وحق أهل بيته وقرابته، ثم قال: يا أيها الناس، ما تنقمون من رجل من بنى عم نبيكم ص، وأمه هند بنت أبي سفيان! فإن كان فيهم فهو ابن أختكم، ثم صفق على يده وقال: ألا إني قد رضيت لكم به، فنادوا: قد رضينا، فأقبلوا بعبد الله بن الحارث إلى دار الإمارة حتى نزلها، وذلك في أول جمادى الآخرة سنة أربع وستين، واستعمل على شرطته هيمان بن عدي السدوسي، ونادى في الناس: أن احضروا البيعة، فحضروا فبايعوه، فقال الفرزدق حين بايعه:
                      وبايعت أقواما وفيت بعهدهم ... وببة قد بايعته غير نادم
                      قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، عن عمرو بن عيسى، قال: كان منزل مالك بن مسمع الجحدري في الباطنة عند باب عبد الله الإصبهاني في خط بنى جحدر، الذي عند مسجد الجامع، فكان مالك يحضر المسجد، فبينا هو قاعد فيه- وذلك بعد يسير من أمر ببة- وافى الحلقة
                      رجل من ولد عبد الله عامر بن كريز القرشي يريد ببة، ومعه رسالة من عبد الله ابن خازم، وبيعته بهراة، فتنازعوا، فأغلظ القرشي لمالك، فلطم رجل من بكر بن وائل القرشي، فتهايج من ثم من مضر وربيعة، وكثرتهم ربيعة الذين في الحلقة، فنادى رجل: يال تميم! فسمعت الدعوة عصبه من ضبة ابن أد- كانوا عند القاضي- فأخذوا رماح حرس من المسجد وترستهم، ثم شدوا على الربعيين فهزموهم، وبلغ ذلك شقيق بن ثور السدوسي- وهو يومئذ رئيس بكر بن وائل- فأقبل إلى المسجد فقال: لا تجدن مضريا إلا قتلتموه، فبلغ ذلك مالك بن مسمع، فأقبل متفضلا يسكن الناس، فكف بعضهم عن بعض، فمكث الناس شهرا أو أقل، وكان رجل من بني يشكر يجالس رجلا من بني ضبة في المسجد، فتذاكرا لطمة البكري القرشي، ففخر اليشكري قال: ثم قال: ذهبت ظلفا فأحفظ الضبي بذلك، فوجأ عنقه، فوقذه الناس في الجمعة، فحمل إلى أهله ميتا- أعني اليشكري- فثارت بكر إلى رأسهم أشيم بن شقيق، فقالوا: سر بنا، فقال: بل أبعث إليهم رسولا، فإن سيبوا لنا حقنا وإلا سرنا إليهم، فأبت ذلك بكر، فأتوا مالك بن مسمع- وقد كان قبل ذلك مملكا عليهم قبل اشيم، فغلب اشيم على الرياسة حين شخص أشيم إلى يزيد بن معاوية، فكتب له إلى عبيد الله بن زياد أن ردوا الرياسة إلى أشيم، فأبت اللهازم، وهم بنو قيس بن ثعلبة وحلفاؤهم عنزة وشيع اللات وحلفاؤها عجل حتى توافوهم وآل ذهل بن شيبان وحلفاؤها يشكر، وذهل بن ثعلبة وحلفاؤها ضبيعة بن ربيعة بن نزار، أربع قبائل وأربع قبائل، وكان هذا الحلف في أهل الوبر في الجاهلية، فكانت حنيفة بقيت من قبائل بكر لم تكن دخلت في الجاهلية في هذا الحلف، لأنهم أهل مدر، فدخلوا في الإسلام مع أخيهم عجل، فصاروا لهزمة، ثم تراضوا بحكم عمران بن عصام العنزي أحد بني هميم، وردها إلى أشيم، فلما كانت هذه الفتنة استخفت بكر مالك بن مسمع، فخف وجمع وأعد، فطلب إلى الأزد أن يجددوا الحلف الذي كان بينهم قبل ذلك في الجماعة على يزيد بن معاوية، فقال حارثة بن بدر في ذلك:
                      نزعنا وأمرنا وبكر بن وائل ... تجر خصاها تبتغي من تحالف
                      وما بات بكري من الدهر ليلة ... فيصبح إلا وهو للذل عارف
                      قال: فبلغ عبيد الله الخبر- وهو في رحل مسعود- من تباعد ما بين بكر وتميم، فقال لمسعود: الق مالكا فجدد الحلف الأول، فلقيه، فترادا ذلك، وتأبى عليهما نفر من هؤلاء وأولئك، فبعث عبيد الله أخاه عبد الله مع مسعود، فأعطاه جزيلا من المال، حتى أنفق في ذلك أكثر من مائتي ألف درهم على أن يبايعوهما، وقال عبيد الله لأخيه: استوثق من القوم لأهل اليمن، فجددوا الحلف وكتبوا بينهم كتابا سوى الكتابين اللذين كانا كتبا بينهما في الجماعة، فوضعوا كتابا عند مسعود بن عمر.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني بعض ولد مسعود، أن أول تسمية من فيه، الصلت بن حريث بن جابر الحنفي، ووضعوا كتابا عند الصلت بن حريث أول تسميته ابن رجاء العوذي، من عوذ بن سود، وقد كان بينهم قبل هذا حلف.
                      قال أبو عبيدة: وزعم محمد بن حفص ويونس بن حبيب وهبيرة بن حدير وزهير بن هنيد، أن مضر كانت تكثر ربيعة بالبصرة، وكانت جماعة الأزد آخر من نزل بالبصرة، كانوا حيث مصرت البصرة، فحول عمر بن الخطاب رحمه الله من تنوخ من المسلمين إلى البصرة، وأقامت جماعة الأزد لم يتحولوا، ثم لحقوا بالبصرة بعد ذلك في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد بن معاوية، فلما قدموا قالت بنو تميم للأحنف: بادر إلى هؤلاء قبل أن تسبقنا إليهم ربيعة، وقال الأحنف: إن أتوكم فاقبلوهم، وإلا لا تأتوهم فإنكم إن أتيتموهم صرتم لهم أتباعا فأتاهم مالك بن مسمع ورئيس الأزد يومئذ مسعود بن عمرو المعني، فقال مالك: جددوا حلفنا وحلف كندة في الجاهلية، وحلف بني ذهل بن ثعلبة في طيئ بن أدد من ثعل، فقال الأحنف: اما إذ أتوهم فلن يزالوا لهم أتباعا أذنابا.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني هبيرة بن حدير، عن إسحاق بن سويد، قال:
                      فلما أن جرت بكر إلى نصر الأزد على مضر، وجددوا الحلف الأول، وأرادوا أن يسيروا، قالت الأزد: لا نسير معكم إلا أن يكون الرئيس منا، فرأسوا مسعودا عليهم.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني مسلمة بن محارب، قال: قال مسعود لعبيد الله:
                      سر معنا حتى نعيدك في الدار، فقال: ما أقدر على ذلك، امض أنت، وأمر برواحله فشدوا عليها أدواتها وسوادها، وتزمل في أهبة السفر، وألقوا له كرسيا على باب مسعود، فقعد عليه، وسار مسعود، وبعث عبيد الله غلمانا له على الخيل مع مسعود، وقال لهم: إني لا أدري ما يحدث فأقول: إذا كان كذا، فليأتني بعضكم بالخبر، ولكن لا يحدثن خير ولا شر إلا أتاني بعضكم به، فجعل مسعود لا يأتي على سكة، ولا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أولئك الغلمان بخبر ذلك، وقدم مسعود ربيعة، وعليهم مالك بن مسمع، فأخذوا جميعا سكة المربد، فجاء مسعود حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة، فقيل له: إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا، وسيهيج بين الناس شر، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بنى تميم عليهم! فقال: أبعدهم الله! لا والله لا أفسدت نفسي في إصلاحهم، وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول:
                      لأنكحن ببه ... جارية في قبه
                      تمشط رأس لعبه.
                      فهذا قول الأزد وربيعة، فأما مضر فيقولون: إن أمه هند بنت أبي سفيان كانت ترقصه وتقول هذا، فلما لم يحل أحد بين مسعود وبين صعود المنبر، خرج مالك بن مسمع في كتيبته حتى علا الجبان من سكة المربد، ثم جعل يمر بعداد دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية من قبل الجبان، فجعل يحرق دورهم للشحناء التي في صدورهم، لقتل الضبي اليشكري، ولاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة، قال: فبينا هو في ذلك إذ أتوه فقالوا: قتلوا مسعودا، وقالوا: سارت بنو تميم إلى مسعود، فاقبل حتى إذا كان عند مسجد بني قيس في سكة المربد، وبلغه قتل مسعود، وقف.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني زهير بن هنيد، قال: حدثنا الضحاك- أو الوضاح بن خيثمة أحد بني عبد الله بن دارم- قال: حدثني مالك بن دينار، قال: ذهبت في الشباب الذين ذهبوا إلى الأحنف ينظرون، قال: فأتيته وأتته بنو تميم، فقالوا: إن مسعودا قد دخل الدار وأنت سيدنا، فقال: لست بسيدكم، إنما سيدكم الشيطان.
                      وأما هبيرة بن حدير، فحدثني عن إسحاق بن سويد العدوى، قال: اتيت منزل الأحنف في النظارة، فأتوا الأحنف فقالوا: يا أبا بحر، وان ربيعة والأزد قد دخلوا الرحبة، فقال: لستم بأحق بالمسجد منهم، ثم أتوه فقالوا: قد دخلوا الدار، فقال: لستم بأحق بالدار منهم، فتسرع سلمة بن ذؤيب الرياحي، فقال: إلي يا معشر الفتيان، فإنما هذا جبس لا خير لكم عنده، فبدرت ذؤبان بني تميم فانتدب معه خمسمائة، وهم مع ماه أفريذون، فقال لهم سلمة: أين تريدون؟ قالوا: إياكم أردنا، قال: فتقدموا.
                      فحدثني زهير، قال: حدثنا أبو ريحانة العريني، قال: كنت يوم قتل مسعود تحت بطن فرس الزرد بن عبد الله السعدي أعدو حتى بلغنا شريعة القديم.
                      قال إسحاق بن سويد: فأقبلوا، فلما بلغوا أفواه السكك وقفوا، فقال لهم ماه أفريذون بالفارسية: ما لكم يا معشر الفتيان؟ قالوا: تلقونا بأسنة الرماح، فقال لهم بالفارسية: صكوهم بالفنجقان- أي بخمس نشابات في رميه، بالفارسيه- والأساورة أربعمائة، فصكوهم بألفي نشابة في دفعة، فأجلوا عن أبواب السكك، وقاموا على باب المسجد، ودلفت التميمية إليهم، فلما بلغوا الأبواب وقفوا، فسألهم ماه أفريذون: ما لكم؟ قالوا: أسندوا إلينا أطراف رماحهم، قال: ارموهم أيضا، فرموهم بألفي نشابة، فأجلوهم عن الأبواب، فدخلوا المسجد، فأقبلوا ومسعود يخطب على المنبر ويحضض، فجعل غطفان بن أنيف بن يزيد بن فهدة، أحد بني كعب بن عمرو بن تميم، وكان يزيد بن فهدة فارسا في الجاهلية يقاتل ويحض قومه ويرتحز:
                      يال تميم إنها مذكوره ... إن فات مسعود بها مشهوره
                      فاستمسكوا بجانب المقصوره.
                      أي لا يهرب فيفوت.
                      قال إسحاق بن يزيد: فأتوا مسعودا وهو على المنبر يحض، فاستنزلوه فقتلوه، وذلك في أول شوال سنة أربع وستين، فلم يكن القوم شيئا، فانهزموا.
                      وبادر أشيم بن شقيق القوم بباب المقصورة هاربا، فطعنه أحدهم، فنجا بها، ففي ذلك يقول الفرزدق:
                      لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا ... وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
                      إذا لصاحب مسعودا وصاحبه ... وقد تهافتت الأعفاج والكبد
                      قال أبو عبيدة: فحدثني سلام بن أبي خيرة، وسمعته أيضا من أبي الخنساء كسيب العنبري يحدث في حلقه يونس، قالا: سمعنا الحسن ابن أبي الحسن يقول في مجلسه في مسجد الأمير: فاقبل مسعود من هاهنا- وأشار بيده إلى منازل الأزد في أمثال الطير- معلما بقباء ديباج أصفر مغير بسواد، يأمر الناس بالسنة، وينهى عن الفتنة: ألا إن من السنة أن تأخذ فوق يديك، وهم يقولون: القمر القمر، فو الله ما لبثوا إلا ساعة حتى صار قمرهم قميرا، فأتوه فاستنزلوه عن المنبر وهو عليه- قد علم الله- فقتلوه.
                      قال سلام في حديثه: قال الحسن: وجاء الناس من هاهنا- وأشار بيده إلى دور بني تميم.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني مسلمة بن محارب، قال: فأتوا عبيد الله فقالوا: قد صعد مسعود المنبر، ولم يرم دون الدار بكثاب، فبيناه في ذلك يتهيأ ليجيء إلى الدار، إذ جاءوا فقالوا: قد قتل مسعود، فاغترز في ركابه فلحق بالشام، وذلك في شوال سنة أربع وستين.
                      قال أبو عبيدة: فحدثني رواد الكعبي، قال: فأتى مالك بن مسمع أناس من مضر، فحصروه في داره، وحرقوا، ففي ذلك يقول غطفان بن أنيف الكعبي في أرجوزة:
                      وأصبح ابن مسمع محصورا ... يبغي قصورا دونه ودورا
                      حتى شببنا حوله السعيرا.
                      ولما هرب عبيد الله بن زياد اتبعوه، فأعجز الطلبه، فانتهبوا ما وجدوا له، ففي ذلك يقول وافد بن خليفة بن أسماء، أحد بني صخر بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد:
                      يا رب جبار شديد كلبه ... قد صار فينا تاجه وسلبه
                      منهم عبيد الله حين نسلبه ... جياده وبزه وننهبه
                      يوم التقى مقنبنا ومقنبه ... لو لم ينج ابن زياد هربه
                      وقال جرهم بن عبد الله بن قيس، أحد بني العدوية في قتل مسعود في كلمة طويلة:
                      ومسعود بن عمرو إذ أتانا ... صبحنا حد مطرور سنينا
                      رجا التأمير مسعود فأضحى ... صريعا قد أزرناه المنونا
                      قال أبو جعفر محمد بن جرير: وأما عمر، فإنه حدثني في أمر خروج عبيد الله إلى الشام، قال: حدثني زهير، قال: حدثنا وهب بن جرير بن حازم، قال: حدثنا الزبير بن الخريت، قال: بعث مسعود مع ابن زياد
                      مائة من الأزد، عليهم قرة بن عمرو بن قيس، حتى قدموا به الشام.
                      وحدثني عمر، قال: حدثنا أبو عاصم النبيل، عن عمرو بن الزبير وخلاد بن يزيد الباهلي والوليد بن هشام، عن عمه، عن أبيه، عن عمرو بن هبيرة، عن يساف بن شريح اليشكري، قال، وحدثنيه علي بن محمد، قال- قد اختلفوا فزاد بعضهم على بعض- إن ابن زياد خرج من البصرة، فقال ذات ليلة: إنه قد ثقل علي ركوب الإبل، فوطئوا لي على ذي حافر، قال: فألقيت له قطيفة على حمار، فركبه وإن رجليه لتكادان تخدان في الأرض قال اليشكري: فإنه ليسير أمامي إذ سكت سكتة فأطالها، فقلت في نفسي: هذا عبيد الله أمير العراق أمس نائم الساعة على حمار، لو قد سقط منه أعنته، ثم قلت: والله لئن كان نائما لأنغصن عليه نومه، فدنوت منه، فقلت: أنائم أنت؟ قال: لا، قلت: فما أسكتك؟ قال: كنت أحدث نفسي، قلت: أفلا أحدثك ما كنت تحدث به نفسك؟ قال: هات، فو الله ما أراك تكيس ولا تصيب، قال: قلت: كنت تقول: ليتني لم أقتل الحسين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، قال: وماذا؟ قلت: كنت تقول: ليتني لم أكن بنيت البيضاء، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني لم أكن استعملت الدهاقين، قال: وماذا؟ قلت: تقول: ليتني كنت أسخى مما كنت، قال: فقال: والله ما نطقت بصواب، ولا سكت عن خطإ، أما الحسين فإنه سار إلي يريد قتلي، فاخترت قتله على أن يقتلني، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي، وأرسل يزيد بألف ألف فأنفقتها عليها، فإن بقيت فلأهلي، وإن هلكت لم آس عليها مما لم أعنف فيه، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية حتى ذكرا قشور الأرز، فبلغا بخراج العراق مائه الف الف، فخيرني معاويه بين الضمان والعزل، فكرهت العزل، فكنت إذا استعملت الرجل من العرب فكسر الخراج، فتقدمت إليه أو أغرمت صدور قومه، أو أغرمت عشيرته أضررت بهم، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية، وأوفى بالأمانة، وأهون في المطالبه منكم، مع انى قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدا وأما قولك في السخاء، فو الله ما كان لي مال فأجود به عليكم، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض، فيقولون: ما أسخاه! ولكني عممتكم، وكان عندي أنفع لكم وأما قولك: ليتني لم أكن قتلت من قتلت، فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هو أقرب إلى الله عندي من قتلي من قتلت من الخوارج، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي، قلت: ليتني كنت قاتلت أهل البصرة، فإنهم بايعوني طائعين غير مكرهين، وايم الله لقد حرصت على ذلك، ولكن بني زياد أتوني فقالوا: إنك إذا قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدا، وان تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره، فرفقت لهم فلم أقاتل وكنت أقول: ليتني كنت أخرجت اهل السجن فضربت أعناقهم، فاما إذ فاتت هاتان فليتني كنت أقدم الشام ولم يبرموا أمرا.
                      قال بعضهم: فقدم الشام ولم يبرموا أمرا، فكأنما كانوا معه صبيانا، وقال بعضهم: قدم الشام وقد أبرموا، فنقض ما أبرموا إلى رأيه.
                      وفي هذه السنة طرد أهل الكوفة عمرو بن حريث وعزلوه عنهم، واجتمعوا على عامر بن مسعود.

                      ذكر الخبر عن عزلهم عمرو بن حريث وتأميرهم عامرا

                      قال أبو جعفر: ذكر الهيثم بن عدي، قال: حدثنا ابن عياش، قال:
                      كان أول من جمع له المصران: الكوفة والبصرة زيادا وابنه، فقتلا من الخوارج ثلاثة عشر ألفا، وحبس عبيد الله منهم أربعة آلاف، فلما هلك يزيد قام خطيبا، فقال: إن الذي كنا نقاتل عن طاعته قد مات، فان أمرتموني جبيت فيئكم، وقاتلت عدوكم وبعث بذلك إلى أهل الكوفة مقاتل ابن مسمع وسعيد بن قرحا، أحد بني مازن، وخليفته على الكوفة عمرو بن حريث، فقاما بذلك، فقام يزيد بن الحارث بن رويم الشيباني فقال: الحمد لله الذي أراحنا من ابن سمية، لا ولا كرامة! فأمر به عمرو فلبب ومضي به إلى السجن، فحالت بكر بينهم وبينه، فانطلق يزيد إلى أهله خائفا، فأرسل إليه محمد بن الأشعث: أنك على رأيك، وتتابعت عليه الرسل بذلك، وصعد عمرو المنبر فحصبوه، فدخل داره، واجتمع الناس في المسجد فقالوا: نؤمر رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفه، فاجمعوا على عمر بن سعد، فجاءت نساء همدان يبكين حسينا، ورجالهم متقلدو السيوف، فأطافوا بالمنبر، فقال محمد بن الأشعث: جاء أمر غير ما كنا فيه، وكانت كنده تقوم بأمر عمر بن سعد لانهم أخواله، فاجتمعوا على عامر ابن مسعود، وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير، فأقره.
                      وأما عوانة بن الحكم، فإنه قال فيما ذكر هشام بن محمد عنه: لما بايع أهل البصرة عبيد الله بن زياد بعث وافدين من قبله إلى الكوفة: عمرو بن مسمع، وسعد بن القرحا التميمي، ليعلم أهل الكوفة ما صنع أهل البصرة، ويسألانهم البيعة لعبيد الله بن زياد، حتى يصطلح الناس، فجمع الناس عمرو بن حريث، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذين الرجلين قد أتياكم من قبل أميركم يدعوانكم إلى أمر يجمع الله به كلمتكم، ويصلح به ذات بينكم، فاسمعوا منهما، واقبلوا عنهما، فإنهما برشد ما أتياكم.
                      فقام عمرو بن مسمع، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر أهل البصرة واجتماع رأيهم على تأمير عبيد الله بن زياد حتى يرى الناس رأيهم فيمن يولون عليهم، وقد جئناكم لنجمع أمرنا وأمركم فيكون أميرنا وأميركم واحدا، فإنما الكوفة من البصرة والبصرة من الكوفة، وقام ابن القرحا فتكلم نحوا من كلام صاحبه.
                      قال: فقام يزيد بن الحارث بن يزيد الشيباني- وهو ابن رويم- فحصبهما أول الناس، ثم حصبهما الناس بعد، ثم قال: أنحن نبايع لابن مرجانة! لا ولا كرامة، فشرفت تلك الفعلة يزيد في المصر ورفعته، ورجع الوفد إلى البصرة فأعلم الناس الخبر فقالوا: أهل الكوفة يخلعونه، وأنتم تولونه وتبايعونه! فوثب به الناس، وقال: ما كان في ابن زياد وصمة إلا استجارته بالأزد.
                      قال: فلما نابذه الناس استجار بمسعود بن عمرو الأزدي، فأجاره ومنعه، فمكث تسعين يوما بعد موت يزيد، ثم خرج إلى الشام، وبعثت الأزد وبكر ابن وائل رجالا منهم معه حتى أوردوه الشام، فاستخلف حين توجه إلى الشام مسعود بن عمرو على البصرة، فقالت بنو تميم وقيس: لا نرضى ولا نجيز ولا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا، فقال مسعود: فقد استخلفني فلا أدع ذلك أبدا، فخرج في قومه حتى انتهى إلى القصر فدخله، واجتمعت تميم إلى الأحنف بن قيس فقالوا له: إن الأزد قد دخلوا المسجد، قال: ودخل المسجد فمه! إنما هو لكم ولهم، وأنتم تدخلونه، قالوا: فإنه قد دخل القصر، فصعد المنبر وكانت خوارج قد خرجوا، فنزلوا بنهر الأساورة حين خرج عبيد الله بن زياد إلى الشام، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم إن هذا الرجل الذي قد دخل القصر لنا ولكم عدو، فما يمنعكم من أن تبدءوا به! فجاءت عصابة منهم حتى دخلوا المسجد، ومسعود بن عمرو على المنبر يبايع من أتاه، فيرميه علج يقال له: مسلم من أهل فارس، دخل البصرة فأسلم ثم دخل في الخوارج، فأصاب قلبه فقتله وخرج، وجال الناس بعضهم في بعض فقالوا: قتل مسعود بن عمرو، قتلته الخوارج، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا، وطردوهم عن البصرة، ودفنوا مسعودا، فجاءهم الناس فقالوا لهم: تعلمون أن بني تميم يزعمون أنهم قتلوا مسعود بن عمرو، فبعثت الأزد تسأل عن ذلك، فإذا أناس منهم يقولونه، فاجتمعت الأزد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو العتكي، ثم ازدلفوا إلى بني تميم
                      وخرجت مع بني تميم قيس، وخرج مع الأزد مالك بن مسمع وبكر بن وائل فأقبلوا نحو بني تميم وأقبلت تميم إلى الأحنف يقولون: قد جاء القوم، اخرج وهو متمكث، إذ جاءته امرأة من قومه بمجمر فقالت: يا أحنف اجلس على هذا، أي إنما أنت امرأة، فقال: استك أحق بها، فما سمع منه بعد كلمه كانت رافث منها، وكان يعرف بالحلم ثم إنه دعا برايته فقال: اللهم انصرها ولا تذللها، وإن نصرتها ألا يظهر بها ولا يظهر عليها، اللهم احقن دماءنا، وأصلح ذات بيننا ثم سار وسار ابن أخيه إياس بن معاوية بين يديه، فالتقى القوم فاقتتلوا أشد القتال، فقتل من الفريقين قتلى كثيرة، فقالت لهم بنو تميم: الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم! بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام، فإن كانت لكم علينا بينة أنا قتلنا صاحبكم، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه بصاحبكم، وإن لم تكن لكم بينه فانا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا، ولا نعلم لصاحبكم قاتلا، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم فاصطلحوا، فأتاهم الأحنف بن قيس في وجوه مضر إلى زياد بن عمرو العتكي، فقال:
                      يا معشر الأزد، أنتم جيرتنا في الدار، وإخوتنا عند القتال، وقد آتيناكم في رحالكم لإطفاء حشيشتكم، وسل سخيمتكم، ولكم الحكم مرسلا، فقولوا على أحلامنا وأموالنا، فإنه لا يتعاظمنا ذهاب شيء من أموالنا كان فيه صلاح بيننا، فقالوا: أتدون صاحبنا عشر ديات؟ قال: هي لكم، فانصرف الناس واصطلحوا، فقال الهيثم بن الأسود:
                      أعلى بمسعود الناعي فقلت له ... نعم اليماني تجروا على الناعي
                      أوفى ثمانين ما يسطيعه أحد ... فتى دعاه لرأس العده الداعي
                      آوى ابن حرب وقد سدت مذاهبه ... فأوسع السرب منه أي إيساع
                      حتى توارت به أرض وعامرها ... وكان ذا ناصر فيها وأشياع
                      وقال عبيد الله بن الحر:
                      ما زلت أرجو الأزد حتى رأيتها ... تقصر عن بنيانها المتطاول
                      أيقتل مسعود ولم يثأروا به ... وصارت سيوف الأزد مثل المناجل
                      وما خير عقل أورث الأزد ذلة ... تسب به أحياؤهم في المحافل
                      على أنهم شمط كأن لحاهم ... ثعالب في أعناقها كالجلاجل
                      واجتمع أهل البصرة على أن يجعلوا عليهم منهم أميرا يصلي بهم حتى يجتمع الناس على إمام، فجعلوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر شهرا، ثم جعلوا ببة- وهو عبد الله بن الحارث بن عبد المطلب- فصلى بهم شهرين، ثم قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر من قبل ابن الزبير، فمكث شهرا، ثم قدم الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله، فوليها الحارث وهو القباع.
                      قال أبو جعفر: وأما عمر بن شبة، فإنه حدثني في أمر عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز وأمر ببة ومسعود وقتله، وأمر عمر بن عبيد الله غير ما قال هشام عن عوانة والذي حدثني عمر بن شبة في ذلك أنه قال:
                      حدثني علي بن محمد، عن أبي مقرن عبيد الله الدهني، قال: لما بايع الناس ببة ولى ببة شرطته هميان بن عدي، وقدم على ببة بعض أهل المدينة، وأمر هميان بن عدي بإنزاله قريبا منه، فأتى هميان دارا للفيل مولى زياد التي في بني سليم وهم بتفريغها لينزلها إياه، وقد كان هرب وأقفل أبوابه، فمنعت بنو سليم هميان حتى قاتلوه، واستصرخوا عبد الملك بن عبد الله بن عامر بن كريز، فأرسل بخاريته ومواليه في السلاح حتى طردوا هميان ومنعوه الدار، وغدا عبد الملك من الغد إلى دار الإمارة ليسلم على ببة، فلقيه على الباب رجل من بني قيس بن ثعلبة، فقال: أنت المعين علينا بالأمس! فرفع يده فلطمه، فضرب قوم من البخارية يد القيسي فأطارها، ويقال: بل سلم القيسي، وغضب ابن عامر فرجع، وغضبت له مضر فاجتمعت وأتت بكر بن وائل أشيم بن شقيق بن ثور فاستصرخوه، فأقبل ومعه مالك بن مسمع حتى صعد المنبر فقال: أي مضري وجدتموه فاسلبوه وزعم بنو مسمع أن مالكا جاء يومئذ متفضلا في غير سلاح ليرد أشيم عن رأيه ثم انصرفت بكر وقد تحاجزوا هم والمضرية، واغتنمت الأزد ذلك، فحالفوا بكرا، وأقبلوا مع مسعود إلى المسجد الجامع، وفزعت تميم إلى الأحنف، فعقد عمامته على قناة، ودفعها إلى سلمة بن ذؤيب الرياحي، فأقبل بين يديه الأساورة حتى دخل المسجد ومسعود يخطب، فاستنزلوه فقتلوه، وزعمت الأزد أن الأزارقة قتلوه، فكانت الفتنة، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام حتى رضيت الأزد من مسعود بعشر ديات، ولزم عبد الله بن الحارث بيته، وكان يتدين، وقال: ما كنت لأصلح الناس بفساد نفسي.
                      قال عمر: قال أبو الحسن: فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير، فكتب إلى أنس بن مالك يأمره بالصلاة بالناس، فصلى بهم أربعين يوما.
                      حدثني عمر، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: كتب ابن الزبير الى عمر ابن عبيد الله بن معمر التيمي بعهده على البصرة، ووجه به إليه، فوافقه وهو متوجه يريد العمرة، فكتب إلى عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس، فصلى بهم حتى قدم عمر.
                      حدثني عمر، قال: حدثني زهير بن حرب، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثني أبي، قال: سمعت محمد بن الزبير، قال: كان الناس اصطلحوا على عبد الله بن الحارث الهاشمي، فولى أمرهم أربعة أشهر، وخرج نافع بن الأزرق إلى الأهواز، فقال الناس لعبد الله: إن الناس قد أكل بعضهم بعضا، تؤخذ المرأة من الطريق فلا يمنعها أحد حتى تفضح، قال: فتريدون ماذا؟
                      قالوا: تضع سيفك، وتشد على الناس، قال: ما كنت لأصلحهم بفساد نفسي، يا غلام، ناولني نعلي، فانتعل ثم لحق بأهله، وأمر الناس عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، قال أبي، عن الصعب بن زيد:
                      أن الجارف وقع وعبد الله على البصرة، فماتت أمه في الجارف، فما وجدوا لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها إلى حفرتها، وهو الأمير يومئذ.
                      حدثني عمر، قال: حدثني علي بن محمد، قال: كان ببة قد تناول في عمله على البصرة أربعين ألفا من بيت المال، فاستودعها رجلا، فلما قدم عمر بن عبيد الله أميرا أخذ عبد الله بن الحارث فحبسه، وعذب مولى له في ذلك المال حتى أغرمه إياه.
                      حدثني عمر قال: حدثني علي بن محمد، عن القافلانى، عن يزيد ابن عبد الله بن الشخير، قال: قلت لعبد الله بن الحارث بن نوفل: رأيتك زمان استعملت علينا أصبت من المال، واتقيت الدم، فقال: إن تبعة المال أهون من تبعة الدم.

                      ذكر الخبر عن ولاية عامر بن مسعود على الكوفة
                      وفي هذه السنة ولى أهل الكوفة عامر بن مسعود امرهم، فذكر هشام ابن محمد الكلبي، عن عوانة بن الحكم، أنهم لما ردوا وافدي أهل البصرة اجتمع أشراف أهل الكوفة، فاصطلحوا على أن يصلي بهم عامر بن مسعود- وهو عامر بن مسعود بن خلف القرشي، وهو دحروجة الجعل الذي يقول فيه عبد الله بن همام السلولي:
                      اشدد يديك بزيد إن ظفرت به ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
                      وكان قصيرا- حتى يرى الناس رأيهم، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي على الصلاة، وإبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله على الخراج، فاجتمع
                      لابن الزبير أهل الكوفة وأهل البصرة ومن بالقبلة من العرب وأهل الشام، وأهل الجزيرة الا اهل الأردن.

                      خلافة مروان بن الحكم
                      وفي هذه السنة بويع لمروان بن الحكم بالخلافة بالشام.
                      ذكر السبب في البيعة له:
                      حدثني الحارث، قال: حدثنا ابن سعد، قال: حدثنا محمد بن عمر، قال:
                      لما بويع عبد الله بن الزبير ولى المدينة عبيدة بن الزبير، وعبد الرحمن بن جحدم الفهري مصر، وأخرج بني أمية ومروان بن الحكم إلى الشام- وعبد الملك يومئذ ابن ثمان وعشرين- فلما قدم حصين بن نمير ومن معه إلى الشام أخبر مروان بما خلف عليه ابن الزبير، وأنه دعاه إلى البيعة، فأبى فقال له ولبنى اميه: نراكم في اختلاط شديد، فأقيموا أمركم قبل أن يدخل عليكم شامكم، فتكون فتنة عمياء صماء، فكان من رأي مروان أن يرحل فينطلق إلى ابن الزبير فيبايعه، فقدم عبيد الله بن زياد واجتمعت عنده بنو أمية، وكان قد بلغ عبيد الله ما يريد مروان، فقال له: استحييت لك مما تريد! أنت كبير قريش وسيدها، تصنع ما تصنعه! فقال: ما فات شيء بعد، فقام معه بنو أمية ومواليهم، وتجمع إليه أهل اليمن، فسار وهو يقول: ما فات شيء بعد، فقدم دمشق ومن معه، والضحاك بن قيس الفهري قد بايعه أهل دمشق على أن يصلي بهم، ويقيم لهم أمرهم حتى يجتمع أمر أمة محمد.
                      وأما عوانة فإنه قال- فيما ذكر هشام عنه- إن يزيد بن معاوية لما مات وابنه معاوية من بعده، وكان معاوية بن يزيد بن معاوية- فيما بلغني- أمر بعد ولايته فنودي بالشام: الصلاة جامعة! فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني قد نظرت في أمركم فضعفت عنه، فابتغيت لكم رجلا مثل عمر بن الخطاب رحمة الله عليه حين فزع إليه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت لكم ستة في الشورى مثل ستة عمر، فلم أجدها، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم ثم دخل منزله ولم يخرج إلى الناس، وتغيب حتى مات فقال بعض الناس: دس إليه فسقي سما، وقال بعضهم: طعن.
                      رجع الحديث إلى حديث عوانة ثم قدم عبيد الله بن زياد دمشق وعليها الضحاك ابن قيس الفهري، فثار زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين يبايع لعبد الله بن الزبير، وبايع النعمان بن بشير الأنصاري بحمص لابن الزبير، وكان حسان ابن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين عاملا لمعاوية بن ابى سفيان، ثم ليزيد ابن معاوية بعده، وكان يهوى هوى بني أمية، وكان سيد أهل فلسطين، فدعا حسان بن مالك بن بحدل الكلبي روح بن زنباع الجذامي، فقال: إني مستخلفك على فلسطين، وأدخل هذا الحي من لخم وجذام، ولست بدون رجل إذ كنت عينهم قاتلت بمن معك من قومك وخرج حسان بن مالك إلى الأردن واستخلف روح بن زنباع على فلسطين، فثار ناتل بن قيس بروح بن زنباع فأخرجه، فاستولى على فلسطين، وبايع لابن الزبير، وقد كان عبد الله بن الزبير كتب إلى عامله بالمدينة أن ينفي بني أمية من المدينة، فنفوا بعيالاتهم ونسائهم إلى الشام، فقدمت بنو أمية دمشق وفيها مروان بن الحكم، فكان الناس فريقين: حسان بن مالك بالأردن يهوى هوى بني اميه، ويدعو اليهم، والضحاك ابن قيس الفهري بدمشق يهوى هوى عبد الله بن الزبير، ويدعو إليه.
                      قال: فقام حسان بن مالك بالأردن، فقال: يا أهل الأردن، ما شهادتكم على ابن الزبير وعلى قتلى أهل الحرة؟ قالوا: نشهد أن ابن الزبير منافق وأن قتلى أهل الحرة في النار، قال: فما شهادتكم على يزيد بن معاوية وقتلاكم بالحرة؟ قالوا: نشهد أن يزيد على الحق، وأن قتلانا في الجنة، قال: وأنا أشهد لئن كان دين يزيد بن معاوية وهو حي حقا يومئذ إنه اليوم وشيعته على حق، وإن كان ابن الزبير يومئذ وشيعته على باطل إنه اليوم على باطل وشيعته، قالوا له: قد صدقت، نحن نبايعك على أن نقاتل من
                      خالفك من الناس، وأطاع ابن الزبير، على أن تجنبنا هذين الغلامين، فإنا نكره ذلك- يعنون ابني يزيد بن معاوية عبد الله وخالدا- فإنهما حديثة أسنانهما، ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي وقد كان الضحاك ابن قيس بدمشق يهوى هوى ابن الزبير، وكان يمنعه من إظهار ذلك أن بني أمية كانوا بحضرته، وكان يعمل في ذلك سرا، فبلغ ذلك حسان بن مالك ابن بحدل، فكتب إلى الضحاك كتابا يعظم فيه حق بني أمية، ويذكر الطاعة والجماعة وحسن بلاء بني أمية عنده وصنيعهم إليه، ويدعوه إلى طاعتهم، ويذكر ابن الزبير ويقع فيه ويشتمه، ويذكر أنه منافق، قد خلع خليفتين، وأمره أن يقرأ كتابه على الناس ودعا رجلا من كلب يدعى ناغضة فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس، وكتب حسان بن مالك نسخة ذلك الكتاب، ودفعه إلى ناغضة، وقال: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس وإلا فقم فاقرأ هذا الكتاب على الناس، وكتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك، فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه ودفع كتاب بني أمية إليهم، فلما كان يوم الجمعة صعد الضحاك المنبر فقام إليه ناغضة، فقال: أصلح الله الأمير! ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس، فقال له الضحاك: اجلس، فجلس، ثم قام إليه الثانية فقال له: اجلس، ثم قام إليه الثالثة فقال له: اجلس، فلما رآه ناغضة لا يفعل أخرج الكتاب الذي معه فقرأه على الناس، فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان فصدق حسانا وكذب ابن الزبير وشتمه، وقام يزيد بن أبي النمس الغساني، فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير، وقام سفيان بن الأبرد الكلبي فصدق مقالة حسان وكتابه، وشتم ابن الزبير.
                      وقام عمرو بن يزيد الحكمي فشتم حسان وأثنى على ابن الزبير، واضطرب الناس تبعا لهم، ثم أمر الضحاك بالوليد بن عتبة ويزيد بن ابى النمس وسفيان بن الأبرد الذين كانوا صدقوا مقالة حسان وشتموا ابن الزبير فحبسوا، وجال الناس بعضهم في بعض، ووثبت كلب على عمرو بن يزيد الحكمي فضربوه وحرقوه بالنار، وخرقوا ثيابه.
                      وقام خالد بن يزيد بن معاوية فصعد مرقاتين من المنبر وهو يومئذ غلام، والضحاك بن قيس على المنبر، فتكلم خالد بن يزيد بكلام أوجز فيه لم يسمع مثله، وسكن الناس ونزل الضحاك فصلى بالناس الجمعة، ثم دخل فجاءت كلب فأخرجوا سفيان بن الأبرد، وجاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس، فقال الوليد بن عتبة: لو كنت من كلب أو غسان أخرجت.
                      قال: فجاء ابنا يزيد بن معاوية: خالد وعبد الله، معهما أخوالهما من كلب فأخرجوه من السجن، فكان ذلك اليوم يسميه أهل الشام يوم جيرون الأول.
                      وأقام الناس بدمشق، وخرج الضحاك إلى مسجد دمشق، فجلس فيه فذكر يزيد بن معاوية، فوقع فيه، فقام إليه شاب من كلب بعصا معه فضربه بها، والناس جلوس في الحلق متقلدي السيوف، فقام بعضهم إلى بعض في المسجد، فاقتتلوا، قيس تدعو إلى ابن الزبير ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إلى بني أمية ثم إلى خالد بن يزيد، ويتعصبون ليزيد، ودخل الضحاك دار الإمارة، وأصبح الناس فلم يخرج إلى صلاة الفجر، وكان من الأجناد ناس يهوون هوى بني أمية، وناس يهوون هوى ابن الزبير، فبعث الضحاك إلى بني أمية فدخلوا عليه من الغد، فاعتذر إليهم، وذكر حسن بلائهم عند مواليه وعنده، وأنه ليس يريد شيئا يكرهونه.
                      قال: فتكتبون إلى حسان ونكتب، فيسير من الأردن حتى ينزل الجابية، ونسير نحن وأنتم حتى نوافيه بها، فنبايع لرجل منكم، فرضيت بذلك بنو أمية، وكتبوا إلى حسان، وكتب إليه الضحاك، وخرج الناس وخرجت بنو أمية واستقبلت الرايات، وتوجهوا يريدون الجابية، فجاء ثور بن معن بن يزيد ابن الأخنس السلمي إلى الضحاك، فقال: دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك، وأنت تسير إلى هذا الأعرابي من كلب تستخلف ابن أخيه خالد ابن يزيد! فقال له الضحاك: فما الرأي؟ قال: الرأي أن نظهر ما كنا نسر وندعو إلى طاعة ابن الزبير، ونقاتل عليها، فمال الضحاك بمن معه من الناس فعطفهم، ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط.
                      واختلف في الوقعة التي كانت بمرج راهط بين الضحاك بن قيس ومروان ابن الحكم، فقال محمد بن عمر الواقدي: بويع مروان بن الحكم في المحرم سنة خمس وستين، وكان مروان بالشام لا يحدث نفسه بهذا الأمر حتى أطمعه فيه عبيد الله بن زياد حين قدم عليه من العراق، فقال له: أنت كبير قريش ورئيسها، يلي عليك الضحاك بن قيس! فذلك حين كان ما كان، فخرج إلى الضحاك في جيش، فقتلهم مروان والضحاك يومئذ في طاعة ابن الزبير، وقتلت قيس بمرج راهط مقتلة لم يقتل مثلها في موطن قط .
                      قال محمد بن عمر: حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، قال:
                      قتل الضحاك يوم مرج راهط على أنه يدعو إلى عبد الله بن الزبير، وكتب به إلى عبد الله لما ذكر عنه من طاعته وحسن رأيه.
                      وقال غير واحد: كانت الوقعة بمرج راهط بين الضحاك ومروان في سنة أربع وستين.
                      وقد حدثت عن ابن سعد، عن محمد بن عمر، قال: حدثنى موسى ابن يعقوب، عن أبي الحويرث، قال: قال أهل الأردن وغيرهم لمروان: أنت شيخ كبير، وابن يزيد غلام وابن الزبير كهل، وإنما يقرع الحديد بعضه ببعض، فلا تباره بهذا الغلام، وارم بنحرك في نحره، ونحن نبايعك، ابسط يدك، فبسطها، فبايعوه بالجابية يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين.
                      قال محمد بن عمر: وحدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله أن الضحاك لما بلغه أن مروان قد بايعه من بايعه على الخلافة، بايع من معه
                      لابن الزبير، ثم سار كل واحد منهما إلى صاحبه، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتل الضحاك وأصحابه.
                      قال محمد بن عمر: وحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما ولى المدينة عبد الرحمن بن الضحاك كان فتى شابا، فقال: ان الضحاك ابن قيس قد كان دعا قيسا وغيرها إلى البيعة لنفسه، فبايعهم يومئذ على الخلافة، فقال له زفر بن عقيل الفهري: هذا الذي كنا نعرف ونسمع، وإن بني الزبير يقولون: إنما كان بايع لعبد الله بن الزبير، وخرج في طاعته حتى قتل، الباطل والله يقولون، كان أول ذاك أن قريشا دعته إليها، فأبى عليها حتى دخل فيها كارها.

                      ذكر الخبر عن الوقعة بمرج راهط بين الضحاك بن قيس
                      ومروان بن الحكم وتمام الخبر عن الكائن من جليل
                      الأخبار والأحداث في سنة أربع وستين

                      قال أبو جعفر: حدثنا نوح بن حبيب، قال: حدثنا هشام بن محمد، عن عوانة بن الحكم الكلبي، قال: مال الضحاك بن قيس بمن معه من الناس حين سار يريد الجابية للقاء حسان بن مالك، فعطفهم، ثم أقبل يسير حتى نزل بمرج راهط، وأظهر البيعة لابن الزبير وخلع بني أمية، وبايعه على ذلك جل أهل دمشق من أهل اليمن وغيرهم.
                      قال: وسارت بنو أمية ومن تبعهم حتى وافوا حسان بالجابية، فصلى بهم حسان أربعين يوما، والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إلى النعمان بن بشير وهو على حمص، وإلى زفر بن الحارث وهو على قنسرين، وإلى ناتل ابن قيس وهو على فلسطين يستمدهم، وكانوا على طاعة ابن الزبير، فأمده النعمان بشرحبيل بن ذي الكلاع، وأمده زفر بأهل قنسرين، وأمده ناتل بأهل فلسطين، فاجتمعت الأجناد إلى الضحاك بالمرج.
                      وكان الناس بالجابية لهم أهواء مختلفة، فأما مالك بن هبيرة السكوني فكان يهوى هوى بني يزيد بن معاوية، ويحب أن تكون الخلافة فيهم، وأما الحصين بن نمير السكوني فكان يهوى أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم، فقال مالك بن هبيرة لحصين بن نمير: هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه، وهو ابن أختنا، فقد عرفت منزلتنا كانت من أبيه، فإنه يحملنا على رقاب العرب غدا- يعني خالد بن يزيد- فقال الحصين: لا، لعمر الله، لا تأتينا العرب بشيخ ونأتيهم بصبي، فقال مالك: هذا ولم تردى تهامه ولما يبلغ الحزام الطبيين، فقالوا: مهلا يا أبا سليمان! فقال له مالك: والله لئن استخلفت مروان وآل مروان ليحسدنك على سوطك وشراك نعلك وظل شجرة تستظل بها، إن مروان أبو عشيرة، وأخو عشيرة، وعم عشيرة، فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم، ولكن عليكم بابن أختكم خالد، فقال حصين: إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء، وإن من يمد عنقه إلى الخلافة تناوله فلم ينله، وتناوله مروان فناله، والله لنستخلفنه، فقال له مالك: ويحك يا حصين! أتبايع لمروان وآل مروان وأنت تعلم أنهم أهل بيت من قيس! فلما اجتمع رأيهم للبيعة لمروان بن الحكم قام روح بن زنباع الجذامي، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله ص، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير ويدعون إليه من أمره فهو والله كما يذكرون بأنه لابن الزبير حوارى رسول الله ص وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله، ولكن ابن الزبير منافق، قد خلع خليفتين: يزيد وابنه معاويه ابن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس صاحب امر أمه محمد صلى الله عليه وسلم المنافق، واما مروان بن الحكم، فو الله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير- يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية قال: فأجمع رأي الناس على البيعة لمروان، ثم لخالد بن يزيد من بعده، ثم لعمرو ابن سعيد بن العاص من بعد خالد، على ان اماره دمشق لعمرو بن سعيد ابن العاص، وإمارة حمص لخالد بن يزيد بن معاويه قال: فدعا حسان ابن مالك بن بحدل خالد بن يزيد فقال: أبني أختي، إن الناس قد أبوك لحداثة سنك، وإني والله ما أريد هذا الأمر إلا لك ولأهل بيتك، وما أبايع مروان إلا نظرا لكم، فقال له خالد بن يزيد: بل عجزت عنا، قال: لا والله ما عجزت عنك، ولكن الرأي لك ما رأيت ثم دعا حسان بمروان فقال: يا مروان، إن الناس والله ما كلهم يرضى بك، فقال له مروان: إن يرد الله أن يعطنيها لا يمنعني إياها أحد من خلقه، وإن يرد أن يمنعنيها لا يعطنيها أحد من خلقه قال: فقال له حسان: صدقت، وصعد حسان المنبر يوم الاثنين، فقال: يا أيها الناس، إنا نستخلف يوم الخميس إن شاء الله، فلما كان يوم الخميس بايع لمروان، وبايع الناس له، وسار مروان إلى الجابية في الناس حتى نزل مرج راهط على الضحاك في أهل الأردن من كلب، وأتته السكاسك والسكون وغسان، وربع حسان بن مالك بن بحدل إلى الأردن.
                      قال: وعلى ميمنته- أعني مروان- عمرو بن سعيد بن العاص، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد، وعلى ميمنة الضحاك زياد بن عمرو بن معاوية العقيلي وعلى ميسرته رجل آخر لم أحفظ اسمه، وكان يزيد بن أبي النمس الغساني لم يشهد الجابية، وكان مختبئا بدمشق، فلما نزل مروان مرج راهط ثار يزيد ابن أبي نمس بأهل دمشق في عبيدها، فغلب عليها، وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب على الخزائن وبيت المال، وبايع لمروان وأمده بالأموال والرجال والسلاح، فكان أول فتح فتح على بني أمية قال: وقاتل مروان الضحاك عشرين ليلة كان، ثم هزم أهل المرج، وقتلوا وقتل الضحاك، وقتل يومئذ من أشراف الناس من أهل الشام ممن كان مع الضحاك ثمانون رجلا كلهم كان يأخذ القطيفة، والذي كان يأخذ القطيفة يأخذ ألفين في العطاء، وقتل أهل الشام يومئذ مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها قط من القبائل كلها، وقتل مع الضحاك يومئذ رجل من كلب من بني عليم يقال له مالك بن يزيد بن مالك بن كعب، وقتل يومئذ صاحب لواء قضاعة حيث دخلت قضاعه الشام، وهو جد مدلج ابن المقدام بن زمل بن عمرو بن ربيعة بن عمرو الجرشي، وقتل ثور بن معن بن يزيد السلمي، وهو الذي كان رد الضحاك عن رأيه قال: وجاء برأس الضحاك رجل من كلب، وذكروا أن مروان حين أتي برأسه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي وصرت في مثل ظمء الحمار، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض!
                      قال: وذكروا أنه مر يومئذ برجل قتيل فقال:
                      وما ضرهم غير حين النفوس ... أي أميري قريش غلب
                      وقال مروان حين بويع له ودعا إلى نفسه:
                      لما رأيت الأمر أمرا نهبا ... سيرت غسان لهم وكلبا
                      وال***كيين رجالا غلبا ... وطيئا تأباه إلا ضربا
                      والقين تمشي في الحديد نكبا ... ومن تنوخ مشمخرا صعبا
                      لا تأخذون الملك إلا غصبا ... وإن دنت قيس فقل لا قربا
                      قال هشام بن محمد: حدثني أبو مخنف لوط بن يحيى، قال: حدثني رجل من بني عبد ود من أهل الشام، قال: حدثني من شهد مقتل الضحاك ابن قيس، قال: مر بنا رجل من كلب يقال له زحنة بن عبد الله، كأنما يرمي بالرجال الجداء، ما يطعن رجلا إلا صرعه، ولا يضرب رجلا إلا قتله، فجعلت أنظر إليه أتعجب من فعله ومن قتله الرجال، إذ حمل عليه رجل فصرعه زحنة وتركه، فأتيته فنظرت إلى المقتول فإذا هو الضحاك بن قيس، فأخذت رأسه فأتيت به إلى مروان، فقال: أنت قتلته؟ فقلت: لا، ولكن قتله زحنة بن عبد الله الكلبي، فاعجبه صدقى اياه، وتركي ادعائه، فأمر لي بمعروف، وأحسن إلى زحنة.
                      [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                      قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن حبيب بن كرة، قال: والله إن راية مروان يومئذ لمعي، وإنه ليدفع بنعل سيفه في ظهري، وقال: ادن برايتك لا أبا لك! إن هؤلاء لو قد وجدوا لهم حد السيوف انفرجوا انفراج الرأس، وانفراج الغنم عن راعيها قال: وكان مروان في ستة آلاف، وكان على خيله عبيد الله بن زياد، وكان على الرجال مالك ابن هبيرة، قال عبد الملك بن نوفل: وذكروا أن بشر بن مروان كانت معه يومئذ راية يقاتل بها وهو يقول:
                      إن على الرئيس حقا حقا ... أن يخضب الصعدة أو تندقا
                      قال: وصرع يومئذ عبد العزيز بن مروان، قال: ومر مروان يومئذ برجل من محارب وهو في نفر يسير تحت راية يقاتل عن مروان، فقال مروان: يرحمك الله! لو أنك انضممت بأصحابك، فإني أراك في قلة! فقال: إن معنا يا أمير المؤمنين من الملائكة مددا أضعاف من تأمرنا ننضم إليه، قال: فسر بذلك مروان وضحك، وضم أناسا إليه ممن كان حوله، قال: وخرج الناس منهزمين من المرج إلى أجنادهم، فانتهى أهل حمص إلى حمص والنعمان بن بشير عليها، فلما بلغ النعمان الخبر خرج هاربا ليلا ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، ومعه ثقله وولده، فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه، وكان الذي طلبه رجل من الكلاعيين يقال له عمرو بن الخلي فقتله، وأقبل برأس النعمان بن بشير وبنائلة امرأته وولدها، فألقى الرأس في حجر أم أبان ابنة النعمان التي كانت تحت الحجاج بن يوسف بعد. قال: فقالت نائلة: ألقوا الرأس إلي فأنا أحق به منها، فألقي الرأس في حجرها، ثم أقبلوا بهم وبالرأس حتى انتهوا بهم إلى حمص، فجاءت كلب من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها، قال: وخرج زفر بن الحارث من قنسرين هاربا فلحق بقرقيسيا، فلما انتهى إليها وعليها عياض الجرشي وهو ابن أسلم بن كعب بن مالك بن لغز بن أسود بن كعب بن حدس بن أسلم- وكان يزيد بن معاوية ولاه قرقيسيا، فحال عياض بين زفر وبين دخول قرقيسيا، فقال له زفر: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت حمامها أن أخرج منها، فلما انتهى إليها ودخلها لم يدخل حمامها وأقام بها، وأخرج عياضا منها، وتحصن زفر بها وثابت إليه قيس. قال: وخرج ناتل بن قيس الجذامي صاحب فلسطين هاربا، فلحق بابن الزبير بمكة، وأطبق أهل الشام على مروان، واستوثقوا له، واستعمل عليها عماله.
                      [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                      قال أبو مخنف: حدثني رجل من بني عبد ود من أهل الشام- يعني الشرقي- قال: وخرج مروان حتى أتى مصر بعد ما اجتمع له أمر الشام، فقدم مصر وعليها عبد الرحمن بن جحدم القرشي يدعو إلى ابن الزبير، فخرج إليه فيمن معه من بني فهر، وبعث مروان عمرو بن سعيد الأشدق من ورائه حتى دخل مصر، وقام على منبرها يخطب الناس، وقيل لهم: قد دخل عمرو مصر، فرجعوا، وأمر الناس مروان وبايعوه، ثم أقبل راجعا نحو دمشق، حتى إذا دنا منها بلغه أن ابن الزبير قد بعث أخاه مصعب بن الزبير نحو فلسطين، فسرح إليه مروان عمرو بن سعيد بن العاص في جيش، واستقبله قبل أن يدخل الشام، فقاتله فهزم أصحاب مصعب، وكان معه رجل من بني عذرة يقال له محمد بن حريث بن سليم، وهو خال بني الأشدق، فقال: والله ما رأيت مثل مصعب بن الزبير رجلا قط أشد قتالا فارسا وراجلا، ولقد رأيته في الطريق يترجل فيطرد بأصحابه، ويشد على رجليه، حتى رأيتهما قد دميتا قال: وانصرف مروان حتى استقرت به دمشق، ورجع إليه عمرو بن سعيد.
                      قال: ويقال: إنه لما قدم عبيد الله بن زياد من العراق، فنزل الشام أصاب بني أمية بتدمر، قد نفاهم ابن الزبير من المدينة ومكة، ومن الحجاز كله، فنزلوا بتدمر، وأصابوا الضحاك بن قيس أميرا على الشام لعبد الله بن الزبير، فقدم ابن زياد حين قدم ومروان يريد أن يركب إلى ابن الزبير فيبايعه بالخلافة، فيأخذ منه الأمان لبني أمية، فقال له ابن زياد: أنشدك الله تفعل، ليس هذا برأي أن تنطلق وأنت شيخ قريش إلى أبي خبيب بالخلافة، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم، ثم سر بهم وبمن معك من بني أمية إلى الضحاك بن قيس حتى تخرجه من الشام، فقال عمرو بن سعيد بن العاص: صدق والله عبيد الله بن زياد، ثم أنت سيد قريش وفرعها، وأنت أحق الناس بالقيام بهذا الأمر، إنما ينظر الناس إلى هذا الغلام- يعني خالد بن يزيد بن معاوية- فتزوج أمه فيكون في حجرك، قال: ففعل مروان ذلك، فتزوج أم خالد بن يزيد، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ثم جمع بني أمية فبايعوه بالإمارة عليهم، وبايعه أهل تدمر ثم سار في جمع عظيم إلى الضحاك بن قيس، وهو يومئذ بدمشق، فلما بلغ الضحاك ما صنع بنو أمية ومسيرتهم إليه، خرج بمن تبعه من أهل دمشق وغيرهم، فيهم زفر بن الحارث، فالتقوا بمرج راهط، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الضحاك بن قيس الفهري وعامة أصحابه، وانهزم بقيتهم، فتفرقوا، وأخذ زفر بن الحارث وجها من تلك الوجوه، هو وشابان من بني سليم فجاءت خيل مروان تطلبهم، فلما خاف السلميان أن تلحقهم خيل مروان قالا لزفر: يا هذا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان، فمضى زفر وتركهما حتى أتى قرقيسيا، فاجتمعت إليه قيس، فرأسوه عليهم، فذلك حيث يقول زفر بن الحارث:
                      أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
                      أتاني عن مروان بالغيب أنه ... مقيد دمي أو قاطع من لسانيا
                      ففي العيس منجاة وفي الأرض مهرب ... إذا نحن رفعنا لهن المثانيا
                      فلا تحسبوني إن تغيبت غافلا ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
                      فقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كماهيا
                      أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتترك قتلى راهط هي ماهيا!
                      لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لحسان صدعا بينا متنائيا
                      أبعد ابن عمرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أمني الأمانيا!
                      فلم تر مني نبوة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
                      عشية أعدو بالقران فلا أرى ... من الناس إلا من علي ولا ليا
                      أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا!
                      فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا
                      ألا ليت شعري هل تصيبن غارتي ... تنوخا وحيي طيئ من شفائيا
                      فأجابه جواس بن قعطل:
                      لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... على زفر داء من الداء باقيا
                      مقيما ثوى بين الضلوع محله ... وبين الحشا أعيا الطبيب المداويا
                      تبكي على قتلي سليم وعامر ... وذبيان معذورا وتبكي البواكيا
                      دعا بسلاح ثم أحجم إذ رأى ... سيوف جناب والطوال المذاكيا
                      عليها كأسد الغاب فتيان نجدة ... إذا شرعوا نحو الطعان العواليا
                      فأجابه عمر بن المخلاة الكلبي من تيم اللات بن رفيدة، فقال:
                      بكى زفر القيسي من هلك قومه ... بعبرة عين ما يجف سجومها
                      يبكي على قتلى أصيبت براهط ... تجاوبه هام القفار وبومها
                      أبحنا حمى للحي قيس براهط ... وولت شلالا واستبيح حريمها
                      يبكيهم حران تجري دموعه ... يرجي نزارا أن تئوب حلومها
                      فمت كمدا أو عش ذليلا مهضما ... بحسرة نفس لا تنام همومها
                      إذا خطرت حولي قضاعة بالقنا ... تخبط فعل المصعبات قرومها
                      خبطت بهم من كادني من قبيلة ... فمن ذا إذا عز الخطوب يرومها
                      وقال زفر بن الحارث أيضا:
                      افي الله اما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابن الزبير فيقتل!
                      كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل
                      ولما يكن للمشرفية فوقكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترجل
                      فأجابه عبد الرحمن بن الحكم، أخو مروان بن الحكم، فقال:
                      أتذهب كلب قد حمتها رماحها ... وتترك قتلى راهط ما أجنت!
                      لحا الله قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
                      فباه بقيس في الرخاء ولا تكن ... أخاها إذا ما المشرفية سلت
                      قال أبو جعفر: ولما بايع حصين بن نمير مروان بن الحكم وعصا مالك بن هبيرة فيما أشار به عليه من بيعة خالد بن يزيد بن معاوية، واستقر لمروان بن الحكم الملك، وقد كان الحصين بن نمير اشترط على مروان أن ينزل البلقاء من كان بالشام من كندة، وأن يجعلها لهم مأكلة، فأعطاه ذلك، وإن بني الحكم لما استوثق الأمر لمروان، وقد كانوا اشترطوا لخالد بن يزيد بن معاوية شروطا، قال مروان ذات يوم وهو جالس في مجلسه ومالك بن هبيرة جالس عنده: إن قوما يدعون شروطا منهم عطارة مكحلة- يعني مالك بن هبيرة وكان رجلا يتطيب ويكتحل- فقال مالك بن هبيرة: هذا ولما تردي تهامة، ولما يبلغ الحزام الطبيين، فقال مروان: مهلا يا أبا سليمان، إنما داعبناك، فقال مالك: هو ذاك وقال عويج الطائي يمتدح كلبا وحميد بن بحدل:
                      لقد علم الأقوام وقع ابن بحدل ... وأخرى عليهم إن بقي سيعيدها
                      يقودون أولاد الوجيه ولاحق ... من الريف شهرا ما يني من يقودها
                      فهذا لهذا ثم انى لنافض ... على الناس أقواما كثيرا حدودها
                      فلولا أمير المؤمنين لأصبحت ... قضاعة أربابا وقيس عبيدها
                      وفي هذه السنة بايع جند خراسان لسلم بن زياد بعد موت يزيد بن معاوية، على أن يقوم بأمرهم حتى يجتمع الناس على خليفة.

                      ذكر الخبر عن فتنة عبد الله بن خازم وبيعة سلم بن زياد
                      قال علي بن محمد: وحدثنا شيخ من أهل خراسان، قال: لم يحب أهل خراسان أميرا قط حبهم سلم بن زياد، فسمي في تلك السنين التي كان بها سلم أكثر من عشرين ألف مولود بسلم، من حبهم سلما.
                      قال: وأخبرنا أبو حفص الأزدي، عن عمه قال: لما اختلف الناس بخراسان ونكثوا بيعة سلم، خرج سلم عن خراسان وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة، فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة، فقال له: من خلفت على خراسان؟ قال: المهلب، فقال: ضاقت عليك نزار حتى وليت رجلا من أهل اليمن! فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة بن زفر- وهو صاحب قصر أوس بالبصرة- هراة، ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عبد الله بن خازم فقال: من وليت خراسان؟ فأخبره، فقال: أما وجدت في مضر رجلا تستعمله حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل ومزون عمان! وقال له: اكتب لي عهدا على خراسان، قال: أوالي خراسان أنا! قال: اكتب لي عهدا وخلاك ذم.
                      قال: فكتب له عهدا على خراسان، قال: فأعني الآن بمائة ألف درهم فأمر له بها، وأقبل إلى مرو، وبلغ الخبر المهلب بن أبي صفرة،، فأقبل واستخلف رجلا من بني جشم بن سعد بن زيد مناة بن تميم.
                      قال: وأخبرنا المفضل بن محمد الضبي، عن أبيه، قال: لما صار عبد الله بن خازم إلى مرو بعهد سلم بن زياد، منعه الجشمي، فكانت بينهما مناوشة، فأصابت الجشمي رمية بحجر في جبهته، وتحاجزوا وخلى الجشمي بين مرو الروذ وبينه، فدخلها ابن خازم، ومات الجشمي بعد ذلك بيومين.
                      قال : وكان الذي ولي قتل عمرو بن مرثد زهير بن حيان العدوى فيما يروون فقال الشاعر:
                      أتذهب أيام الحروب ولم تبئ ... زهير بن حيان بعمرو بن مرثد!
                      قال: وحدثنا أبو السري الخراساني- وكان من أهل هراة- قال: قتل عبد الله بن خازم سليمان وعمرا ابني مرثد المرثديين من بني قيس بن ثعلبة ثم رجع إلى مرو، وهرب من كان بمرو الروذ من بكر بن وائل إلى هراة، وانضم إليها من كان بكور خراسان من بكر بن وائل، فكان لهم بها جمع كثير عليهم أوس بن ثعلبة، قال: فقالوا له نبايعك على أن تسير إلى ابن خازم، وتخرج مضر من خراسان كلها، فقال لهم: هذا بغي، وأهل البغي مخذولون، أقيموا مكانكم هذا، فإن ترككم ابن خازم- وما أراه يفعل- فارضوا بهذه الناحية، وخلوه وما هو فيه، فقال بنو صهيب- وهم موالي بني جحدر: لا والله لا نرضى أن نكون نحن ومضر في بلد، وقد قتلوا ابني مرثد، فإن أجبتنا إلى هذا وإلا أمرنا علينا غيرك، قال: إنما أنا رجل منكم، فاصنعوا ما بدا لكم، فبايعوه، وسار إليهم ابن خازم، واستخلف ابنه موسى، وأقبل حتى نزل على واد بين عسكره وبين هراة، قال: فقال البكريون لأوس: اخرج فخندق خندقا دون المدينة فقاتلهم فيه، وتكون المدينة من ورائنا، فقال لهم أوس: الزموا المدينة فإنها حصينة، وخلوا ابن خازم ومنزله الذي هو فيه، فإنه إن طال مقامه ضجر فأعطاكم ما ترضون
                      به، فإن اضطررتم إلى القتال قاتلتم، فأبوا وخرجوا من المدينة فخندقوا خندقا دونها، فقاتلهم ابن خازم نحوا من سنة.
                      قال وزعم الأحنف بن الأشهب الضبي، وأخبرنا أبو الذيال زهير بن الهنيد، سار ابن خازم إلى هراة وفيها جمع كثير لبكر بن وائل قد خندقوا عليهم، وتعاقدوا على إخراج مضر إن ظفروا بخراسان، فنزل بهم ابن خازم، فقال له هلال الضبي أحد بني ذهل، ثم أحد بني أوس: إنما تقاتل إخوتك من بني أبيك، والله إن نلت منهم فما تريد ما في العيش بعدهم من خير، وقد قتلت بمرو الروذ منهم من قتلت، فلو أعطيتهم شيئا يرضون به، أو أصلحت هذا الأمر! قال: والله لو خرجت لهم عن خراسان ما رضوا به، ولو استطاعوا أن يخرجوكم من الدنيا لأخرجوكم، قال لا، والله لا أرمي معك بسهم، ولا رجل يطيعني من خندف حتى تعذر إليهم، قال: فأنت رسولي إليهم فأرضهم، فأتى هلال إلى أوس بن ثعلبة فناشده الله والقرابة، وقال: أذكرك الله في نزار أن تسفك دماءها، وتضرب بعضها ببعض! قال: لقيت بني صهيب؟ قال: لا والله، قال: فالقهم، فخرج فلقي أرقم بن مطرف الحنفي، وضمضم بن يزيد- أو عبد الله بن ضمضم بن يزيد- وعاصم بن الصلت بن الحريث الحنفيين، وجماعة من بكر بن وائل وكلمهم بمثل ما كلم به أوسا، فقالوا: هل لقيت بني صهيب؟ فقال: لقد عظم الله أمر بني صهيب عندكم، لا لم ألقهم، قالوا: القهم، فأتى بني صهيب فكلمهم، فقالوا: لولا أنك رسول لقتلناك، قال: أفما يرضيكم شيء؟ قالوا: واحدة من اثنتين، إما أن تخرجوا عن خراسان ولا يدعو فيها لمضر داع، وإما أن تقيموا وتنزلوا لنا عن كل كراع وسلاح وذهب وفضة، قال: أفما شيء غير هاتين؟ قالوا: لا، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل! فرجع إلى ابن خازم، فقال: ما عندك؟ قال: وجدت إخوتنا قطعا للرحم، قال:
                      قد أخبرتك أن ربيعة لم تزل غضابا على ربها منذ بعث الله النبي ص من مضر.
                      قال أبو جعفر: وأخبرنا سليمان بن مجالد الضبي، قال: أغارت الترك على قصر إسفاد وابن خازم بهراة، فحصروا أهله، وفيه ناس من الأزد هم أكثر من فيه، فهزمتهم، فبعثوا إلى من حولهم من الأزد فجاءوا لينصروهم فهزمتهم الترك، فأرسلوا إلى ابن خازم، فوجه إليهم زهير بن حيان في بني تميم وقال له: إياك ومشاولة الترك، إذا رأيتموهم فاحملوا عليهم، فأقبل فوافاهم في يوم بارد، قال: فلما التقوا شدوا عليهم فلم يثبتوا لهم، وانهزمت الترك واتبعوهم حتى مضى عامة الليل حتى انتهوا إلى قصر في المفازة، فأقامت الجماعة ومضى زهير في فوارس يتبعهم، وكان عالما بالطريق، ثم رجع في نصف من الليل، وقد يبست يده على رمحه من البرد، فدعا غلامه كعبا، فخرج إليه، فأدخله، وجعل يسخن له الشحم فيضعه على يده، ودهنوه وأوقدوا له نارا حتى لان ودفى، ثم رجع إلى هراة، فقال في ذلك كعب بن معدان الأشقري:
                      أتاك أتاك الغوث في برق عارض ... دروع وبيض حشوهن تميم
                      أبوا أن يضموا حشو ما تجمع القرى ... فضمهم يوم اللقاء صميم
                      ورزقهم من رائحات تزينها ... ضروع عريضات الخواصر كوم
                      وقال ثابت قطنة:
                      فدت نفسي فوارس من تميم ... على ما كان من ضنك المقام
                      بقصر الباهلي وقد أراني ... أحامي حين قل به المحامي
                      بسيفي بعد كسر الرمح فيهم ... أذودهم بذي شطب حسام
                      أكر عليهم اليحموم كرا ... ككر الشرب آنية المدام
                      فلولا الله ليس له شريك ... وضربي قونس الملك الهمام
                      إذا فاظت نساء بني دثار ... أمام الترك بادية الخدام

                      قال أبو جعفر: وحدثني أبو الحسن الخراساني، عن أبي حماد السلمي قال: أقام ابن خازم بهراة يقاتل أوس بن ثعلبة أكثر من سنة، فقال يوما لأصحابه: قد طال مقامنا على هؤلاء، فنادوهم: يا معشر ربيعة، إنكم قد اعتصمتم بخندقكم، أفرضيتم من خراسان بهذا الخندق! فأحفظهم ذلك، فتنادى الناس للقتال، فقال لهم أوس بن ثعلبة: الزموا خندقكم وقاتلوهم كما كنتم تقاتلونهم، ولا تخرجوا إليهم بجماعتكم، قال: فعصوه وخرجوا إليهم، فالتقى الناس، فقال ابن خازم لأصحابه: اجعلوه يومكم فيكون الملك لمن غلب، فإن قتلت فأميركم شماس بن دثار العطاردي، فإن قتل فأميركم بكير بن وشاح الثقفي.
                      قال علي: وحدثنا أبو الذيال زهير بن هنيد، عن أبي نعامة العدوي عن عبيد بن نقيد، عن إياس بن زهير بن حيان: لما كان اليوم الذي هرب فيه أوس بن ثعلبة وظفر ابن خازم ببكر بن وائل، قال ابن خازم لأصحابه حين التقوا: إني قلع، فشدوني على السرج، واعلموا أن علي من السلاح ما لا أقتل قدر جزر جزورين، فان قيل لكم: انى قد قتلت فلا تصدقوا.
                      قال: وكانت راية بني عدي مع أبي وأنا على فرس محزم، وقد قال لنا ابن خازم: إذا لقيتم الخيل فاطعنوها في مناخرها، فإنه لن يطعن فرس في نخرته إلا أدبر أو رمى بصاحبه، فلما سمع فرسي قعقعة السلاح وثب بي واديا كان بيني وبينهم، قال: فتلقاني رجل من بكر بن وائل فطعنت فرسه في نخرته، فصرعه، وحمل أبي ببني عدي، وأتبعته بنو تميم من كل وجه، فاقتتلوا ساعة، فانهزمت بكر بن وائل حتى انتهوا الى خندقهم وأخذوا يمينا وشمالا، وسقط ناس في الخندق فقتلوا قتلا ذريعا، وهرب أوس ابن ثعلبة وبه جراحات، وحلف ابن خازم لا يؤتى بأسير إلا قتله حتى تغيب الشمس، فكان آخر من أتي به رجل من بني حنيفة يقال له محمية فقالوا لابن خازم: قد غابت الشمس، قال: وفوا به القتلى، فقتل.
                      قال: فأخبرني شيخ من بني سعد بن زيد مناة أن أوس بن ثعلبه هرب وبه جراحات إلى سجستان، فلما صار بها أو قريبا منها مات.
                      وفي مقتل ابن مرثد وأمر أوس بن ثعلبة يقول المغيرة بن حبناء، أحد بني ربيعة بن حنظلة:
                      وفي الحرب كنتم في خراسان كلها ... قتيلا ومسجونا بها ومسيرا
                      ويوم احتواكم في الحفير ابن خازم ... فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا
                      ويوم تركتم في الغبار ابن مرثد ... وأوسا تركتم حيث سار وعسكرا
                      قال: وأخبرني أبو الذيال زهير بن هنيد، عن جده أبي أمه، قال:
                      قتل من بكر بن وائل يومئذ ثمانية آلاف.
                      قال: وحدثنا التميمي، رجل من أهل خراسان، عن مولى لابن خازم، قال: قاتل ابن خازم أوس بن ثعلبة وبكر بن وائل، فظفر بهراة، وهرب أوس وغلبه ابن خازم على هراة، واستعمل عليها ابنه محمدا، وضم إليه شماس بن دثار العطاردي، وجعل بكير بن وشاح على شرطته، وقال لهما: ربياه فإنه ابن أختكما، فكانت أمه من بني سعد يقال لها صفية، وقال له:
                      لا تخالفهما، ورجع ابن خازم إلى مرو.



                      وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                      أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                      تعليق

                      • إيمان أحمد
                        مشرفة الأقسام الإسلامية

                        • 9 يون, 2006
                        • 2427
                        • موظفة
                        • مسلمة

                        #26
                        رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                        ذكر الخبر عن تحرك الشيعة للطلب بدم الحسين
                        قال أبو جعفر: وفي هذه السنة تحركت الشيعة بالكوفة، واتعدوا الاجتماع بالنخيلة في سنة خمس وستين للمسير إلى أهل الشام للطلب بدم الحسين بن علي، وتكاتبوا في ذلك.

                        ذكر الخبر عن مبدأ أمرهم في ذلك:
                        قال هشام بن محمد: حدثنا أبو مخنف، قال: حدثني يوسف بن يزيد عن عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي، قال: لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة، فدخل الكوفة، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندم، ورأت أنها قد أخطأت خطأ كبيرا بدعائهم الحسين إلى النصرة وتركهم إجابته، ومقتله إلى جانبهم لم ينصروه، ورأوا أنه لا يغسل عارهم والإثم عنهم في مقتله إلا بقتل من قتله، أو القتل فيه، ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من رءوس الشيعة إلى سليمان بن صرد الخزاعي، وكانت له صحبه مع النبي ص، وإلى المسيب بن نجبة الفزاري، وكان من أصحاب علي وخيارهم، وإلى عبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي، وإلى عبد الله بن وال التيمي، وإلى رفاعة بن شداد البجلي.
                        ثم إن هؤلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد، وكانوا من خيار أصحاب علي، ومعهم أناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم.
                        قال: فلما اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام، فتكلم فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: أما بعد، فإنا قد ابتلينا بطول العمر، والتعرض لأنواع الفتن فنرغب إلى ربنا ألا يجعلنا ممن يقول له غدا: «أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير» ، فإن أمير المؤمنين قال: العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة، وليس فينا رجل إلا وقد بلغه، وقد كنا مغرمين بتزكية أنفسنا، وتقريظ شيعتنا، حتى بلا الله أخيارنا فوجدنا كاذبين في موطنين من مواطن ابن ابنه نبينا ص، وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه، وقدمت علينا رسله، وأعذر إلينا يسألنا نصره عودا وبدءا، وعلانية وسرا، فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قتل إلى جانبنا، لا نحن نصرناه بأيدينا، ولا جادلنا عنه بألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا، فما عذرنا الى ربنا وعند لقاء نبينا ص وقد قتل فينا ولده وحبيبه، وذريته ونسله! لا والله، لا عذر دون أن تقتلوا قاتله والموالين عليه، أو تقتلوا في طلب ذلك، فعسى ربنا أن يرضى عنا عند ذلك، وما أنا بعد لقائه لعقوبته بآمن أيها القوم، ولوا عليكم رجلا منكم فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
                        قال: فبدر القوم رفاعة بن شداد بعد المسيب الكلام، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ص ثم قال: أما بعد، فإن الله قد هداك لأصوب القول، ودعوت إلى أرشد الأمور، بدأت بحمد الله والثناء عليه، والصلاة على نبيه ص، ودعوت إلى جهاد الفاسقين وإلى التوبة من الذنب العظيم، فمسموع منك، مستجاب لك، مقبول قولك، قلت: ولوا أمركم رجلا منكم تفزعون إليه، وتحفون برايته، وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيا، وفينا متنصحا، وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت رأي أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله ص، وذا السابقه والقدم سليمان ابن صرد المحمود في بأسه ودينه، والموثوق بحزمه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
                        قال: ثم تكلم عبد الله بن وال وعبد الله بن سعد، فحمدا ربهما وأثنيا عليه، وتكلما بنحو من كلام رفاعة بن شداد، فذكرا المسيب بن نجبة بفضله، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته، ورضاهما بتوليته، فقال المسيب ابن نجبة: أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الذي رايتم، فولوا امركم سليمان ابن صرد .
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال أبو مخنف: فحدثت سليمان بن أبي راشد بهذا الحديث، فقال:
                        حدثني حميد بن مسلم، قال: والله إني لشاهد بهذا اليوم، يوم ولوا سليمان ابن صرد، وإنا يومئذ لأكثر من مائة رجل من فرسان الشيعة ووجوههم في داره.
                        قال: فتكلم سليمان بن صرد فشدد، وما زال يردد ذلك القول في كل جمعة حتى حفظته، بدأ فقال: أثني على الله خيرا، وأحمد آلاءه وبلاءه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله، أما بعد، فإني والله لخائف ألا يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير، أنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا، ونمنيهم النصر، ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، وأدهنا، وتربصنا، وانتظرنا ما يكون حتى قتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، إذ جعل يستصرخ فلا يصرخ، ويسأل النصف فلا يعطاه، اتخذه الفاسقون غرضا للنبل، ودرية للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه ألا انهضوا فقد سخط ربكم، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضيا دون أن تناجزوا من قتله، أو تبيروا ألا لا تهابوا الموت فو الله ما هابه امرؤ قط إلا ذل، كونوا كالأولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم: «إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم» ، فما فعل القوم؟ جثوا على الركب والله، ومدوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلا الصبر على القتل، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه! اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة، «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل» ، حتى تدعوا حين تدعون وتستنفرون.
                        قال: فقام خالد بن سعد بن نفيل، فقال: اما انا فو الله لو أعلم أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضي ربي لقتلتها، ولكن هذا أمر به قوم كانوا قبلنا ونهينا عنه، فأشهد الله ومن حضر من المسلمين أن كل ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أقاتل به عدوي صدقة على المسلمين، أقويهم به على قتال القاسطين .
                        وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال: وأنا أشهدكم على مثل ذلك.
                        فقال سليمان بن صرد: حسبكم، من أراد من هذا شيئا فليأت بماله عبد الله بن وال التيمي تيم بكر بن وائل، فإذا اجتمع عنده كل ما تريدون إخراجه من أموالكم جهزنا به ذوي الخلة والمسكنة من أشياعكم.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال أبو مخنف لوط بن يحيى، عن سليمان بن أبي راشد، قال: فحدثنا حميد بن مسلم الأزدي أن سليمان بن صرد قال لخالد بن سعد بن نفيل حين قال له: والله لو علمت أن قتلي نفسي يخرجني من ذنبي ويرضى عني ربي لقتلتها، ولكن هذا أمر به قوم غيرنا كانوا من قبلنا ونهينا عنه، قال: أخوكم هذا غدا فريس أول الأسنة، قال: فلما تصدق بماله على المسلمين قال له: أبشر بجزيل ثواب الله للذين لأنفسهم يمهدون.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال أبو مخنف: حدثني الحصين بن يزيد بن عبد الله بن سعد بن نفيل قال: أخذت كتابا كان سليمان بن صرد كتب به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان بالمدائن، فقرأته زمان ولي سليمان، قال: فلما قرأته أعجبني، فتعلمته فما نسيته، كتب إليه:
                        بسم الله الرحمن الرحيم من سليمان بن صرد إلى سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين سلام عليكم، أما بعد، فإن الدنيا دار قد أدبر منها ما كان معروفا، وأقبل منها ما كان منكرا، وأصبحت قد تشنأت إلى ذوي الألباب، وأزمع بالترحال منها عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا
                        لا يبقى بجزيل مثوبة عند الله لا تفنى ان أولياء من إخوانكم، وشيعة آل نبيكم نظروا لأنفسهم فيما ابتلوا به من أمر ابن بنت نبيهم الذي دعي فأجاب، ودعا فلم يجب، وأراد الرجعة فحبس، وسأل الأمان فمنع، وترك الناس فلم يتركوه، وعدوا عليه فقتلوه، ثم سلبوه وجردوه ظلما وعدوانا وغرة بالله وجهلا، وبعين الله ما يعملون، وإلى الله ما يرجعون، «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» ، فلما نظروا إخوانكم وتدبروا عواقب ما استقبلوا رأوا أن قد خطئوا بخذلان الزكي الطيب وإسلامه وترك مواساته، والنصر له خطأ كبيرا ليس لهم منه مخرج ولا توبة، دون قتل قاتليه أو قتلهم حتى تفنى على ذلك أرواحهم، فقد جد إخوانكم فجدوا، وأعدوا واستعدوا، وقد ضربنا لإخواننا أجلا يوافوننا إليه، وموطنا يلقوننا فيه، فأما الأجل فغرة شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين، وأما الموطن الذي يلقوننا فيه فالنخيلة.
                        أنتم الذين لم تزالوا لنا شيعة وإخوانا، وإلا وقد رأينا أن ندعوكم إلى هذا الأمر الذي أراد الله به إخوانكم فيما يزعمون، ويظهرون لنا أنهم يتوبون، وإنكم جدراء بتطلاب الفضل، والتماس الأجر، والتوبة إلى ربكم من الذنب، ولو كان في ذلك حز الرقاب، وقتل الأولاد، واستيفاء الأموال، وهلاك العشائر، ما ضر أهل عذراء الذين قتلوا ألا يكونوا اليوم أحياء عند ربهم يرزقون، شهداء قد لقوا الله صابرين محتسبين، فأثابهم ثواب الصابرين- يعني حجرا واصحابه- وما ضر إخوانكم المقتلين صبرا، المصلبين ظلما، والمثل بهم، المعتدى عليهم، ألا يكونوا أحياء مبتلين بخطاياكم، قد خير لهم فلقوا ربهم، ووفاهم الله إن شاء الله أجرهم، فاصبروا رحمكم الله على البأساء والضراء وحين البأس، وتوبوا الى الله عن قريب، فو الله انكم لأحرياء الا يكون أحد من إخوانكم صبر على شيء من البلاء إرادة ثوابه إلا صبرتم التماس الأجر فيه على مثله، ولا يطلب رضاء الله طالب بشيء من الأشياء ولو أنه القتل إلا طلبتم رضا الله به إن التقوى أفضل الزاد في الدنيا، وما سوى ذلك يبور ويفنى، فلتعزف عنها أنفسكم، ولتكن رغبتكم في دار عافيتكم، وجهاد عدو الله وعدوكم، وعدو أهل بيت نبيكم حتى تقدموا على الله تائبين راغبين، أحيانا الله وإياكم حياة طيبة، وأجارنا وإياكم من النار، وجعل منايانا قتلا في سبيله على يدي أبغض خلقه إليه وأشدهم عداوة له، إنه القدير على ما يشاء، والصانع لأوليائه في الأشياء، والسلام عليكم.
                        قال: وكتب ابن صرد الكتاب وبعث به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان مع عبد الله بن مالك الطائي، فبعث به سعد حين قرأ كتابه إلى من كان بالمدائن من الشيعة، وكان بها أقوام من أهل الكوفة قد أعجبتهم فأوطنوها وهم يقدمون الكوفة في كل حين عطاء ورزق، فيأخذون حقوقهم، وينصرفون إلى أوطانهم، فقرأ عليهم سعد كتاب سليمان بن صرد ثم إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنكم قد كنتم مجتمعين مزمعين على نصر الحسين وقتال عدوه، فلم يفجأكم أول من قتله، والله مثيبكم على حسن النية وما أجمعتم عليه من النصر أحسن المثوبة، وقد بعث إليكم إخوانكم يستنجدونكم ويستمدونكم، ويدعونكم إلى الحق وإلى ما ترجون لكم به عند الله أفضل الأجر والحظ، فماذا ترون؟ وماذا تقولون؟ فقال القوم بأجمعهم: نجيبهم ونقاتل معهم، ورأينا في ذلك مثل رأيهم.
                        فقام عبد الله بن الحنظل الطائي ثم الحزمري، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإنا قد أجبنا إخواننا إلى ما دعونا إليه، وقد رأينا مثل الذي قد رأوا، فسرحني إليهم في الخيل، فقال له: رويدا، لا تعجل، استعدوا للعدو، وأعدوا له الحرب، ثم نسير وتسيرون.
                        وكتب سعد بن حذيفة بن اليمان إلى سليمان بن صرد مع عبد الله بن مالك الطائي:
                        بسم الله الرحمن الرحيم إلى سليمان بن صرد، من سعد بن حذيفة ومن قبله من المؤمنين، سلام عليكم، أما بعد، فقد قرأنا كتابك، وفهمنا الذي دعوتنا إليه من الأمر الذي عليه رأي الملأ من إخوانك، فقد هديت لحظك، ويسرت لرشدك، ونحن جادون مجدون، معدون مسرجون ملجمون ننتظر الأمر، ونستمع الداعي، فإذا جاء الصريخ أقبلنا ولم نعرج إن شاء الله، والسلام.
                        فلما قرأ كتابه سليمان بن صرد قرأه على اصحابه، فسروا بذلك.
                        قالوا: وكتب الى المثنى بن مخربه العبدي نسخة الكتاب الذي كان كتب به إلى سعد بن حذيفة بن اليمان وبعث به مع ظبيان بن عمارة التميمي من بني سعد، فكتب إليه المثنى: أما بعد، فقد قرأت كتابك، وأقرأته إخوانك، فحمدوا رأيك، واستجابوا لك، فنحن موافوك إن شاء الله للأجل الذي ضربت وفي الموطن الذي ذكرت، والسلام عليك وكتب في أسفل كتابه:
                        تبصر كأني قد أتيتك معلما ... على أتلع الهادي اجش هزيم
                        طويل القرا نهد الشواه مقلص ... ملح على فأس اللجام أزوم
                        بكل فتى لا يملأ الروع نحره ... محس لعض الحرب غير سئوم
                        أخي ثقة ينوي الإله بسعيه ... ضروب بنصل السيف غير أثيم
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال أبو مخنف لوط بن يحيى، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الله بن سعد بن نفيل، قال: كان أول ما ابتدعوا به من أمرهم سنة إحدى وستين، وهي السنة التي قتل فيها الحسين رضي الله عنه، فلم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال، ودعاء الناس في السر من الشيعة وغيرها إلى الطلب بدم الحسين، فكان يجيبهم القوم بعد القوم، والنفر بعد النفر.
                        فلم يزالوا كذلك وفي ذلك حتى مات يزيد بن معاوية يوم الخميس لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكان بين قتل الحسين وهلاك يزيد بن معاوية ثلاث سنين وشهران وأربعة أيام، وهلك يزيد وأمير العراق عبيد الله بن زياد، وهو بالبصرة، وخليفته بالكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فجاء إلى سليمان أصحابه من الشيعة، فقالوا: قد مات هذا الطاغية، والأمر الآن ضعيف، فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث فأخرجناه من القصر، ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين، وتتبعنا قتلته، ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم، المدفوعين عن حقهم، فقالوا في ذلك فأكثروا، فقال لهم سليمان بن صرد: رويدا، لا تعجلوا، إني قد نظرت فيما تذكرون، فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة، وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون، وعلموا أنهم المطلوبون، كانوا أشد عليكم ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم، ولم يشفوا أنفسهم، ولم ينكوا في عدوهم، وكانوا لهم جزرا، ولكن بثوا دعاتكم في المصر، فادعوا إلى أمركم هذا، شيعتكم وغير شيعتكم، فإني أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه ففعلوا، وخرجت طائفة منهم دعاة يدعون الناس، فاستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد بن معاوية أضعاف من كان استجاب لهم قبل ذلك.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثنا الحصين بن يزيد، عن رجل من مزينة قال: ما رأيت من هذه الأمة أحدا كان أبلغ من عبيد الله بن عبد الله المري في منطق ولا عظة، وكان من دعاة أهل المصر زمان سليمان بن صرد، وكان إذا اجتمعت إليه جماعة من الناس فوعظهم بدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله ص، ثم يقول: أما بعد، فإن الله اصطفى محمدا ص على خلقه بنبوته، وخصه بالفضل كله، وأعزكم بأتباعه وأكرمكم بالإيمان به، فحقن به دماءكم المسفوكة، وأمن به سبلكم المخوفة، «وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون» فهل خلق ربكم في الأولين والآخرين أعظم حقا على هذه الأمة من نبيها؟ وهل ذرية أحد من النبيين والمرسلين أو غيرهم أعظم حقا على هذه الأمة من ذرية رسولها؟ لا والله، ما كان ولا يكون لله أنتم! ألم تروا ويبلغكم ما اجترم إلى ابن بنت نبيكم! أما رأيتم إلى انتهاك القوم حرمته، واستضعافهم وحدته، وترميلهم إياه بالدم، وتجرارهموه على الأرض! لم يرقبوا فيه ربهم ولا قرابته من الرسول ص، اتخذوه للنبل غرضا، وغادروه للضباع جزرا، فلله عينا من رأى مثله! ولله حسين بن علي، ماذا غادروا به ذا صدق وصبر، وذا أمانة ونجدة وحزم! ابن أول المسلمين إسلاما، وابن بنت رسول رب العالمين، قلت حماته، وكثرت عداته حوله، فقتله عدوه، وخذله وليه فويل للقاتل، وملامة للخاذل! إن الله لم يجعل لقاتله حجة، ولا لخاذله معذرة، إلا أن يناصح لله في التوبة، فيجاهد القاتلين، وينابذ القاسطين، فعسى الله عند ذلك أن يقبل التوبة، ويقيل العثرة، إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل بيته، وإلى جهاد المحلين والمارقين، فإن قتلنا فما عند الله خير للأبرار، وإن ظهرنا رددنا هذا الأمر إلى أهل بيت نبينا.
                        قال: وكان يعيد هذا الكلام علينا في كل يوم حتى حفظه عامتنا.
                        قال: ووثب الناس على عمرو بن حريث عند هلاك يزيد بن معاوية، فأخرجوه من القصر، واصطلحوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي. وهو دحروجة الجعل الذي قال له ابن همام السلولي:
                        اشدد يديك بزيد إن ظفرت به ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
                        وكان كأنه إبهام قصرا، وزيد مولاه وخازنه، فكان يصلي بالناس.
                        وبايع لابن الزبير، ولم يزل أصحاب سليمان بن صرد يدعون شيعتهم وغيرهم من أهل مصرهم حتى كثر تبعهم، وكان الناس الى اتباعهم بعد هلاك يزيد ابن معاوية أسرع منهم قبل ذلك، فلما مضت سته اشهر من هلاك يزيد ابن معاوية، قدم المختار بن أبي عبيد الكوفة، فقدم في النصف من شهر رمضان يوم الجمعة قال: وقدم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي من قبل عبد الله بن الزبير أميرا على الكوفة على حربها وثغرها، وقدم معه من قبل ابن الزبير إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله الأعرج أميرا على خراج الكوفة، وكان قدوم عبد الله بن يزيد الأنصاري ثم الخطمي يوم الجمعة لثمان بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين.
                        قال: وقدم المختار قبل عبد الله بن يزيد وإبراهيم بن محمد بثمانية أيام، ودخل المختار الكوفة، وقد اجتمعت رءوس الشيعة ووجوهها مع سليمان بن صرد فليس يعدلونه به، فكان المختار إذا دعاهم إلى نفسه وإلى الطلب بدم الحسين قالت له الشيعة: هذا سليمان بن صرد شيخ الشيعة، قد انقادوا له واجتمعوا عليه، فأخذ يقول للشيعة: إني قد جئتكم من قبل المهدي محمد بن علي ابن الحنفيه مؤتمنا مأمونا، منتجبا ووزيرا، فو الله ما زال بالشيعة حتى انشعبت إليه طائفة تعظمه وتجيبه، وتنتظر أمره، وعظم الشيعة مع سليمان ابن صرد، فسليمان أثقل خلق الله على المختار.
                        وكان المختار يقول لأصحابه: أتدرون ما يريد هذا؟ يعني سليمان بن صرد- إنما يريد أن يخرج فيقتل نفسه ويقتلكم، ليس له بصر بالحروب، ولا له علم بها.
                        قال: وأتى يزيد بن الحارث بن يزيد بن رويم الشيباني عبد الله بن يزيد الأنصاري فقال: إن الناس يتحدثون أن هذه الشيعة خارجة عليك مع ابن صرد، ومنهم طائفة أخرى مع المختار، وهي أقل الطائفتين عددا، والمختار فيما يذكر الناس لا يريد أن يخرج حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمر سليمان بن صرد، وقد اجتمع له أمره، وهو خارج من أيامه هذه، فإن رأيت أن تجمع الشرط والمقاتلة ووجوه الناس، ثم تنهض إليهم، وننهض معك، فإذا دفعت الى منزله دعوته، فان أجابك فحسبه، وإن قاتلك قاتلته، وقد جمعت له وعبأت وهو مغتر، فإني أخاف عليك إن هو بدأك وأقررته حتى يخرج عليك أن تشتد شوكته، وأن يتفاقم أمره.
                        فقال عبد الله بن يزيد: الله بيننا وبينهم، إن هم قاتلونا قتلناهم، وإن تركونا لم نطلبهم، حدثني ما يريد الناس؟ قال: يذكر الناس أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي، قال: فأنا قتلت الحسين! لعن الله قاتل الحسين! قال: وكان سليمان بن صرد وأصحابه يريدون أن يثبوا بالكوفة، فخرج عبد الله بن يزيد حتى صعد المنبر، ثم قام في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فقد بلغني أن طائفة من أهل هذا المصر أرادوا أن يخرجوا علينا، فسألت عن الذي دعاهم إلى ذلك ما هو؟ فقيل لي: زعموا أنهم يطلبون بدم الحسين بن علي، فرحم الله هؤلاء القوم، قد والله دللت على أماكنهم، وامرت بأخذهم، وقيل: ابداهم قبل أن يبدءوك، فأبيت ذلك، فقلت: إن قاتلوني قاتلتهم، وإن تركوني لم أطلبهم، وعلام يقاتلونني! فو الله ما أنا قتلت حسينا، ولا أنا ممن قاتله، ولقد أصبت بمقتله رحمة الله عليه! فإن هؤلاء القوم آمنون، فليخرجوا ولينتشروا ظاهرين ليسيروا إلى من قاتل الحسين، فقد أقبل إليهم، وأنا لهم على قاتله ظهير، هذا ابن زياد قاتل الحسين، وقاتل خياركم وأماثلكم، قد توجه إليكم، عهد العاهد به على مسيرة ليلة من جسر منبج، فقتاله والاستعداد له أولى وأرشد من أن تجعلوا بأسكم بينكم، فيقتل بعضكم بعضا، ويسفك بعضكم دماء بعض، فيلقاكم ذلك العدو غدا وقد رققتم، وتلك والله أمنية عدوكم، وإنه قد أقبل إليكم أعدى خلق الله لكم، من ولي عليكم هو وأبوه سبع سنين، لا يقلعان عن قتل أهل العفاف والدين، هو الذي قتلكم، ومن قبله اتيتم، والذي قتل من تثأرون بدمه، قد جاءكم فاستقبلوه بحدكم وشوكتكم، واجعلوها به، ولا تجعلوها بأنفسكم، إني لم آلكم نصحا، جمع الله لنا كلمتنا، وأصلح لنا أئمتنا!
                        قال: فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: أيها الناس، لا يغرنكم من السيف والغشم مقالة هذا المداهن الموادع، والله لئن خرج علينا خارج لنقتلنه، ولئن استقينا أن قوما يريدون الخروج علينا لنأخذن الوالد بولده، والمولود بوالده، ولنأخذن الحميم بالحميم، والعريف بما في عرافته حتى يدينوا للحق، ويذلوا للطاعة فوثب إليه المسيب بن نجبة فقطع عليه منطقه ثم قال: يا بن الناكثين، أنت تهددنا بسيفك وغشمك! أنت والله أذل من ذلك، إنا لا نلومك على بغضنا، وقد قتلنا أباك وجدك، والله إني لأرجو الا يخرجك الله من بين ظهراني أهل هذا المصر حتى يثلثوا بك جدك وأباك، وأما أنت أيها الأمير فقد قلت قولا سديدا، وإني والله لأظن من يريد هذا الأمر مستنصحا لك، وقابلا قولك.
                        فقال إبراهيم بن محمد بن طلحة: إي والله، ليقتلن وقد أدهن ثم أعلن فقام إليه عبد الله بن وال التيمي، فقال: ما اعتراضك يا أخا بني تيم بن مره فيما بيننا وبين أميرنا! فو الله ما أنت علينا بأمير، ولا لك علينا سلطان، إنما أنت أمير الجزية، فأقبل على خراجك، فلعمر الله لئن كنت مفسدا ما أفسد أمر هذه الأمة إلا والدك وجدك الناكثان، فكانت بهما اليدان، وكانت عليهما دائرة السوء .
                        قال: ثم أقبل مسيب بن نجبة وعبد الله بن وال على عبد الله بن يزيد فقالا: اما رأيك ايها الأمير فو الله إنا لنرجو أن تكون به عند العامة محمودا وأن تكون عند الذي عنيت واعتريت مقبولا فغضب أناس من عمال إبراهيم بن محمد بن طلحة وجماعة ممن كان معه، فتشاتموا دونه، فشتمهم الناس وخصموهم.
                        فلما سمع ذلك عبد الله بن يزيد نزل ودخل، وانطلق إبراهيم بن محمد وهو يقول: قد داهن عبد الله بن يزيد أهل الكوفة، والله لأكتبن بذلك إلى عبد الله بن الزبير، فأتى شبث بن ربعي التميمي عبد الله بن يزيد فأخبره بذلك، فركب به وبيزيد بن الحارث بن رويم حتى دخل على إبراهيم بن محمد بن طلحة، فحلف له بالله ما أردت بالقول الذي سمعت إلا العافية وصلاح ذات البين، إنما أتاني يزيد بن الحارث بكذا وكذا، فرأيت أن اقوم فيهم بما سمعت اراده الا تختلف الكلمة، ولا تتفرق الألفة، وألا يقع بأس هؤلاء القوم بينهم فعذره وقبل منه.
                        قال: ثم إن أصحاب سليمان بن صرد خرجوا ينشرون السلاح ظاهرين، ويتجهزون يجاهرون بجهازهم وما يصلحهم.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        ذكر الخبر عن فراق الخوارج عبد الله بن الزبير

                        وفي هذه السنة فارق عبد الله بن الزبير الخوارج الذين كانوا قدموا عليه مكة، فقاتلوا معه حصين بن نمير السكوني، فصاروا إلى البصرة، ثم افترقت كلمتهم فصاروا أحزابا.
                        ذكر الخبر عن فراقهم ابن الزبير والسبب الذي من أجله فارقوه والذي من أجله افترقت كلمتهم:
                        حدثت عن هشام بن محمد الكلبي، عن أبي مخنف لوط بن يحيى قال: حدثني أبو المخارق الراسبي، قال: لما ركب ابن زياد من الخوارج بعد قتل أبي بلال ما ركب، وقد كان قبل ذلك لا يكف عنهم ولا يستبقيهم غير أنه بعد قتل أبي بلال تجرد لاستئصالهم وهلاكهم، واجتمعت الخوارج حين ثار ابن الزبير بمكة، وسار اليه اهل الشام، فتذاكروا أتى إليهم، فقال لهم نافع بن الأزرق: إن الله قد أنزل عليكم الكتاب، وفرض عليكم فيه الجهاد، واحتج عليكم بالبيان، وقد جرد فيكم السيوف أهل الظلم وأولو العدا والغشم، وهذا من قد ثار بمكة، فاخرجوا بنا نأت البيت ونلق هذا الرجل، فإن يكن على رأينا جاهدنا معه العدو، وإن يكن على غير رأينا دافعنا عن البيت ما استطعنا، ونظرنا بعد ذلك في أمورنا فخرجوا حتى قدموا على عبد الله ابن الزبير، فسر بمقدمهم، ونبأهم أنه على رأيهم، وأعطاهم الرضا من غير توقف ولا تفتيش، فقاتلوا معه حتى مات يزيد بن معاوية، وانصرف أهل الشام عن مكة ثم إن القوم لقي بعضهم بعضا، فقالوا: إن هذا الذي صنعتم أمس بغير رأي ولا صواب من الأمر، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على رأيكم، إنما كان أمس يقاتلكم هو وأبوه ينادي: يال ثأرات عثمان! فأتوه وسلوه عن عثمان، فإن برئ منه كان وليكم، وإن أبى كان عدوكم. فمشوا نحوه فقالوا له: أيها الإنسان، إنا قد قاتلنا معك، ولم نفتشك عن رأيك حتى نعلم أمنا أنت أم من عدونا! خبرنا ما مقالتك في عثمان؟ فنظر فإذا من حوله من أصحابه قليل، فقال لهم: إنكم أتيتموني فصادفتموني حين أردت القيام، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم من ذلك الذي تريدون.
                        فانصرفوا، وبعث إلى أصحابه فقال: البسوا السلاح، وأحضروني بأجمعكم العشية، ففعلوا، وجاءت الخوارج، وقد أقام أصحابه حوله سماطين عليهم السلاح، وقامت جماعة منهم عظيمة على رأسه بأيديهم الأعمدة، فقال ابن الأزرق لأصحابه: خشي الرجل غائلتكم، وقد أزمع بخلافكم واستعد لكم، ما ترون؟
                        فدنا منه ابن الأزرق، فقال له: يا بن الزبير، اتق الله ربك، وأبغض الخائن المستأثر، وعاد أول من سن الضلالة، وأحدث الأحداث، وخالف حكم الكتاب، فإنك إن تفعل ذلك ترض ربك، وتنج من العذاب الأليم نفسك، وإن تركت ذلك فأنت من الذين استمتعوا بخلاقهم، وأذهبوا في الحياة الدنيا طيباتهم.
                        يا عبيدة بن هلال، صف لهذا الإنسان ومن معه أمرنا الذي نحن عليه، والذي ندعو الناس إليه، فتقدم عبيدة بن هلال.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال هشام: قال أبو مخنف: وحدثني أبو علقمة الخثعمى، عن قبيصة بن عبد الرحمن القحافي، من خثعم، قال: أنا والله شاهد عبيدة بن هلال، إذ تقدم فتكلم، فما سمعت ناطقا قط ينطق كان أبلغ ولا أصوب قولا منه، وكان يرى رأي الخوارج.
                        قال: وإن كان ليجمع القول الكثير، في المعنى الخطير، في اللفظ اليسير.
                        قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا ص يدعو إلى عبادة الله، وإخلاص الدين، فدعا إلى ذلك، فأجابه المسلمون، فعمل فيهم بكتاب الله وامره، حتى قبضه الله اليه ص، واستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فكلاهما عمل بالكتاب وسنة رسول الله، فالحمد لله رب العالمين ثم إن الناس استخلفوا عثمان بن عفان، فحمى الاحماء، وآثر القربى، واستعمل الفتى ورفع الدرة، ووضع السوط، ومزق الكتاب، وحقر المسلم
                        وضرب منكري الجور، وآوى طريد الرسول ص، وضرب السابقين بالفضل، وسيرهم وحرمهم ثم أخذ فيء الله الذي أفاءه عليهم فقسمه بين فساق قريش، ومجان العرب، فسارت إليه طائفة من المسلمين أخذ الله ميثاقهم على طاعته، لا يبالون في الله لومة لائم، فقتلوه، فنحن لهم أولياء، ومن ابن عفان وأوليائه برآء، فما تقول أنت يا بن الزبير؟ قال: فحمد الله ابن الزبير وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فقد فهمت الذى ذكرتم، وذكرت به النبي ص، فهو كما قلت صلى الله عليه وفوق ما وصفته، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر، وقد وفقت وأصبت، وقد فهمت الذي ذكرت به عثمان بن عفان رحمة الله عليه، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني، كنت معه حيث نقم القوم عليه، واستعتبوه فلم يدع شيئا استعتبه القوم فيه إلا أعتبهم منه ثم إنهم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه فيهم، يأمر فيه بقتلهم فقال لهم: ما كتبته، فإن شئتم فهاتوا بينتكم، فإن لم تكن حلفت لكم، فو الله ما جاءوه ببينة، ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه، وقد سمعت ما عبته به، فليس كذلك، بل هو لكل خير أهل، وأنا أشهدكم ومن حضر أني ولي لابن عفان في الدنيا والآخرة، وولي أوليائه، وعدو أعدائه، قالوا: فبرئ الله منك يا عدو الله، قال: فبرئ الله منكم يا أعداء الله.
                        وتفرق القوم، فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي، وعبد الله بن صفار السعدي من بني صريم بن مقاعس، وعبد الله بن إباض أيضا من بني صريم، وحنظلة بن بيهس، وبنو الماحوز: عبد الله، وعبيد الله، والزبير، من بنى سليط ابن يربوع، حتى أتوا البصرة، وانطلق أبو طالوت من بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن مالك بن بكر بن وائل وعبد الله بن ثور أبو فديك من بني قيس بن ثعلبة وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة، فوثبوا باليمامة مع أبي طالوت، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجده ابن عامر الحنفي، فأما البصريون
                        منهم فإنهم قدموا البصرة وهم مجمعون على رأي أبي بلال.
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        قال هشام: قال أبو مخنف لوط بن يحيى: فحدثني أبو المثنى، عن رجل من إخوانه من أهل البصرة، أنهم اجتمعوا فقالت العامة منهم: لو خرج منا خارجون في سبيل الله، فقد كانت منا فترة منذ خرج أصحابنا، فيقوم علماؤنا في الأرض فيكونون مصابيح الناس يدعونهم إلى الدين، ويخرج أهل الورع والاجتهاد فيلحقون بالرب، فيكونون شهداء مرزوقين عند الله أحياء.
                        فانتدب لها نافع بن الأزرق، فاعتقد على ثلاثمائة رجل، فخرج، وذلك عند وثوب الناس بعبيد الله بن زياد، وكسر الخوارج أبواب السجون وخروجهم منها، واشتغل الناس بقتال الأزد وربيعة وبني تميم وقيس في دم مسعود بن عمرو، فاغتنمت الخوارج اشتغال الناس بعضهم ببعض، فتهيئوا واجتمعوا، فلما خرج نافع بن الأزرق تبعوه، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب يصلي بهم، وخرج ابن زياد إلى الشام، واصطلحت الأزد وبنو تميم، فتجرد الناس للخوارج، فأتبعوهم وأخافوهم حتى خرج من بقي منهم بالبصرة، فلحق بابن الأزرق، إلا قليلا منهم ممن لم يكن أراد الخروج يومه ذلك، منهم عبد الله بن صفار، وعبد الله ابن إباض، ورجال معهما على رأيهما ونظر نافع بن الأزرق ورأى أن ولاية من تخلف عنه لا تنبغي، وأن من تخلف عنه لا نجاة له، فقال لأصحابه: إن الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصركم ما عمي عنه غيركم، ألستم تعلمون أنكم إنما خرجتم تطلبون شريعته وأمره! فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنما تتبعون سننه وأثره، فقالوا: بلى، فقال: أليس حكمكم في وليكم حكم النبي ص في وليه، وحكمكم في عدوكم حكم النبي ص في عدوه، وعدوكم اليوم عدو الله وعدو النبي ص، كما ان عدو النبي ص يومئذ هو عدو الله وعدوكم اليوم! فقالوا: نعم، قال: فقد أنزل الله تبارك وتعالى: «براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين».
                        وقال: «ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن» ، فقد حرم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، وإجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم، ومواريثهم، وقد احتج الله علينا بمعرفة هذا، وحق علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولا نكتم ما أنزل الله، والله عز وجل يقول: «إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون» ، فاستجاب له إلى هذا الرأي جميع أصحابه.
                        فكتب: من عبيد الله نافع بن الأزرق إلى عبد الله بن صفار وعبد الله ابن إباض ومن قبلهما من الناس سلام على أهل طاعة الله من عباد الله، فإن من الأمر كيت وكيت، فقص هذه القصة، ووصف هذه الصفة، ثم بعث بالكتاب إليهما فأتيا به، فقرأه عبد الله بن صفار، فأخذه فوضعه خلفه، فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرقوا ويختلفوا، فقال له عبد الله بن إباض: ما لك لله أبوك! اى شيء اصبت! اان قد أصيب إخواننا، أو أسر بعضهم! فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله!، أي راى راى! صدق نافع ابن الأزرق، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وحكما فيما يشير به، وكانت سيرته كسيره النبي ص في المشركين، ولكنه قد كذب وكذبنا فيما يقول، إن القوم كفار بالنعم والأحكام، وهم برآء من الشرك، ولا تحل لنا إلا دماؤهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام، فقال ابن صفار: برئ الله منك، فقد قصرت، وبرئ الله من ابن الأزرق فقد غلا، برئ الله منكما جميعا، وقال الآخر: فبرئ الله منك ومنه.
                        وتفرق القوم، واشتدت شوكة ابن الأزرق، وكثرت جموعه، وأقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف في اهل البصرة .
                        [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                        ذكر الخبر عن مقتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد
                        قال أبو جعفر: وفي هذه السنة قتل بكير بن وشاح السعدي أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد:
                        ذكر سبب قتله إياه:
                        وكان سبب ذلك- فيما ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد- أن أمية بن عبد الله وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، ولى بكيرا غزو ما وراء النهر، وقد كان ولاه قبل ذلك طخارستان، فتجهز للخروج إليها، وأنفق نفقة كثيرة، فوشى به إليه بحير بن ورقاء الصريمي على ما بينت قبل، فأمره أمية بالمقام.
                        فلما ولاه غزو ما وراء النهر تجهز وتكلف الخيل والسلاح، وادان من رجال السغد وتجارهم، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر ولقي الملوك خلع الخليفة ودعا إلى نفسه، فأرسل إليه أمية: أقم لعلي أغزو فتكون معي، فغضب بكير وقال: كأنه يضارني وكان عتاب اللقوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فلما أقام أخذه غرماؤه، فحبس فأدى عنه بكير وخرج، ثم أجمع أمية على الغزو قال: فأمر بالجهاز ليغزو بخارى، ثم يأتي موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، فاستعد الناس وتجهزوا، واستخلف على خراسان ابنه زيادا، وسار معه بكير فعسكر بكشماهن، فأقام أياما، ثم أمر بالرحيل، فقال له بحير: إني لا آمن أن يتخلف الناس فقل لبكير: فلتكن في الساقة ولتحشر الناس قال: فأمره أمية فكان على الساقة حتى أتى النهر، فقال له أمية: اقطع يا بكير، فقال عتاب اللقوة الغداني: أصلح الله الأمير! اعبر ثم يعبر الناس بعدك فعبر ثم عبر الناس، فقال أمية لبكير: قد خفت الا يضبط ابني عمله وهو غلام حدث، فارجع إلي مرو فاكفنيها فقد وليتكها، فزين ابني وقم بأمره فانتخب بكير فرسانا من فرسان خراسان قد كان عرفهم ووثق بهم وعبر، ومضى اميه الى بخارى وعلى مقدمته أبو خالد ثابت مولى خزاعة فقال عتاب اللقوة لبكير لما عبر وقد مضى أمية: إنا قتلنا أنفسنا وعشائرنا حتى ضبطنا خراسان، ثم طلبنا أميرا من قريش يجمع أمرنا، فجاءنا أمير يلعب بنا يحولنا من سجن إلى سجن، قال: فما ترى؟ قال: احرق هذه السفن، وامض إلى مرو فاخلع أمية، وتقيم بمرو تأكلها إلى يوم ما، قال: فقال الأحنف بن عبد الله العنبري: الرأي ما رأى عتاب، فقال بكير: إني أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي، فقال: أتخاف عدم الرجال! أنا آتيك من أهل مرو بما شئت إن هلك من هؤلاء الذين معك، قال: يهلك المسلمون، قال: إنما يكفيك أن ينادي مناد: من أسلم رفعنا عنه الخراج فيأتيك خمسون ألفا من المصلين أسمع لك من هؤلاء وأطوع، قال: فيهلك أمية ومن معه، قال: ولم يهلكون ولهم عدة وعدد ونجدة وسلاح ظاهر وأداة كاملة، ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فأحرق بكير السفن، ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه، ودعا الناس إلى خلع أمية فأجابوه، وبلغ أمية، فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع فأمر باتخاذ السفن، فاتخذت له وجمعت، وقال لمن معه من وجوه تميم: ألا تعجبون من بكير! إني قدمت خراسان فحذرته، ورفع عليه وشكي منه، وذكروا أموالا أصابها، فأعرضت عن ذلك كله، ثم لم أفتشه عن شيء ولا أحدا من عماله، ثم عرضت عليه شرطتي فأبى، فأعفيته، ثم وليته فحذرته، فأمرته بالمقام وما كان ذلك إلا نظرا له، ثم رددته إلى مرو، ووليته الأمر، فكفر ذلك كله، وكافأني بما ترون فقال له قوم: أيها الأمير، لم يكن هذا من شأنه، إنما أشار عليه بإحراق السفن عتاب اللقوة، فقال: وما عتاب! وهل عتاب إلا دجاجة حاضنة، فبلغ قوله عتابا، فقال عتاب في ذلك:
                        إن الحواضن تلقاها مجففة ... غلب الرقاب على المنسوبة النجب
                        تركت أمرك من جبن ومن خور ... وجئتنا حمقا يا ألأم العرب
                        لما رأيت جبال السغد معرضة ... وليت موسى ونوحا عكوة الذنب
                        وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا ... وطرت من سعف البحرين كالخرب
                        أوعد وعيدك إني سوف تعرفني ... تحت الخوافق دون العارض اللجب
                        يخب بي مشرف عار نواهقه ... يغشى الكتيبة بين العدو والخبب
                        قال: فلما تهيأت السفن، عبر أمية وأقبل إلى مرو، وترك موسى بن عبد الله، وقال: اللهم إني أحسنت إلى بكير، فكفر إحساني، وصنع ما صنع، اللهم أكفنيه.
                        فقال شماس بن دثار- وكان رجع من سجستان بعد قتل ابن خازم، فغزا مع أمية: أيها الأمير، أنا أكفيكه إن شاء الله فقدمه اميه في ثمانمائه، فأقبل حتى نزل باسان وهي لبني نصر، وسار إليه بكير ومعه مدرك بن أنيف وأبوه مع شماس، فقال: أما كان في تميم أحد يحاربني غيرك! ولامه فأرسل إليه شماس: أنت ألوم وأسوأ صنيعا مني، لم تف لأمية ولم تشكر له صنيعه بك، قدم فأكرمك ولم يعرض لك ولا لأحد من عمالك.
                        قال: فبيته بكير ففرق جمعه وقال: لا تقتلوا منهم أحدا، وخذوا سلاحهم، فكانوا إذا أخذوا رجلا سلبوه وخلوا عنه، فتفرقوا، ونزل شماس في قرية لطيئ يقال لها: بوينة، وقدم أمية فنزل كشماهن، ورجع إليه شماس بن دثار فقدم أمية ثابت بن قطبة مولى خزاعة، فلقيه بكير فأسر ثابتا وفرق جمعه، وخلى بكير سبيل ثابت ليد كانت له عنده.
                        قال: فرجع إلى أمية، فأقبل أمية في الناس، فقاتله بكير وعلى شرطة بكير أبو رستم الخليل بن أوس العبشمي، فأبلى يومئذ، فنادوه: يا صاحب شرطة عارمة- وعارمة جارية بكير- فأحجم، فقال له بكير: لا أبا لك، لا يهدك نداء هؤلاء القوم، فإن للعارمة فحلا يمنعها، فقدم لواءك، فقاتلوا حتى انحاز بكير فدخل الحائط، فنزل السوق العتيقة، ونزل أمية باسان فكانوا يلتقون في ميدان يزيد، فانكشفوا يوما، فحماهم بكير، ثم التقوا يوما آخر في الميدان، فضرب رجل من بني تميم على رجله فجعل يسحبها، وهريم يحميه، فقال الرجل: اللهم أيدنا فأمدنا بالملائكة، فقال له هريم: أيها الرجل، قاتل عن نفسك، فإن الملائكة في شغل عنك، فتحامل ثم أعاد قوله: اللهم أمدنا بالملائكة، فقال هريم:
                        لتكفن عني أو لأدعنك والملائكة، وحماه حتى ألحقه بالناس قال:
                        ونادى رجل من بني تميم: يا أمية، يا فاضح قريش، فآلى أمية إن ظفر به أن يذبحه، فظفر به فذبحه بين شرفتين من المدينة، ثم التقوا يوما آخر، فضرب بكير بن وشاح ثابت بن قطبة على رأسه وانتمى: أنا ابن وشاح، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير، وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيرا حتى بلغ القنطرة، فناداه: أين يا بكير؟ فكر عليه، فضربه حريث على رأسه، فقطع المغفر، وعض السيف برأسه، فصرع، فاحتمله أصحابه، فأدخلوه المدينة.
                        قال: فكانوا على ذلك يقاتلونهم، وكان أصحاب بكير يغدون متفضلين في ثياب مصبغة وملاحف وأزر صفر وحمر، فيجلسون على نواحي المدينة يتحدثون، وينادي مناد: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
                        قال: فأشفق بكير، وخاف إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح، وأحب ذلك أيضا أصحاب أمية لمكان عيالاتهم بالمدينة، فقالوا لأمية: صالحه- وكان أمية يحب العافيه- فصالحه على ان يقضى عنه أربعمائة الف، ويصل اصحابه ويوليه أيضا أي كور خراسان شاء، ولا يسمع قول بحير فيه، وإن رابه منه ريب فهو آمن أربعين يوما حتى يخرج عن مرو، فأخذ الأمان لبكير من عبد الملك، وكتب له كتابا على باب سنجان، ودخل أمية المدينة قال: وقوم يقولون: لم يخرج بكير مع أمية غازيا، ولكن أمية لما غزا استخلفه على مرو فخلعه، فرجع أمية فقاتله، ثم صالحه ودخل مرو ووفى أمية لبكير وعاد إلى ما كان عليه من الإكرام وحسن الإذن، وأرسل إلى عتاب اللقوة، فقال: أنت صاحب المشورة، فقال: نعم أصلح الله الأمير! قال: ولم؟ قال: خف ما كان في يدي، وكثر ديني، وأعديت على غرمائي، قال: ويحك! فضربت بين المسلمين، وأحرقت السفن والمسلمون في بلاد العدو، وما خفت الله! قال: قد كان ذلك، فأستغفر الله، قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفا، قال: تكف عن غش المسلمين وأقضي دينك؟ قال: نعم، جعلني الله فداك! قال: فضحك أمية وقال: إن ظني بك غير ما تقول، وسأقضي عنك فأدى عنه عشرين ألفا، وكان أمية سهلا لينا سخيا، لم يعط أحد من عمال خراسان بها مثل عطاياه، قال: وكان مع ذلك ثقيلا عليهم، كان فيه زهو شديد، وكان يقول: ما أكتفي بخراسان وسجستان لمطبخي وعزل أمية بحيرا
                        عن شرطته، وولاها عطاء بن أبي السائب، وكتب إلى عبد الملك بما كان من أمر بكير وصفحه عنه، فضرب عبد الملك بعثا إلى أمية بخراسان، فتجاعل الناس، فأعطى شقيق بن سليك الأسدي جعالته رجلا من جرم، وأخذ أمية الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، فجلس بكير يوما في المسجد وعنده ناس من بني تميم، فذكروا شدة أمية على الناس، فذموه، وقالوا: سلط علينا الدهاقين في الجباية وبحير وضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية ابن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية فكذبه فادعى شهادة هؤلاء، وادعى شهادة مزاحم بن أبي المجشر السلمي، فدعا أمية مزاحما فسأله فقال: انما كان يمزح، فأعرض عنه أمية، ثم أتاه بحير فقال: أصلح الله الأمير! إن بكيرا والله قد دعاني إلى خلعك، وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فقال أمية: ما أصدق بهذا وقد فعل ما فعل، فآمنته ووصلته.
                        قال: فأتاه بضرار بن حصين وعبد العزيز بن جارية فشهدا أن بكيرا قال لهما: لو أطعتماني لقتلت هذا القرشي المخنث، وقد دعانا إلى الفتك بك فقال أمية: أنتم أعلم وما شهدتم، وما أظن هذا به وان تركه، وقد شهدتم بما شهدتم عجز، وقال لحاجبه عبيدة ولصاحب حرسه عطاء بن أبي السائب: إذا دخل بكير، وبدل وشمردل بنا أخيه، فنهضت فخدوهم.
                        وجلس أمية للناس، وجاء بكير وابنا أخيه، فلما جلسوا قام اميه عن سريره فدخل، وخرج الناس وخرج بكير، فحبسوه وابني أخيه، فدعا أمية ببكير فقال: أنت القائل كذا وكذا؟ قال: تثبت أصلحك الله ولا تسمعن قول ابن المحلوقة! فحبسه، وأخذ جاريته العارمة فحبسها، وحبس الأحنف ابن عبد الله العنبري، وقال: أنت ممن أشار على بكير بالخلع.
                        فلما كان من الغد أخرج بكيرا فشهد عليه بحير وضرار وعبد العزيز بن جارية أنه دعاهم إلى خلعه والفتك به، فقال: أصلحك الله! تثبت فإن هؤلاء أعدائي، فقال أمية لزياد بن عقبة- وهو رأس أهل العالية- ولابن والان العدوي- وهو يومئذ من رؤساء بنى تميم- ليعقوب بن خالد الذهلي: اتقتلونه؟ فلم يجيبوه، فقال لبحير: اتقتله؟ قال: نعم، فدفعه إليه، فنهض يعقوب بن القعقاع الأعلم الأزدي من مجلسه- وكان صديقا لبكير- فاحتضن اميه، وقال: اذكرك الله ايها امير في بكير، فقد أعطيته ما أعطيته من نفسك، قال: يا يعقوب ما يقتله إلا قومه، شهدوا عليه، فقال عطاء بن أبي السائب الليثي وهو على حرس أمية: خل عن الأمير، قال: لا، فضربه عطاء بقائم السيف، فأصاب أنفه فأدماه، فخرج، ثم قال لبحير: يا بحير، إن الناس أعطوا بكيرا ذمتهم في صلحه، وأنت منهم، فلا تخفر ذمتك، قال: يا يعقوب، ما أعطيته ذمة ثم أخذ بحير سيف بكير الموصول الذي كان أخذه من إسوار الترجمان ترجمان ابن خازم، فقال له بكير: يا بحير، إنك تفرق أمر بني سعد إن قتلتني، فدع هذا القرشي يلي مني ما يريد، فقال بحير: لا والله يا بن الأصبهانية لا تصلح بنو سعد ما دمنا حيين، قال: فشأنك يا بن المحلوقة، فقتله، وذلك يوم جمعة.
                        وقتل أمية ابني أخي بكير، ووهب جارية بكير العارمة لبحير، وكلم أمية في الأحنف بن عبد الله العنبري، فدعا به من السجن، فقال: وأنت ممن أشار على بكير، وشتمه، وقال: قد وهبتك لهؤلاء قال: ثم وجه أمية رجلا من خزاعة إلى موسى بن عبد الله بن خازم، فقتله عمرو بن خالد بن حصين الكلابي غيلة، فتفرق جيشه، فاستأمن طائفة منهم موسى، فصاروا معه، ورجع بعضهم الى أمية.
                        [هذا الخبر الطويل الذي استغرق صفحات ، رواه المدائني من طريق المفضل وبم نعتد بمروياته ولم يؤيده الآخرون كما هاهنا]

                        وفي هذه السنة عبر النهر، نهر بلخ أمية للغزو، فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعد ما أشرفوا على الهلاك، فانصرف والذين معه من الجند إلى مرو وقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجو أمية:
                        ألا أبلغ أمية أن سيجزى ... ثواب الشر إن له ثوابا
                        ومن ينظر عتابك أو يرده ... فلست بناظر منك العتابا
                        محا المعروف منك خلال سوء ... منحت صنيعها بابا فبابا
                        ومن سماك إذ قسم الأسامي ... أمية إذ ولدت فقد أصابا



                        وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                        أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                        تعليق

                        • إيمان أحمد
                          مشرفة الأقسام الإسلامية

                          • 9 يون, 2006
                          • 2427
                          • موظفة
                          • مسلمة

                          #27
                          رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                          ثم دخلت سنة تسع وسبعين ذكر ما كان فيها من الأحداث الجليلة
                          ذكر الخبر عن غزو عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل

                          وفيها غزا عبيد الله بن أبي بكرة رتبيل.
                          ذكر الخبر عن غزوته إياه:

                          قال هشام: حدثني أبو مخنف، عن أبي المخارق الراسبي، قال: لما ولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد الله بن أبي بكرة سجستان، مضى المهلب إلى خراسان وعبيد الله بن أبي بكرة إلى سجستان، وذلك في سنة ثمان وسبعين، فمكث عبيد الله بن أبي بكرة بقية سنته ثم إنه غزا رتبيل وقد كان مصالحا، وقد كانت العرب قبل ذلك تأخذ منه خراجا، وربما امتنع فلم يفعل، فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة أن ناجزه بمن معك من المسلمين فلا ترجع حتى تستبيح أرضه، وتهدم قلاعه، وتقتل مقاتلته، وتسبي ذريته فخرج بمن معه من المسلمين من أهل الكوفة وأهل البصرة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ الحارثي ثم الضبابي، وكان من أصحاب علي، وكان عبيد الله على أهل البصرة، وهو أمير الجماعة، فمضى حتى وغل في بلاد رتبيل، فأصاب من البقر والغنم والأموال ما شاء وهدم قلاعا وحصونا، وغلب على أرض من أرضهم كثيرة، وأصحاب رتبيل من الترك يخلون لهم عن أرض بعد أرض، حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها ثمانية عشر فرسخا، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، وخلوهم والرساتيق، فسقط في أيدي المسلمين، وظنوا أن قد هلكوا، فبعث ابن أبي بكرة إلى شريح بن هانئ: أني مصالح القوم على أن أعطيهم مالا، ويخلوا بيني وبين الخروج، فأرسل اليهم فصالحهم على سبعمائة ألف درهم، فلقيه شريح فقال: إنك لا تصالح على شيء إلا حسبه السلطان عليكم في أعطياتكم، قال: لو منعنا العطاء ما حيينا كان أهون علينا من هلاكنا، قال شريح: والله لقد بلغت سنا، وقد هلكت لداتي، ما تأتي علي ساعة من ليل أو نهار فأظنها تمضي حتى أموت، ولقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان، ولئن فاتتني اليوم ما أخالني مدركها حتى أموت، وقال: يا أهل الإسلام، تعاونوا على عدوكم، فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت، فقال شريح: إنما حسبك أن يقال: بستان ابن أبي بكرة وحمام ابن أبي بكرة، يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير، وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فقاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلا، فجعل شريح يرتجز يومئذ ويقول:
                          أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
                          ثمت أدركت النبي المنذرا ... وبعده صديقه وعمرا
                          ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع في صفينهم والنهرا
                          وباجميرات مع المشقرا ... هيهات ما أطول هذا عمرا
                          فقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه، ونجا من نجا، فخرجوا من بلاد رتبيل حتى خرجوا منها، فاستقبلهم من خرجوا إليهم من المسلمين بالأطعمة، فإذا أكل أحدهم وشبع مات، فلما رأى ذلك الناس حذروا يطعمونهم، ثم جعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا، حتى استمرءوا وبلغ ذلك الحجاج، فأخذه ما تقدم وما تأخر، وبلغ ذلك منه كل مبلغ، وكتب إلى عبد الملك:
                          أما بعد، فإن جند أمير المؤمنين الذين بسجستان أصيبوا فلم ينج منهم إلا القليل، وقد اجترأ العدو بالذي أصابه على أهل الإسلام فدخلوا بلادهم، وغلبوا على حصونهم وقصورهم، وقد أردت أن أوجه إليهم جندا كثيفا من أهل المصرين، فأحببت أن أستطلع رأي أمير المؤمنين في ذلك، فإن رأى لي بعثة ذلك الجند أمضيته، وإن لم ير ذلك فإن أمير المؤمنين أولى بجنده، مع أني أتخوف إن لم يأت رتبيل ومن معه من المشركين جند كثيف عاجلا أن يستولوا على ذلك الفرج كله.
                          [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]



                          وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                          أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                          تعليق

                          • إيمان أحمد
                            مشرفة الأقسام الإسلامية

                            • 9 يون, 2006
                            • 2427
                            • موظفة
                            • مسلمة

                            #28
                            رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                            ثم دخلت سنة ثمانين ذكر الأحداث الجليلة التي كانت في هذه السنة
                            تسيير الجنود إلى مع ابن الأشعث لحرب رتبيل

                            وفي هذه السنة وجه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان لحرب رتبيل صاحب الترك، وقد اختلف أهل السير في سبب
                            توجيهه إياه إليها، وأين كان عبد الرحمن يوم ولاه الحجاج سجستان وحرب رتبيل، فأما يونس بن أبي إسحاق- فيما حدث هشام، عن أبي مخنف عنه- فإنه ذكر أن عبد الملك لما ورد عليه كتاب الحجاج بن يوسف بخبر الجيش الذي كان مع عبيد الله بن أبي بكرة في بلاد رتبيل، وما لقوا بها كتب إليه: أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه مصاب المسلمين بسجستان، وأولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وعلى الله ثوابهم. وأما ما أردت أن يأتيك فيه رأيي من توجيه الجنود وإمضائها إلى ذلك الفرج الذى اصيب فيه المسلمون او كفها، فإن رأيي في ذلك أن تمضي رأيك راشدا موفقا.
                            وكان الحجاج وليس بالعراق رجل أبغض إليه من عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، وكان يقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله.
                            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                            قال أبو مخنف: فحدثني نمير بن وعلة الهمداني، ثم اليناعي، عن الشعبي، قال: كنت عند الحجاج جالسا حين دخل عليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فلما رآه الحجاج قال: انظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه قال: فلما خرج عبد الرحمن خرجت فسبقته وانتظرته على باب سعيد بن قيس السبيعي، فلما انتهى إلي قلت: ادخل بنا الباب، إني أريد أن أحدثك حديثا هو عندك بأمانة الله أن تذكره ما عاش الحجاج. فقال: نعم، فأخبرته بمقالة الحجاج له، فقال: وأنا كما زعم الحجاج إن لم أحاول أن أزيله عن سلطانه، فأجهد الجهد إذ طال بي وبه بقاء.
                            ثم إن الحجاج أخذ في جهاز عشرين ألف رجل من أهل الكوفة، وعشرين ألف رجل من أهل البصرة، وجد في ذلك وشمر، وأعطى الناس أعطياتهم كملا، وأخذهم بالخيول الروائع، والسلاح الكامل، وأخذ في عرض الناس، ولا يرى رجلا تذكر منه شجاعة إلا أحسن معونته، فمر عبيد الله بن أبي محجن الثقفي على عباد بن الحصين الحبطي، وهو مع الحجاج يريد عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، وهو يعرض الناس، فقال عباد: ما رأيت فرسا أروع ولا أحسن من هذا، وإن الفرس قوة وسلاح وإن هذه البغله علنداه، فزاده الحجاج خمسين وخمسمائة درهم، ومر به عطية العنبري، فقال له الحجاج، يا عبد الرحمن، أحسن إلى هذا. فلما استتب له أمر ذينك الجندين، بعث الحجاج عطارد بن عمر التميمى فعسكر بالاهواز، ثم بعث عبيد الله بن حجر بن ذي الجوشن العامري من بني كلاب ثم بدا له، فبعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وعزل عبيد الله بن حجر، فأتى الحجاج عمه إسماعيل بن الأشعث، فقال له: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطانا فقال الحجاج: ليس هناك، هو لي أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج من طاعتي، فأمضاه على ذلك الجيش، فخرج بهم حتى قدم سجستان سنة ثمانين، فجمع أهلها حين قدمها.
                            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                            قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الأرحبي- رجل من همدان كان معه- أنه صعد منبرها فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم وأباد خياركم، فإياكم أن يتخلف منكم رجل فيحل بنفسه العقوبة، اخرجوا إلى معسكركم فعسكروا به مع الناس فعسكر الناس كلهم في معسكرهم ووضعت لهم الأسواق، وأخذ الناس بالجهاز والهيئة بآلة الحرب، فبلغ ذلك رتبيل، فكتب إلى عبد الرحمن بن محمد يعتذر إليه من مصاب المسلمين ويخبره أنه كان لذلك كارها، وأنهم ألجئوه إلى قتالهم، ويسأله الصلح ويعرض عليه أن يقبل منه الخراج، فلم يجبه، ولم يقبل منه. ولم ينشب عبد الرحمن أن سار في الجنود إليه حتى دخل أول بلاده، وأخذ رتبيل يضم إليه جنده، ويدع له الأرض رستاقا رستاقا، وحصنا حصنا، وطفق ابن الأشعث كلما حوى بلدا بعث إليه عاملا، وبعث معه أعوانا، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضا عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس الناس عن الوغول في أرض رتبيل وقال: نكتفي بما أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها، وتجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل نتنقصهم في كل عام طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم، وفي أقصى بلادهم، وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله.
                            ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه من بلاد العدو، وبما صنع الله للمسلمين، وبهذا الرأي الذي رآه لهم.
                            وأما غير يونس بن أبي إسحاق وغير من ذكرت الرواية عنه في أمر ابن الأشعث فإنه قال في سبب ولايته سجستان ومسيره إلى بلاد رتبيل غير الذي رويت عن أبي مخنف، وزعم أن السبب في ذلك كان أن الحجاج وجه هميان بن عدي السدوسي إلى كرمان، مسلحة لها ليمد عامل سجستان والسند إن احتاجا إلى مدد، فعصى هميان ومن معه، فوجه الحجاج ابن الأشعث في محاربته، فهزمه، وأقام بموضعه.
                            [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]


                            ومات عبيد الله بن أبي بكرة، وكان عاملا على سجستان، فكتب الحجاج عهد ابن الأشعث عليها، وجهز إليها جيشا أنفق عليهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، كان يدعى جيش الطواويس، وأمره بالإقدام على رتبيل.



                            وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                            أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                            تعليق

                            • إيمان أحمد
                              مشرفة الأقسام الإسلامية

                              • 9 يون, 2006
                              • 2427
                              • موظفة
                              • مسلمة

                              #29
                              رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                              ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
                              ذكر ما كان فيها من الأحداث
                              ذكر الخبر عن مقتل بحير بن ورقاء بخراسان

                              وفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي بخراسان.
                              ذكر الخبر عن مقتله:
                              وكان سبب قتله أن بحيرا كان هو الذي تولى قتل بكير بن وشاح بأمر أمية بن عبد الله إياه بذلك، فقال عثمان بن رجاء بن جابر بن شداد أحد بني عوف بن سعد من الأبناء يحض رجلا من الأبناء من آل بكير بالوتر:
                              لعمري لقد أغضيت عينا على القذى ... وبت بطينا من رحيق مروق
                              وخليت ثأرا طل واخترت نومة ... ومن شرب الصهباء بالوتر يسبق
                              فلو كنت من عوف بن سعد ذؤابة ... تركت بحيرا في دم مترقرق
                              فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا ... بعوف فعوف أهل شاة حبلق
                              دع الضأن يوما قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثا بين غرب ومشرق
                              وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... صحيحا لغاداهم بجأواء فيلق
                              وقال أيضا:
                              فلو كان بكر بارزا في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير
                              ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير
                              وبلغ بحيرا أن الأبناء يتوعدونه، فقال:
                              توعدني الأبناء جهلا كأنما ... يرون فنائي مقفرا من بني كعب
                              رفعت له كفي بحد مهند ... حسام كلون الملح ذي رونق عضب
                              فذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن سبعة عشر رجلا من بني عوف بن كعب بن سعد تعاقدوا على الطلب بدم بكير، فخرج فتى منهم يقال له الشمردل من البادية حتى قدم خراسان، فنظر إلى بحير واقفا، فشد عليه فطعنه فصرعه، فظن أنه قد قتله، وقال الناس: خارجي، فراكضهم، فعثر فرسه فندر عنه فقتل.
                              ثم خرج صعصعة بن حرب العوفي، ثم أحد بني جندب، من البادية وقد باع غنيمات له، واشترى حمارا، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير هناك ولاطفهم، وقال: أنا رجل من بني حنيفة من أهل اليمامة، فلم يزل يأتيهم ويجالسهم حتى أنسوا به، فقال لهم: إن لي بخراسان ميراثا قد غلبت عليه، وبلغني أن بحيرا عظيم القدر بخراسان، فاكتبوا لي إليه كتابا يعينني على طلب حقي، فكتبوا إليه، فخرج فقدم مرو والمهلب غاز قال: فلقي قوما من بني عوف، فأخبرهم أمره، فقام إليه مولى لبكير صيقل، فقبل رأسه، فقال له صعصعة: اتخذ لي خنجرا، فعمل له خنجرا واحماه وغمسه لبن أتان مرارا ثم شخص من مرو فقطع النهر حتى أتى عسكر المهلب وهو بآخرون يومئذ، فلقي بحيرا بالكتاب، وقال: إني رجل من بني حنيفة، كنت من أصحاب ابن أبي بكرة، وقد ذهب مالي بسجستان، ولي ميراث بمرو، فقدمت لأبيعه، وأرجع إلى اليمامة.
                              قال: فأمر له بنفقة وأنزله معه، وقال له: استعن بي على ما أحببت، قال: أقيم عندك حتى يقفل الناس، فأقام شهرا أو نحوا من شهر يحضر معه باب المهلب ومجلسه حتى عرف به قال: وكان بحير يخاف الفتك به، ولا يأمن أحدا، فلما قدم صعصعة بكتاب أصحابه قال: هو رجل من بكر بن وائل، فأمنه، فجاء يوما وبحير جالس في مجلس المهلب، عليه قميص ورداء ونعلان، فقعد خلفه، ثم دنا منه، فأكب عليه كأنه بكلمة، فوجأه بخنجره في خاصرته، فغيبه في جوفه، فقال الناس: خارجي!، فنادى: يا لثأرات بكير، انا ثائر ببكير! فقال الناس: خارجي! فنادى: يا لثأرات بكير، أنا ثائر ببكير! فأخذه أبو العجفاء بن أبي الخرقاء، وهو يومئذ على شرط المهلب، فأتى به المهلب فقال له: بؤسا لك! ما أدركت بثأرك، وقتلت نفسك، وما على بحير بأس، فقال: لقد طعنته طعنة لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي، فحبسه فدخل عليه السجن قوم من الأبناء فقبلوا رأسه قال: ومات بحير من غد عند ارتفاع النهار، فقيل لصعصعة: مات بحير، فقال: اصنعوا بي الآن ما شئتم، وما بدا لكم، أليس قد حلت نذور نساء بني عوف، وأدركت بثأري! لا أبالي ما لقيت، أما والله لقد أمكنني ما صنعت خاليا غير مرة، فكرهت أن أقتله سرا، فقال المهلب: ما رأيت رجلا أسخى نفسا بالموت صبرا من هذا، وأمر بقتله أبا سويقة ابن عم لبحير، فقال له أنس بن طلق ويحك! قتل بحير فلا تقتلوا هذا، فأبى وقتله، فشتمه أنس.
                              وقال آخرون: بعث به المهلب إلى بحير قبل ان يموت، فقال له انس ابن طلق العبشمي: يا بحير، إنك قتلت بكيرا، فاستحى هذا، فقال بحير: أدنوه مني، لا والله لا أموت وأنت حي، فأدنوه منه، فوضع رأسه بين رجليه وقال: اصبر عفاق، إنه شر باق، فقال ابن طلحة لبحير: لعنك الله! أكلمك فيه وتقتله بين يدي! فطعنه بحير بسيفه حتى قتله ومات بحير، فقال المهلب: إنا لله وإنا إليه راجعون، غزوة أصيب فيها بحير، فغضب عوف بن كعب والأنباء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره! فنازعتهم مقاعس والبطون حتى خاف الناس أن يعظم البأس، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم بحير بواء ببكير فودوا صعصعة، فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
                              لله در فتى تجاوز همه ... دون العراق مفاوزا وبحورا
                              ما زال يدأب نفسه ويكدها ... حتى تناول في خرون بحيرا
                              قال: وخرج عبد ربه الكبير أبو وكيع، وهو من رهط صعصعة إلى البادية، فقال لرهط بكير: قتل صعصعة بطلبه بدم صاحبكم، فودوه، فاخذ لصعصعة ديتين.

                              ذكر هشام عن أبي مخنف قال: قال أبو المخارق الراسبي: كتب الحجاج إلى عبد الرحمن بن محمد جواب كتابه:
                              أما بعد، فإن كتابك أتاني، وفهمت ما ذكرت فيه، وكتابك كتاب امرئ يحب الهدنة، ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدوا قليلا ذليلا، قد أصابوا من المسلمين جندا كان بلاؤهم حسنا، وغناؤهم في الاسلام عظيما. لعمرك يا بن أم عبد الرحمن، إنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس عمن أصيب من المسلمين إني لم أعدد رأيك الذي زعمت أنك رأيته رأي مكيدة، ولكني رأيت أنه لم يحملك عليه إلا ضعفك، والتياث رأيك، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، والهدم لحصونهم، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم.
                              ثم أردفه كتابا فيه :
                              أما بعد، فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا، فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم.
                              ثم أردفه كتابا آخر فيه:
                              أما بعد، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم، وإلا فإن إسحاق ابن محمد أخاك أمير الناس، فخله وما وليته.
                              فقال حين قرأ كتابه: أنا أحمل ثقل إسحاق، فعرض له، فقال: لا تفعل، فقال: ورب هذا- يعني المصحف- لئن ذكرته لأحد لأقتلنك فظن أنه يريد السيف، فوضع يده على قائم السيف، ثم دعا الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب، ولكم في كل ما يحيط بكم نفعه ناظر، وقد كان من رأيي فيما بينكم وبين عدوكم رأي استشرت فيه ذوي أحلامكم، وأولي التجربة للحرب منكم، فرضوه لكم رأيا، ورأوه لكم في العاجل والآجل صلاحا، وقد كتبت إلى أميركم الحجاج، فجاءني منه كتاب يعجزني ويضعفني، ويأمرني بتعجيل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك إخوانكم فيها بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم، وآبي إذا أبيتم فثار إليه الناس فقالوا: لا، بل نأبى على عدو الله، ولا نسمع له ولا نطيع.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: فحدثني مطرف بن عامر بن واثلة الكناني أن أباه كان أول متكلم يومئذ، وكان شاعرا خطيبا، فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه:
                              أما بعد، فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال
                              لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك إن الحجاج والله ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال، وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذي لا يبالي عنتهم، ولا يبقي عليهم، اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع فنادى الناس من كل جانب، فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله، وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانيا- وكان على شرطته حين أقبل- فقال: عباد الله، إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم، وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم بايعوا أميركم، وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه، فقال: تبايعوني على خلع الحجاج عدو الله وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه الله من أرض العراق، فبايعه الناس، ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: حدثني عمر بن ذر القاص أن أباه كان معه هنالك، وأن ابن محمد كان ضربه وحبسه لانقطاعه كان إلى أخيه القاسم بن محمد، فلما كان من أمره الذي كان من الخلاف دعاه فحمله وكساه واوطاه، فأقبل معه فيمن أقبل، وكان قاصا خطيبا.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: حدثني سيف بن بشر العجلي، عن المنخل بن حابس العبدي أن ابن محمد لما أقبل من سجستان أمر على بست عياض ابن هميان البكري، من بني سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي ثم الدارمي، ثم بعث إلى رتبيل، فصالحه على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبدا ما بقي، وإن هزم فأراده ألجأه عنده .
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: حدثني خشينة بن الوليد العبسي أن عبد الرحمن لما خرج من سجستان مقبلا إلى العراق سار بين يديه الأعشى على فرس، وهو يقول:
                              شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
                              من عاشق أمسى بزابلستان ... إن ثقيفا منهم الكذابان
                              كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان
                              يوما إلى الليل يسلى ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان
                              حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
                              سار بجمع كالدبى من قحطان ... ومن معد قد أتى ابن عدنان
                              بجحفل جم شديد الإرنان ... فقل لحجاج ولي الشيطان
                              يثبت لجمع مذحج وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان
                              وملحقوه بقرى ابن مروان
                              قال: وبعث على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وبعث الحجاج إليه الخيل، فجعل لا يلقى خيلا إلا هزمها، فقال الحجاج: من هذا؟ فقيل له:
                              عطية، فذلك قول الأعشى:
                              فإذا جعلت دروب فارس ... خلفهم دربا فدربا
                              فابعث عطية في الخيول ... يكبهن عليك كبا
                              ثم إن عبد الرحمن أقبل يسير بالناس، فسأل عن أبي إسحاق السبيعي، وكان قد كتبه في أصحابه، وكان يقول: أنت خالي، فقيل له: ألا تأتيه فقد سأل عنك! فكره أن يأتيه، ثم أقبل حتى مر بكرمان فبعث عليهم خرشه ابن عمرو التميمي، ونزل أبو إسحاق بها، فلم يدخل في فتنته حتى كانت
                              الجماجم، ولما دخل الناس فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا:
                              إنا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف فيما حدثني أبو الصلت التيمي: خلع عبد الملك بن مروان تيحان بن أبجر من بني تيم الله بن ثعلبة، فقام فقال: أيها الناس، إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي، فخلعه الناس إلا قليلا منهم، ووثبوا إلى ابن محمد فبايعوه، وكانت بيعته: تبايعون على كتاب الله وسنة نبيه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلين، فإذا قالوا: نعم بايع فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك يخبره خبر عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، ويسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه، وبعث كتابه إلى عبد الملك يتمثل في آخره بهذه الأبيات، وهي للحارث بن وعلة:
                              سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تفرق بين الجيرة الخلط
                              وهل سموت بجرار له لجب ... جم الصواهل بين الجم والفرط
                              وهل تركت نساء الحي ضاحية ... في ساحة الدار يستوقدن بالغبط
                              وجاء حتى نزل البصرة وقد كان بلغ المهلب شقاق عبد الرحمن وهو بسجستان، فكتب إليه:
                              أما بعد، فإنك وضعت رجلك يا بن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد ص الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم والسلام عليك.
                              وكتب المهلب إلى الحجاج:
                              أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحدر من عل، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم واقفهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله.
                              فلما قرأ كتابه قال: فعل الله به وفعل، لا والله ما لي نظر ولكن لابن عمه نصح لما وقع كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ثم نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع، فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته قال: فخرج إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
                              إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك.
                              ثم نزل.
                              وأقام الحجاج بالبصرة وتجهز ليلقى ابن محمد، وترك رأي المهلب وفرسان الشام يسقطون إلى الحجاج، في كل يوم مائة وخمسون وعشرة وأقل على البرد من قبل عبد الملك، وهو في كل يوم تسقط إلى عبد الملك كتبه ورسله بخبر ابن محمد أي كورة نزل، ومن اى كوره يرتحل، وأي الناس إليه أسرع.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: حدثني فضيل بن خديج أن مكتبه كان بكرمان، وكان بها أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة وأهل البصرة، فلما مر بهم ابن محمد بن الأشعث، انجفلوا معه، وعزم الحجاج رأيه على استقبال ابن الأشعث، فسار بأهل الشام حتى نزل تستر، وقدم بين يديه مطهر بن حر العكي- أو الجذامي- وعبد الله بن رميثة الطائي، ومطهر على الفريقين، فجاءوا حتى انتهوا إلى دجيل، وقد قطع عبد الرحمن بن محمد خيلا له، عليها عبد الله بن أبان الحارثي في ثلاثمائة فارس- وكانت مسلحة له وللجند- فلما انتهى إليه مطهر بن حر أمر عبد الله بن رميثة الطائي فأقدم عليهم، فهزمت خيل عبد الله حتى انتهت إليه، وجرح أصحابه.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              قال أبو مخنف: فحدثني أبو الزبير الهمداني، قال: كنت في أصحاب ابن محمد إذ دعا الناس وجمعهم إليه ثم قال: اعبروا إليه من هذا المكان، فأقحم الناس خيولهم دجيل من ذلك المكان الذي أمرهم به، فو الله ما كان بأسرع من أن عبر عظم خيولنا، فما تكاملت حتى حملنا على مطهر بن حر والطائي فهزمناهما يوم الأضحى في سنة إحدى وثمانين وقتلناهم قتلا ذريعا، وأصبنا عسكرهم، وأتت الحجاج الهزيمة وهو يخطب، فصعد إليه أبو كعب بن عبيد بن سرجس فاخبره بهزيمه الناس، فقال: أيها الناس، ارتحلوا إلى البصرة إلى معسكر ومقاتل وطعام ومادة، فإن هذا المكان الذي نحن به لا يحمل الجند ثم انصرف راجعا وتبعته خيول أهل العراق، فكلما أدركوا منهم شاذا قتلوه، وأصابوا ثقلا حووه، ومضى الحجاج لا يلوي على شيء حتى نزل الزاوية، وبعث إلى طعام التجار بالكلا فأخذه فحمله إليه، وخلى البصرة لأهل العراق وكان عامله عليها الحكم ابن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وجاء أهل العراق حتى دخلوا البصرة وقد كان الحجاج حين صدم تلك الصدمة وأقبل راجعا دعا بكتاب المهلب، فقرأه ثم قال: لله أبوه! أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي، ولكنا لم نقبل.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                              وقال غير أبي مخنف: كان عامل البصرة يومئذ الحكم بن أيوب على الصلاة والصدقة، وعبد الله بن عامر بن مسمع على الشرط، فسار الحجاج في جيشه حتى نزل رستقباذ وهي من دستوى من كور الأهواز، فعسكر بها، وأقبل ابن الأشعث فنزل تستر، وبينهما نهر، فوجه الحجاج مطهر ابن حر العكي في ألفي رجل، فأوقعوا بمسلحة لابن الأشعث، وسار ابن الأشعث مبادرا، فواقعهم، وهي عشية عرفة من سنة إحدى، وثمانين فيقال: إنهم قتلوا من اهل الشام ألفا وخمسمائة، وجاءه الباقون منهزمين، ومعه يومئذ مائة وخمسون ألف ألف، ففرقها في قواده، وضمنهم إياها، وأقبل منهزما إلى البصرة وخطب ابن الأشعث أصحابه فقال: أما الحجاج فليس بشيء، ولكنا نريد غزو عبد الملك، وبلغ أهل البصرة هزيمة الحجاج، فأراد عبد الله بن عامر بن مسمع أن يقطع الجسر دونه، فرشاه الحكم ابن أيوب مائة ألف، فكف عنه ودخل الحجاج البصرة، فأرسل إلى ابن عامر فانتزع المائة الألف منه.
                              رجع الحديث إلى حديث أبي مخنف عن أبي الزبير الهمداني.
                              فلما دخل عبد الرحمن بن محمد البصرة بايعه على حرب الحجاج، وخلع عبد الملك جميع أهلها من قرائها وكهولها، وكان رجل من الأزد من الجهاضم يقال له عقبة بن عبد الغافر له صحابة، فنزا فبايع عبد الرحمن مستبصرا في قتال الحجاج، وخندق الحجاج عليه، وخندق عبد الرحمن على البصرة وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة من سنة إحدى وثمانين.
                              [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]



                              وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                              أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                              تعليق

                              • إيمان أحمد
                                مشرفة الأقسام الإسلامية

                                • 9 يون, 2006
                                • 2427
                                • موظفة
                                • مسلمة

                                #30
                                رد: صحيح وضعيف تاريخ الطبري حققه وخرج رواياته وعلق عليه محمد بن طاهر البرزنجي[ج9]

                                ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين
                                ذكر الخبر عن الكائن من الاحداث فيها
                                خبر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث بالزاوية

                                فمن ذلك ما كان بين الحجاج وعبد الرحمن بن محمد من الحروب بالزاوية.
                                ذكر هشام بن محمد، عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني قال: كان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة، واقتتلوا في المحرم من سنة اثنتين وثمانين، فتزاحفوا ذات يوم، فاشتد قتالهم ثم إن أهل العراق هزموهم حتى انتهوا إلى الحجاج، وحتى قاتلوهم على خنادقهم، وانهزمت عامة قريش، وثقيف، حتى قال عبيد بن موهب مولى الحجاج وكاتبه:
                                فر البراء وابن عمه مصعب ... وفرت قريش غير آل سعيد
                                ثم إنهم تزاحفوا في المحرم في آخره في اليوم الذي هزم فيه أهل العراق أهل الشام، فنكصت ميمنتهم وميسرتهم، واضطربت رماحهم، وتقوض صفهم، حتى دنوا منا، فلما رأى الحجاج ذلك جثا على ركبتيه، وانتضى نحوا من شبر من سيفه، وقال: لله در مصعب! ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل! فعلمت أنه والله لا يريد أن يفر قال: فغمزت أبي بعيني ليأذن لي فيه فأضربه بسيفي، فغمزني غمزة شديدة، فسكنت وحانت مني التفاتة، فإذا سفيان بن الأبرد الكلبي قد حمل عليهم فهزمهم من قبل الميمنة، فقلت: أبشر أيها الأمير، فإن الله قد هزم العدو فقال لي: قم فانظر، قال: فقمت فنظرت، فقلت: قد هزمهم الله، قال: قم يا زياد فانظر، قال: فقام فنظر فقال: الحق أصلحك الله يقينا قد هزموا، فخر ساجدا، فلما رجعت شتمني أبي وقال: أردت أن تهلكني وأهل بيتي.
                                وقتل في المعركة عبد الرحمن بن عوسجة ابو سفيان النهمي، وقتل عقبه ابن عبد الغافر الأزدي ثم الجهضمي، في أولئك القراء في ربضة واحدة، وقتل عبد الله بن رزام الحارثي، وقتل المنذر بن الجارود، وقتل عبد الله ابن عامر بن مسمع، وأتي الحجاج برأسه، فقال: ما كنت أرى هذا فارقني حتى جاءني الآن برأسه، وبارز سعيد بن يحيى بن سعيد بن العاص رجلا يومئذ فقتله، وزعموا أنه كان مولى للفضل بن عباس بن ربيعه بن الحارث ابن عبد المطلب، كان شجاعا يدعى نصيرا، فلما رأى مشيته بين الصفين، وكان يلومه على مشيته قال: لا ألومه على هذه المشية ابدا.
                                وقتل الطفيل بن عامر بن واثله، وقد كان قال وهو بفارس يقبل مع عبد الرحمن من كرمان إلى الحجاج:
                                ألا طرقتنا بالغريين بعد ما ... كللنا على شحط المزار جنوب
                                أتوك يقودون المنايا وإنما ... هدتها بأولانا إليك ذنوب
                                ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من الله في دار القرار نصيب
                                ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ... عذاب بأيدي المؤمنين مصيب
                                متى نهبط المصرين يهرب محمد ... وليس بمنجي ابن اللعين هروب
                                قال: منيتنا أمرا كان في علم الله أنك أولى به، فعجل لك في الدنيا، وهو معذبك في الآخرة وانهزم الناس، فأقبل عبد الرحمن نحو الكوفة وتبعه من كان معه من أهل الكوفة، وتبعه أهل القوة من أصحاب الخيل من أهل البصرة.
                                ولما مضى عبد الرحمن نحو الكوفة وثب اهل البصره الى عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم خمس ليال الحجاج أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث، وتبعه طائفة من أهل البصرة فلحقوا به، وخرج الحريش بن هلال السعدي وهو من بني أنف الناقة- وكان جريحا- إلى سفوان فمات من جراحته، وقتل في المعركة زياد بن مقاتل بن مسمع من بني قيس بن ثعلبة، فقامت حميدة ابنته تندبه، وكان على خمس بكر بن وائل مع ابن الأشعث وعلى الرجال، فقالت:
                                وحامى زياد على رايتيه ... وفر جدي بني العنبر
                                فجاء البلتع السعدي فسمعها وهي تندب أباها، وتعيب التميمي، فجاء وكان يبيع سمنا بالمربد، فترك سمنه عند أصحابه، وجاء حتى قام تحتها فقال:
                                علام تلومين من لم يلم ... تطاول ليلك من معصر!
                                فإن كان أردى أباك السنان ... فقد تلحق الخيل بالمدبر
                                وقد تنطح الخيل تحت العجاج ... غير البري ولا المعذر
                                ونحن منعنا لواء الحريش ... وطاح لواء بني جحدر
                                فقال عامر بن واثلة يرثي ابنه طفيلا:
                                خلى طفيل علي الهم فانشعبا ... وهد ذلك ركني هدة عجبا
                                وابني سمية لا أنساهما أبدا ... فيمن نسيت وكل كان لي نصبا
                                وأخطأتني المنايا لا تطالعني ... حتى كبرت ولم يتركن لي نشبا
                                وكنت بعد طفيل كالذي نضبت ... عنه المياه وفاض الماء فانقضبا
                                فلا بعير له في الأرض يركبه ... وإن سعى إثر من قد فاته لغبا
                                وسار من أرض خاقان التي غلبت ... أبناء فارس في أربائها غلبا
                                ومن سجستان أسباب تزينها ... لك المنية حينا كان مجتلبا
                                حتى وردت حياض الموت فانكشفت ... عنك الكتائب لا تخفى لها عقبا
                                وغادروك صريعا رهن معركة ... ترى النسور على القتلى بها عصبا
                                تعاهدوا ثم لم يوفوا بما عهدوا ... وأسلموا للعدو السبي والسلبا
                                يا سوءة القوم إذ تسبى نساؤهم ... وهم كثير يرون الخزي والحربا
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                قال أبو مخنف: فحدثني هشام بن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي أن الحجاج أقام بقية المحرم وأول صفر، ثم استعمل على البصره أيوب ابن الحكم بن أبي عقيل، ومضى ابن الأشعث إلى الكوفة، وقد كان الحجاج خلف عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمى، حليف حرب ابن أمية على الكوفة.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                قال أبو مخنف- كما حدثني يونس بن أبي إسحاق: أنه كان على أربعة آلاف من أهل الشام.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                قال أبو مخنف: فحدثني يونس بن أبي إسحاق أنه رآهم ينزلون من القصر على العجل، وفتح باب القصر لمطر بن ناجية، فازدحم الناس على باب القصر، فزحم مطر على باب القصر، فاخترط سيفه، فضرب به جحفلة بغل من بغال أهل الشام وهم يخرجون من القصر، فالقى جحلفته ودخل القصر، واجتمع الناس عليه فأعطاهم مائتي درهم قال يونس: وأنا رأيتها تقسم بينهم، وكان أبو السقر فيمن أعطيها وأقبل ابن الأشعث منهزما إلى الكوفة، وتبعه الناس إليها.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث

                                قال أبو جعفر: وفي هذه السنة كانت وقعة دير الجماجم بين الحجاج وابن الأشعث في قول بعضهم قال الواقدي: كانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وفي قول بعضهم: كانت في سنة ثلاث وثمانين.
                                *ذكر الخبر عن ذلك وعن سبب مصير ابن الأشعث إلى دير الجماجم وذكر ما جرى بينه وبين الحجاج بها:
                                ذكر هشام عن أبي مخنف، قال: حدثني أبو الزبير الهمداني ثم الأرحبي، قال: كنت قد أصابتني جراحة، وخرج أهل الكوفة يستقبلون ابن الأشعث حين أقبل، فاستقبلوه بعد ما جاز قنطرة زبارا، فلما دنا منها قال لي: إن رأيت أن تعدل عن الطريق- فلا يرى الناس جراحتك فإني لا أحب أن يستقبلهم الجرحى- فافعل فعدلت ودخل الناس، فلما دخل الكوفة مال إليه أهل الكوفة كلهم، وسبقت همدان إليه، فحفت به عند دار عمرو بن حريث الا طائفة من تميم ليسوا بالكثير قد أتوا مطر بن ناجية، فأرادوا أن يقاتلوا دونه، فلم يطيقوا قتال الناس فدعا عبد الرحمن بالسلاليم والعجل، فوضعت ليصعد الناس القصر، فصعد الناس القصر فأخذوه، فأتي به عبد الرحمن بن محمد، فقال له: استبقني فإني أفضل فرسانك واعظمهم عنك غناء، فأمر به فحبس، ثم دعا به بعد ذلك فعفا عنه وبايعه مطر، ودخل الناس إليه فبايعوه، وسقط إليه أهل البصرة، وتقوضت إليه المسالح والثغور، وجاءه فيمن جاءه من اهل البصره عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وعرف بذلك، وكان قد قاتل الحجاج بالبصرة بعد خروج ابن الأشعث ثلاثا، فبلغ ذلك عبد الملك ابن مروان، فقال: قاتل الله عدي الرحمن، إنه قد فر! وقاتل غلمان من غلمان قريش بعده ثلاثا وأقبل الحجاج من البصرة فسار في البر حتى مر بين القادسية والعذيب، ومنعوه من نزول القادسية، وبعث إليه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عبد الرحمن بن العباس في خيل عظيمة من خيل المصرين فمنعوه من نزول القادسية، ثم سايروه حتى ارتفعوا على وادي السباع، ثم تسايروا حتى نزل الحجاج دير قرة، ونزل عبد الرحمن بن العباس دير الجماجم، ثم جاء ابن الأشعث فنزل بدير الجماجم والحجاج بدير قرة، فكان الحجاج بعد ذلك يقول: أما كان عبد الرحمن يزجر الطير حيث رآني نزلت دير قرة، ونزل دير الجماجم!
                                واجتمع أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم والقراء من أهل المصرين، فاجتمعوا جميعا على حرب الحجاج، وجمعهم عليه بغضهم والكراهية له، وهم إذ ذاك مائة ألف مقاتل ممن يأخذ العطاء، ومعهم مثلهم من مواليهم وجاءت الحجاج أيضا أمداده من قبل عبد الملك من قبل أن ينزل دير قرة، وقد كان الحجاج أراد قبل أن ينزل دير قرة أن يرتفع إلى هيت وناحية الجزيرة إرادة أن يقترب من الشام والجزيرة فيأتيه المدد من الشام من قريب، ويقترب من رفاغة سعر الجزيرة، فلما مر بدير قرة قال: ما بهذا المنزل بعد من أمير المؤمنين، وإن الفلاليج وعين التمر إلى جنبنا فنزل فكان في عسكره مخندقا وابن محمد في عسكره مخندقا، والناس يخرجون في كل يوم فيقتتلون، فلا يزال أحدهما يدني خندقه نحو صاحبه، فإذا رآه الآخر خندق أيضا، وأدنى خندقه من صاحبه واشتد القتال بينهم فلما بلغ ذلك رءوس قريش وأهل الشام قبل عبد الملك ومواليه قالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن ينزع عنهم الحجاج، فإن نزع الحجاج أيسر من حرب أهل العراق، فانزعه عنهم تخلص لك طاعتهم، وتحقن به دماءنا ودماءهم فبعث ابنه عبد الله بن عبد الملك، وبعث إلى أخيه محمد بن مروان بأرض الموصل يأمره بالقدوم عليه، فاجتمعا جميعا عنده، كلاهما في جنديهما، فأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجاج عنهم، وأن يجري عليهم أعطياتهم كما تجرى على أهل الشام، وأن ينزل ابن محمد أي بلد من عراق شاء، يكون عليه واليا ما دام حيا، وكان عبد الملك واليا، فإن هم قبلوا ذلك عزل عنهم الحجاج، وكان محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبوا أن يقبلوا فالحجاج أمير جماعة أهل الشام وولي القتال، ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه منه مخافة أن يقبلوا فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك:
                                يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلا حتى يخالفوك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم تر وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه! إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما ارتأيت والسلام عليك.
                                فأبى عبد الملك إلا عرض هذه الخصال على أهل العراق إرادة العافية من الحرب فلما اجتمعا مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك فقال:
                                يا أهل العراق، أنا عبد الله بن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال التي ذكرنا وقال محمد بن مروان: أنا رسول أمير المؤمنين إليكم، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال قالوا:
                                نرجع العشية، فرجعوا فاجتمعوا عند ابن الأشعث، فلم يبق قائد ولا رأس قوم ولا فارس إلا أتاه، فحمد الله ابن الأشعث وأثنى عليه ثم قال:
                                أما بعد، فقد أعطيتم أمرا انتهازكم اليوم إياه فرصة، ولا آمن أن يكون على ذي الرأي غدا حسرة، وإنكم اليوم على النصف وإن كانوا اعتدوا بالزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، والقوم لكم هائبون وأنتم لهم منتقصون فلا والله لا زلتم عليهم جراء، ولا زلتم عندهم أعزاء، إن أنتم قبلتم أبدا ما بقيتم.
                                فوثب الناس من كل جانب، فقالوا: إن الله قد أهلكهم، فأصبحوا في
                                الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير، والسعر الرفيغ والمادة القريبة، لا والله لا نقبل.
                                فأعادوا خلعه ثانيه وكان عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيحان أول من قام بخلعه في الجماجم، وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
                                فرجع محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك إلى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك، فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع، فقال: قد قلت لكما: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركما، ثم قال: إنما أقاتل لكما، وإنما سلطاني سلطانكما، فكانا إذا لقياه سلما عليه بالإمرة، وقد زعم أبو يزيد ال***كي أنه إنما كان أيضا يسلم عليهما بالإمرة إذا لقيهما، وخلياه والحرب فتولاها.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                قال أبو مخنف: فحدثني الكلبي محمد بن السائب أن الناس لما اجتمعوا بالجماجم سمعت عبد الرحمن بن محمد وهو يقول: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر في قريش فعني فقئت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث بن قيس- ومد بها صوته يسمع الناس- وبرزوا للقتال، فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن ابن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمى، وعلى خيله سفيان ابن الأبرد الكلبي، وعلى رجاله عبد الرحمن بن حبيب الحكمي، وجعل ابن الأشعث على ميمنته الحجاج بن جارية الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجففته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي،
                                وكان معه خمسة عشر رجلا من قريش، وكان فيهم عامر الشعبى، وسعيد ابن جبيرع وأبو البختري الطائي، وعبد الرحمن بن أبي ليلى .
                                ثم إنهم أخذوا يتزاحفون في كل يوم ويقتتلون، وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفه ومن سوادها فيما شاءوا من خصبهم، وإخوانهم من أهل البصرة وأهل الشام في ضيق شديد، قد غلت عليهم الأسعار، وقل عندهم، الطعام، وفقدوا اللحم، وكانوا كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون أهل العراق ويراوحونهم، فيقتتلون أشد القتال، وكان الحجاج يدني خندقه مرة وهؤلاء أخرى، حتى كان اليوم الذي أصيب فيه جبلة بن زحر ثم إنه بعث إلى كميل بن زياد النخعي وكان رجلا ركينا وقورا عند الحرب، له بأس وصوت في الناس، وكانت كتيبته تدعى كتيبة القراء، يحمل عليهم فلا يكادون يبرحون، ويحملون فلا يكذبون، فكانوا قد عرفوا بذلك، فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وخرج الناس، فعبى الحجاج أصحابه، ثم زحف في صفوفه، وخرج ابن محمد في سبعة صفوف بعضها على أثر بعض، وعبى الحجاج لكتيبة القراء التي مع جبلة بن زحر ثلاث كتائب، وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                قال أبو مخنف: حدثني أبو يزيد ال***كي، قال: أنا والله في الخيل التي عبيت لجبلة بن زحر، قال: حملنا عليه وعلى أصحابه ثلاث حملات، كل كتيبة تحمل حملة، فلا والله ما استنقصنا منهم شيئا.
                                [في إسنادها لوط بن يحيى التالف الهالك]

                                ذكر الخبر عن وفاة المغيرة بن المهلب
                                وفي هذه السنة توفي المغيرة بن المهلب بخراسان.
                                ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، قال: كان المغيرة بن المهلب خليفة أبيه بمرو على عمله كله، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد، وعلمه أهل العسكر فلم يخبروا المهلب، وأحب يزيد أن يبلغه، فأمر النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة، فاسترجع، وجزع حتى ظهر جزعه عليه، فلامه بعض خاصته، فدعا يزيد فوجهه إلى مرو، فجعل يوصيه بما يعمل ودموعه تنحدر على لحيته وكتب الحجاج إلى المهلب يعزيه عن المغيرة، وكان سيدا، وكان المهلب يوم مات المغيره مقيما بكس وراء النهر لحرب أهلها.
                                قال: فسار يزيد في ستين فارسا- ويقال: سبعين- فيهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي، وعبد الله بن معمر بن سمير اليشكري، ودينار السجستاني، والهيثم بن المنخل الجرموزي، وغزوان الإسكاف صاحب زم- وكان أسلم على يد المهلب- وأبو محمد الزمى، وعطية- مولى لعتيك- فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة نسف، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار، قالوا: فأين الأثقال؟ قالوا: قدمناها، قالوا: فأعطونا شيئا، فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة ثوبا وكرابيس وقوسا، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم، فقال يزيد: أنا كنت أعلم بهم فقاتلوهم، فاشتد القتال بينهم، ويزيد، على فرس قريب من الأرض، ومعه رجل من الخوارج كان يزيد أخذه، فقال: استبقني، فمن عليه، فقال له: ما عندك؟ فحمل عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقد قتل رجلا، ثم كر فخالطهم حتى تقدمهم وقتل رجلا ثم رجع إلى يزيد وقتل يزيد عظيما من عظمائهم ورمي يزيد في ساقه، واشتدت شوكتهم، وهرب أبو محمد الزمي، وصبر لهم يزيد حتى حاجزوهم، وقالوا: قد غدرنا، ولكن لا ننصرف حتى نموت جميعا أو تموتوا أو تعطونا شيئا، فحلف يزيد لا يعطيهم شيئا، فقال مجاعة: أذكرك الله، قد هلك المغيرة، وقد رأيت ما دخل على المهلب من مصابه، فأنشدك الله أن تصاب اليوم!
                                قال: إن المغيرة لم يعد أجله، ولست أعدو أجلي فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا، وجاء أبو محمد الزمي بفوارس وطعام، فقال له يزيد: أسلمتنا يا أبا محمد، فقال: إنما ذهبت لأجيئكم بمدد وطعام، فقال الراجز:
                                يزيد يا سيف أبي سعيد ... قد علم الأقوام والجنود
                                والجمع يوم المجمع المشهود ... أنك يوم الترك صلب العود
                                وقال الأشقري:
                                والترك تعلم إذ لاقى جموعهم ... أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما
                                بفتية كأسود الغاب لم يجدوا ... غير التأسي وغير الصبر معتصما
                                نرى شرائج تغشى القوم من علق ... وما أرى نبوة منهم ولا كزما
                                وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا ... من الكريهة حتى ينتلعن دما
                                في حازة الموت حتى جن ليلهم ... كلا الفريقين ما ولى ولا انهزما
                                [المفضل بن محمد غير ثقة في الحديث علَّامة ثقة في التاريخ كما قال الخطيب البغدادي ، وانظر لسان الميزان.
                                وهو لم يشهد تلك الأحداث إنما يرسل الرواية عنها وقد أخذنا بروايته إذا تابعه آخرون ولم يتابع هنا والله أعلم]

                                وفي هذه السنه صالح المهلب اهل كس على فدية، ورحل عنها يريد مرو.
                                ذكر الخبر عن سبب انصراف المهلب عن كس:
                                ذكر علي بن محمد، عن المفضل بن محمد، أن المهلب اتهم قوما من مضر فحبسهم وقفل من كس وخلفهم، وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة، وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن وقطع النهر فلما صار ببلخ أقام بها وكتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخلي الرهن حتى تقدم ارض بلخ فقال حريث لملك كس: إن المهلب كتب إلي أن أحبس الرهن حتى أقدم أرض بلخ، فإن عجلت لي ما عليك سلمت إليك رهائنك، وسرت فأخبرته أن كتابه ورد، وقد استوفيت ما عليكم، ورددت عليكم الرهن، فعجل لهم صلحهم، ورد عليهم من كان في أيديهم منهم وأقبل فعرض لهم الترك، فقالوا: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه فقال حريث: ولدتني إذا أم يزيد! وقاتلهم فقتلهم، وأسر منهم أسرى ففدوهم، فمن عليهم وخلاهم، ورد عليهم الفداء، وبلغ المهلب قوله: ولدتني أم يزيد إذا، فقال: يأنف العبد أن تلده رحمه! وغضب.
                                فلما قدم عليه بلخ قال له: أين الرهن؟ قال: قبضت ما عليهم وخليتهم، قال: الم اكتب إليك الا تخليهم! قال: أتاني كتابك وقد خليتهم، وقد كفيت ما خفت، قال: كذبت، ولكنك تقربت إليهم وإلى ملكهم فأطلعته على كتابي إليك وأمر بتجريده، فجزع من التجريد حتى ظن المهلب أن به برصا، فجرده وضربه ثلاثين سوطا فقال حريث: وددت انه ضربني ثلاثمائه سوط ولم يجردني، أنفا واستحياء من التجريد، وحلف ليقتلن المهلب.
                                فركب المهلب يوما وركب حريث، فأمر غلامين له وهو يسير خلف المهلب أن يضرباه، فأبى أحدهما وتركه وانصرف، ولم يجترئ الآخر لما صار وحده أن يقدم عليه، فلما رجع قال لغلامه: ما منعك منه؟ قال:
                                الاشفاق والله عليك، والله ما جزعت على نفسي، وعلمت أنا إن قتلناه أنك ستقتل ونقتل، ولكن كان نظري لك، ولو كنت أعلم أنك تسلم من القتل لقتلته.
                                قال: فترك حريث إتيان المهلب، وأظهر أنه وجع، وبلغ المهلب أنه تمارض وأنه يريد الفتك به، فقال المهلب لثابت بن قطبة: جئني بأخيك، فإنما هو كبعض ولدي عندي، وما كان ما كان مني إليه إلا نظرا له وأدبا، ولربما ضربت بعض ولدي أؤدبه فأتى ثابت أخاه فناشده، وسأله أن يركب إلى المهلب، فأبى وخافه وقال: والله لا أجيئه بعد ما صنع بي ما صنع، ولا آمنه ولا يأمنني فلما رأى ذلك أخوه ثابت قال له: أما إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم، وخاف ثابت أن يفتك حريث بالمهلب فيقتلون جميعا، فخرجا في ثلاثمائة من شاكريتهما والمنقطعين إليهما من العرب.
                                [انظر التعليقة السابقة على الرواية التي مرت آنفا]

                                خبر وفاة المهلب بن أبي صفرة
                                قال أبو جعفر: وفي هذه السنة توفي المهلب بن أبي صفرة.
                                *ذكر الخبر عن سبب موته ومكان وفاته:
                                قال علي بن محمد: حدثني المفضل، قال: مضى المهلب منصرفه من كس يريد مرو، فلما كان بزاغول من مرو الروذ أصابته الشوصة- وقوم يقولون: الشوكة- فدعا حبيبا ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت، وقال: أترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا، قال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم، قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم، فان صله الرحم تنسئ في الأجل، وتشرى المال، وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة، فإن القطيعة تعقب النار، وتورث الذلة والقلة، فتحابوا وتواصلوا، وأجمعوا أمركم ولا تختلفوا، وتباروا تجتمع أموركم، إن بني الأم يختلفون، فكيف ببني العلات! وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحب للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش من زلته، ويزل لسانه فيهلك اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده! عليكم في الحرب بالأناة والمكيدة، فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ رجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه، ثم ظفر فحمد، وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرط ولا ضيع، ولكن القضاء غالب وعليكم بقراءة القرآن، وتعليم السنن، وأدب الصالحين، وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم، وقد استخلفت عليكم يزيد، وجعلت حبيبا على الجند حتى يقدم بهم على يزيد، فلا تخالفوا يزيد، فقال له المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.
                                ومات المهلب وأوصى إلى حبيب، فصلى عليه حبيب، ثم سار إلى مرو.
                                وكتب يزيد إلى عبد الملك بوفاة المهلب واستخلافه إياه، فأقره الحجاج.
                                ويقال: إنه قال عند موته ووصيته: لو كان الأمر إلي لوليت سيد ولدي حبيبا قال: وتوفي في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين، فقال نهار بن توسعة التميمي:
                                ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
                                أقاما بمرو الروذ رهنى ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
                                إذا قيل أي الناس أولى بنعمة ... على الناس؟ قلناه ولم نتهيب
                                أباح لنا سهل البلاد وحزنها ... بخيل كأرسال القطا المتسرب
                                يعرضها للطعن حتى كأنما ... يجللها بالأرجوان المخضب
                                تطيف به قحطان قد عصبت به ... وأحلافها من حي بكر وتغلب
                                وحيا معد عوذ بلوائه ... يفدونه بالنفس الام والأب

                                وفي هذه السنة ولى الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب خراسان بعد موت المهلب.
                                وفيها عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة، قال الواقدي: عزله عنها لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة.
                                قال: وفيها ولى عبد الملك هشام بن إسماعيل المخزومي المدينة وعزل هشام بن إسماعيل عن قضاء المدينة لما وليها نوفل بن مساحق العامري، وكان يحيى بن الحكم هو الذي استقضاه على المدينة، فلما عزل يحيى ووليها ابان ابن عثمان أقره على قضائها، وكانت ولاية أبان المدينة سبع سنين وثلاثة أشهر وثلاث عشرة ليلة، فلما عزل هشام بن إسماعيل نوفل بن مساحق عن القضاء ولى مكانه عمرو بن خالد الزرقي.
                                وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، كذلك حدثني أحمد بن ثابت عمن ذكره، عن إسحاق بن عيسى، عن أبي معشر.
                                وكان على الكوفة والبصرة والمشرق الحجاج، وعلى خراسان يزيد بن المهلب من قبل الحجاج.


                                وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ
                                أي لا تميلوا إلى الظالمين والكافرين بمودة أو مداهنة أو رضا بأعمالهم فتمسكم النار

                                تعليق

                                عن الكاتب

                                تقليص

                                إيمان أحمد مسلمة اكتشف المزيد حول إيمان أحمد

                                مواضيع ذات صلة

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة مصر المسلمة, 1 أبر, 2022, 10:43-م
                                ردود 0
                                754 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة مصر المسلمة
                                بواسطة مصر المسلمة
                                ابتدأ بواسطة مصر المسلمة, 1 أبر, 2022, 09:56-م
                                ردود 0
                                1,073 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة مصر المسلمة
                                بواسطة مصر المسلمة
                                ابتدأ بواسطة مسلم للأبد, 8 أغس, 2010, 08:36-م
                                ردود 39
                                11,435 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة mavi_301
                                بواسطة mavi_301
                                ابتدأ بواسطة أحمد الشامي1, 14 أكت, 2024, 04:41-ص
                                ردود 0
                                356 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة أحمد الشامي1
                                بواسطة أحمد الشامي1
                                ابتدأ بواسطة mohamadamin, 22 فبر, 2015, 06:15-م
                                ردود 18
                                3,530 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة محب المصطفى
                                بواسطة محب المصطفى
                                ابتدأ بواسطة ديدات, 3 نوف, 2014, 01:08-ص
                                ردود 4
                                3,660 مشاهدات
                                1 رد فعل
                                آخر مشاركة ديدات
                                بواسطة ديدات
                                ابتدأ بواسطة محمد سني, 1 ماي, 2022, 06:07-ص
                                ردود 3
                                295 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة *اسلامي عزي*
                                بواسطة *اسلامي عزي*
                                ابتدأ بواسطة سيف الكلمة, 26 أبر, 2007, 01:41-م
                                ردود 5
                                4,096 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة قلب ينبض بحب الله
                                ابتدأ بواسطة محمد سني, 16 يول, 2021, 05:48-ص
                                رد 1
                                257 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الراجى رضا الله
                                ابتدأ بواسطة ظل ظليل, 26 يول, 2009, 01:56-م
                                ردود 6
                                3,023 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة فارس الميـدان
                                ابتدأ بواسطة صلاح عامر, 16 يول, 2021, 12:09-ص
                                ردود 0
                                146 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة صلاح عامر
                                بواسطة صلاح عامر
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 23 مار, 2021, 09:05-ص
                                ردود 6
                                777 مشاهدات
                                1 رد فعل
                                آخر مشاركة Nour Al-Hoda
                                بواسطة Nour Al-Hoda
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 24 ماي, 2011, 11:19-م
                                رد 1
                                4,486 مشاهدات
                                1 رد فعل
                                آخر مشاركة المستبصر بالقرآن
                                ابتدأ بواسطة ديدات, 18 نوف, 2013, 01:32-ص
                                ردود 4
                                3,829 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة ديدات
                                بواسطة ديدات
                                ابتدأ بواسطة محمد سني, 17 أكت, 2021, 04:25-ص
                                ردود 0
                                60 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة محمد سني
                                بواسطة محمد سني

                                مواضيع من نفس المنتدى الحالي

                                تقليص

                                المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
                                ابتدأ بواسطة ابنة صلاح الدين, 28 ديس, 2012, 03:13-م
                                ردود 106
                                17,987 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة نفس مطمئنة
                                بواسطة نفس مطمئنة
                                ابتدأ بواسطة إيمان أحمد, 12 ديس, 2015, 04:42-م
                                ردود 58
                                7,146 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة إيمان أحمد
                                بواسطة إيمان أحمد
                                ابتدأ بواسطة معاذ عليان, 7 سبت, 2008, 02:14-م
                                ردود 46
                                18,521 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة د.أمير عبدالله
                                ابتدأ بواسطة باحث سلفى, 14 ينا, 2011, 03:56-م
                                ردود 32
                                10,403 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة محب المصطفى
                                بواسطة محب المصطفى
                                ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 19 أكت, 2008, 09:58-م
                                ردود 30
                                14,456 مشاهدات
                                0 ردود الفعل
                                آخر مشاركة الفضة
                                بواسطة الفضة
                                يعمل...