مقال في غاية الروعة لفضيلة الشيخ أبي عبد الباري عبد الحميد العربي الجزائري.
بدعة سب جنس العرب جاءت من دولة فارس الرافضية وأعوانها من الشعوبيين.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
لقد كثرت الأصوات المزرية بجنس العرب نسبا ولسانا ودارا حتى ولو كانوا من السابقين الأولين، وطغت غمغمة الشعوبيين طغيانا مقززا ولافتا للانتباه، شعرت بخطورة الأمر وأنا أستمع وأقرأ لجملة من الحوارات المحلية والعالمية، زعم فيها المشاركون -الشعوبيون- أنهم يسعون إلى كشف نقاط القوة والضعف التي صحبت موقف الدول العربية من العدوان الصهيوني على غزة، بألسنة حداد شحيحة بالخير على جنس العرب، متظاهرين بالشجاعة والفصاحة، والمقامات العالية، ومتوعدين اليهود والصليبيين وعلى رأسهم أمريكا بسحق ومحق ورمي في البحر.
أ في السلم أعيارا جفاء وغلظةً**وفي الحرب أمثال النِّساء العوارك.
ولا أريد أن أشغل ذهن القارئ بهراء الشعوبيين فإنك إن تحمل عليهم يلهثون، وإن تركهم يلهثون، ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ﴾، وهذا حالهم عبر التاريخ هداهم الله إلى معرفة منزلة جنس العرب عند الله تعالى، بل أسعى إلى التنبيه على عجل أن الحديث عن منزلة جنس العرب، هو من قبيل الحديث عن الفضائل يضبطه الدين القويم والعقل السليم، والغرض منه معرفة الخير وتحريه، وليس الهدف منه العلو في الأرض، والفخر الزائف على باقي الأجناس، وغمص منزلتهم وغمط كرماتهم، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه كتاب الجنة، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار؛ من طريق قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله بن الشّخير، عن عياض بن حمار أخي بني مجاشع، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا فقال: (...وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتّى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغ أحدٌ على أحد).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الاقتضاء (1/405): (فنهى سبحانه على لسان رسوله عن نوعي الاستطال على الخلق، وهي: الفخر، والبغي، لأن المستطيل إن استطال بحق فقد افتخر، وإن كان بغير حق؛ فقد بغى، فلا يحل لا هذا ولا هذا، فإن كان الرجل من الطائفة الفاضلة، مثل: أن يذكر فضل بني هاشم، أو قريش، أو العرب، أو بعضهم فلا يكن حظه استشعار فضل نفسه، والنظر إلى ذلك، فإنه مخطئ في هذا، لأن فضل الجنس لا يستلزم فضل الشخص كما قدمناه، فرب حبشي أفضل عند الله من جمهور قريش، ثم هذا النظر يوجب نقصه وخروجه عن الفضل، فضلا أن يستعلي بهذا ويستطيل).
ثم وجّه شيخ الإسلام إرشادا ثمينا لأتباع الحق من غير جنس العرب فقال: (وإن كان من الطائفة الأخرى، مثل العجم، أو غير قريش، أو غير بني هاشم؛ فليعلم أن تصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، ومحبة ما أحبه الله، والتشبه بمن فضل الله، والقيام بالدين الحقّ، الذي بعث الله به محمدا؛ يوجب له أن يكون أفضل من جمهور الطائفة المفضلة، وهذا هو الفضل الحقيقي)اهـ.
إن حبّ جنس العرب أصلٌ من أصول أهل السنة والجماعة يا من غاب عنكم هذا الأصل وأنتم مسلمون، فقد ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني، صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها: (هذه مذاهب أهل [أئمة] العلم وأصحاب الأثر، وأهل السنة المتكلمين بها المقتدى بهم فيها من لدن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وأدركت من أدركت من علماء أهل الحجاز، والشام، وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مخالفٌ مبتدعٌ خارجٌ عن الجماعةِ زائغٌ عن منهجِ السُنَّة وسبيل الحق، قال: وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم، وعبد الله بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم وكان من قولهم: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيةٌ وتمسكٌ بالسنة، والإيمان يزيد وينقص...إلى أن قال: ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها، ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: حب العرب إيمان وبغضهم نفاق، ولا نقول بقول الشعوبية وأرذال الموالي الذين لا يحبون العرب، لا يقرون بفضلهم، فإن قولهم بدعة وخلاف).
قلت: وإن كان الحديث الذي استدل به المصنف فيه مقال، فإنّه قد جاء ما يقويه من نصوص أخرى وعمل السلف.
لقد ضرب شيخ الإسلام مثلا رائعا ما أحوج العرب إلى دراسته وتفهمه في وقت نخر الخلاف أساس بنيانهم، واجتهد الشيطان في التحريش بينهم، وكثرت الطفيليات التي تفسد روابطهم فقال في الاقتضاء (1/401) بعد ما بين منزلة العرب الذين تلقوا الهدى المحمدي بصدق: (فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم؛ بمنزلة أرض جيدة في نفسها، لكن هي معطلة عن الحرث، أو قد نبت فيها شجر العضاة، والعوسج، وصارت مأوى الخنازير والسباع، فإذا طهرت عن المؤذي من الشجر والدواب، وزرع فيها أفضل الحبوب والثمار جاء فيها من الحرث ما لا يوصف مثله، فصار السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار أفضل خلق الله بعد الأنبياء، وصار أفضل الناس بعدهم من اتبعهم بإحسان إلى يوم القيامة.....).
إن العرب يملكون قوة مخلوقة فيهم، فقبل أن يشيدوا المباني العاتية للاختلاف وتقاذف التهم تحت قبتها، وتشميت الأعداء فينا؛ وإصدار القرارات التي تنقض قبل أن يجف حبرها؛ عليهم قبل ذلك كله أن يتغذوا من الكمال الذي أنزله الله إليهم، ويطهروا أفنيتهم من العوامل التي تعطل مسيرتهم التاريخية، من حيوانات مفترسة وأشجار معرقلة ضارة تمنع من نموّ الزرع وتماسكه، والانتفاع بثمره، وإيتاء حقه يوم حصاده شكرا لله على فضله وامتنانه، قال تعالى:(محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾.
إن العيب ليس في جنس العرب يا عرب، وإنّما في السكوت عن السّباع المفترسة التي تجول وتصول في الساحة العربية بولا وافتراسا وتفجيرا، وفي أفنان الأشجار الضارة التي امتدت وخرجت عن محيطها حتى غدت كالأخاطيب فقطعت سبل الهداية على بعض أبناء الأمة، وعرقلت موكبهم الحضاري، وبثت فيهم الأفكار القاتلة من سب للصحابة، وطعن في القرآن، وهي تسعى الآن لحجب أشعة الشمس عنهم إن سنحت لها الفرصة، كي تدخل الساحة العربية في ظلمة دهماء، ودوامة هوجاء يسهل في جوها خلط المسائل، وتغيير منار الأرض وما العراق وسوريا ولبنان عنا ببعيد.
فهل زرع القمم العربية في خضم وجود الكلاب وشوك الغضاة يقوى لغيظ الكفار وكبح طموحهم، نهيك أن يكون سدا منيعا من زحفهم أو جثوهم على صدورنا؟.
قال ابن قيم الجوزية في الفوائد (ص381): (الجهل بالطريق وآفاتها والمقصود يوجب التعبَ الكثير مع الفائدة القليلة...).
إن من المؤسف أن أقول: إنّ العرب نسبا أو لسانا، أو ابتداء أو انتقالا قد لبثوا في إسار ذل الخلاف بضع مئات من السنين، حتى صار الخلاف سنة راتبة في حقهم، واعتادوا على مذاقه المرّ، ونبت جسمهم منه حتى رهِل، لهذا هم في غفلة من حلاوة الائتلاف ورص الصفوف، إن لم يكونوا نسوه، وفي سهو عن طعم توحيد الرؤى واسترجاع المسلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن على العرب إذا أرادوا أن يحافظوا على ما بقي من المكتسب أن ينظروا إلى مواقع أقدامهم، وأن يأخذوا الأمر الإلهي الذي أمرهم الله به بقوة وحزم، وأن يتأملوا في ما أعدّ الله لهم من ذلّ الدنيا، وعذاب في الآخرة إذا أعطوا مقاد أنفسهم وعقولهم لأعداء الله من اليهود والنصارى وأذنابهم من مجوس هذه الأمة.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه من حديث عروة بن زبير: أن زينب بنت أبي سلمة حدّثته أن أمّ حبيبة بنت أبي سفيان حدّثتها عن زينب بنت جحش: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعا يقول: (ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا) وحلّق بإصبعه وبالتي تليها، فقالت زينب: فقلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث).
لقد لحق العرب بعض الهلاك على يد أعدائهم من اليهود والنصارى لما ساد الفساد والفجور والفسوق والبدعة ساحتهم، وطلّ فكر الروافض والخوارج بقرنيه من بين أيديهم، فلا جرم أن الخيِّر من العرب يهلك بهلاك الشرير إذا لم يغير عليه خبثه، وكلما تمادى العرب في الخلاف وفي السكوت عن الكلاب والوحوش والأشواك الضارة التي تنهك جسم الأمة، وتغير مسارها، كلما اتسع ثقب الشر الذي يتسرب منه هلاك اليهود والنصارى إلى ساحتهم حتى يصابوا بالشر الأكبر والعياذ بالله.
إن الفشل والشرّ الذي أطل بضلاله على فناء العرب وصار كالظل لهم يعالج بالحكمة، وضبط النفس، وكفّ اليد عن التشويش وإيقاد نيران الفتن، أخرج الإمام أبو داود في سننه بإسناد صحيح من حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويل للعرب من شرّ قد اقترب، أفلح من كفّ يده)، وبأن يعطوا للحياة منزلتها، فالعرب وإن كانوا يعيشون حياة النمو والغذاء شأنهم شأن النبات والحيوان، إلا أنهم قد فقدوا حياة الحسّ والحركة، والإرادة والهمّة، فإن العرب كلما كانت قلوبهم أتمّ حياة، كانت همتهم أعلى، وإرادتهم أقوى، ومحبتهم لنشر الخير وردء الصدع أكمل، فإن القمة الطيبة تنال بالهمة العالية، والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك يكون نجاح القمم، وليس بالشعارات الجوفاء، وبالأفكار الميتة، والأيديولوجيات الضالة والمضلة.
إن المواطن العربي يأمل وما ذلك على الله بعزيز أن يفيق يوما من نومه فيجد أنه قد تمخض عن قمة عربية حيةٍ حياةُ الفرح السرور التي تكون بعد الظفر بالمطلوب، حياة تزرع الأمل في النفوس، وتطرد الاكتئاب واليأس الذي خيم على المواطن العربي وأفقده بهاءه وهيبته، وتدفع بباقي الأجناس في مشارق الأرض مغاربها إلى السير وراءهم والاقتداء بهم، فإنه إن ضعفت الحياة عند العرب كانت عند غيرهم أشد ضعفا، فقد قال معاوية بن أبي سفيان: (والله يا معشر العرب، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم له)، وحينها يعلم اليهود الغاصبون(1) أن فرحَهم اليوم بأنهم أقوى دولة مادية في الشرق الأوسط، والظفرَ الذي يستند إلى حِراب غيرهم من النصارى وعلى رأسهم أمريكا لا يدومان، وأنهم سيندمون لا محالة يوم تغيب هذه الحراب عنهم، وأحداث الدهر كثيرة، والفرص للعرب إن شدّوا مآزرهم آتية لا ريب فيها، ومن أنذر فقد أعذر، لأن اليهود بغير الحراب التي رفعت من شأنهم أذلاء، قد كتب الله عليهم الجلاء كُلما طغوا وأكثروا الفساد في الأرض، فقد أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وأرباضها، ثم أجلاهم الفاروق العربي عن الحجاز كلها، ثم سكت عنهم المسلمون، بل حموهم حين رأوهم مضطهدين مستضعفين، ولما عاد اليهود إلى سيرتهم من البغي والعدوان أعاد الله سيرتهم من الجلاء فجلاهم الألمان والطليان عن بلادهم، وستكون عاقبة أمرهم إن شاء الله أن يجليهم المسلمون عن كل بلاد الإسلام، فالواجب على العرب ومن يحمل مشعل المقاومة أن يعود إلى الإسلام الخالص الذي عليه أسلافه، ولا ينتظر من الروافض أن يجلوا اليهود، فإن الرافضي صنو اليهودي، ودولة الروافض ما قامت إلى بعد ما أسست دولة اليهود في الشرق الأوسط، فهما سهمان مسمومان في جسم الأمة، مُكِّن لهما ليكونا ذريعة للتوسع الصليبي الجديد في المنطقة، فعلى العرب أن يبنوا صرحهم بعيدا عن عون دولة الروافض إذا أرادوا أن يسترجعوا القدس والجولان خالصة لهم من دون عباد الأوثان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد العربي وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه:
أبو عبد الباري عبد الحميد العربي الجزائري كان الله في عونه.