الحمد لله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
أما بعد:
فإن الله كان ولم يكن شيء غيره، فخلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الملائكة والجن والإنس، فأضلت الشياطين الناس عن عبادة الله الذي خلقهم، فأرسل الله إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليعبدوا الله وحده، وتبشرهم بالجنة إن أطاعوا الله، وتحذرهم من النار إن عصوه، وقد أنزل الله التوراة على النبي موسى والإنجيل على النبي عيسى والقرآن على النبي محمد، ولكن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، وحفظ الله القرآن الذي أنزله على محمد خاتم النبيين ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأظهر بالقرآن -الذي هو كلام ربِّ العالمين- ما كان مخفياً عند أهل الكتاب، وقص عليهم فيه أكثر الذي هم فيه يختلفون، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون!!
وهذه الرسالة المختصرة فيها حقائق كثيرة بالأدلة والنصوص من القرآن الكريم، ومما في أيدي النصارى من الكتاب المقدس.
أسأل الله أن يُبارِك في هذه الرسالة، وأن يَهدي بها كثيراً من أولي الألباب.
إثبات تحريف التوراة والإنجيل:
النُّسخ المشهورة للتوراة ثلاث نسخ:
الأولى: النسخة العبرانية، وهي المعتبرة عند اليهود، وجمهور علماء البروتستانت.
الثانية: النسخة اليونانية، وهي التي كانت معتبرة عند النصارى إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وكانوا يعتقدون تحريف النسخة العبرانية، وأن اليهود حرفوها عمداً سنة (130م) للتشكيك في صحة النسخة اليونانية، ولما ظهرت الفرقة البروتستانتية عكست الأمر وقالت بصحة النسخة العبرانية وتحريف اليونانية!! ولا تزال الكنيسة اليونانية وكنائس المشرق (المذهب الأرثوذكسي) على اعتبار هذه النسخة اليونانية، وكذلك يعترف بها نصارى الكاثوليك.
الثالثة: النسخة السامرية، وهي المعتبرة عند اليهود السامريين، وهي النسخة العبرانية لكنها تشتمل على سبعة كتب من العهد القديم فقط وهي التي يُسلِّم بها السامريون، وتزيد على النسخة العبرانية في الألفاظ والفقرات.
ومن الشواهد على وجود التحريف في هذه النسخ ما يلي:
1- في النسخة العبرانية أن بين خلق آدم إلى طوفان نوح عليهما السلام (1656) سنة، وفي النسخة اليونانية (2262) سنة، وفي النسخة السامرية (1307) سنة!!
2- في النسخة العبرانية أن من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام (292) سنة، وفي النسخة اليونانية (1072) سنة، وفي النسخة السامرية (942) سنة!!
3- وقع في الآية الثامنة والعشرين من الزبور المائة والخامس في العبرانية: "هم ما عصوا قوله"، وفي اليونانية: "هم عصوا قوله".
ففي الأولى نفي، وفي الثانية إثبات، فأحدهما غلط يقيناً!!
وتحيَّر علماء النصارى فيه، ففي تفسير هنري واسكات: "لقد طالت المباحثه لأجل هذا الفرق جداً، وظاهر أنه نشأ إما لزيادة حرف أو لتركه". ا هـ.
فالنصارى يؤمنون بالتوراة، ويسمون ما أُنزل على الرسل قبل عيسى العهد القديم، ويدّعون أن الإنجيل كُتِب بالإلهام بعد عيسى عليه السلام ويسمونه العهد الجديد، ويسمون الجميع الكتاب المقدَّس (بيبل)، وقد اعترف كثير من علماء النصارى المنصفين بتحريف الكتاب المقدس.
في دائرة معارف ريس في المجلد الرابع في بيان بيبل: قال الدكتور كني كات: "إن نسخ العهد العتيق الموجودة كُتبت ما بين عامي (1000-1400م)"، وقال: "إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم".
ونقل واتسن في كتابه (ج3/283) عن جيروم أنه قال: "لما أردت ترجمة العهد الجديد قابلت النسخة التي كانت عندي فوجدت اختلافاً عظيماً"!!
وقال آدم كلارك في المقدمة من المجلد الأول من تفسيره: "كانت الترجمات الكثيرة باللسان اللاتيني من المترجمين المختلفين موجودة قبل جيروم، وكان بعضها محرفة في غاية درجة التحريف، وبعض مواضعها مناقِضة للمواضع الأخر كما يستغيث جيروم"!!
ونقل وارد الكاثوليكي عن المؤرخ الإنجليزي كارلائل أنه قال: "المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق، وخدعوا الجهال، وجعلوا مطلب الإنجيل الذي كان مستقيماً معوجاً، وعندهم الظلمة أحب من النور، والكذب أحق من الصدق"!!
هذه حقيقة الكتاب المقدس، فما بال أقوام يُصرِّون على تغميض أعينهم عن رؤية الحق؟!
ومعلوم عند المؤرخين أنه لما أراد الإمبراطور قسطنطين جمْع النصارى على ملة واحدة، واجتمع بأحبارهم في مَجمَع نيقية سنة (325م)؛ كان معهم حينها من الأناجيل سبعون إنجيلاً كلٌ يدَّعي أن إنجيله هو الصحيح، فأمر الإمبراطور بإحراقها كلها إلا أربعة أناجيل وهي التي بأيدي النصارى اليوم، وفيها التحريف والزيادة والنقصان، وكذبوا على الله أنه ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، سبحان الله عما يصفون، قال الله تعالى في كتابة القرآن المجيد المحفوظ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
والحق هو ما أخبرنا الله في كتابه القرآن أن عيسى هو ابن مريم، وأن الله خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، والله على كل شيء قدير، قال الله سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59-60].
وقال الله سبحانه: {قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4].
وقال الله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} [المائدة:72-77].
ويدل على التحريف وصفهم لله تعالى بصفات النقائص، وكذلك طعنهم في الأنبياء عليهم السلام، وأكتفي بذكر خمسة أمثلة من الكتاب المقدس فيها الطعن في الأنبياء المعصومين عليهم الصلاة والسلام:
1- في (سفر التكوين [9/20]) أن النبي نوحاً عليه السلام شرب الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه ورآه ابنه عارياً.
2- في (سفر التكوين [19/30-38]) أن النبي لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه.
3- في (سفر الخروج [32/1-6]) أن النبي هارون عليه السلام عبد العجل.
4- في (سفر صموئيل الثاني [11/1-27]) أن النبي داود عليه السلام زنى بامرأة متزوجة فحملت منه ثم قدّم زوجها في القتال ليُقتل وتزوجها بعده.
5- في (سفر الملوك الأول [11/1-13]) أن النبي سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد.
تعالى الله عن هذه الأكاذيب التي ينزه كلامه منها، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام من الآية:115].
لماذا عظّم القرآن المسيح وذكر معجزاته؟
الجواب عن هذا: أن تعظيم المسيح وأمه حق لا نزاع فيه، ولم تكفر النصارى بالتعظيم، وإنما كفرت بالغلو فيهما، وعبادتهما، وادعاء الولد لله والصاحبة، والقول بالحلول والاتحاد، تعالى الله عما يفترون.
وإذا اعترف العاقل بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق فهذا دليل على أن القرآن حق، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى.
وهذا برهان ناطق على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان، فإنه مشتمل على تعظيم جميع الرسل وجميع الكتب المنزلة.
إبطال عقيدة التثليث:
لو كان التثليث حقاً لكان الواجب على موسىعليه السلام وأنبياء بني إسرائيل أن يُبينوه حق التبيين، فالعجب كل العجب أن تكون شريعة موسى خالية عن بيان هذه العقيدة التي هي مدار النجاة على زعم أهل التثليث، ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبياً كان أو غير نبي!!
وأعجب منه أن عيسى عليه السلام أيضاً لم يبين هذه العقيدة إلى عروجه ببيان واضح!!!
والبراهين العقلية على إبطال التثليث كثيرة، وأكتفي ببرهانين فيهما كفاية لكل عاقل منصف:
البرهان الأول:
التثليث والتوحيد حقيقيان عند النصارى، فإذا وُجِد التثليث الحقيقي فلابد من أن تُوجد الكثرة الحقيقية بداهة، ولا يمكن بعد ثبوتهما ثبوت التوحيد الحقيقي، فمعلوم أن: 1+1+1=3، ولا يمكن أن يكون 1+1+1=1 كما يدّعي النصارى أن الأب والابن وروح القدس إله واحد!!!
البرهان الثاني:
فرقة البروتستانت ترد على فرقة الكاثوليك في استحالة الخبز إلى المسيح في العَشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فلو قالوا: إن المسيح يصير خبزاً لكان ذلك أقل بعداً، أما أن الخبز يصير المسيح فهذا أشد فساداً وأظهر بطلاناً وأكثر بعداً عن العقل!!
وهذا الرد والسخرية يرجعان أيضاً لفرقة البروتستانت، فالذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنسانياً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات فيكون القول به باطلاً كالقول باستحالة الخبز إلى المسيح، مع كون الخبز على حاله، ولو تُرك مدة طويلة لتعفّن كغيره، فكيف يصدق العاقل أن ذلك الخبز هو عيسى؟! ولماذا يأكلون لحم عيسى ويشربون دمه وهم يدّعون أنه ربهم؟! وكيف يُصدّق العاقل أن عيسى الذي كان يراه الناس إنساناً يأكل ويشرب هو الإله؟!
وفي الأناجيل التي يؤمن بها النصارى أقوال كثيرة للمسيح عليه السلام تدل على التوحيد أكتفي بنقل خمسة أقوال منها:
القول الأول: في إنجيل (يوحنّا [17/3]): "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته".
القول الثاني: في إنجيل مرقس (12/29): "الرب إلهنا رب واحد".
القول الثالث: في إنجيل (مرقس [13/32]): "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب".
القول الرابع: أقوال عيسى الكثيرة التي يعبر فيها عن نفسه بأنه ابن الإنسان، وهذا كثير جداً في الأناجيل انظر مثلاً: إنجيل (متّى [8/20]، [9/6]، [16/13]، [17/9]، [18/11]، [19/28]، [20/18]، [24/27]، [26/24])، وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنساناً.
القول الخامس: في إنجيل (يوحنّا [20-17]): "إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".
وهذا القول يقلع جذور التثليث من قلوب عُبَّاد الصليب لو أنصفوا وعقلوا، فكما أن تلاميذ المسيح عباد الله وليسوا بأبناء الله حقيقية بل بالمعنى المجازي، فكذلك المسيح هو عبد الله وليس هو ابن الله إلا بالمعنى المجازي.
وهذا القول الخامس يطابق ما حكى الله عنه في القرآن المجيد: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117].
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم لجميع النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:74-77].
إن المسيح عليه الصلاة والسلام هو عبد الله ورسوله وهو بريء من هذه العقيدة الكفرية عقيدة التثليث، ولم يعبد أي نبي من الأنبياء عيسى ولا عبدوا الصليب، بل كلهم كان يعبد الله وحده لا شريك له.
قال الله في كتابه القرآن المجيد: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ . قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:130-141].
إثبات كون القرآن كلام الله والمعجزة الخالدة لمحمد رسول الله:
الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله:
الدليل الأول:
كون القرآن في أعلى درجات البلاغة التي لم يَعهد مثلها العرب في تراكيبهم، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم وهم أهل البلاغة والفصاحة، وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله أو بسورة مثله فعجزوا قال الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
الدليل الثاني:
تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة ولطف الإشارة، وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن الكريم.
الدليل الثالث:
إخبار القرآن عن حوادث آتية فوُجِدت في الأيام اللاحقة كما أخبر، ومن ذلك قوله تعالى: {الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1-4]، فأخبر القرآن عن انتصار فارس على الروم وأن الروم سيهزمونهم بعد ذلك في بضع سنين، أي: من ثلاث إلى تسع سنين ووقع ذلك كما أخبر القرآن العظيم!
الدليل الرابع:
ما أخبر الله في القرآن من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد عُلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أُميَّاً لا يقرأ ولا يكتب، بل عاش بين قوم كانوا أميين يعبدون الأصنام، ولا يعرفون الكتاب، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ . بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48-49].
الدليل الخامس:
جمعه لمعارف وعلوم لم تعهدها العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من علم الشرائع والمواعظ والحِكَم وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والأخلاق.
الدليل السادس:
كونه معجزة باقية متلوة قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فقد تكفل الله بحفظه بخلاف معجزات الأنبياء، فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت نزوله إلى زماننا هذا.
الدليل السابع:
كونه سليماً من الاختلاف والتناقض، قال الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء من الآية:82].
الدليل الثامن:
أن قارئه لا يسأمه، وسامعه لا يمجّه، بل تكراره يوجب زيادة محبته، وغيره من الكلام ولو كان بليغاً يُمل مع الترديد في السمع، ويُكره في الطبع.
الدليل التاسع:
تيسير حفظه لمتعلميه تيسيرا عجيبا كما قال الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فما أكثر من يحفظه من الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعرب والعجم!!
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى جميع الإنس والجن، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار» (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [153]).
وقد آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عهده كثير من اليهود والنصارى لما تبيَّن لهم أنه رسول الله إليهم حقاً، ثم بعد موته دخل منهم في الإسلام ما لا يعلم عددهم إلا الله، وإلى يومنا هذا لا يزال كثير ممن تبلغهم دعوته وفيهم خير يدخلون في الإسلام ويشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16].
إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصر، فمن ذلك:
1- ظهور المعجزات الكثيرة على يديه، وهو أكثر الأنبياء معجزة، وقد جمعها بعض العلماء فوصلت ألفاً ومائتي معجزة ودليلاً من دلائل نبوته، فمنها:
- إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكإخباره بقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم السالفة من غير سماع من أحد ولا دراسة لكتاب كما قال الله في القرآن: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود من الآية:49]، وأما المستقبلة فكثيرة كإخباره أصحابه بفتح مكة واليمن والشام وبيت المقدس ومصر والعراق، وأنهم يقتسمون كنوز ملك فارس وملك الروم، فوقعت هذه الأمور في زمن أصحابه كما أخبرهم!!
- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خروج نارٍ عظيمة من أرض الحجاز، وقد تواتر عند المؤرخين خروجها سنة (654هـ)، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها قبل ظهورها بنحو (650) سنة تقريباً!!
- ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام الإسراء بجسده الشريف من مكة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم العروج به إلى السماوات العلى، قال الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، وقال الله سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:1-18].
- ومن معجزاته انشقاق القمر، فقد سأله أهل مكة آية فأراهم انشقاق القمر فكذبوه وادعوا أنه سحر فأنزل الله سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ . وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1-3].
ثم أسلم كثير ممن كذبوه من أهل مكة، وآمنوا بالقرآن، فلو لم يكونوا رأوا انشقاق القمر لما آمنوا بالقرآن الذي يُثبت انشقاقه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة القمر في الأعياد، ليُسمع الناس ما فيها من آيات النبوة، وكل الناس يُقر ذلك ولا ينكره، ومعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يُخبر بهذا ويقرؤه في مجامع الناس العظيمة، ويستدل به ويجعله آية له، فعُلِم بهذا أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة، وقد روى انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة.
- ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه في مواطن متعددة حضراً وسفراً، وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه الصلاة السلام، فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة، وأما من لحم ودم فلم يُعهد من غيره صلى الله عليه وسلم، والله على كل شيء قدير.
- ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن شفى الله على يديه وبدعائه كثيراً من المرضى.
2- ومن الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة والأوصاف الجزيلة والكمالات والمحاسن ما يجزم العقل معها بأنه نبيٌ لا يكذب.
3- ومن أعظم الأدلة على نبوته:
شريعته وما يدعو إليه، فشريعته خير شاهد على نبوته، فقد اشتملت على الاعتقادات الصحيحة والعبادات الكاملة والمعاملات العادلة والسياسات الحكيمة والآداب الحسنة والأخلاق الطيبة مما يعلم بأنها من عند الله، وأن المبعوث بها نبي كريم.
4- ومن الأدلة على نبوته:
"أنه كان من قوم أميين لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم، فبعثه الله من بينهم بكتاب منير وشريعة كاملة شاملة، فقام مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى قبول شريعة الله التي ارتضاها لعباده، مخالفاً لجميع أهل الأرض من الأقارب والأباعد والملوك والرعية واليهود والنصارى، فقام يدعو الله، وقال: إني رسول الله، وضلّل آراءَهم، وأبطل مِلَلَهم، وصبر على أذيتهم، وبلّغ رسالة الله التي أرسله بها ولم يخشى لومة لائم، فأظهر الله دينه على جميع الأديان في مدة قليلة شرقاً وغرباً، ولا يزال مستمراً على مرّ العصور والأزمان، ولم يقدر أعداؤه مع كثرة عَددهم وعُددهم وشدة شوكتهم وفرط تعصبهم وبذل غاية جهدهم إطفاء نور دينه، فهل يكون ذلك إلا بعونٍ من الله الذي أرسله؟!
قال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هو الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8-9].
5- ومن الأدلة على نبوته:
أنه ظهر في وقت كان الناس في أمس الحاجة إلى من يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويدعوهم إلى دين الله القويم؛ لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان ووأد البنات، والفرس على اعتقاد الإلهية وعبادة النار ووطء الأمهات والبنات، والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر والسجود للشجر والحجر، واليهود على الجحود وتشبيه الخالق بالمخلوق وترويج الأكاذيب والزور، والنصارى على القول بالتثليث وعبادة الصليب والضلال المبين، وهكذا سائر العالم كانوا في الظلمات يتخبطون، وبالباطل يشتغلون، ولا يليق بحكمة الله الرحمن الرحيم الحكيم إلا أن يُرسل رسولاً يكون رحمة للعالمين، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
6- ومن الأدلة على نبوته:
إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته، وتبشيرهم بمجيئه، ومع وقوع التحريفات في كتب أهل الكتاب فإنه والحمد لله لا تزال توجد في التوراة والإنجيل بشارات كثيرة تبشِّر بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وتأويلات اليهود والنصارى لها غير مقبولة، ولكن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات، وما أسهل التكذيب على غير المخلصين المنصفين، لاسيما وتلك الإخبارات ليست مفصَّلة بل مجملة، وسأكتفي بذكر ست بشارات:
البشارة الأولى:
في (سفر التثنية [18/17-18]): "قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به". وانظر كذلك سفر (أعمال الرسل ([7/37]).
وقد أقرّ كثير من علماء اليهود بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبشَّرٌ به في التوراة، وأسلم كثير منهم، فعبد الله بن سلام كان أعلم اليهود في المدينة بشهادتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم وأخبر اليهود بأن محمداً هو النبي الذي يجدونه في التوراة، وقصة إسلامه مشهورة في كتب الحديث والسيرة.
البشارة الثانية:
في (سفر التثنية [23/2]): "فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم".
وسعير اسم لجبال فلسطين، وفاران اسم مكة بالعبرانية، فمعنى مجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من سعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلائه من جبل فاران إنزاله القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل القاطع على أن فاران مكة أن في (سفر التكوين [21/20-21]) في بيان حال إسماعيل عليه السلام: "وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران".
ولا شك عند المؤرخين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وعاش في مكة، وهذه البشارة موافقة لقوله تعالىفي القرآن الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3]، ففي هذه الآيات إشارة لأماكن بعثة الأنبياء الثلاثة، فالتين والزيتون إشارة إلى أرض فلسطين التي أرسل الله فيها عيسى، وطور سينين هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، والبلد الأمين هو مكة التي بعث الله فيها رسوله محمداً صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وفي التوراة شبه بعثة موسى بمجيء الفجر، وبعثة عيسى بشروق الشمس، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالظهور والاستعلان في كبد السماء، فهو أوضح ممن سبقه وختم جميع الأنبياء، وبه يتم النور على الخلائق ويكتمل دين الله الذي رضيه للعباد.
البشارة الثالثة:
في (سفر التكوين [49/10]): "فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبَّر من فخذه حتى يجيء الذين له الكل وإياه تنتظر الأمم".
ولفظ: (الذي له الكل)، ترجمة لفظ: (شيلوه)، كما في طبعة سنة (1865م): "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب".
وقد اختلفوا في ترجمة هذا اللفظ، ففي قاموس (الكتاب المقدس [ص:536]): "وقد حار العلماء في تفسير شيلون وفهم المقصود منه". ا هـ.
وسبب حيرتهم هو التعصب الأعمى، ومن أنصف منهم قال: "هو محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وانطباق الآية عليه ظاهر، فإنه لم تجتمع الشعوب إلا إليه، فقد أرسله الله للناس كافة".
البشارة الرابعة:
في إنجيل (متّى [3/2])؛ قول يوحنّا المعمدان: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات".
وفي إنجيل (متّى [4/12، 17-23]): "ولما سمع يسوع أن يوحنا أُسْلِم انصرف إلى الجليل. من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز -أي: يُبشِّر- ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. وكان يسوع يطوف كل الجليل يُعلِّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت".
وفي إنجيل (متّى [6/10]) في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: "ليأت ملكوتك".
ولما أرسل الحواريين للدعوة وصاهم بوصايا منها قوله: "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات" كما في إنجيل (متّى [10/7]).
وفي إنجيل (لوقا [10/9]): "ويقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله".
وملكوت السماوات المراد به طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الملكوت لم يظهر في عهد عيسى ولا في عهد الحواريين، بل كل منهم بشَّر به وبيّن قرب مجيئه.
وتأمّل ما في إنجيل (متّى [31-13/32])، وإنجيل (مرقس [31-4/32]) وإنجيل (لوقا [18-13/19]): "قدَّم لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهي أصغر جميع البزور ولكن متّى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها".
فملكوت السماوات هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت شجرة عظيمة أحاطت شرقاً وغرباً، وقد ذكر الله في القرآن محمداً رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح من الآية:29].
البشارة الخامسة:
في إنجيل يوحنّا في آخره ([14/15-16]): "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد".
وفي إنجيل (يوحنّا: [14/26، 30]): "والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما قلته لكم. والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنوا".
وفي إنجيل (يوحنّا [16/7، 12، 13]): "لكني أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم. وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن. وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه لا ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي".
وقد ورد اسم المبشَّر به في طبعات سنة (1821م) وسنة (1823م) وسنة (1831م) وسنة (1844م) بلفظ: فارقليط، وبارقليط، وروح الحق.
وفي طبعة سنة (1825م) وسنة (1826م) بلفظ: المعزّي، وروح الصدق.
وفي طبعة سنة (1816م) الشافع.
وفي طبعة سنة (1865م) وسنة (1970م) وسنة (1971م) وسنة (1976م) وسنة (1983م) وسنة (1985م) بلفظ: المعزي، وروح الحق.
وفي طبعة دار المشرق ببيروت سنة (1982م) بالمطبعة الكاثوليكية بلفظ: المؤيد، وروح الحق.
ولفظ: فارقليط معرّب من اللفظ اليوناني الأصل، ولفظ الأصل: (بيركلوطوس) ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، وادّعاء القسيسين أن لفظ الأصل: (باراكلي طوس) بمعنى المعزي لا يضر، فإن التفاوت بين اللفظين يسير جداً، فتبدل بيركلوطوس بباراكلي طوس غير مستعبد، لكن نرجح أن اللفظ الأصل كان (بيركلوطوس) بمعنى محمد أو أحمد؛ لأن الله أخبر في القرآن بأن عيسى بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6].
وبعد هذا نقول:
اللفظ العبراني الذي قاله عيسى مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمته، فإن سلمنا للنصارى بأن اللفظ اليوناني كان (باراكلي طوس) كما يدَّعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً؛ لأن معناه المعزي أو الشافع، وهذا يصدق على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم أن في إنجيل (يوحنّا [16/8]): "فإذا جاء فهو يوبِّخ العالم".
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي وبّخ العالم لاسيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت.
البشارة السادسة:
في إنجيل (يوحنّا [12-16/13]): "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متّى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق".
وهذه بشارة من عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر القرآن، وتصريح من عيسى بأن النبي الآتي بعده سيأتي بشريعة جديدة لم يأت بها عيسى، وأنها حق عليهم أن يتبعوها، فهلا يتبع العقلاء من النصارى هذه الآية التي في الإنجيل!!
فهذه ست بشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفيها كفاية لقوم يتفكرون، وقد قال الله في كتابه الحكيم عن محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
الخاتمة:
أيها القارئ الكريم قد تَبيَّن لك بهذه الرسالة حقيقة عقيدة النصارى الضالين، وتحريف كتابهم المقدس، وتبيَّن لك أن القرآن حق من عند الله لا ريب فيه، وأن محمداً رسول الله.
فيا أيها العاقل كن منصفاً واترك التعصب للباطل، واحذر من اتباع الهوى فتضل عن سبيل الله، والله خلقك ولم تكن شيئاً لتعبده بما شرعه، وأمرك باتباع الحق وترك الباطل، فلا تقدم الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، وأنت لا تدري كم بقي من عمرك، فسارع إلى الحق تُفلح في الدنيا والآخرة، والله يحب التوابين، ومن تاب وآمن وعمل الصالحات يدخله الله الجنة خالداً فيها أبداً، ومن أصر على الكفر بالله والتكذيب بالقرآن ولم يؤمن بمحمد رسول الله خاتم النبيين فله نار جهنم خالداً فيها أبداً.
وأختم هذه الرسالة بقول الله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
أما بعد:
فإن الله كان ولم يكن شيء غيره، فخلق السموات والأرض وما بينهما، وخلق الملائكة والجن والإنس، فأضلت الشياطين الناس عن عبادة الله الذي خلقهم، فأرسل الله إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب؛ ليعبدوا الله وحده، وتبشرهم بالجنة إن أطاعوا الله، وتحذرهم من النار إن عصوه، وقد أنزل الله التوراة على النبي موسى والإنجيل على النبي عيسى والقرآن على النبي محمد، ولكن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل، وحفظ الله القرآن الذي أنزله على محمد خاتم النبيين ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور، وأظهر بالقرآن -الذي هو كلام ربِّ العالمين- ما كان مخفياً عند أهل الكتاب، وقص عليهم فيه أكثر الذي هم فيه يختلفون، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون!!
وهذه الرسالة المختصرة فيها حقائق كثيرة بالأدلة والنصوص من القرآن الكريم، ومما في أيدي النصارى من الكتاب المقدس.
أسأل الله أن يُبارِك في هذه الرسالة، وأن يَهدي بها كثيراً من أولي الألباب.
إثبات تحريف التوراة والإنجيل:
النُّسخ المشهورة للتوراة ثلاث نسخ:
الأولى: النسخة العبرانية، وهي المعتبرة عند اليهود، وجمهور علماء البروتستانت.
الثانية: النسخة اليونانية، وهي التي كانت معتبرة عند النصارى إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وكانوا يعتقدون تحريف النسخة العبرانية، وأن اليهود حرفوها عمداً سنة (130م) للتشكيك في صحة النسخة اليونانية، ولما ظهرت الفرقة البروتستانتية عكست الأمر وقالت بصحة النسخة العبرانية وتحريف اليونانية!! ولا تزال الكنيسة اليونانية وكنائس المشرق (المذهب الأرثوذكسي) على اعتبار هذه النسخة اليونانية، وكذلك يعترف بها نصارى الكاثوليك.
الثالثة: النسخة السامرية، وهي المعتبرة عند اليهود السامريين، وهي النسخة العبرانية لكنها تشتمل على سبعة كتب من العهد القديم فقط وهي التي يُسلِّم بها السامريون، وتزيد على النسخة العبرانية في الألفاظ والفقرات.
ومن الشواهد على وجود التحريف في هذه النسخ ما يلي:
1- في النسخة العبرانية أن بين خلق آدم إلى طوفان نوح عليهما السلام (1656) سنة، وفي النسخة اليونانية (2262) سنة، وفي النسخة السامرية (1307) سنة!!
2- في النسخة العبرانية أن من الطوفان إلى ولادة إبراهيم عليه السلام (292) سنة، وفي النسخة اليونانية (1072) سنة، وفي النسخة السامرية (942) سنة!!
3- وقع في الآية الثامنة والعشرين من الزبور المائة والخامس في العبرانية: "هم ما عصوا قوله"، وفي اليونانية: "هم عصوا قوله".
ففي الأولى نفي، وفي الثانية إثبات، فأحدهما غلط يقيناً!!
وتحيَّر علماء النصارى فيه، ففي تفسير هنري واسكات: "لقد طالت المباحثه لأجل هذا الفرق جداً، وظاهر أنه نشأ إما لزيادة حرف أو لتركه". ا هـ.
فالنصارى يؤمنون بالتوراة، ويسمون ما أُنزل على الرسل قبل عيسى العهد القديم، ويدّعون أن الإنجيل كُتِب بالإلهام بعد عيسى عليه السلام ويسمونه العهد الجديد، ويسمون الجميع الكتاب المقدَّس (بيبل)، وقد اعترف كثير من علماء النصارى المنصفين بتحريف الكتاب المقدس.
في دائرة معارف ريس في المجلد الرابع في بيان بيبل: قال الدكتور كني كات: "إن نسخ العهد العتيق الموجودة كُتبت ما بين عامي (1000-1400م)"، وقال: "إن جميع النسخ التي كانت كتبت في المائة السابعة أو الثامنة أُعدمت بأمر محفل الشورى لليهود؛ لأنها كانت تخالف مخالفة كثيرة للنسخ التي كانت معتمدة عندهم".
ونقل واتسن في كتابه (ج3/283) عن جيروم أنه قال: "لما أردت ترجمة العهد الجديد قابلت النسخة التي كانت عندي فوجدت اختلافاً عظيماً"!!
وقال آدم كلارك في المقدمة من المجلد الأول من تفسيره: "كانت الترجمات الكثيرة باللسان اللاتيني من المترجمين المختلفين موجودة قبل جيروم، وكان بعضها محرفة في غاية درجة التحريف، وبعض مواضعها مناقِضة للمواضع الأخر كما يستغيث جيروم"!!
ونقل وارد الكاثوليكي عن المؤرخ الإنجليزي كارلائل أنه قال: "المترجمون الإنكليزيون أفسدوا المطلب، وأخفوا الحق، وخدعوا الجهال، وجعلوا مطلب الإنجيل الذي كان مستقيماً معوجاً، وعندهم الظلمة أحب من النور، والكذب أحق من الصدق"!!
هذه حقيقة الكتاب المقدس، فما بال أقوام يُصرِّون على تغميض أعينهم عن رؤية الحق؟!
ومعلوم عند المؤرخين أنه لما أراد الإمبراطور قسطنطين جمْع النصارى على ملة واحدة، واجتمع بأحبارهم في مَجمَع نيقية سنة (325م)؛ كان معهم حينها من الأناجيل سبعون إنجيلاً كلٌ يدَّعي أن إنجيله هو الصحيح، فأمر الإمبراطور بإحراقها كلها إلا أربعة أناجيل وهي التي بأيدي النصارى اليوم، وفيها التحريف والزيادة والنقصان، وكذبوا على الله أنه ثالث ثلاثة، وأن عيسى ابن الله، سبحان الله عما يصفون، قال الله تعالى في كتابة القرآن المجيد المحفوظ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
والحق هو ما أخبرنا الله في كتابه القرآن أن عيسى هو ابن مريم، وأن الله خلقه من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم، والله على كل شيء قدير، قال الله سبحانه: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59-60].
وقال الله سبحانه: {قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4].
وقال الله سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُو المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ . لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ . أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} [المائدة:72-77].
ويدل على التحريف وصفهم لله تعالى بصفات النقائص، وكذلك طعنهم في الأنبياء عليهم السلام، وأكتفي بذكر خمسة أمثلة من الكتاب المقدس فيها الطعن في الأنبياء المعصومين عليهم الصلاة والسلام:
1- في (سفر التكوين [9/20]) أن النبي نوحاً عليه السلام شرب الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه ورآه ابنه عارياً.
2- في (سفر التكوين [19/30-38]) أن النبي لوطاً عليه السلام زنى بابنتيه.
3- في (سفر الخروج [32/1-6]) أن النبي هارون عليه السلام عبد العجل.
4- في (سفر صموئيل الثاني [11/1-27]) أن النبي داود عليه السلام زنى بامرأة متزوجة فحملت منه ثم قدّم زوجها في القتال ليُقتل وتزوجها بعده.
5- في (سفر الملوك الأول [11/1-13]) أن النبي سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها المعابد.
تعالى الله عن هذه الأكاذيب التي ينزه كلامه منها، قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام من الآية:115].
لماذا عظّم القرآن المسيح وذكر معجزاته؟
الجواب عن هذا: أن تعظيم المسيح وأمه حق لا نزاع فيه، ولم تكفر النصارى بالتعظيم، وإنما كفرت بالغلو فيهما، وعبادتهما، وادعاء الولد لله والصاحبة، والقول بالحلول والاتحاد، تعالى الله عما يفترون.
وإذا اعترف العاقل بأن القرآن الكريم ورد بما يعتقد أنه حق فهذا دليل على أن القرآن حق، وهذا هو سبب إسلام كثير من أحبار اليهود ورهبان النصارى.
وهذا برهان ناطق على رجحان الإسلام على سائر الملل والأديان، فإنه مشتمل على تعظيم جميع الرسل وجميع الكتب المنزلة.
إبطال عقيدة التثليث:
لو كان التثليث حقاً لكان الواجب على موسىعليه السلام وأنبياء بني إسرائيل أن يُبينوه حق التبيين، فالعجب كل العجب أن تكون شريعة موسى خالية عن بيان هذه العقيدة التي هي مدار النجاة على زعم أهل التثليث، ولا يمكن نجاة أحد بدونها نبياً كان أو غير نبي!!
وأعجب منه أن عيسى عليه السلام أيضاً لم يبين هذه العقيدة إلى عروجه ببيان واضح!!!
والبراهين العقلية على إبطال التثليث كثيرة، وأكتفي ببرهانين فيهما كفاية لكل عاقل منصف:
البرهان الأول:
التثليث والتوحيد حقيقيان عند النصارى، فإذا وُجِد التثليث الحقيقي فلابد من أن تُوجد الكثرة الحقيقية بداهة، ولا يمكن بعد ثبوتهما ثبوت التوحيد الحقيقي، فمعلوم أن: 1+1+1=3، ولا يمكن أن يكون 1+1+1=1 كما يدّعي النصارى أن الأب والابن وروح القدس إله واحد!!!
البرهان الثاني:
فرقة البروتستانت ترد على فرقة الكاثوليك في استحالة الخبز إلى المسيح في العَشاء الرباني بشهادة الحس وتستهزئ بها، فلو قالوا: إن المسيح يصير خبزاً لكان ذلك أقل بعداً، أما أن الخبز يصير المسيح فهذا أشد فساداً وأظهر بطلاناً وأكثر بعداً عن العقل!!
وهذا الرد والسخرية يرجعان أيضاً لفرقة البروتستانت، فالذي رأى المسيح ما رأى منه إلا شخصاً واحداً إنسانياً، وتكذيب أصدق الحواس الذي هو البصر يفتح باب السفسطة في الضروريات فيكون القول به باطلاً كالقول باستحالة الخبز إلى المسيح، مع كون الخبز على حاله، ولو تُرك مدة طويلة لتعفّن كغيره، فكيف يصدق العاقل أن ذلك الخبز هو عيسى؟! ولماذا يأكلون لحم عيسى ويشربون دمه وهم يدّعون أنه ربهم؟! وكيف يُصدّق العاقل أن عيسى الذي كان يراه الناس إنساناً يأكل ويشرب هو الإله؟!
وفي الأناجيل التي يؤمن بها النصارى أقوال كثيرة للمسيح عليه السلام تدل على التوحيد أكتفي بنقل خمسة أقوال منها:
القول الأول: في إنجيل (يوحنّا [17/3]): "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته".
القول الثاني: في إنجيل مرقس (12/29): "الرب إلهنا رب واحد".
القول الثالث: في إنجيل (مرقس [13/32]): "وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب".
القول الرابع: أقوال عيسى الكثيرة التي يعبر فيها عن نفسه بأنه ابن الإنسان، وهذا كثير جداً في الأناجيل انظر مثلاً: إنجيل (متّى [8/20]، [9/6]، [16/13]، [17/9]، [18/11]، [19/28]، [20/18]، [24/27]، [26/24])، وظاهر أن ابن الإنسان لا يكون إلا إنساناً.
القول الخامس: في إنجيل (يوحنّا [20-17]): "إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم".
وهذا القول يقلع جذور التثليث من قلوب عُبَّاد الصليب لو أنصفوا وعقلوا، فكما أن تلاميذ المسيح عباد الله وليسوا بأبناء الله حقيقية بل بالمعنى المجازي، فكذلك المسيح هو عبد الله وليس هو ابن الله إلا بالمعنى المجازي.
وهذا القول الخامس يطابق ما حكى الله عنه في القرآن المجيد: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:117].
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم لجميع النصارى: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ . مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:74-77].
إن المسيح عليه الصلاة والسلام هو عبد الله ورسوله وهو بريء من هذه العقيدة الكفرية عقيدة التثليث، ولم يعبد أي نبي من الأنبياء عيسى ولا عبدوا الصليب، بل كلهم كان يعبد الله وحده لا شريك له.
قال الله في كتابه القرآن المجيد: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
وقال الله سبحانه: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ . إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ . وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ . قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ . تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:130-141].
إثبات كون القرآن كلام الله والمعجزة الخالدة لمحمد رسول الله:
الأدلة على أن القرآن الكريم كلام الله:
الدليل الأول:
كون القرآن في أعلى درجات البلاغة التي لم يَعهد مثلها العرب في تراكيبهم، وتقاصرت عنها درجات بلاغتهم وهم أهل البلاغة والفصاحة، وقد تحداهم الله أن يأتوا بمثله أو بسورة مثله فعجزوا قال الله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88].
الدليل الثاني:
تأليفه العجيب وأسلوبه الغريب مع اشتماله على دقائق البيان وحقائق العرفان، وحسن العبارة ولطف الإشارة، وسلاسة التركيب وسلامة الترتيب، ومن كان أعرف بلغة العرب وفنون بلاغتها كان أعرف بإعجاز القرآن الكريم.
الدليل الثالث:
إخبار القرآن عن حوادث آتية فوُجِدت في الأيام اللاحقة كما أخبر، ومن ذلك قوله تعالى: {الم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:1-4]، فأخبر القرآن عن انتصار فارس على الروم وأن الروم سيهزمونهم بعد ذلك في بضع سنين، أي: من ثلاث إلى تسع سنين ووقع ذلك كما أخبر القرآن العظيم!
الدليل الرابع:
ما أخبر الله في القرآن من أخبار القرون السالفة والأمم الهالكة، وقد عُلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان أُميَّاً لا يقرأ ولا يكتب، بل عاش بين قوم كانوا أميين يعبدون الأصنام، ولا يعرفون الكتاب، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ . بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48-49].
الدليل الخامس:
جمعه لمعارف وعلوم لم تعهدها العرب عامة ولا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة من علم الشرائع والمواعظ والحِكَم وأخبار الدار الآخرة ومحاسن الآداب والأخلاق.
الدليل السادس:
كونه معجزة باقية متلوة قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9]، فقد تكفل الله بحفظه بخلاف معجزات الأنبياء، فإنها انقضت بانقضاء أوقاتها، وهذه المعجزة باقية على ما كانت عليه من وقت نزوله إلى زماننا هذا.
الدليل السابع:
كونه سليماً من الاختلاف والتناقض، قال الله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء من الآية:82].
الدليل الثامن:
أن قارئه لا يسأمه، وسامعه لا يمجّه، بل تكراره يوجب زيادة محبته، وغيره من الكلام ولو كان بليغاً يُمل مع الترديد في السمع، ويُكره في الطبع.
الدليل التاسع:
تيسير حفظه لمتعلميه تيسيرا عجيبا كما قال الله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، فما أكثر من يحفظه من الرجال والنساء، والكبار والصغار، والعرب والعجم!!
والنبي محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله إلى جميع الإنس والجن، قال الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].
وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلتُ به، إلا كان من أصحاب النار» (أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [153]).
وقد آمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في عهده كثير من اليهود والنصارى لما تبيَّن لهم أنه رسول الله إليهم حقاً، ثم بعد موته دخل منهم في الإسلام ما لا يعلم عددهم إلا الله، وإلى يومنا هذا لا يزال كثير ممن تبلغهم دعوته وفيهم خير يدخلون في الإسلام ويشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15-16].
إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:
الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تُحصر، فمن ذلك:
1- ظهور المعجزات الكثيرة على يديه، وهو أكثر الأنبياء معجزة، وقد جمعها بعض العلماء فوصلت ألفاً ومائتي معجزة ودليلاً من دلائل نبوته، فمنها:
- إخباره عن المغيبات الماضية والمستقبلة، أما الماضية فكإخباره بقصص الأنبياء عليهم السلام وقصص الأمم السالفة من غير سماع من أحد ولا دراسة لكتاب كما قال الله في القرآن: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [هود من الآية:49]، وأما المستقبلة فكثيرة كإخباره أصحابه بفتح مكة واليمن والشام وبيت المقدس ومصر والعراق، وأنهم يقتسمون كنوز ملك فارس وملك الروم، فوقعت هذه الأمور في زمن أصحابه كما أخبرهم!!
- وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خروج نارٍ عظيمة من أرض الحجاز، وقد تواتر عند المؤرخين خروجها سنة (654هـ)، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجها قبل ظهورها بنحو (650) سنة تقريباً!!
- ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام الإسراء بجسده الشريف من مكة إلى بيت المقدس في ليلة واحدة ثم العروج به إلى السماوات العلى، قال الله سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، وقال الله سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى . وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى . عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى . إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى . مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى . لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:1-18].
- ومن معجزاته انشقاق القمر، فقد سأله أهل مكة آية فأراهم انشقاق القمر فكذبوه وادعوا أنه سحر فأنزل الله سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ . وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ . وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1-3].
ثم أسلم كثير ممن كذبوه من أهل مكة، وآمنوا بالقرآن، فلو لم يكونوا رأوا انشقاق القمر لما آمنوا بالقرآن الذي يُثبت انشقاقه، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة القمر في الأعياد، ليُسمع الناس ما فيها من آيات النبوة، وكل الناس يُقر ذلك ولا ينكره، ومعلوم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يُخبر بهذا ويقرؤه في مجامع الناس العظيمة، ويستدل به ويجعله آية له، فعُلِم بهذا أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة، وقد روى انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة.
- ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم نبع الماء من بين أصابعه في مواطن متعددة حضراً وسفراً، وهذه المعجزة أعظم من تفجر الماء من الحجر كما وقع لموسى عليه الصلاة السلام، فإن ذلك من عادة الحجر في الجملة، وأما من لحم ودم فلم يُعهد من غيره صلى الله عليه وسلم، والله على كل شيء قدير.
- ومن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم أن شفى الله على يديه وبدعائه كثيراً من المرضى.
2- ومن الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم:
أنه اجتمع فيه من الأخلاق العظيمة والأوصاف الجزيلة والكمالات والمحاسن ما يجزم العقل معها بأنه نبيٌ لا يكذب.
3- ومن أعظم الأدلة على نبوته:
شريعته وما يدعو إليه، فشريعته خير شاهد على نبوته، فقد اشتملت على الاعتقادات الصحيحة والعبادات الكاملة والمعاملات العادلة والسياسات الحكيمة والآداب الحسنة والأخلاق الطيبة مما يعلم بأنها من عند الله، وأن المبعوث بها نبي كريم.
4- ومن الأدلة على نبوته:
"أنه كان من قوم أميين لا كتاب لهم ولا حكمة فيهم، فبعثه الله من بينهم بكتاب منير وشريعة كاملة شاملة، فقام مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، وإلى قبول شريعة الله التي ارتضاها لعباده، مخالفاً لجميع أهل الأرض من الأقارب والأباعد والملوك والرعية واليهود والنصارى، فقام يدعو الله، وقال: إني رسول الله، وضلّل آراءَهم، وأبطل مِلَلَهم، وصبر على أذيتهم، وبلّغ رسالة الله التي أرسله بها ولم يخشى لومة لائم، فأظهر الله دينه على جميع الأديان في مدة قليلة شرقاً وغرباً، ولا يزال مستمراً على مرّ العصور والأزمان، ولم يقدر أعداؤه مع كثرة عَددهم وعُددهم وشدة شوكتهم وفرط تعصبهم وبذل غاية جهدهم إطفاء نور دينه، فهل يكون ذلك إلا بعونٍ من الله الذي أرسله؟!
قال الله سبحانه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هو الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8-9].
5- ومن الأدلة على نبوته:
أنه ظهر في وقت كان الناس في أمس الحاجة إلى من يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويدعوهم إلى دين الله القويم؛ لأن العرب كانوا على عبادة الأوثان ووأد البنات، والفرس على اعتقاد الإلهية وعبادة النار ووطء الأمهات والبنات، والترك على تخريب البلاد وتعذيب العباد، والهند على عبادة البقر والسجود للشجر والحجر، واليهود على الجحود وتشبيه الخالق بالمخلوق وترويج الأكاذيب والزور، والنصارى على القول بالتثليث وعبادة الصليب والضلال المبين، وهكذا سائر العالم كانوا في الظلمات يتخبطون، وبالباطل يشتغلون، ولا يليق بحكمة الله الرحمن الرحيم الحكيم إلا أن يُرسل رسولاً يكون رحمة للعالمين، قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1].
6- ومن الأدلة على نبوته:
إخبار الأنبياء المتقدمين عليه عن نبوته، وتبشيرهم بمجيئه، ومع وقوع التحريفات في كتب أهل الكتاب فإنه والحمد لله لا تزال توجد في التوراة والإنجيل بشارات كثيرة تبشِّر بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وتأويلات اليهود والنصارى لها غير مقبولة، ولكن المعاند له مجال واسع للتأويل في أمثال هذه الإخبارات، وما أسهل التكذيب على غير المخلصين المنصفين، لاسيما وتلك الإخبارات ليست مفصَّلة بل مجملة، وسأكتفي بذكر ست بشارات:
البشارة الأولى:
في (سفر التثنية [18/17-18]): "قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا. أقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك وأجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به". وانظر كذلك سفر (أعمال الرسل ([7/37]).
وقد أقرّ كثير من علماء اليهود بأن محمداً صلى الله عليه وسلم مبشَّرٌ به في التوراة، وأسلم كثير منهم، فعبد الله بن سلام كان أعلم اليهود في المدينة بشهادتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أسلم وأخبر اليهود بأن محمداً هو النبي الذي يجدونه في التوراة، وقصة إسلامه مشهورة في كتب الحديث والسيرة.
البشارة الثانية:
في (سفر التثنية [23/2]): "فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم".
وسعير اسم لجبال فلسطين، وفاران اسم مكة بالعبرانية، فمعنى مجيئه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى عليه السلام، وإشراقه من سعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى عليه السلام، واستعلائه من جبل فاران إنزاله القرآن على النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
والدليل القاطع على أن فاران مكة أن في (سفر التكوين [21/20-21]) في بيان حال إسماعيل عليه السلام: "وكان الله مع الغلام فكبر وسكن في البرية وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران".
ولا شك عند المؤرخين أن إسماعيل عليه السلام نشأ وعاش في مكة، وهذه البشارة موافقة لقوله تعالىفي القرآن الكريم: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ . وَطُورِ سِينِينَ . وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1-3]، ففي هذه الآيات إشارة لأماكن بعثة الأنبياء الثلاثة، فالتين والزيتون إشارة إلى أرض فلسطين التي أرسل الله فيها عيسى، وطور سينين هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى، والبلد الأمين هو مكة التي بعث الله فيها رسوله محمداً صلى الله عليهم وسلم أجمعين، وفي التوراة شبه بعثة موسى بمجيء الفجر، وبعثة عيسى بشروق الشمس، وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم بالظهور والاستعلان في كبد السماء، فهو أوضح ممن سبقه وختم جميع الأنبياء، وبه يتم النور على الخلائق ويكتمل دين الله الذي رضيه للعباد.
البشارة الثالثة:
في (سفر التكوين [49/10]): "فلا يزول القضيب من يهوذا والمدبَّر من فخذه حتى يجيء الذين له الكل وإياه تنتظر الأمم".
ولفظ: (الذي له الكل)، ترجمة لفظ: (شيلوه)، كما في طبعة سنة (1865م): "لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب".
وقد اختلفوا في ترجمة هذا اللفظ، ففي قاموس (الكتاب المقدس [ص:536]): "وقد حار العلماء في تفسير شيلون وفهم المقصود منه". ا هـ.
وسبب حيرتهم هو التعصب الأعمى، ومن أنصف منهم قال: "هو محمد صلى الله عليه وسلم بلا ريب، وانطباق الآية عليه ظاهر، فإنه لم تجتمع الشعوب إلا إليه، فقد أرسله الله للناس كافة".
البشارة الرابعة:
في إنجيل (متّى [3/2])؛ قول يوحنّا المعمدان: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات".
وفي إنجيل (متّى [4/12، 17-23]): "ولما سمع يسوع أن يوحنا أُسْلِم انصرف إلى الجليل. من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز -أي: يُبشِّر- ويقول: توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات. وكان يسوع يطوف كل الجليل يُعلِّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت".
وفي إنجيل (متّى [6/10]) في بيان الصلاة التي علمها عيسى عليه السلام تلاميذه هكذا: "ليأت ملكوتك".
ولما أرسل الحواريين للدعوة وصاهم بوصايا منها قوله: "وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات" كما في إنجيل (متّى [10/7]).
وفي إنجيل (لوقا [10/9]): "ويقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت الله".
وملكوت السماوات المراد به طريقة النجاة التي ظهرت بشريعة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الملكوت لم يظهر في عهد عيسى ولا في عهد الحواريين، بل كل منهم بشَّر به وبيّن قرب مجيئه.
وتأمّل ما في إنجيل (متّى [31-13/32])، وإنجيل (مرقس [31-4/32]) وإنجيل (لوقا [18-13/19]): "قدَّم لهم مثلاً آخر قائلاً: يشبه ملكوت السماوات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله. وهي أصغر جميع البزور ولكن متّى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى إن طيور السماء تأتي وتتآوى في أغصانها".
فملكوت السماوات هي شريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي كانت في ابتداء الأمر بمنزلة حبة خردل لكنها لعمومها نمت في مدة قليلة وصارت شجرة عظيمة أحاطت شرقاً وغرباً، وقد ذكر الله في القرآن محمداً رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح من الآية:29].
البشارة الخامسة:
في إنجيل يوحنّا في آخره ([14/15-16]): "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم فارقليط آخر ليثبت معكم إلى الأبد".
وفي إنجيل (يوحنّا: [14/26، 30]): "والفارقليط روح القدس الذي يرسله الأب باسمي هو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كلما قلته لكم. والآن قد قلت لكم قبل أن يكون حتى إذا كان تؤمنوا".
وفي إنجيل (يوحنّا [16/7، 12، 13]): "لكني أقول لكم: الحق إنه خير لكم أن أنطلق؛ لأني إن لم أنطلق لم يأتكم الفارقليط، فأما إن انطلقت أرسلته إليكم. وإن لي كلاماً كثيراً أقوله لكم ولكنكم لستم تطيقون حمله الآن. وإذا جاء روح الحق ذاك فهو يعلمكم جميع الحق؛ لأنه لا ينطق من عنده بل يتكلم بكل ما يسمع ويخبركم بما سيأتي".
وقد ورد اسم المبشَّر به في طبعات سنة (1821م) وسنة (1823م) وسنة (1831م) وسنة (1844م) بلفظ: فارقليط، وبارقليط، وروح الحق.
وفي طبعة سنة (1825م) وسنة (1826م) بلفظ: المعزّي، وروح الصدق.
وفي طبعة سنة (1816م) الشافع.
وفي طبعة سنة (1865م) وسنة (1970م) وسنة (1971م) وسنة (1976م) وسنة (1983م) وسنة (1985م) بلفظ: المعزي، وروح الحق.
وفي طبعة دار المشرق ببيروت سنة (1982م) بالمطبعة الكاثوليكية بلفظ: المؤيد، وروح الحق.
ولفظ: فارقليط معرّب من اللفظ اليوناني الأصل، ولفظ الأصل: (بيركلوطوس) ومعناه قريب من معنى محمد وأحمد، وادّعاء القسيسين أن لفظ الأصل: (باراكلي طوس) بمعنى المعزي لا يضر، فإن التفاوت بين اللفظين يسير جداً، فتبدل بيركلوطوس بباراكلي طوس غير مستعبد، لكن نرجح أن اللفظ الأصل كان (بيركلوطوس) بمعنى محمد أو أحمد؛ لأن الله أخبر في القرآن بأن عيسى بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف:6].
وبعد هذا نقول:
اللفظ العبراني الذي قاله عيسى مفقود، واللفظ اليوناني الموجود ترجمته، فإن سلمنا للنصارى بأن اللفظ اليوناني كان (باراكلي طوس) كما يدَّعون فهذا لا ينافي الاستدلال أيضاً؛ لأن معناه المعزي أو الشافع، وهذا يصدق على محمد صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أن الفارقليط هو محمد صلى الله عليه وسلم أن في إنجيل (يوحنّا [16/8]): "فإذا جاء فهو يوبِّخ العالم".
فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي وبّخ العالم لاسيما اليهود على عدم إيمانهم بعيسى عليه السلام توبيخاً لا يشك فيه إلا معاند بحت.
البشارة السادسة:
في إنجيل (يوحنّا [12-16/13]): "إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متّى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق".
وهذه بشارة من عيسى بمحمد صلى الله عليه وسلم كما أخبر القرآن، وتصريح من عيسى بأن النبي الآتي بعده سيأتي بشريعة جديدة لم يأت بها عيسى، وأنها حق عليهم أن يتبعوها، فهلا يتبع العقلاء من النصارى هذه الآية التي في الإنجيل!!
فهذه ست بشارات بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفيها كفاية لقوم يتفكرون، وقد قال الله في كتابه الحكيم عن محمد صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157].
الخاتمة:
أيها القارئ الكريم قد تَبيَّن لك بهذه الرسالة حقيقة عقيدة النصارى الضالين، وتحريف كتابهم المقدس، وتبيَّن لك أن القرآن حق من عند الله لا ريب فيه، وأن محمداً رسول الله.
فيا أيها العاقل كن منصفاً واترك التعصب للباطل، واحذر من اتباع الهوى فتضل عن سبيل الله، والله خلقك ولم تكن شيئاً لتعبده بما شرعه، وأمرك باتباع الحق وترك الباطل، فلا تقدم الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، وأنت لا تدري كم بقي من عمرك، فسارع إلى الحق تُفلح في الدنيا والآخرة، والله يحب التوابين، ومن تاب وآمن وعمل الصالحات يدخله الله الجنة خالداً فيها أبداً، ومن أصر على الكفر بالله والتكذيب بالقرآن ولم يؤمن بمحمد رسول الله خاتم النبيين فله نار جهنم خالداً فيها أبداً.
وأختم هذه الرسالة بقول الله سبحانه: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].