أخبر الله في محكم كتابه أن الخلق عاجزون عن إحصاء نعم الله تعالى عليهم، فقال: { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا }[ النحل:18]
وهذا يعني أنهم لن يقوموا بشكر نعم الله تعالى على الوجه المطلوب. لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها. ولعل العبد لا يكون مقصراً إذا بذل قصارى جهده في الشك بتحقيق العبودية لله رب العالمين على حد قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن: 16].
إنما التقصير الذي نعنيه، أن يتقلب الإنسان في نعم الله تعالى ليلاً ونهاراً، ظاعناً ومقيماً نائماً ويقظانَ، ثم يصدر من أقواله وأفعاله أو اعتقاداته مالا يجامع الشكر بحال من الأحوال، فهذا التقصير الاختياري هو الذي نريد أن نعرف شيئاً عن أسبابه. ثم نأتي بعد ذلك بما فتح الله به من علاج. فمن هذه الأسباب:
السبب الأول: الغفلة عن النعمة:
إن كثيراً من الناس يعيش في نعم عظيمة - عامة وخاصة - لكنه غافل عنها، لا يدري أنه يعيش في نعمة، ذلك لأنه ألفها ونشأ فيها. ولم يمرَّ عليه في حياته ضد لها، فهو يظن أن الأمر هكذا. والإنسان إذا لم يعرف النعمة ويشعر بها كيف يقوم بشكرها، قال بعض السلف: ( النعمة من الله على عبده مجهولة، فإذا فُقدت عُرفت ).
إن كثيراً من الناس في زماننا هذا يتقلبون في نعم الله تعالى، يملأون بطونهم بالطعام والشراب، ويلبسون أحسن اللباس، ويتدثرون بأنعم الغطاء، ويركبون أحسن المراكب، ثم يمضون لشأنهم، لا يتذكرون نعمة، ولا يعرفون لله حقاًّ!
والنعم إذا كثرت بتوالي الخيرات وتنوعها غفل الإنسان عن الخالين منها، وظن أن غيره كذلك، فلم يصدر منه شكر للمنعم. ولهذا أمر الله تعالى عباده بأن يذكروا نعمه عليهم: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ } [ البقرة:231].
السبب الثاني: الجهل بحقيقة النعمة:
من الناس من يجهل النعمة، لا يعرف حقيقتها ولا يدرك كنهها، ولا يدري أنه في نعمة، لأنه لا يدري حقيقة النعم، بل قد يرى بعض إنعام الله عليه قليلاً لا يستحق أن يطلق عليه نعمة، ومن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
إن من الناس من إذا رأى النعمة مبذولة له ولغيره لم ير أنه مختص بها، فلا يشكر الله، لأنه لا يرى أنه في نعمة ما دام غيره في هذه النعمة، فأعرض كثير عن شكر نعم الله العظيمة في النفس من الجوارح والحواس، وعن نعم الله العظيمة في هذا الكون.
خذ - مثلاً - نعمة البصر، فهي من نعم الله العظيمة التي يغفل عنها الناس فمن الذي يدرك هذه النعمة ويرعى حقها ويقوم بشكرها؟ إنهم قليلون.
لو عمي إنسان فرد الله عليه بصره بسبب قدَّره الله. هل ينظر إلى بصره في الحالة الثانية كغفلته في الحالة الأولى؟!، لا، لأنه أدرك قيمة هذه النعمة بعد فقدها. فهذا قد يشكر الله على نعمة البصر، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك، وهذا غاية الجهل إذ صار شكره موقوفاً على سلب النعمة ثم ردِّها مع أن الدائم أحق بالشكر من المنقطع أحياناً.
السبب الثالث: نظر بعض الناس إلى من فوقه:
إذا نظر الإنسان إلى من فوقه ممن فُضِّل عليه احتقر ما أعطاه الله تعالى من فضله، فقصر في وظيفة الشكر؛ لأنه يرى أن ما أعطيه قليل، فيطلب الازدياد ليلحق بمن فوقه أو يقاربه. وهذا موجود في غالب الناس. فينشغل قلبه ويتعب جوارحه في طلب اللحاق بمن فضلوا عليه في متاع الحياة الدنيا. فيصير همه جمع الدنيا ويغفل عن الشكر والقيام بوظيفة العبودية التي خلق لأجلها.
السبب الرابع: نسيان الماضي:
من الناس من مرت به حياة البؤس والعوز، وعاش أيام الخوف والقلق، إما في مال أو معيشة أومسكن. ولما أنعم الله عليه وآتاه من فضله لم يشأ أن يعمل مقارنة بين ماضيه وحاضره ليتبين له فضل ربه عليه، لعل ذلك يكون عوناً له على شكر النعم، لكنه غرق في نعم الله الحاضرة ونسي حالته الماضية!
وعلى الإنسان أن يأخذ درساً مما ورد في الحديث الصحيح: أن ثلاثة من بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في عمله من قبل أن يخلقهم، فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيراً فأعطاه لله البصر والغنى، وبَذلَ للسائل ما طلبه شكراً لله، وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كانا عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر. وقالا في الغنى: إنما أوتيته كابراً عن كابر.
وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص أو جهل وفقر وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم عليه بذلك.
علاج التقصير في الشُّكر:
لعلنا إذا عرفنا شيئاً من أسباب التقصير في الشكر أن نشير هنا إلى نبذة مما نراه علاجاً للتقصير في الشكر. ولا سيما الشكر العملي شكر الجوارح. ومن ذلك ما يلي:
1- التأمُّل في نعم الله تعالى واستحضارها وتذكرها. وأن الإنسان في كل حالة من أحواله في نعمة، بل ولا يمكن أن يمر عليه لحظة في حياته إلا وهو يتقلب في نعم الله تعالى، وفي هذا استجابة لأمر الله تعالى بقوله سبحانه: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ }[ البقرة:231] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ فاطر: 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
2- الضَّراعة إلى الله تعالى بأن يوزع عبده الضَّعيف شكر نعمته، والإعانة على القيام بهذه الوظيفة العظيمة التي لا قيام للعبد بها إلا بإعانة الله تعالى، والضراعة صفة أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين. قال تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }[ النمل:19].
وقال تعالى عن العبد الصالح: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[ الأحقاف:15].
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بهذا الدعاء العظيم فقال له وقد أخذ بيده: ( يا معاذ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
3- أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر نعمه. هل قام بذلك أو قصّر، قال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[ التكاثر: 8 ]
قال ابن كثير - رحمه الله -: ( أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد- أن يقال: ألم نًصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد).
4- أن يعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت قرت وزادت، وإذا كفرت فرَّت وزالت، قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[ إبراهيم:7] فمتى أراد العبد دوام النعم وزيادتها فيلزم الشكر. وبدونه لا تدوم نعمة.
قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: ( عليكم بملازمة الشكر على النعم فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم ).
5- على ذي النعمة أن ينظر إليها - وإن قلَّت - بعين التعظيم وإظهار الفاقة لأنها من الله تعالى وقليله لا يقال له قليل. وقد أوصلها إليك فضلاً منه وامتناناً لا باستحقاق منك.
ومن الجهل بالنعمة أن يراها الإنسان يسيرة لا تستحق الشكر وبإمكانه أن ينالها، وهذا فهم سقيم، فإن كل مطلوب يريده الإنسان لن يكون إلا بتيسير من الله مهما كان صغيراً، فإذا تحقق فهو من نعم الله عليه لأن حصوله مصحلة لهذا المخلوق الضعيف الذي لايملك لنفسه ضراًّ ولا نفعاً.
6- أن يفكِّر الإنسان في حاله ويتأمل حياته قبل حصول هذه النعمة، وكيف كانت حاله آنذاك. وينظر إلى حاله لو كان فاقداً لها، فإن كان غنياً فإلى حال فقره، وإن كان صحيحاً فإلى حاله يوم كان مريضاً، وإن ملك بيتاً فإلى حاله يوم كان لا يملك بل كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه، وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها ليعرف بذلك قدرها فيشكرها.
7- أن ينظر الإنسان إلى من دونه في أمور الدنيا. فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله تعالى وفضله به على غيره، فلم يعب نعمة ولم ينتقص عطية، فقام بمحبة الله تعالى وشكره، وتواضع لربه، وفعل الخير. فكان من الشاكرين.
وهذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ).
لينظر الإنسان إلى من دونه ممن ابتلي بالفقر المدقع أو الدين المفظع، ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين. فذلك نعمة عظيمة فيشكر ربه.وينظر إلى من ابتلي بالأسقام وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية والصحة فيشكر مولاه ويستعمل ذلك في طاعته.
وينظر إلى من في خلقه نقص من عَمًى أو صَمَمٍ أو فَقْدِ عضو، وينتقل إلى ما هو فيه من السلامة من تلك العاهات التي تجلب الهم والغم وتعوق الإنسان عن كثير من التصرفات، فيشكر ربه وخالقه، ويعمل حواسه التي سلمها الله في طاعته وابتغاء مرضاته.
وينظر إلى من ابتلي بجمع الدنيا وحطامها، والامتناع عما يجب عليه من حقوق، ويعلم أنه فُضل بالإقلال وأنعم عليه بقلة تبعة الأموال التي حلالها حساب وحرامها عقاب. فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه وحصول القناعة.
وما أحسن ما قاله بعض السلف: ( لَنِعمُ الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها، وذلك أن الله لم يرضَ لنبيه الدنيا، فلأَنْ أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ من أن أكون فيما كرهه له وسخطه ).
8- ومما يساهم في علاج تقصير الناس في الشكر التواصي بشكر نعم الله والقيام بحقها، فإن تذكير الناس بالشكر أمر مطلوب، لا سيما من صاحب كلمة مسموعة، كخطيب جمعة وإمام مسجد وغيرهما من واعظ ومحاضر. قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله -: ( تذاكر النعم شكر ).
وقد كان السلف من هذه الأمة - من الصحابة والتابعين - يلهجون بشكر الله تعالى وحمده، والثناء عليه، عند كل لُقِيٍّ واجتماع. بل إن بعضهم كان يتقصد لقاء أخيه، ويسأله عن حاله مع قرب العهد بينهما وما مقصوده من سؤاله أو السلام عليه إلا أن يسمع منه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه.
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: ( سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سلم على رجل، فرد عليه السلام. وقال للرجل: كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد الله إليك، قال عمر: هذه أردت منك ).
وعن علقمة بن مرثد، عن عبد الله بن عمر - - قال ( إنْ كنا لعلنا أن نلتقي في اليوم مراراً، يسأل بعضنا بعضاً - عن حاله - وإنْ نريد بذلك - أي ما نريد بذلك - إلا الحمد لله عز وجل ).
وهذا العلاج الذي وصفناه إنما ينفع صاحب القلب المبصر الذي يتأمل في نعم الله تعالى. أما القلب البليد الذي لا يعد النعمة نعمة إلا إذا نزل به البلاء فسبيل صاحبه أن ينظر أبداً إلى من دونه لعل الله تعالى أن يوقظه من رقدة الغفلة فيرى نعم الله ويقوم بشكرها.
وأول مراتب سعادة العبد أن تكون له أذن واعية، وقلب يعقل ما تعيه الأذن، فإذا سمع وعقل تذكر فضل الله عليه. كلما تجددت له نعمة جددها لها شكراً. فهذا على خير وإلى خير.
* المصدر: موقع الجمعية السعودية للسنة وعلومها.
وهذا يعني أنهم لن يقوموا بشكر نعم الله تعالى على الوجه المطلوب. لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها. ولعل العبد لا يكون مقصراً إذا بذل قصارى جهده في الشك بتحقيق العبودية لله رب العالمين على حد قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن: 16].
إنما التقصير الذي نعنيه، أن يتقلب الإنسان في نعم الله تعالى ليلاً ونهاراً، ظاعناً ومقيماً نائماً ويقظانَ، ثم يصدر من أقواله وأفعاله أو اعتقاداته مالا يجامع الشكر بحال من الأحوال، فهذا التقصير الاختياري هو الذي نريد أن نعرف شيئاً عن أسبابه. ثم نأتي بعد ذلك بما فتح الله به من علاج. فمن هذه الأسباب:
السبب الأول: الغفلة عن النعمة:
إن كثيراً من الناس يعيش في نعم عظيمة - عامة وخاصة - لكنه غافل عنها، لا يدري أنه يعيش في نعمة، ذلك لأنه ألفها ونشأ فيها. ولم يمرَّ عليه في حياته ضد لها، فهو يظن أن الأمر هكذا. والإنسان إذا لم يعرف النعمة ويشعر بها كيف يقوم بشكرها، قال بعض السلف: ( النعمة من الله على عبده مجهولة، فإذا فُقدت عُرفت ).
إن كثيراً من الناس في زماننا هذا يتقلبون في نعم الله تعالى، يملأون بطونهم بالطعام والشراب، ويلبسون أحسن اللباس، ويتدثرون بأنعم الغطاء، ويركبون أحسن المراكب، ثم يمضون لشأنهم، لا يتذكرون نعمة، ولا يعرفون لله حقاًّ!
والنعم إذا كثرت بتوالي الخيرات وتنوعها غفل الإنسان عن الخالين منها، وظن أن غيره كذلك، فلم يصدر منه شكر للمنعم. ولهذا أمر الله تعالى عباده بأن يذكروا نعمه عليهم: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ } [ البقرة:231].
السبب الثاني: الجهل بحقيقة النعمة:
من الناس من يجهل النعمة، لا يعرف حقيقتها ولا يدرك كنهها، ولا يدري أنه في نعمة، لأنه لا يدري حقيقة النعم، بل قد يرى بعض إنعام الله عليه قليلاً لا يستحق أن يطلق عليه نعمة، ومن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
إن من الناس من إذا رأى النعمة مبذولة له ولغيره لم ير أنه مختص بها، فلا يشكر الله، لأنه لا يرى أنه في نعمة ما دام غيره في هذه النعمة، فأعرض كثير عن شكر نعم الله العظيمة في النفس من الجوارح والحواس، وعن نعم الله العظيمة في هذا الكون.
خذ - مثلاً - نعمة البصر، فهي من نعم الله العظيمة التي يغفل عنها الناس فمن الذي يدرك هذه النعمة ويرعى حقها ويقوم بشكرها؟ إنهم قليلون.
لو عمي إنسان فرد الله عليه بصره بسبب قدَّره الله. هل ينظر إلى بصره في الحالة الثانية كغفلته في الحالة الأولى؟!، لا، لأنه أدرك قيمة هذه النعمة بعد فقدها. فهذا قد يشكر الله على نعمة البصر، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك، وهذا غاية الجهل إذ صار شكره موقوفاً على سلب النعمة ثم ردِّها مع أن الدائم أحق بالشكر من المنقطع أحياناً.
السبب الثالث: نظر بعض الناس إلى من فوقه:
إذا نظر الإنسان إلى من فوقه ممن فُضِّل عليه احتقر ما أعطاه الله تعالى من فضله، فقصر في وظيفة الشكر؛ لأنه يرى أن ما أعطيه قليل، فيطلب الازدياد ليلحق بمن فوقه أو يقاربه. وهذا موجود في غالب الناس. فينشغل قلبه ويتعب جوارحه في طلب اللحاق بمن فضلوا عليه في متاع الحياة الدنيا. فيصير همه جمع الدنيا ويغفل عن الشكر والقيام بوظيفة العبودية التي خلق لأجلها.
السبب الرابع: نسيان الماضي:
من الناس من مرت به حياة البؤس والعوز، وعاش أيام الخوف والقلق، إما في مال أو معيشة أومسكن. ولما أنعم الله عليه وآتاه من فضله لم يشأ أن يعمل مقارنة بين ماضيه وحاضره ليتبين له فضل ربه عليه، لعل ذلك يكون عوناً له على شكر النعم، لكنه غرق في نعم الله الحاضرة ونسي حالته الماضية!
وعلى الإنسان أن يأخذ درساً مما ورد في الحديث الصحيح: أن ثلاثة من بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في عمله من قبل أن يخلقهم، فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيراً فأعطاه لله البصر والغنى، وبَذلَ للسائل ما طلبه شكراً لله، وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كانا عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر. وقالا في الغنى: إنما أوتيته كابراً عن كابر.
وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص أو جهل وفقر وذنوب، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم عليه بذلك.
علاج التقصير في الشُّكر:
لعلنا إذا عرفنا شيئاً من أسباب التقصير في الشكر أن نشير هنا إلى نبذة مما نراه علاجاً للتقصير في الشكر. ولا سيما الشكر العملي شكر الجوارح. ومن ذلك ما يلي:
1- التأمُّل في نعم الله تعالى واستحضارها وتذكرها. وأن الإنسان في كل حالة من أحواله في نعمة، بل ولا يمكن أن يمر عليه لحظة في حياته إلا وهو يتقلب في نعم الله تعالى، وفي هذا استجابة لأمر الله تعالى بقوله سبحانه: { وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ }[ البقرة:231] وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } [ فاطر: 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
2- الضَّراعة إلى الله تعالى بأن يوزع عبده الضَّعيف شكر نعمته، والإعانة على القيام بهذه الوظيفة العظيمة التي لا قيام للعبد بها إلا بإعانة الله تعالى، والضراعة صفة أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين. قال تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }[ النمل:19].
وقال تعالى عن العبد الصالح: { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }[ الأحقاف:15].
وقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بهذا الدعاء العظيم فقال له وقد أخذ بيده: ( يا معاذ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ).
3- أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر نعمه. هل قام بذلك أو قصّر، قال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[ التكاثر: 8 ]
قال ابن كثير - رحمه الله -: ( أي: ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة ).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد- أن يقال: ألم نًصحَّ جسمك، ونرويك من الماء البارد).
4- أن يعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت قرت وزادت، وإذا كفرت فرَّت وزالت، قال تعالى: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }[ إبراهيم:7] فمتى أراد العبد دوام النعم وزيادتها فيلزم الشكر. وبدونه لا تدوم نعمة.
قال الفضيل بن عياض-رحمه الله-: ( عليكم بملازمة الشكر على النعم فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم ).
5- على ذي النعمة أن ينظر إليها - وإن قلَّت - بعين التعظيم وإظهار الفاقة لأنها من الله تعالى وقليله لا يقال له قليل. وقد أوصلها إليك فضلاً منه وامتناناً لا باستحقاق منك.
ومن الجهل بالنعمة أن يراها الإنسان يسيرة لا تستحق الشكر وبإمكانه أن ينالها، وهذا فهم سقيم، فإن كل مطلوب يريده الإنسان لن يكون إلا بتيسير من الله مهما كان صغيراً، فإذا تحقق فهو من نعم الله عليه لأن حصوله مصحلة لهذا المخلوق الضعيف الذي لايملك لنفسه ضراًّ ولا نفعاً.
6- أن يفكِّر الإنسان في حاله ويتأمل حياته قبل حصول هذه النعمة، وكيف كانت حاله آنذاك. وينظر إلى حاله لو كان فاقداً لها، فإن كان غنياً فإلى حال فقره، وإن كان صحيحاً فإلى حاله يوم كان مريضاً، وإن ملك بيتاً فإلى حاله يوم كان لا يملك بل كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه، وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها ليعرف بذلك قدرها فيشكرها.
7- أن ينظر الإنسان إلى من دونه في أمور الدنيا. فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله تعالى وفضله به على غيره، فلم يعب نعمة ولم ينتقص عطية، فقام بمحبة الله تعالى وشكره، وتواضع لربه، وفعل الخير. فكان من الشاكرين.
وهذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ( انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ).
لينظر الإنسان إلى من دونه ممن ابتلي بالفقر المدقع أو الدين المفظع، ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين. فذلك نعمة عظيمة فيشكر ربه.وينظر إلى من ابتلي بالأسقام وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية والصحة فيشكر مولاه ويستعمل ذلك في طاعته.
وينظر إلى من في خلقه نقص من عَمًى أو صَمَمٍ أو فَقْدِ عضو، وينتقل إلى ما هو فيه من السلامة من تلك العاهات التي تجلب الهم والغم وتعوق الإنسان عن كثير من التصرفات، فيشكر ربه وخالقه، ويعمل حواسه التي سلمها الله في طاعته وابتغاء مرضاته.
وينظر إلى من ابتلي بجمع الدنيا وحطامها، والامتناع عما يجب عليه من حقوق، ويعلم أنه فُضل بالإقلال وأنعم عليه بقلة تبعة الأموال التي حلالها حساب وحرامها عقاب. فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه وحصول القناعة.
وما أحسن ما قاله بعض السلف: ( لَنِعمُ الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها، وذلك أن الله لم يرضَ لنبيه الدنيا، فلأَنْ أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ من أن أكون فيما كرهه له وسخطه ).
8- ومما يساهم في علاج تقصير الناس في الشكر التواصي بشكر نعم الله والقيام بحقها، فإن تذكير الناس بالشكر أمر مطلوب، لا سيما من صاحب كلمة مسموعة، كخطيب جمعة وإمام مسجد وغيرهما من واعظ ومحاضر. قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله -: ( تذاكر النعم شكر ).
وقد كان السلف من هذه الأمة - من الصحابة والتابعين - يلهجون بشكر الله تعالى وحمده، والثناء عليه، عند كل لُقِيٍّ واجتماع. بل إن بعضهم كان يتقصد لقاء أخيه، ويسأله عن حاله مع قرب العهد بينهما وما مقصوده من سؤاله أو السلام عليه إلا أن يسمع منه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه.
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: ( سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سلم على رجل، فرد عليه السلام. وقال للرجل: كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد الله إليك، قال عمر: هذه أردت منك ).
وعن علقمة بن مرثد، عن عبد الله بن عمر - - قال ( إنْ كنا لعلنا أن نلتقي في اليوم مراراً، يسأل بعضنا بعضاً - عن حاله - وإنْ نريد بذلك - أي ما نريد بذلك - إلا الحمد لله عز وجل ).
وهذا العلاج الذي وصفناه إنما ينفع صاحب القلب المبصر الذي يتأمل في نعم الله تعالى. أما القلب البليد الذي لا يعد النعمة نعمة إلا إذا نزل به البلاء فسبيل صاحبه أن ينظر أبداً إلى من دونه لعل الله تعالى أن يوقظه من رقدة الغفلة فيرى نعم الله ويقوم بشكرها.
وأول مراتب سعادة العبد أن تكون له أذن واعية، وقلب يعقل ما تعيه الأذن، فإذا سمع وعقل تذكر فضل الله عليه. كلما تجددت له نعمة جددها لها شكراً. فهذا على خير وإلى خير.
* المصدر: موقع الجمعية السعودية للسنة وعلومها.
تعليق