بقلم الدكتورة: زينب عبد العزيز
أستاذ الحضارة الفرنسية
الموت هو أبشع وأصعب ما يمكن لإنسان أن يمر به كتجربة، وذلك الألم الأخرس، الجارف بعنف، ذلك التمزق الملتهب، الذي يزأر في أعماق القلب ويستحوذ على كياننا، لا يوجد أي شيء على الإطلاق يمكن أن يصفه، ولا يوجد ما يمكن أن يعوض تلك الخسارة الفادحة. فالموت له قدسيته التي تضعه على قمة الآلام المعاشة. لكن، من هنا إلى القيام باستخدامه لغرض ما، أو ترويجه إعلاميا أو تتجيره وتحويله إلى سلعة للتكسب منه، فهنا الوضع يختلف تماما.
وصباح اليوم التالي لهذه الأحداث البشعة، التي جرت يوم 13 نوفمبر 2015، كل أوروبا تقريبا ومعظم بلدان العالم وكأنهم على اتفاق مسبق، اتشحت باللون الأزرق والأبيض والأحمر، تضامنا، وتم إصدار قوانين وقرارات، كما تم تأجيج المشاعر إعلاميا.. ومن جهة أخرى تم إطلاق نداءات لإحضار ورود بيضاء أو جمع تبرعات لإحضار شباب من شبيبة "يوم الشباب العالمي"، وهو تجمع شباب الكاثوليك من العالم أجمع، وكان البابا يوحنا بولس الثاني هو الذي ابتدع الفكرة ، كما تم إطلاق نداءات لمساهمة فرقة "رولينج ستونز" لحضور الجنازة الرسمية التي ستقام، ونداءات لتجميع فنانين لتزيين تابوت إحدى الضحايا، كما تضامن 15000 من سكان مدينة تولوز تحية للضحايا، وكلها ردود أفعال مفتعلة تتوسط الأحداث وتشي بأن هناك إخراج مسرحى مغرض لها ! فكل هذا الديكور المسرحي أو الكنسي لا يعوض شيئا عن الرحيل الإجرامي لتلك الضحايا.
ونفس هذا التهليل الإعلامي، وعلى نطاق أوسع، كان قد تم في يناير عند مطلع هذا العام، حيث تجمع مئات الآلاف من المواطنين من أجل ضحايا جريدة "شارلي إبدو"، بمؤازرة خمسين دولة وبعض رؤساء الدول أو رؤساء الوزارات وكبار الشخصيات للمشاركة في المظاهرة أو المسيرة التضامنية يوم 11 يناير 2015، وهي ظواهر تطرح العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول المحركين الحقيقيين لهذه الجرائم، إذ إن هذا الصخب الإعلامي، غير التقليدي، هو أكثر من كونه مجرد مواساة للمنكوبين.
إن ما يتم حاليا هو عملية تدويل للآلام، المثارة بصورة مفتعلة، سواء على الصعيد المحلى أو الدولي، مصحوبة بترديد عبارة "إعلان الحرب" ضد الإسلام والمسلمين، التي تم تداولها سريعا بدأ برئيس الجمهورية الفرنسية، الذي يتبع خطى السياسة الأميركية بدأب، والذي أدرك لتوه، ويا لهول المفاجأة، أن فرنسا في حالة "حرب"!؟ ألم يكن يعرف أن فرنسا تساهم في الحروب المفتعلة منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، سواء في أفغانستان أو العراق والصومال وساحل العاج وجمهورية إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي وسوريا، وأن كل هذه الدول، ويا لغرابة الصدف، كلها دول مسلمة؟!
والأدهى من ذلك، فإن رئيس الدولة الفرنسية يقوم بلقاءات هذه الأيام مع بعض أقرانه البريطانيين والألمان والروس لمحاولة وضع خطة أو القيام بعمل تحالف كبير ضد الدولة الإسلامية ! دولة قام بتكوينها وترويضها وتزويدها بالمعدات وتحكم في خط سيرها، نفس تلك العصابة المتحكمة في مصائر الشعوب. وياله من موقف عجيب ! إذ لم يتحرك أحدا من أجل القيام بمثل هذا التحالف ضد الصهاينة الذين استولوا على أرض فلسطين منذ 1948، بموافقة تلك المجموعة، ولا يكفون عن مطاردة الفلسطينيين بمذابح القتل العرقي التي تدور بكل وقاحة أمام أعين العالم الذي لا يحرك ساكنا ! كما لم يتحرك أحدا من أجل آلاف جثث الروهينجيا المتراكمة على شواطئ بلدانها، وهى صور قد جابت العالم. ولا يفوتني تأكيد أنه منذ التاسع من سبتمبر 2001 وقتلى المسلمين يحصون بالملايين وليس بالعشرات، ويا لها من معايير مختلفة حيال الموتى وحيال الاحتفال بهم..
وبعد أحداث 11/9/2011 المصنوعة محليا، أعلن جورج بوش، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، القيام "بحرب صليبية" ضد الإرهاب، وما نعيشه منذ ذلك الوقت هي حرب صليبية فعلا، ابتدعوها لاقتلاع الإسلام، وتتعدى أبعادها تلك التي أشعلها البابا أوربان الثاني قديما وتتواصل حتى يومنا هذا، بتصعيد لا يجب ولا يجوز السماح به، فهي حرب ضد بلدان كل خطـأها أن أراضيها تحوى منابع بترولية وغازية وموارد أخرى أساسية ومعادن ثمينة. وكذلك الغزو المجنون للعراق، بلا حتى موافقة هيئة الأمم، لمجرد أن الولايات المتحدة تشككت، وأعيدها: تشككت في أن تلك الدولة تمتلك أسلحة دمار شامل، فهل هذا معقول؟ ولم يحاسبها أحد!
ومن ناحية أخرى فإن البابا فرنسيس لا يكف عن ترديد بانتظام وصياغات مختلفة عبارة "الحرب العالمية الثالثة قد بدأت". وما شأن رجل دين بإعلان أن الحرب العالمية قد بدأت، وذلك منذ أكثر من عام وحتى قبل أن تقع، إن وقعت؟ إذ ليس بالنسبة له الإرهاب والصراعات المسلحة التي تهز العالم هي "حروب مجزأة" فحسب وإنما حتى الاعتداءات التي وقعت في باريس في يناير في مطلع العام وفي نوفمبر الحالي هي أيضا "أجزاء" من تلك الحرب الدائرة "غير التقليدية" و "المتناثرة"!
وعلى سبيل المثال، فقد أعرب عن ذلك ولم يكف عن ترديد عبارة "الحرب العالمية قد بدأت": يوم 18/8/2014 في المؤتمر الصحافي وهو عائد من كوريا ، ويوم 13/9/2014 بمناسبة الاحتفال بمئوية الحرب العالمية الأولى في المقابر العسكرية بمدينة رديبوليا بإيطاليا ، ويوم 28/10/2014 أثناء خطابه في اللقاء العالمي للحركات الشعبية في روما ، وفي 30/11/2014 أثناء الحديث الصحافي عند عودته من تركيا ، وفي 6/6/2015 في مدينة سراييفو بالبوسنة والهرسك، وفي 9/7/2015 أثناء اللقاء العالمي الشعبي الثاني في سانتاكروز ببوليفيا، ويوم 14/11/2015 في حوار هاتفي مع قناة TG2000 بعد أحداث باريس..
كما راح يسخر قائلا: "كل شيء مصطنع"، إن "العالم يواصل القيام بالحروب"، "العالم لم يتخذ طريق السلام"، "في كل مكان توجد حروب، اليوم لا نرى سوى الكراهية، فما الذي يتبقى؟ أنقاض، آلاف الأطفال بلا تعليم، العديد من الموتى، كم هائل منها! كم من النقود في جيوب تجار السلاح، عليهم اللعنة"! ثم يواصل: "الحرب يمكن تبريرها بعدة أسباب، لكن حينما يكون العالم أجمع في حالة حرب عالمية فعلا، مجزأة هنا وهناك، فلا تبرير لذلك. إن الله يبكى" !! ولمزيد من تفعيل الدرامية في حديثه يضيف: "من مصلحتنا أن نطلب من الله نعمة البكاء على هذا العالم الذي لا يعرف طريق السلام، الذي يعيش من أجل إشعال الحروب، ويسخر قائلا أنه لا يقوم بها". إن رئيس دولة الفاتيكان هذا لا يجهل يقينا أن مؤسسته تتعامل مع المافيا وتتاجر بالسلاح وبالأعضاء وبالأطفال وبغسيل الأموال، وو وتطول القائمة..
ورغم هذا الأسلوب المأساوي نشير إلى ثلاث كلمات مما قاله: أن كل شيء مصطنع، والكراهية، وطلب نعمة البكاء. ولقد أطلق عليه أحد الصحافيين الفرنسيين صفة "مخادع"، وأضيف إليها عبارة "ممثل قدير"، فهو يدرك أن كل ما يحاك ضد الإسلام مصطنع منذ قرارات مجامعه تنصير العالم، وأن الكراهية تؤججها مؤسسته وكل التابعين لها. وبدلا من أن يطلب وقف الحروب "فورا"، مثلما أطلقوها بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني لإضفاء القداسة عليه "فورا"، راح يطلب من الله أن يمنحنا نعمة البكاء" !!
فما من إنسان يجهل أن العالم المتأجج الذي نعيش فيه هو نتاج السياسات والتدخلات المتعمدة التي تقودها الولايات المتحدة طوال العقود الماضية والتي تتضافر مع برامج الفاتيكان خاصة منذ 1965، عند إعلانه اقتلاع الإسلام حتى تبدأ الألفية الثالثة والعالم كله قد تم تنصيره !
لذلك أقول له أننا لسنا في حاجة إلى أن يطلب من الله "نعمة البكاء"، وإنما أن يلهمه الشجاعة لإدانة وكشف كل تلك الأهداف الشيطانية التي يقودها "بورع" هو ومؤسسته، منذ أحقاب طويلة. وبدلا من أن يعلن عن قيام الحرب العالمية الثالثة التي تدار بالتجزئة، وإصراره على إلغاء الآخر، الذين هم "المسلمون"، ليبدأ بتطهير المسيحية من كل ما أضافته مؤسسته على نصوصها عبر القرون، وليبدأ بتطبيق "العيش معا" على هذه الأرض، لأن هذه الأرض ملكا لكل سكانها، بلا أي استثناء.
وسواء ارتضى ذلك أم لا، فكلنا أقرباء، ننتمي إلى عائلة سيدنا إبراهيم، وكلنا جيران نعيش على نفس الأرض التي هي من حقنا جميعا. لنتحد لتنميتها بأوسع معاني هذه الكلمة، ماديا ومعنويا، لأن القنبلة حين تسقط لا تفرق بين يهودي ومسيحي ومسلم.
زينب عبدالعزيز
26 نوفمبر 2015
تعليق