حين استقمت.. والتقيت بـ علي الجفري!! (قصة تحذيرية من ضلالات علي الجفري)
قبل أن أكتب أول حرف من قصتي مع هذا الرجل وأيامي مع تلك الفرقة أريد أن أشكر الباري أن دلني على الطريق القويم والصراط المستقيم، وهداني للحق المبين والفكر المستنير الذي أسأله سبحانه أن يثبتني عليه كما دلني إليه..
أثناء دراستي في جامعة البترول والمعادن تعرفت على زميلٍ جمعتني به إحدى المواد المشتركة بيني وبينه منذ السنة الأولى، ثم توطدت العلاقة مع كثرة زياراته لي، كان شاباً تبدو على قسمات وجهه علامات الاستقامة والصلاح، لا تخلو كلماته من ذكر لله أو مدح للنبي صلى الله عليه وسلم. كان دوماً يناديني بـ يا سيد، وذلك أن
نسبي يرجع إلى الحسن بن علي ، وكان ذلك اللقب الذي ما اعتادت نفسي على سماعه من قبل له رنين غير عادي في أذني. كان جم الأدب والتواضع، لا يدخل عليّ في غرفتي دون أن يحضر معه هدية لي أو لزميلي الذي يسكن معي، غير أني لاحظت عليه عدم الحرص على الصلاة في المسجد مع الجماعة، بل كنا نصلي
في الغرفة جماعة ونقوم وهو جالسٌ مطيل المكوث بعد الصلاة كثير الذكر والتبتل إلى الله.
لقد كانت أُولى أيامي في الجامعة تشهد كثيراً من التحولات والصراعات الفكرية في داخلي، وكُنتُ متأثراً بالفكر المعتزلي أشد التأثر، أُنزل العقل في غير المنزل الذي خلقه الله فيه من القدر والمكان. كان للسن دور رئيس في تلك التحولات والثورات الفكرية والتي كانت تتأجج وتزداد توهجاً مع تلك الكتب التي اعتدت قراءتها والبحث بين
أسطرها عن ما يمجد العقل والفكر، رامياً النقل وأقوال أهل العلم العدول عرض الحائط. وكنت أُطلع الصديق الجديد على بعض مكنونات فكري بحذر وأحياناً بتهور لاذع. كان يفتح معي بعض الحوارات كمحاولة منه لأن يعيدني إلى السنة ونبذ تقديم العقل على النقل لكنه كان يخرج دون أدنى فائدة من تلك الحوارات العقيمة، بل إنه كان يخافُ
أحياناً على نفسه من التأثر بما أحمله من أفكار، ويحاول الاستعانة بمن هم أعلم منه وأقدر، فما كانت لتثنيني تلك المحاولات ولا تلك المناورات العقيمة. كنتُ متعلقاً بفكري واعتقاداتي كأشد ما يكون الطفل الرضيع بأمه. كان كل يوم يمضي يزداد ارتباطي بهذا الزميل، وتقوى العلاقة بيننا، إلى انتكست حالي وانزلقتُ مع رفقة السوء في
ردهات خطيرة من المعاصي والآثام، فكان هذا الصديق نعم الصاحب ونعم المعين بعد الله في هذه المحنة. وكان يكثر علي من النصح حتى أتضايق منه وأبدي له ذلك وهو صابرٌ لا يملُّ ولا يكل. مرت سنة هي من أشقى سنوات العمر وأتعسها، عانيت فيها مصاعب جمة وواجهت بها متاعب كثيرة، انتهت بامتنان الله عليّ بالتوبة والرجوع إليه
سبحانه في قصة أترك أحداثها وتفاصيلها لوقت آخر أصف فيه تلك التحولات الفكرية والصراعات التي مررت بها.
المهم أن هذا الصديق كان الأقرب لي بعد توبتي وتبدل حالي، فلازمته كثيراً وبدأت انكب على قراءة السيرة النبوية وكتب العقيدة. وكان صديقي يأخذني إلى دروس كانت تقام في بعض غرف الجامعة عن الشمائل المحمدية للترمذي، تعرفت من خلالها على شباب كثر ممن هم على نهج صديقي. وكنّا أحياناً نذهب إلى المُقرأ وهو مكان يجتمع فيه
مجموعة من الشباب لقراءة جزء من القرآن يومياً ثم يختمونه آخر الشهر، وكان الهدف المعلن حينها تصحيح التلاوة والتجويد.
كان من الملاحظ أيضاً أنهم لم يكونوا يطلعوني على كثير من أسرارهم واجتماعاتهم بل كل ذلك كان يحصل في تدرج شبه منظم.
كان ذلك لا يروق لي أبداً، حيث أني تعلمت من تجربتي الماضية أن لا أُنيخ ركاب فكري ورَحْلَ عقلي وقلبي عند أي أحد كان،كما أن حماستي للدين وتعلم فنونه كانت منقطعة النظير وذلك أني كنت حديث عهد باستقامةٍ والتزام.
كانت البداية مع الأدعية الغريبة التي تأتي بعد قراءة الجزء أو عند ختم القرآن، حيث أن تلك الأدعية التي كما يقولون للولي الفلاني والعالم العلاني، لا تخلو من بعض الشركيات والأمور التي كانت محل نقاش وجدل مع صديقي حالما نخرج من تلك المجالس..
استمر الحال كذلك لفترة كنت فيها أرى منهم التواضع ولين الجانب ما لم أره من قبل عند أحد من الناس. وكانوا يقدمون خدمات تعجز أحياناً عن إيصال الشكر المناسب لها.. حتى جاء ذلك اليوم الذي أخبرني فيه هذا الشاب أننا ذاهبون إلى المولد!!. كنت شغوفاً لأن أحضر مثل تلك المناسبات لأرى فيها كيف يصنعون؟ وماذا يفعلون؟ أهي كما كنا نسمع ونشاهد في المسلسلات أم غير ذلك.
كان في داخلي رهبة شديدة، وشوق قد بلغ مداه، لأني سأحضر المولد، وأحكم بنفسي على ما فيه. لقد كان الشعور بالخوف والقلق مصاحباً لي ولصديقي الذي كان يخشى ردة فعلي وما سيكون عليه حالي بعد المولد...كنت متلهفاً للقاء صاحب الكرامات الذي طالما حدثني عنه صديقي. كنت كثير الجدل معهم بشأن تلك الخوارق للعادات وكثرتها عندهم.
كانوا يستدلون على بعض الكرامات التي حدثت لبعض الصحابة ومحاولة إقحامها في داومة الخرافة التي يقتفون أثرها ويستقون منها شراباً ساذجاً فيه غولٌ كثير وشوائب منتنه، نسأل الله لنا ولهم الهداية...
مرّ ذلك الأسبوع كأنه دهر، وأنا في شغف الإنتظار ليوم الإربعاء وما أدراك ما يوم الإربعاء، فهو اليوم الذي سيجتمع القوم فيه لتذكر سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وإنشاد المدائح فيه... وسأكون فيه حاضراً غير غائب إن مد الله لي في عمري..
يتبع......
...............................
الحلقة الثانية:
أخيراً جاء يوم الإربعاء، بعد طول انتظار وأمل. كنت قد حضرت جميع محاضرات ذلك اليوم بجسدي دون فكري الذي سافر إلى حيث المولد الذي طالما حدثني عنه صديقي ووصفه لي بشيء أشبه بالخيال. لقد كان حديثه عنه ماتعاً لقلبي، آسراً لكياني الذي لم ترسخ قدماه بعد على أرض الإستقامة والصلاح. إنتهت محاضرات ذلك اليوم ا
لطويل الطويل لأكمل ما تبقى من رحلة السفر تلك بفكري في غرفتي وذلك إلى أن يحين موعد الإقلاع حقيقةً لا خيال، ولأشاهد وأحضر بجسدي وذهني مجتمعين لا متفرقين...
اقترب الموعد للإنطلاق، وكنت قد تجهزت قبل الموعد بساعة منتظراً قدوم الصديق لاصطحابي معه إلى حيث الولي القادم من حضرموت خصيصاً ليحي مراسم ذلك المولد...
جاء صديقي ليأخذني وكلٌ منا خائفٌ يترقب، أنا أرتقب وصولي هناك، وهو متعجل متلهف لسماع رأيي حول ما سأراه وأسمعه. وفي الطريق سألته: أللولي الذي سيحضر اليوم كرامات؟
قال: نعم.
فسكتُ لبرهة أفكر ولم أبحث عن مزيد تفصيل أو إيضاح فقد أشعبنا هذا الموضوع أنا وإياه حواراً وجدلاً وضحكاً واستهزاءً مني، فإذا به يقطع خلوتي بفكري ليقول: لكنه لا يخبر أحداً عنها أبداً بل إن من حوله هم من يخبروننا بتلك الخوارق للعادات.
وصلنا إلى الموقع قبيل صلاة العشاء، وكان بيتاً خاصاً كبيراً فسيحاً أُعدت بعض غرفه ومجالسه لمثل تلك اللقاءات والموالد. كان الحضور كثيفاً على الرغم من أن ذلك اليوم لا يوافق مولد النبي صلى الله عليه وسلم عندهم، بل لم يكن من أيام شهر ربيع الأول أو الآخر، فهم قد اعتادوا على تسمية تلك الإجتماعات بالموالد...
كان في أول المجلس شيخ كبير السن بدين الجسم، يلبس المتواضع من الثياب، يحيط به من كل جانب شباب ورجال كثر، كلٌ يعرض مسألته، فدفعني صاحبي نحوه مشيراً عليّ بالتقدم للسلام عليه وأخذ البركة منه، وكان من عادة الذين يأتون للسلام عليه أن يقبّلوا يده بزعم أخذ البركة. تقدمت لأسلم عليه وليس بين يديّ أي مسألة فأنا قادمٌ
لأتفرج وأشبع جوع رغبتي الثائرة على كل ما هو جديد غريب، المهم أني تقدمتُ وسلمتُ عليه مصافحاً دون تقبيل ذلك أني لم أعتد تقبيل يد أحد من البشر سوى والداي ولم أتمنى تقبيل يد أحدٍ غيرهما قط إلا أمنيةً تراودني كثيراً على أنها مستحيلة المنال، بعيدة الحصول بعد المشرق عن المغرب، وهي تقبيل يد الشيخين ابن باز وابن عثيمين
عليهما سحائب الرحمة والغفران من ربٍ غفورٍ رحيم، فلكم يشكو الخد من تلك المدامع التي تنهمر انهمار المطر حين أتذكر أني لم أُمتع ناظري برؤيتهما ولم أُشنف أُذناي بحديثهما. المهم أني رأيت نظرات الاستعجاب والاستغراب تلفني حين لم أُقدم على تقبيل يد هذا الولي وأنى له ذلك.
اخترت زاوية المجلس، فهي مكان الغرباء في كل مجلس، وتوجه ناظري ليتفحص الحضور، فإذا بي أفاجأ أن جُلّ من حضر من الشباب هم من طلبة جامعتنا، وأعرف الكثير منهم ممن ألتقي به في ردهات الجامعة أو ممن صادف تواجده معي في إحدى المواد المشتركة.. كان قسمات الوجه تفرق بين الحاضرين الغرباء من أمثالي وبين الذين
أصبحوا يَـحْبـُون أو من غدوا يعدون في هذا التيه..
حضر وقت العشاء فرفع الأذان في البيت والمسجد لا يبعد عنه إلا بضعة أمتار.كانت مثل هذه الحوادث تزيد في داخلي عدد الأسئلة والاستنكارات على هؤلاء القوم وتبعدني عنهم ولا تقربني، فلقد كنت أستحضر دوماً ما أقرأه من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقارنه ما يفعله هؤلاء فإذا هم في نظري لم يفهموا معنى تلك الرسالة
الخالدة، ولم يوافقوها طرفة عين، وإن تمثلوا محبته واغرورقت عيونهم بالدمع حال سماع قصصه التي كانت في الغالب من الضعيف والموضوع. لقد بدأت ألاحظ ذلك وأنا حديث عهدٍ باستقامة، لا أملك من أدوات الحوار إلا العقل وبعض القصص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم.
ذهب الناس للوضوء وكنت على استعداد من غرفتي لأداء الصلاة، ثم أُقيمت الصلاة وتقدم الولي للصلاة بنا، وشدتني قراءته للفاتحة، فهو يجيد الكثير والكثير من فنون العلم كالفقه وغيره من علوم السيرة، ثم هو لا ينطق القاف كما هي في أصل اللغة، بل ينطقها كما ينطقها العوام عندهم. لقد دارت بي الدنيا حينها وتذكرت طريقة كلام
الجفري في لقاءاته المتلفزة، إذ كيف يدّعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم ويتباكون أمام الملأ إظهاراً لتلك المحبة، ثم هم يفضلون اللغة العامية على ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أقوال أهل العلم وتشديدهم في مسألة قراءة الفاتحة على النحو الصحيح حتى أجاز بعضهم للمأموم قطع الصلاة والصلاة منفرداً إذا كان الإمام لا يجيد قراءة الفاتحة.
انهينا الصلاة، وعدنا استعداداً لسماع الدرس الذي ألقاه الولي على مسامعنا وكان لا يخلو من اللمز والطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والحديث عن كرامات بعض الأولياء والصالحين وحشد الأدلة النقلية والعقلية عليها.
بعد الدرس بدأ الإنشاد المُصاحب بالدف، وأنشدو الكثير من القصائد التي فيها مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها قصيدة البوصيري الشركية... لا أخفيكم أني تأثرت بتلك القصائد وذلك النشيد فالذين تقدموا للإنشاد يمتلكون أصواتاً عذبه، والكلمات التي أُنشدت كانت مختارة بعناية لتلامس شغاف القلوب، ولم أكن أنا ولا غيري ممن حضروا لأول مرة يدققون في شرعية تلك الكلمات، بل لقد تم أسرنا من اللحظات الأولى للإنشاد...
فلقد تأثرت محاجر العيون أشد التأثير حين سمعت تلك الكلمات وتهيجت المشاعر حتى فاضت وانسكب عطرها على نسائم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد شعرت بالتقصير الشديد نحو هذا الدين طوال تلك الفترة الماضية من عمري فوبخت نفسي كثيراً على ذلك. لقد كنت أشعر حينها بحرارة لذعة المعصية وحلاوة التوبة سوياً، فأخفضت
رأسي بين قدمي وانتحبت بالبكاء. لقد كنت أشعر بالأسى مضاعفاً حين أتذكر أني من تلك الأسرة الكريمة وذلك النسب الشريف.
يتبع....
................................
الحلقة الثالثة:
أبدأ هذه الحلقة بأمرٍ سبق أن ألمحت إليه في الحلقة الأولى، وهي مسألة أني لم أكن صوفياً قط رغم ممارستي لبعض شعائرهم، وتأثري بهم في بعض الأمور حينها، ومجالستي لهم معظم وقتي خلال تلك الفترة. أعلم أنه قد يوافقني في هذا الأمر أو الرأي قارئ ويختلف معي آخرون، لكن لعلي أوغلُ في التلميح وأترك التصريح في هذا
لأمرين، الأول هو أني سبق أن عرّضت إلى أني كنت شديد التأثر بالفكر المعتزلي البعيد عن الفكر الصوفي الأشعري وإن توافقا في قلة من مسائل العقيدة، وحين حزمت أمتعتي مفارقاً فكر الإعتزال بحثاً عن الحق عاهدت نفسي أن لا أُسلم عقلي وديني لمخلوق أياً كان مذهبه وإتجاهه حتى أصل إلى شاطئ الأمان، وقد كافئني صاحب الامتنان عليّ
دوماً الذي مدّ لي في العمر حتى ذقت طعم الهداية وعشت سلامة المنهج وأسأله أن يحسن خاتمتي وخاتمة كل مسلم. الثاني هو أني قد جعلت هدفي لهذا السرد ما دبجته في العنوان، ولا يمنع أن أفرد لقصة الهداية عنواناً آخر، يستنبط العبر منه أخوةٌ لي في الدين، وشبابٌ يبحثون عن الحق ويتركون التعصب الأعمى والانزلاق وراء كل عاطفة يثيرها كل ناعق.
أعود لأول مولد حضرته مع صديقي...
قطع بكائي وقوف الحضور بلا استثناء مُطْرَبين مُنْشِدين، فأذهلني المنظر ولم أفهم المغزى من ذلك الوقوف الجماعي. مسحت دموعي بطرف كم الثوب الذي عليّ، ثم وقفت وبادرت صديقي متسائلاً عن سر هذا الوقوف!! فلم يجب، وكنت أشعر بالحرج الشديد، إذ أن منظري الغريب وقيامي متأخراً جعل الأنظار تتوجه إلي إضافة إلى شعوري
الداخلي بأني غريبٌ عنهم. ولقد كنت شديد الحرص أن لا يتنبه لذلك أحد، كون أني أتيت لأرى وأبحث في مسألة المولد وأحتاج إلى صفاء ذهن وبُعد أعين الناس عني. المهم أن طرب بعض الحاضرين وتمايلهم أثناء وقوفهم، وانخفاض رؤوس آخرين كدلالة على التأثر والخشوع، جعلني أكرر على صديقي السؤال بإلحاح.
فأجابني: لقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم، لذا تجد المجلس قائماً إجلالاً وتعظيماً!!
قلت له: أين هو؟
فبدت علامات الإستياء من سؤالي على وجه صاحبي قائلاً: النبي صلى الله عليه وسلم حضر بروحه، ولهذا لم تره.
قلت: حسناً، لكن أين روحه الآن؟ أقصد عند من تقف الآن؟
فقال: لا أدري، انتظر إلى أن نخرج ثم نتكلم في ذلك..
أحسست أني ضايقته بالأسئلة، لكني كنت أبحث عن ديني ولم أكن أهتم إن تضايق أحد من أسئلتي وهذرتي عليه، ذلك أن لا أحد سيُشرك معي في الحساب يوم القيامة...
انتهى النشيد وحان وقت العشاء، وكانت الولائم معدة وجاهزة في فناء المنزل. تعشينا ثم خرجنا من المنزل استعداداً للرجوع إلى الجامعة. عندما خرجت أصابتني الدهشة والحيرة تجاه ما رأيت من بعض شبابهم ورجالهم، فالذين كانوا يسحون الدمع في الداخل، هم الآن يدخنون السجائر أما الملأ دون أن يتقدم لنصحهم أحد. ولقد كان هذا
المشهد يشدني في كل مرة أتيت فيها للمولد بعد ذلك اليوم..
ركبنا السيارة وإنطلقنا إلى الجامعة، والصمت هو السيد في تلك اللحظات. كنت أنتظرُ سيلاً من الأسئلة الموجهة إلي من صديقي يسألني فيها عن رأيي في المولد هذا، خصوصاً بعد ذلك العراك الصامت الذي دار بيننا بالأعين أثناء الوقوف المسمى بالحضرة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن!!
وصلنا للجامعة وذهب كل منا إلى غرفته. دخلت غرفتي وكان زميلي الذي يسكن معي في انتظار رجوعي من المولد الذي أخبرته عنه. سلمت، ثم ذهبت لأغير ملابسي وأنا أعلم أنه منتظر ومتلهف لما سأقوله حول تلك الرحلة، فلم أكلمه وكأني ما قرأت تقاسيم وجهه المتلهفة. كان الشوق عند زميلي لمعرفة تفاصيل الرحلة أقوى من أن ينتظر مبادرتي، فسارع هو بالسؤال: ذهبت؟
قلت: نعم.
قال: كيف رأيته؟
قلت: لا أدري!!
قال: كيف لا تدري وأنت من حضر..
قلت: دعني أنام وفي الصباح أشرح لك..
قال: لا. الآن تشرح لي، هل قابلت الولي صاحب الكرامات؟
قلت: نعم.
قال: هل رأيت بعض الكرامات التي حدثنا عنها صاحبك؟
قلت: لا أظن أن لديه كرامات أصلاً، فنفسي لم تلقى قبولاً له ولا إنشراحاً.
قال: الذي أفهمه من حديثك أنه كصاحبنا الذي حضر منذ مدة إلينا مدعياً أنه يطلع على الغيب.
قلت: ذاك لم يكن يدعي علم الغيب ولكنه ادعى أن له كشوفات.
قال: وما الفرق. المهم أنه أسقطك في حبائله وصدقت كذبته.
قلت: قد نالك منه ما نالني فلا تقلب المواجع ودعني أنام..
سكت، ولم يزد على قوله: تصبح على خير، فقد ساءته هذه الذكرى. وصاحب الكشوفات هذه له قصه، أقف عندها ليتنبه الناس أن يقعوا في مثل ما وقعنا فيه. وليعذرني القارئ إن أنا شرقت به أو غربت، فما أقصده من سرد تلك الأحداث هو الفائدة لا سواها.
قصة هذا الرجل صاحب الكشوفات حدثت في غرة الأحداث العصيبة التي كنت أمر بها قبل توبتي وعودتي إلى الله. وهي أن صاحبي الصوفي ذكر لي أن شيخاً قادماً من المنطقة الغربية لزيارة جامعتنا وذلك للقاء بعض شباب الجامعة، وأنه قد رتب له زيارة إلى غرفتي وحدد لي اليوم والساعة. فرحت بهذا الخبر وكدت أطير، فأخبرت زميلي
الذي يسكن معي الذي لم تعجبه الفكرة وقال أنه لن يكون متواجداً في الغرفة ساعة الزيارة لأنه لا يؤمن بهذه الخرافات. كنت منتظراً لهذه الزيارة بشوق بالغ فلم أبالي برد زميلي الذي يسكن معي، وعندما حل الموعد كنت قد جهزت غرفتي وطيبتها وأزلت رائحة الدخان الذي كان يملأ فضاءها المسقوف، ورتبت عفشها المتناثر يمنةً ويسرة
حتى سرقني الوقت وجاء الرجل يرافقه صاحبي الصوفي ودقا عليّ باب الغرفة ولم أكن قد أنهيت بعد لبس ثوبي. فتحت الباب وأزرار الثوب معلقة في كفي وقد أبت أن تتفكك فهي من النوع المترابط بعضه ببعض بواسطة سلسال من الحديد، ويعرفه أهل الحجاز أكثر من باقي المناطق. المهم أن الرجل دخل وحضرت لهم الشاي ودلف الرجل
يتحدث وأنا مشغول أحاول تفكيك تلك الأزرار اللعينة والتي سببت لي كثيراً من الحرج. أحس الرجل بانشغالي عنه فقطع كلامه قائلاً لماذا لا تترك الذي بين يديك لوقت آخر. تركتها وجلست أتابع حديثه فإذا بفكري قد ارتحل سريعاً عن المجلس إلى حيث معناتي التي كنت أعيشها في تلك الأيام والتي أرقتني كثيراً. فتنبه الرجل لذلك وطلب من
مرافقه (صاحبي الصوفي) أن يتركنا لوحدنا، فتركنا وبقيت أنا وإياه لوحدنا في الغرفة. أكمل حديثه عن بعض قصص السيرة النبوية، فلما انتهى قال: ألا تود أن تشاركني همومك.. قلت: لا أملك شيئاً من هم في الوقت الحالي ولله الحمد والمنة، إلا ما كان من أمور الدراسة العادية. من طبعي أن لا
أشكو لأحد مهما كان قربه مني إلا إذا تكالبت عليّ الأمور فإني أزيح هموماً غير تلك التي أحس بها في تلك اللحظات ولا تعدو أن تكون أمراً طبيعياً يمر به كل البشر، وذلك لأترك مجالاً للهم الجديد فلا أسقط على وجهي من شدة ما أحمل.
أعاد علي السؤال بصيغة أخرى: ألا تثق بي؟ قلت: ليس القصد ذلك ولكن ليس بي شيء غير الذي قلته لك، ولم أكن على علم بأن صاحبي الصوفي قد أخبره بحالي كاملاً بل لم أكن أعلم أن صاحبي هذا يعلم كل تلك التفاصيل التي أخبر الرجل بها.
فاجأني بقوله: لماذا تسلك طريق الشيطان، ألأجل...................؟!!، وعرّض بهمي الذي هو السبب الرئيس في أرقي ودوامة المشكلات التي أعيشها. أصابني الذهول والدهشة من جرأة سؤاله فأخذت سلسال الأزرار من جديد مستنجداً بها لأهرب من السؤال الذي طرحه علي أعلل نفسي بمحاولة فكها مرة أخرى لكن دون جدوى.ظل كل منا
صامتاً لفترة، فأخذ السلسال من بين يدي وفكها في ثوانٍ معدودة... كنت مشوشاً قرابة الساعتين أو أكثر إلى درجة أن كل محاولاتي لفك ذلك السلسال قد باءت بالفشل، وفكها هذا الرجل في ثواني.
أخذ بعدها خطام الحديث وفكري لم يزل حائر في طريقة فكه لذلك السلسال... نسيت كل همومي وجلست أفكر: كيف استطاع تفكيك تلك العقد بسهولة. لا أخفيكم أني أرجعت سببها في نفسي إلى الكرامات التي يمتلكها فأسلمته نفسي وفكري، وبدأ يتحدث معي عن أزمتي وكيف أصنع لها حلاً، كل ذلك بالتلميح، فلم أكن لأسمح له أن تكون أسراري
مرتعاً خصباً له. ثم بدأ بعرض عضلاته الكشفيه وأخذ يحدثني عن بعض أحداث طفولتي وأنا أستمع إليه في ذهول حتى جاء صاحبي الصوفي بعد أن ملّ الإنتظار في الخارج وقطع حديث الرجل وحبل أفكاره.
خرج الإثنان من عندي وقد وعداني بتكرار الزيارة في اليوم الثاني وذلك للقاء زميلي الذي يسكن معي. جاء زميلي فأخذت أحدثه عن كرامات الرجل وما فعل بسلسال الأزرار الخاص بثوبي وكيف استطاع كشف بعض جوانب حياتي في الطفولة. لقد بالغت في الوصف حتى جعلته يوافق على مقابلته في اليوم الثاني، ورتبت كذلك مقابلتين منفردتين
لإثنين من أعز الزملاء عندي كانوا قد زاروني في غرفتي تلك الليلة وحدثتهم بصنيع الرجل معي. كان زميلي الذي يسكن معي والإثنين الآخرين من المقربين لي طيلة فترة دراستي في الجامعة وكانوا ثلاثتهم يثقون برجاحة عقلي الذي فقدته ذلك اليوم.
جاء الغد، وحضر الرجل وطلب مقابلة كل شخص على إنفراد. وقع زميلي الذي يسكن معي كما وقعتُ أنا في اليوم السابق، وتبعه الثاني. بقي زميلنا الرابع الذي دخل عليه وقد بدأنا نشك في أن الرجل دجال دعي، لا كرامة بين يديه ولا كشف. دخل وكان أذكانا، جلس هو يتحدث مع الرجل ويخبره بكرامات حصلت له ساعة ولادته وفترة طفولته
والرجل صاحب الكشف منبهر وكأنه تلميذ عند زميلنا وكان يأخذ نفساً عميقاً كل ما سمع زميلي يحدثه بكرامة مكذوبة مدعياً أنه يعرف عنها مسبقاً.. ثم أخبر زميلي أنه على خير وأنه سيكون له شأن عظيم وخرافات تجعل الطفل يضحك في مهده.
سافر الرجل وترك الحادثة لنا ولبقية زملائنا الذين عندما عرفوا ما حصل اتخذونا هزواً بين أقراننا وحُق لهم ذلك. فلا أدري أين كانت تلك العقول عن تصديق مثل ذلك الرجل الذي لا يرقى أن يكون ممثلاً من الدرجة صفر في عالم الكذب والدجل. الأعجب من كل ذلك أني علاقتي مع صاحبي الصوفي استمرت وبقيت على حالها رغم أني صرحت له أن الرجل الذي جاءنا كذابٌ أشر.
يتبع..................
الحلقة الرابعة:
أعلم أن هذه الحلقة ينتظرها الكثير على أنها ليست الأكثر إثارة من بين الحلقات، وذلك أن فيها أول لقاء جمعني بمن اكتسح العالم الاسلامي بشهرته، وتسابقت القنوات لاستضافته، وتهافت كثير من الناس للالتقاء به. لن أُقيّم ولن أتحيز ولكن أترك للقارئ الكريم الحكم بعد الإطلاع، ومن صاحب اللب الحصيف أطلب الإنصاف، وذلك بعد سرد الحقائق لا سواها من غير تزييف ولا كذب.
لقد تلقيت في حياتي صفعات ما ندمت قط يوماً على تلقيها، لأنها تضيف إلي قوة وصلابة، خبرة ودربة، حنكة وحكمة. تعلمت من خلالها كيف أواجه الخصم العنيد، وأجالس ذا العقل الرشيد، وأتجاهل السفيه. تعلمت أن ما فات لا يمكن إرجاعه ولا إصلاح ما عطب منه على الأغلب، لكن الخطأ لا يتكرر إذا استوعبت الدرس، واستعنت بالله ثم بالحدس، فإن الله لا يخيب رجاء من سأله صادقاً وعاد إليه منيباً تائباً...
حضرت بعد ذلك المولد عدة موالد كانت كلها تقام في نفس المكان من كل يوم أربعاء، كل مرة أتفاجأ بطالب من طلبة الجامعة قد وقع في حبائلهم، وأظن بل أجزم أن كل من رآني منهم كان له نفس الشعور الذي جال في خاطري تجاه كل منهم.
ليس من السهل أن تتداخل وسط مجتمع مترابط متماسك لتكون أنت الغريب بينهم، وإن لم يُشعروك بذلك. كان صاحبي الصوفي يحس ويعلم أني أمشي حَذِراً على هذه الطريق، خائفٌ أترقب، أتوجس من كل شيء وأسأل عن كل شيء، فكان حذراً ألا يقع على مسامع أذني شيئاً من خرافاتهم التي لا يقبلها مجنون ولا يُقر بها طفلٌ غر، إلا من
كان الران على قلبه فإنه بعيد عن سبيل الهداية يهوي بها في ظلمات الغواية إلا أن ينقذه الله منها فهو نعم الناصر والهادي، وإذا وقع الذي كان يحذر منه أو يخاف فإنه سرعان ما كان يبادر إلى محوها من ذاكرتي أو تشتيتها. كان قصده من ذلك أن أتدرج حتى أثبت، لكني كنت أشق الصفوف والناس بحثاً عن حقيقةٍ بَعٌدَت عني لسنوات طوال
وغِبْتُ عن العيش في كنفها دهراً... كنت أسأل في كل شاردة وواردة تخرج من أفواههم وهو يحاول منعي من الاتصال بجماعته بشكل لبق غير رسمي إلا بحضوره ليكون رقيباً على كل ما يقال وينطق به قومه..
لقد كنت أقف عند مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في كل حوار كالشوكة الراسية الشامخة في البلعوم الضيق. كثيراً ما كان ينفض المجلس بقوله إذا لم تؤمن بهذه المسألة فهذا شأنك. وكنت أكرر عليه السؤال: هل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضة فيقول: لا.
فأقول له: لماذا لم تره؟ ألم تقل لي أن الذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يراه.
فيقول: نعم، لكن الناس درجات.
فأرد عليه: هل في قلبك شك من حب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقول: لا. لكن عليك أن تبلغ درجة معينة حتى تراه يقضة.
فأكرر عليه السؤال حتى يمل. إذ كنت أراه غارقاً في المحبة لكنه الإصرار على الجهل. وكان يعرف ما أرمي إليه فيسكت.
مرت الأيام وإذا به يبشرني أن علي الجفري قادم للدمام قريباً لإحياء مولد لا أذكره الآن، فقد كانت مناسباتهم كثيرة لا تنتهي طوال السنة. كان يعلم أني بإنتظار رؤيته فلقد تكلمنا كثيراً عنه، وكان هو حديث الشباب في كل مجلس. كنت أنا قد التقيت بأخيه في عاصمة الضباب قبل سنتين من ذلك الموعد المنتظر، فقد جمعني به أكثر من مجلس،
وهو شاب شخصيته تختلف عن شخصية علي الجفري كثيراً، كانت لقاءتنا محدودة نظراً لقصر المدة التي قضيتها في لندن تلك الأيام لكني أشهد له بالخلق الرفيع والأدب العالي، والتواضع الجم.
جاء موعد حضور علي الجفري إلى الدمام وكان الموعد كالعادة يوم الإربعاء. أخذنا في التجهز للذهاب إلى المولد، وأثناء ذلك فوجئنا بخبر يقول أن الجفري متواجد في الجامعة. ذهب صاحبي ليستقصي الخبر، ثم عاد. قلت له: ها.. أحقاً حضر إلى هنا.
قال: نعم.
قلت: أين هو الآن.
قال: لا يمكننا رؤيته إلا في الدمام، لأنه على موعد بلقاء بعض أساتذة الجامعة في جلسة خاصة سرية وسريعة، ثم يلحق بنا إلى الدمام.
قلت: لكني أريده على انفراد.
قال: صدقني، لا يمكن ذلك، وأعدك أن أرتب لك شيئاً من ذلك هناك في الدمام. توضأت وأتممت تجهيزي وتوجهنا إلى مواقف السيارات حيث كان بانتظارنا أحد الطلبة ليقلنا بسيارته إلى هناك. لقد أصابتني الربكة والقلق، فأنا مقدم على مقابلة شخصية ذات مكانة علمية مرموقة في نظري حينها، صاحب
الطلعة البهية والابتسامة التي لا تفارق محياه. كان الصمت مخيماً على جو السيارة، فالموقف له رهبة ولهفة....
وصلنا إلى هناك وكانت السيارات قد غطت المكان من كثرة الحضور الذين توافدوا من كل حدب وصوب.. دخلنا إلى المجلس وإذا فيه شخصيات تبرز أهميتها من خلال تصدرها المجلس الرئيسي. كان الجميع ينتظر حضوره بشوق.. كان من بين الشخصيات وفد جاء من البحرين أي من صوفية البحرين وآخر من الأحساء، كلهم جاءوا يريدون مقابلة الجفري...
إضافة إلى بعض الشخصيات التي تصدرت المجلس والتي لم أستطع أن أتعرف عليها إلا من خلال صاحبي الذي أشار على أحدهم بأنه لا يريد أن يعرفه أحد!! لم أكن مهتماً كثيراً بما يحدث حولي... فقد سبقني ذهني دقائق معدودة هي لحظة لقاءي بالجفري.. كان يرسم لقاءً آخر مع الجفري على الرغم من كونه لم يحضر بعد.. كنت أجلس في
المجلس الرئيسي على الأرض وسط الجالسين وبين المنشدين وأصحاب الدفوف.
أصبح للمكان جلبة، فعرفنا أن الجفري حضر.. فدخل وسلم على الحاضرين وتوجه للسلام على الوفدين وكبار الشخصيات من الجالسين في صدر المجلس. لقد كانت نبضات قلبي تتسارع بشكل ما عهدته أبداً قبل تلك اللحظة. ها أنا ذا أقابل الرجل الذي حلمت بمقابلته طوال الثلاثة أشهر الماضية، هو الآن أمامي مباشرة... لقد كان للمكان
رهبة في نفسي، بسبب أني كنت أنتظر هذا اللقاء بفارغ الصبر، بينما لم يكن كذلك صاحبي فهو قد اعتاد على رؤيته مراراً وتكراراً، بل ومن هم أعلى شأناً وأرفع درجةً وعلماً منه في عالم التصوف. كان صاحبي مرتاح أشد الارتياح حين رآني قد أُسرت بمقابلة الجفري وكيف تبدل حالي ولم أنفرد به بعد...
بدأ الإنشاد المصاحب بالدفوف وكنت هذه المرة بين المنشدين أُنشد وأشدو على غير عادتي في تلك المناسبات، وعندما جاءت الحضرة وقفت وأنا انظر لصاحبي غير راضٍ ولا مقتنع بهذا الذي يحصل، وفاجأني قيام الجفري ثم تمايله طرباً بتلك الأناشيد. بعد إلقاء القصائد المعتادة، جاء وقت الكلمة التي سيلقيها الجفري على مسامع الحضور والجالسين.
تم تجهيز مكبرات الصوت التي وُصلت بأرجاء المنزل كله تقريباً وذلك ليتمكن الحاضرين في المجالس المجاورة والنساء اللواتي كن في القسم الآخر من سماع النشيد والكلمة. سبق كلمة الجفري بعض الكلمات المختصرة لبعض الحاضرين المتصدرين للمجلس ومن ثم أُعطي اللاقط للجفري ليبدأ حديثه..
كانت الأنظار والأفئدة منصته لما سيقوله الرجل، كان جل الحاضرين من الشباب الذين أتى أكثرهم من الجامعة ليستمعوا إليه على الهواء مباشرة، وهو بارع في استجذاب انتباه الشباب، قادر على أسر أذهانهم، وسلب أفئدتهم.. بدأ الجفري حديثه بالثناء على الكلمات التي أُلقيت قبله مرحباً بمن حضر من خارج المنطقة، ثم لما لا حظ
أن الأغلب على الحضور هم الشباب، ألقى كلمة حارة حارة، موجعة للقلوب، مذكرة، مزلزلة، كانت عن عظمة الله. ثم بعد أن ألهب الحضور بعظمة الله بدأ يتحدث عن حال الإنسان حال فعله للمعصية والله يراه ويسمعه، والملائكة تكتب وتسجل... باختصار كانت عن التقوى لكنها كانت غاية في التأثير. أصبح للمجلس صوتٌ ودوي من البكاء.
انتهى من كلمته وبدأ الحضور يتوافدون للسلام عليه في صف طويل. جاء إلي صاحبي وقال: ألا تريد السلام على صاحبك.
قلت: حتى يخف هذا القطار الطويل..
انتظرت إلى أن أوشك الطابور أن ينتهي ثم وقفت معهم، لقد كان الجو مهيباً بالنسبة لي. جاء دوري، فسلمت عليه وعرفت له بنفسي، فشد علي مرحباً بي بحرارة، فعرفت أنه يعلم أني من الأسر الهاشمية.
قلت له: لقد قابلت أخوك في لندن وجلسنا سوياً أكثر من مرة، وقد حدثني كثيراً عنك وها أنا ذا أراك اليوم. ثم عرضتُ عليه بعد ذلك بعض الرؤى التي رأيتها في منامي، ولم يأتي بتفسيرها كما فسرها لي ابن الرومي. وكنت قد رأيت بداية استقامتي بعض الرؤى المتتابعة فعرضتها على ابن الرومي فما أخطأ في شيء مما قاله لي في تفسيرها.
أما الجفري فإني لم أعرض عليه ما رأيت إلا بإصرار من صاحبي الذي كان يريد أن يثبت لي أن ابن الرومي ***** دجال.
كانت أنظار الشباب الذين خلفي لا تفارق ما يدور بيني وبينه، فما إن انتهيت حتى انهالت عليّ الأسئلة ماذا قلت للحبيب أي للجفري؟ لماذا شد على يديك وهو يصافحك؟ ما ذا كان يقول لك؟
قلت: لا شيء، وذهبت أنا وصاحبي عائدين للجامعة.
سألني صاحبي ونحن عند باب غرفتي في الجامعة: هل سألته عن مناماتك.
يتبع..............
الحلقة الخامسة:
قلت: نعم.
قال: وماذا أجابك..
قلت: اخبرك غداً..
لقد كنت متأثراً جداً... فهذا صاحب الكرامات والكشوفات قد عجز عن تفسير رؤاي التي أصر صاحبي عليّ بأن أفسرها عنده. ذهبت إلى فراشي مباشرة، لكن التفكير طغى على النوم فجلست أفكر وأفكر وأعيد شريط الأحداث لتلك الليلة مرات وكرات. ليس من السهل أن تنتظر وتنتظر ثم ترجع بغير الشيء الذي توقعت حدوثه... لقد كنت أحاول
أن أجد له مخرجاً، فقد كانت محاضرته بالغة التأثير لمن حضر.
الجفري لم يتطرق في تلك الليلة أبداً لأي شيء يمس السلفية وأتباعها ذلك أنه رأى أن كثيراً من الحاضرين لم يكونوا من أنصار الطرق الصوفية، فكان يتساءل: ماذا في المولد غير الطاعات وعمل الصالحات؟ لقد طرح أسئلةً عدة على مثل هذا النسق، فهو يعلم أن هذه الليلة خالية من كل الشركيات، فقد كان دعاءه الذي ختم به تلك الليلة خالياً من أي توسل...
لقد كان رجلاً ذكياً، يعرف متى يأسر القلوب وكيف، يعرف كيف يجذب الشباب ومتى.
طلع الصبح وأنا مازلت أعيش ذهول الليلة السابقة، حتى جاء صاحبي الصوفي متلهفاً يريد أن يعرف رأيي فقد ساوره القلق حين لم أُجب على سؤاله. أفطرنا سوياً وجلسنا نشرب الشاي وأنا أرى في عينيه كثيراً من الأسئلة، تعمدت تجاهل تلك التساؤلات الصامتة، حتى ضاق من تجاهلي البيّن، فسألني: هل أجابك الجفري؟
قلت: على ماذا؟
قال: على الرؤى التي عرضتها عليه.
قلت: نعم.
قال: وبماذا أجابك؟
قلت: لقد أصاب ال***** وأخطأ صاحبك...
فأطرق مذهولاً من وقع إجابتي عليه، فلم يكن يتوقع تلك الإجابة أبداً لقد ظن أني وقعت على حين غره، لقد توقع أني صيداً سهلاً، أتأثر بالعاطفة مهملاً عقلي الذي قدسته سنواتٍ مضت. كانت إجابتي تعبر عن حنقي وخوفي في نفس الوقت. أعرف أن كثيراً من أقراني تأثروا بهذا المنهج الأعوج المعتمد على العاطفة والخرافة والأحلام بسرعة البرق وكلمح البصر.
كنت حنقاً لأني استصغرت نفسي وعقلي أن يصدق كل ما يقولون، وخائفاً لأني مازلت لم أجد الطريق الذي أضع عليه قدمي، لقد كان الخوف يملئ قلبي وأطرافي لأني أعلم أن الحق ليس عند أهل الإعتزال الذين سبحت في وحلهم سنوات طوال، أكلتْ من عمري وفكري ما أكلت، وليس الحق عند أهل التصوف ولو أني وجدت عندهم بعضه.
لقد جلست أبكي ساعات طوال و أياماً معدودات أبحث عن الحق فلا أجده. لقد عاهدت ربي عندما تبت عند باب الكعبة أن أبحث عن الحق حتى أجده، وهاهي المدة تطول بي وأنا لم أركب سفينة النجاة بعد، تتقاذفني أمواج الضلالة، أَشْرَقُ بمياهها المالحة، أبحث عن العذب الفرات من الماء سائغُ الشراب، فلا أجد إلا ملحاً أُجاجاً.
لقد كان الألم يزيد عندما أسمع قول الحق تبارك وتعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). إن أشد العذاب ولظاه، أمره وأدهاه، أصعبه وأقساه، أن تعرف أنك تسير على غير سبيل الرشاد، وتبحث عنه فلا تدركه.
المهم أن صاحبي وقف مشدوهاً أمام إصراري على التحقق من طريقهم وعدم التسليم لهم، والانقياد لأوليائهم وشيوخهم. لم أكن أبحث عن تفسير عند الجفري بقدر ما كنت أختبر كراماته المزعومة، وكان صاحبي يعلم ذلك علم اليقين، لذا فإنه لم يلبث أن خرج من عندي حيران أسفا.
مرت الأيام واليقين يتسلل إلى قلبي بأن هؤلاء القوم ليسوا على الطريق الصحيح ولا على النهج القويم، فأخذت أنعزل وأتغيب عن تلك الموالد، وصاحبي يحاول ذات اليمين وذات الشمال أن يعيدني إلى خط البداية على أقل تقدير. كانت محاولاته لا تعدو أن تكون عاطفية، فهو يردد دائماً الناس لا يحبون أهل البيت ويقصد بهم الذين هم
نهج السلف الصالح، ولا يتوددون إليهم، وأذكر أنه ذات مرة احتدم النقاش، إذ أنه كان يردد تلك الجمل التي سئمت من سماعها في عهد الاعتزال الخائب وهاهي ذا تتكرر على مسامعي من جديد ولكن بثوب آخر. قلت له والغضب بادٍ عليّ: وماذا قدم أهل البيت المتأخرين من أتباع الجفري أو حتى الشيعة للأمة؟ من الذي يجاهد اليوم في الشيشان؟
من الذي حرر أفغانستان؟ من الذي يوصل المساعدات إلى أفريقيا وإلى كل مكان في العالم الإسلامي؟ ماذا قدم الجفري وأصحاب الكرامات للأمة؟ لقد انهلت عليه بأسئلة كالريح العاصف، والسيل والجارف، والمطر الهادر، لم تكن أسئلة بقدر ما كانت سيلاً من اللطمات المتعاقبة، كانت مفاجئة بالنسبة له. وكما هي العادة فقد أطرق قليلاً ثم خرج من عندي.
كانت تلك الأيام بمثابة المخاض لبداية هداية المنهج بالنسبة لي. أخذت علاقتي بصاحبي منحى التوتر والأخذ والشد حتى جاء موسم الحج، وما أدراك ما موسم الحج. ففيه الرحلة التي حججت بيت الله برفقة الجفري وكانت فيها قاسمة الظهر، وأعلنت بعدها الفراق لأتباع هذا النهج، وطلقت فكرهم طلاقاً لا رجعة فيه. إنها رحلة لن أنساها ما
حييت، كيف لا وقد كشفت لي زيف فكر القوم، وهشاشة طريقهم، وظلال منهجهم.
يتبع.............
الحلقة السادسة:
نادي منادي الحج، أن هلموا إلى البلد الحرام، أن تعالوا إلى البيت العتيق، حيث الأمن والأمان، حيث الطهر والإيمان. لقد كان فؤادي يرجف كلما ارتحل يوماً مودعاً، وجد آخر مقبلاً، يبشر بأن آن أوان الحج، وحان وقت أداء الركن العظيم. بعد تردد شديد، أعلمت والدي أني أنوي الذهاب إلى الحج، فوافق من فوره وأمدني بالمال الذي
أحتاج إليه، فجزاه الله عني خيراً، ورفع منزلته، وغفر ذنبه، إنه جواد كريم.
هاهي القوافل تستعد للسير إلى مكة، وأنا لا زلت حائراً في شأن الحملة التي سأذهب معها. هل أحج برفقة الجفري أم لا؟ كنت شديد الحيرة، صليت الإستخارة أكثر من مرة، وطالت حيرتي وكاد أن يذهب الحج فأغدو بلا حج. مضت القوافل وبقيت وحدي فلم أجد بداً من اللحاق بحملة الجفري. لحقت بهم براً إلى مكة وهناك اتصلت بهم وأرسلوا
لي مندوباً ليأخذني إلى مقر المبيت في منى. ما أعظم تلك الأحاسيس التي لا تنسى، فقد كان للإيمان هديلٌ لا يهدأ، وللأشواق حرارةٌ لا تنطفئ. وصلت مكة وأنا أحضن هواءها وسماءها، أتأمل جبالها وأوديتها، فإذا بها ليست كباقي الأرض، بل أسمى وأعلى، أرفع وأعز. كل شيء في تلك الأرض مخبتٌ لله، حتى غصون الأشجار، وصخور
تلك الجبال الشاهقات. سبحان من جعل ذلك البلد مهبطاً للوحي ومناراً للهدى، هوى للأفئدة وعلاجاً لضيقيّ الصدور.
وصلنا إلى منى ورأيت جموعاً من الناس ينزلون من الحافلات متوجهين إلى المخيم، كانت إحدى الحافلات تقل الجفري، فرأيته وسلمت عليه، ثم دخلنا. بدأ النداء علينا واحداً تلو الآخر لأخذ الفراش والوسادة والغطاء. جمعت حاجياتي وذهبت إلى آخر المخيم، فكانت لي إحدى زواياه. هيأت مكاني ورتبته ثم خرجت لأنظر لعلي أجدُ أحداً
أعرفه، فما إن خرجت حتى وجدت خلقاً كثيراً ممن كنت اجتمع بهم في الجامعة أو في الموالد. كانت أكبر المفاجآت بالنسبة لي هي أني وجدت ذلك الرجل صاحب الكرامات والكشوفات الذي زارانا في الجامعة، فسلم عليّ بحرارة وأخذ يضمني وأنا في الحقيقة مليء بالغيظ. جلست أتأمله وكيف ينخدع به الفتيان، ويفتنون بحركاته التي هي أشبه
بحركات مشعوذٍ مبتدأ، فكنت أتحسس عقلي وأسأل نفسي أين كان في ذلك اليوم الذي مرر علينا خديعته. أحس الرجل بأن شيئاً ما تغير، فأنا لا أستطيع أن أخفي تلك التعابير من وجهي، فسألني: ماذا بك؟ هل أنت متضايق من شيء؟ أتريد أن نجلس سوياً لنتحدث؟
قلت: لا، ليس بي شيء. لكني أشعر بتعب الرحلة فأنا قطعت شرق المملكة إلى غربها براً. مضى لشأنه ثم عاد وأنا برفقة بعض الشباب، فناداني وسحبني بعيداً عنهم، ثم أعطاني ورقة. قلت: ما هذه؟
قال: لا تفتحها الآن. افتحها عندما تعود إلى الدمام.
قلت: ولم؟
قال: اسمع، هذه الورقة تجعلك ترى النبي صلى الله عليه وسلم يقضة.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: عندما تكون في غرفتك خالياً بنفسك، تنظف وتتطيب، ونظف غرفتك ثم طيبها هي الأخرى. بعد ذلك، قم بفتح جزء يسير من النافذة، وافرش السجادة التي اعتدت أن تصلي فيها واجلس عليها بعد أن تطفئ الأنوار وردد الدعاء الذي في الورقة. عندها ترى النبي صلى الله عليه وسلم بقدر إيمانك.
قلت: ماذا يعني بقدر إيماني؟
قال: إذا كان إيمانك عالياً فسوف تراه على هيئته وأما إن كان إيمانك غير ذلك فإنك سوف ترى نوره فقط.
أخذتها، ومضيت إلى فراشي لأستريح قليلاً من عناء السفر وتعب الرحلة. لم استطع النوم في تلك الأجواء الإيمانية فأنا أحس أني لوحدي في هذا المخيم بل في منى كلها، لا أشعر بأي كائن حولي، حتى الورقة التي أعطاني إياها لم تكن لتشد انتباهي بل لقد هممت بتمزيقها ثم تراجعت لأحتفظ بها كدليل على سذاجة القوم وقلة عقولهم.
نادوا علينا بالغداء، تغديت وجلست معهم قليلاً ثم تفرق كلٌ وشأنه، فذهبت لأقابل الجفري وكان في خيمته الخاصه لا يُسمح بالدخول إليه فيها لأي أحد. طلبت من الشخص الواقف عند بابه أن يأذن لي بمقابلته، فأبى. قلت له: ادخل عليه واخبره أن فلان يريد لقاءه على انفراد. دخل عليه ثم عاد وقال لي: تفضل. دخلت عليه وسلمت ثم جلست.
قلت: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك. قال: لا. وأنا أشهد أن من طبعه التواضع والبشاشة في وجوه الناس خصوصاً أمثالي الذين يحاول الجفري وغيره أن يحُوّلوا انتمائهم إلى الصوفية المبتدعة. تجاذبنا أطراف الحديث حول رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقضة والأدلة القائمة على ذلك واستنباطات العلماء. كان يحاول أن يقول لي بطريقة
غير مباشرة أني أقدم العقل على النقل في هذه المسألة، وأنا أحاول أن أُقدر للعقل قدره الذي جعله الله لنا وأمضاه لنا في الشرع. لم يطل النقاش فلم يكن الوقت ملائماً لذلك فاستأذنت وخرجت من عنده.
بعد أيام كان موعد اللقاء الكبير الذي ينتظره القوم، فقد أتى الناس من كل مكان بعد العشاء ليستمعوا إلى تلك المحاضرة التي سيلقيها الجفري ولكن بعد إلقاء عدد من الكلمات والأناشيد المُصاحبَة بالدف. تجمع الناس وكانت الخيمة ممتلئة بطريقة لم أعهدها من قبل، فأنت لا تكاد تجلس إلا محصوراً من شدة الزحام. بدأ بعض المحاضرين
الذين أتوا من مصر بإلقاء بعض الكلمات والمدائح في الجفري، ثم جاء وقت النشيد. كان الكل طرباً منصتاً لتلك الكلمات التي ما خلت من الشرك، فقد بدأت وقتها أميز بين الطالح والصالح منها. تقدم احدهم لإنشاد كلمات من تأليفه فكانت أردى بضائع الأدب الذي سمعته في حياتي، وأقبح الأوصاف المبتذلة التي مرت عليّ، لم أكن وحدي
مستاءً منها، بل الحق أن كثيراً ممن حولي كان لغطهم قد كثر جرّاء ما يتلفظ به ذلك السفيه الأحمق. لقد كان ينشد مادحاً فاطمة بنت أشرف الخلق بكلمات ما سمع ولن يسمع الدهر أشد وقاحةً منها. لقد كان ينهق بموالٍ مزعج للأذان، مُغلفٍ للقلوب. كان يصف جسدها الشريف ثم يأتي على باقي أنحاء جسدها ويمدح صدرها ويولول (يمول) بقوله وصدرها... وجسدها...
لم أحتمل ذلك الهراء، والقول الفاحش في بنت أشرف خلق الله كلهم، فوقفت بين الجمع لأكثر من دقيقة كنت فيها متردداً بأن أذهب فأصفع هذا الوقح على وجهه أمام الناس وأُخرس لسانه وكان الجفري ينظر إليّ وأنا أنظر إليه والشرر يتطاير من عينيّ، فقررت الخروج غاضباً أشد ما يكون الغضب على بشر قط. توجهت إلى مكاني، أخذت
سجادتي ومصحفي وخرجت مسرعاً أركض نحو جبل منى وأنا أبكي كالطفل الذي فقد أمه وأهله وعشيرته كلهم. أخذت أصعد الجبل حتى وصلت إلى مكان لا يصل إليه. فرشت سجادتي على تلك الأرض الصخرية ووضعت المصحف جانباً وأخذت أبكي بكاءً شديداً. أصابتني نوبة من البكاء لم أعهدها على نفسي من قبل أبداً. جلست على
تلك الحال حتى هدأت نفسي ففتحت المصحف وأخذت أقرأ فيه حتى انتصف الليل. فرجعت للمخيم ولم اكلم أحداً قط، وأويت إلى فراشي فنمت.
طلع الصباح فقابلت الجفري في غرفته الخاصة، ولا أذكر هل هو الذي استدعاني إليه أم أنا الذي ذهبت للقاءه. كان قد رآني ذهبت مغضباً من مجلسه الليلة السابقة فسألني: هل حضرت المحاضرة ليلة أمس.
قلت: لا.
قال: لقد فاتك الإبتهال (الدعاء الذي يُختم به المجلس) ليلة البارحة. لماذا لم تحضر؟
قلت: أنت تعلم سبب انصرافي.
قال: لماذا؟
قلت: قلت لك أنت تعرف ما الذي دعاني إلى الخروج من مجلسك.
قال: أتقصد ذلك النشيد وتلك الكلمات التي ألقيت في السيدة فاطمة.
قلت: ألم أقل لك أنك تعرف.
قال: لكن يا سيد هذا محب جديد لآل البيت، وما أردنا أن نوقفه هكذا أمام الناس فنحرجه فيذهب عنا ولا يعود.
قلت: أوا تجاملون في عرض بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم. لقد كان سؤالي عليه بمثابة المفاجأة فلم يكن يتوقع أن أكون جريئاً معه هكذا.
قال: أنا أقدر غضبك وغيرتك، لكن الأمر كما شرحت لك.
قلت: إن كنت لا تبالي في عرض بنت أشرف الخلق، فلا تنسى أنها جدتك.
قال: يا سيد اعلم أن ما حدث خطأ لكن....
قاطعته قائلاً: أنت هنا بمثابة داعية أو عالم عند أولئك الناس الذين حضروا بالأمس وسكوتك هو إقرار لكلام الرجل.
لم أنتظر رده فسلمت وخرجت.
فلتزلزل جبال منى ولتدك جبال الأرض قاطبة ًإذا كان عرض الزهراء محل مجاملة لضيف جديد... ألا فلتسقط السماء كِسفاً على قومٍ أهانوا عرض نبيهم وادعوا محبته زوراً وبهتاناً... ولتمور البحار موراً موراً.. ألا فلتنخلع القلوب، ولتتفطر الأكباد، ولتذرف الأعين حجارةً حمراء... ألا فلتتفجر الدماء في العروق... ألا فلتتحرق الأرض بمن فيها على مثل أولئك القوم..
كان ذلك اليوم آخر عهدي بالجفري، وياله من ختام!!!
مضت باقي الأيام وأنا لا أكل معهم ولا أجالسهم قط. كل ما أفعله النوم في فراشي، ولو استطعت إلى غير ذلك سبيلاً لفعلت. كنت لا آتي إلا آخر الليل، وأخرج في الصباح الباكر حتى انتهى الموسم وعاد كلٌ من حيث أتى.
عندما عدت إلى الدمام، قابلني صاحبي ورأى مني تغيراً شديداً فلم أخفي عليه ما حصل بل واجهته، أخذ يبرر فلم أجعله يكمل، إذ أن الأمر حساس إلى درجة عالية. كان يحاول معي من فترة إلى أخرى أن أذهب معه إلى المولد حتى أيس من ذلك، فلم يعد يسألني الذهاب معه.
يتبع.........
الحلقة السابعة والأخيرة:
كانت الأفكار تدور في رأسي، أأهجر هذا الصاحب؟ أم أحاول أن أدفعه إلى طريق الهداية علّ الله أن يهديه على يدي. هجرته فترة وهو يحاول فك قيد الهجر، فعزمت على المضي قدماً نحو دفعه إلى الطريق، ودعوت الله له بالهداية. كان يتصل بي من حين لآخر، حتى عندما أكون في رحلات خارج المملكة. وأذكر أنه اتصل بي وأنا في
القاهرة وطلب مني أن أذهب لقبر الحسين وأسلم عليه وأدعو له هناك. اشتط غضباً، إذ كيف يتجرأ ويطلب هكذا طلب مني، فرفضت رفضاً قاطعاً وشرحت له أن الميت لن ينفعني ولا يمك ضري.
قال: حسناً، اذهب إلى هناك واجعلها على نيتي لا نيتك وادع لي هناك.
قلت: أتسخر مني؟
قال: لا والله، لكني لا أريد أن تفوت الفرصة عليّ...
رفضت وانتهت المكالمة بيننا على أني لن أذهب.
عندما عدت إلى الدمام واستقريت بها، كنت أدعوه من فترة لأخرى لمنزلي، ثم أحاول معه بأن أشرح له طريق الحق. كنت أعلم انه يحب النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أركز على أن المحب لمن يحب مطيع. ولكم كنت أردد على مسمعه هذا البيت:
يا مدعي حب طـــه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبين
كانت أغلب الحوارات التي تدار بيني وبينه عن المولد، وشرعيته. كنت أبين له دوماً أننا نُنقص من قدر من النبي صلى الله عليه وسلم حين نقول بجواز المولد هذا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه. كنت أعرض عليه تجربتي وأقول له: ادع الله مخلصاً ودن أن تتوسل بأحد والجأ إليه، اسأله أن يدلك على الطريق.
كنت أكرر عليه ذلك ويأتيني بكلام لبعض العلماء ثم آتيه بالرد، وهكذا حتى جاء ذلك اليوم الموعود. كنت في بيتي برفقة زوجتي، فإذا بجرس هاتفي المحمول يرن، فإذا هو صاحبي، فتحت الهاتف ثم سلمت فرد علي السلام وأخذ يسألني عن أخباري وأحوالي ثم قال: أنا اتصلت أريد أن أخبرك بشيء.
قلت: تفضل، هات ما عندك..
قال: لقد دعيت الله واستخرت ثم تأملت ما دار بيننا في الفترة الأخيرة فأيقنت أن المولد لا خير فيه، بل هو بدعة، ثم تأملت أبواب التوسل فوجدت أن الله لا يحتاج إلى واسطة حتى أصل إليه، بل قريب، مجيب لكمن دعاه، يعطي من سأله ولا يخيب رجاه....
بالله ما ظنك وأنت تسمع مثل هذه الكلمات؟ كيف هو حالك وأنت ترى هذا الخطاب؟ ما هو شعورك وهذا الحديث يرن في أذنيك؟ لم أتمالك نفسي حينها فوجدت عينيّ تجودا بالدمع الغزير، ثم بكيت فرحاً جذلاً.... لقد كان موقفاً مؤثراً لي ولزوجي، حتى فاضت أدمعها معي... كان صاحبي يتكلم فشعر أني لست على ما يرام، ثم عرف من صوتي أن تأثرت بما قاله...
بالله ألا يتأثر الإنسان عندما يرى صاحبه ورفيق دربه يضع قدميه على الطريق الحق، والصراط المستقيم. من الذي لا يتغير حاله ويبكي فرحاً حين يرى مسلماً كان على شفا جرف هار ثم ينقذه الله ويلبسه ثوب الهداية، كيف وذلك المسلم تربطك به علاقة قديمة، في فترة هي من أعز فترات الإنسان ألا وهي الحياة الجامعية....
أتم صاحبي مكالمته والدموع ما زالت تنـزف بلا توقف...
فسبحان القائل: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور.
تلك كانت حكايتي مع الصوفية في تجربة ستظل في ذاكرتي ماحييت، أسأل الله أن ينفع بها وأن يجعل فيها الفائدة والعظة والعبرة وأن يحسن عاقبتي إنه ولي ذلك والقادر عليه... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....
منقوووووووووووووووول
أرجوا أن تنال إعجابكم وأن تكون سببا لهداية من ضل عن طريق الحق
قبل أن أكتب أول حرف من قصتي مع هذا الرجل وأيامي مع تلك الفرقة أريد أن أشكر الباري أن دلني على الطريق القويم والصراط المستقيم، وهداني للحق المبين والفكر المستنير الذي أسأله سبحانه أن يثبتني عليه كما دلني إليه..
أثناء دراستي في جامعة البترول والمعادن تعرفت على زميلٍ جمعتني به إحدى المواد المشتركة بيني وبينه منذ السنة الأولى، ثم توطدت العلاقة مع كثرة زياراته لي، كان شاباً تبدو على قسمات وجهه علامات الاستقامة والصلاح، لا تخلو كلماته من ذكر لله أو مدح للنبي صلى الله عليه وسلم. كان دوماً يناديني بـ يا سيد، وذلك أن
نسبي يرجع إلى الحسن بن علي ، وكان ذلك اللقب الذي ما اعتادت نفسي على سماعه من قبل له رنين غير عادي في أذني. كان جم الأدب والتواضع، لا يدخل عليّ في غرفتي دون أن يحضر معه هدية لي أو لزميلي الذي يسكن معي، غير أني لاحظت عليه عدم الحرص على الصلاة في المسجد مع الجماعة، بل كنا نصلي
في الغرفة جماعة ونقوم وهو جالسٌ مطيل المكوث بعد الصلاة كثير الذكر والتبتل إلى الله.
لقد كانت أُولى أيامي في الجامعة تشهد كثيراً من التحولات والصراعات الفكرية في داخلي، وكُنتُ متأثراً بالفكر المعتزلي أشد التأثر، أُنزل العقل في غير المنزل الذي خلقه الله فيه من القدر والمكان. كان للسن دور رئيس في تلك التحولات والثورات الفكرية والتي كانت تتأجج وتزداد توهجاً مع تلك الكتب التي اعتدت قراءتها والبحث بين
أسطرها عن ما يمجد العقل والفكر، رامياً النقل وأقوال أهل العلم العدول عرض الحائط. وكنت أُطلع الصديق الجديد على بعض مكنونات فكري بحذر وأحياناً بتهور لاذع. كان يفتح معي بعض الحوارات كمحاولة منه لأن يعيدني إلى السنة ونبذ تقديم العقل على النقل لكنه كان يخرج دون أدنى فائدة من تلك الحوارات العقيمة، بل إنه كان يخافُ
أحياناً على نفسه من التأثر بما أحمله من أفكار، ويحاول الاستعانة بمن هم أعلم منه وأقدر، فما كانت لتثنيني تلك المحاولات ولا تلك المناورات العقيمة. كنتُ متعلقاً بفكري واعتقاداتي كأشد ما يكون الطفل الرضيع بأمه. كان كل يوم يمضي يزداد ارتباطي بهذا الزميل، وتقوى العلاقة بيننا، إلى انتكست حالي وانزلقتُ مع رفقة السوء في
ردهات خطيرة من المعاصي والآثام، فكان هذا الصديق نعم الصاحب ونعم المعين بعد الله في هذه المحنة. وكان يكثر علي من النصح حتى أتضايق منه وأبدي له ذلك وهو صابرٌ لا يملُّ ولا يكل. مرت سنة هي من أشقى سنوات العمر وأتعسها، عانيت فيها مصاعب جمة وواجهت بها متاعب كثيرة، انتهت بامتنان الله عليّ بالتوبة والرجوع إليه
سبحانه في قصة أترك أحداثها وتفاصيلها لوقت آخر أصف فيه تلك التحولات الفكرية والصراعات التي مررت بها.
المهم أن هذا الصديق كان الأقرب لي بعد توبتي وتبدل حالي، فلازمته كثيراً وبدأت انكب على قراءة السيرة النبوية وكتب العقيدة. وكان صديقي يأخذني إلى دروس كانت تقام في بعض غرف الجامعة عن الشمائل المحمدية للترمذي، تعرفت من خلالها على شباب كثر ممن هم على نهج صديقي. وكنّا أحياناً نذهب إلى المُقرأ وهو مكان يجتمع فيه
مجموعة من الشباب لقراءة جزء من القرآن يومياً ثم يختمونه آخر الشهر، وكان الهدف المعلن حينها تصحيح التلاوة والتجويد.
كان من الملاحظ أيضاً أنهم لم يكونوا يطلعوني على كثير من أسرارهم واجتماعاتهم بل كل ذلك كان يحصل في تدرج شبه منظم.
كان ذلك لا يروق لي أبداً، حيث أني تعلمت من تجربتي الماضية أن لا أُنيخ ركاب فكري ورَحْلَ عقلي وقلبي عند أي أحد كان،كما أن حماستي للدين وتعلم فنونه كانت منقطعة النظير وذلك أني كنت حديث عهد باستقامةٍ والتزام.
كانت البداية مع الأدعية الغريبة التي تأتي بعد قراءة الجزء أو عند ختم القرآن، حيث أن تلك الأدعية التي كما يقولون للولي الفلاني والعالم العلاني، لا تخلو من بعض الشركيات والأمور التي كانت محل نقاش وجدل مع صديقي حالما نخرج من تلك المجالس..
استمر الحال كذلك لفترة كنت فيها أرى منهم التواضع ولين الجانب ما لم أره من قبل عند أحد من الناس. وكانوا يقدمون خدمات تعجز أحياناً عن إيصال الشكر المناسب لها.. حتى جاء ذلك اليوم الذي أخبرني فيه هذا الشاب أننا ذاهبون إلى المولد!!. كنت شغوفاً لأن أحضر مثل تلك المناسبات لأرى فيها كيف يصنعون؟ وماذا يفعلون؟ أهي كما كنا نسمع ونشاهد في المسلسلات أم غير ذلك.
كان في داخلي رهبة شديدة، وشوق قد بلغ مداه، لأني سأحضر المولد، وأحكم بنفسي على ما فيه. لقد كان الشعور بالخوف والقلق مصاحباً لي ولصديقي الذي كان يخشى ردة فعلي وما سيكون عليه حالي بعد المولد...كنت متلهفاً للقاء صاحب الكرامات الذي طالما حدثني عنه صديقي. كنت كثير الجدل معهم بشأن تلك الخوارق للعادات وكثرتها عندهم.
كانوا يستدلون على بعض الكرامات التي حدثت لبعض الصحابة ومحاولة إقحامها في داومة الخرافة التي يقتفون أثرها ويستقون منها شراباً ساذجاً فيه غولٌ كثير وشوائب منتنه، نسأل الله لنا ولهم الهداية...
مرّ ذلك الأسبوع كأنه دهر، وأنا في شغف الإنتظار ليوم الإربعاء وما أدراك ما يوم الإربعاء، فهو اليوم الذي سيجتمع القوم فيه لتذكر سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وإنشاد المدائح فيه... وسأكون فيه حاضراً غير غائب إن مد الله لي في عمري..
يتبع......
...............................
الحلقة الثانية:
أخيراً جاء يوم الإربعاء، بعد طول انتظار وأمل. كنت قد حضرت جميع محاضرات ذلك اليوم بجسدي دون فكري الذي سافر إلى حيث المولد الذي طالما حدثني عنه صديقي ووصفه لي بشيء أشبه بالخيال. لقد كان حديثه عنه ماتعاً لقلبي، آسراً لكياني الذي لم ترسخ قدماه بعد على أرض الإستقامة والصلاح. إنتهت محاضرات ذلك اليوم ا
لطويل الطويل لأكمل ما تبقى من رحلة السفر تلك بفكري في غرفتي وذلك إلى أن يحين موعد الإقلاع حقيقةً لا خيال، ولأشاهد وأحضر بجسدي وذهني مجتمعين لا متفرقين...
اقترب الموعد للإنطلاق، وكنت قد تجهزت قبل الموعد بساعة منتظراً قدوم الصديق لاصطحابي معه إلى حيث الولي القادم من حضرموت خصيصاً ليحي مراسم ذلك المولد...
جاء صديقي ليأخذني وكلٌ منا خائفٌ يترقب، أنا أرتقب وصولي هناك، وهو متعجل متلهف لسماع رأيي حول ما سأراه وأسمعه. وفي الطريق سألته: أللولي الذي سيحضر اليوم كرامات؟
قال: نعم.
فسكتُ لبرهة أفكر ولم أبحث عن مزيد تفصيل أو إيضاح فقد أشعبنا هذا الموضوع أنا وإياه حواراً وجدلاً وضحكاً واستهزاءً مني، فإذا به يقطع خلوتي بفكري ليقول: لكنه لا يخبر أحداً عنها أبداً بل إن من حوله هم من يخبروننا بتلك الخوارق للعادات.
وصلنا إلى الموقع قبيل صلاة العشاء، وكان بيتاً خاصاً كبيراً فسيحاً أُعدت بعض غرفه ومجالسه لمثل تلك اللقاءات والموالد. كان الحضور كثيفاً على الرغم من أن ذلك اليوم لا يوافق مولد النبي صلى الله عليه وسلم عندهم، بل لم يكن من أيام شهر ربيع الأول أو الآخر، فهم قد اعتادوا على تسمية تلك الإجتماعات بالموالد...
كان في أول المجلس شيخ كبير السن بدين الجسم، يلبس المتواضع من الثياب، يحيط به من كل جانب شباب ورجال كثر، كلٌ يعرض مسألته، فدفعني صاحبي نحوه مشيراً عليّ بالتقدم للسلام عليه وأخذ البركة منه، وكان من عادة الذين يأتون للسلام عليه أن يقبّلوا يده بزعم أخذ البركة. تقدمت لأسلم عليه وليس بين يديّ أي مسألة فأنا قادمٌ
لأتفرج وأشبع جوع رغبتي الثائرة على كل ما هو جديد غريب، المهم أني تقدمتُ وسلمتُ عليه مصافحاً دون تقبيل ذلك أني لم أعتد تقبيل يد أحد من البشر سوى والداي ولم أتمنى تقبيل يد أحدٍ غيرهما قط إلا أمنيةً تراودني كثيراً على أنها مستحيلة المنال، بعيدة الحصول بعد المشرق عن المغرب، وهي تقبيل يد الشيخين ابن باز وابن عثيمين
عليهما سحائب الرحمة والغفران من ربٍ غفورٍ رحيم، فلكم يشكو الخد من تلك المدامع التي تنهمر انهمار المطر حين أتذكر أني لم أُمتع ناظري برؤيتهما ولم أُشنف أُذناي بحديثهما. المهم أني رأيت نظرات الاستعجاب والاستغراب تلفني حين لم أُقدم على تقبيل يد هذا الولي وأنى له ذلك.
اخترت زاوية المجلس، فهي مكان الغرباء في كل مجلس، وتوجه ناظري ليتفحص الحضور، فإذا بي أفاجأ أن جُلّ من حضر من الشباب هم من طلبة جامعتنا، وأعرف الكثير منهم ممن ألتقي به في ردهات الجامعة أو ممن صادف تواجده معي في إحدى المواد المشتركة.. كان قسمات الوجه تفرق بين الحاضرين الغرباء من أمثالي وبين الذين
أصبحوا يَـحْبـُون أو من غدوا يعدون في هذا التيه..
حضر وقت العشاء فرفع الأذان في البيت والمسجد لا يبعد عنه إلا بضعة أمتار.كانت مثل هذه الحوادث تزيد في داخلي عدد الأسئلة والاستنكارات على هؤلاء القوم وتبعدني عنهم ولا تقربني، فلقد كنت أستحضر دوماً ما أقرأه من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقارنه ما يفعله هؤلاء فإذا هم في نظري لم يفهموا معنى تلك الرسالة
الخالدة، ولم يوافقوها طرفة عين، وإن تمثلوا محبته واغرورقت عيونهم بالدمع حال سماع قصصه التي كانت في الغالب من الضعيف والموضوع. لقد بدأت ألاحظ ذلك وأنا حديث عهدٍ باستقامة، لا أملك من أدوات الحوار إلا العقل وبعض القصص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم.
ذهب الناس للوضوء وكنت على استعداد من غرفتي لأداء الصلاة، ثم أُقيمت الصلاة وتقدم الولي للصلاة بنا، وشدتني قراءته للفاتحة، فهو يجيد الكثير والكثير من فنون العلم كالفقه وغيره من علوم السيرة، ثم هو لا ينطق القاف كما هي في أصل اللغة، بل ينطقها كما ينطقها العوام عندهم. لقد دارت بي الدنيا حينها وتذكرت طريقة كلام
الجفري في لقاءاته المتلفزة، إذ كيف يدّعون محبة النبي صلى الله عليه وسلم ويتباكون أمام الملأ إظهاراً لتلك المحبة، ثم هم يفضلون اللغة العامية على ما جاء به صلى الله عليه وسلم، ويعلمون أقوال أهل العلم وتشديدهم في مسألة قراءة الفاتحة على النحو الصحيح حتى أجاز بعضهم للمأموم قطع الصلاة والصلاة منفرداً إذا كان الإمام لا يجيد قراءة الفاتحة.
انهينا الصلاة، وعدنا استعداداً لسماع الدرس الذي ألقاه الولي على مسامعنا وكان لا يخلو من اللمز والطعن في دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب والحديث عن كرامات بعض الأولياء والصالحين وحشد الأدلة النقلية والعقلية عليها.
بعد الدرس بدأ الإنشاد المُصاحب بالدف، وأنشدو الكثير من القصائد التي فيها مدح للنبي صلى الله عليه وسلم ومنها قصيدة البوصيري الشركية... لا أخفيكم أني تأثرت بتلك القصائد وذلك النشيد فالذين تقدموا للإنشاد يمتلكون أصواتاً عذبه، والكلمات التي أُنشدت كانت مختارة بعناية لتلامس شغاف القلوب، ولم أكن أنا ولا غيري ممن حضروا لأول مرة يدققون في شرعية تلك الكلمات، بل لقد تم أسرنا من اللحظات الأولى للإنشاد...
فلقد تأثرت محاجر العيون أشد التأثير حين سمعت تلك الكلمات وتهيجت المشاعر حتى فاضت وانسكب عطرها على نسائم محبة النبي صلى الله عليه وسلم، فلقد شعرت بالتقصير الشديد نحو هذا الدين طوال تلك الفترة الماضية من عمري فوبخت نفسي كثيراً على ذلك. لقد كنت أشعر حينها بحرارة لذعة المعصية وحلاوة التوبة سوياً، فأخفضت
رأسي بين قدمي وانتحبت بالبكاء. لقد كنت أشعر بالأسى مضاعفاً حين أتذكر أني من تلك الأسرة الكريمة وذلك النسب الشريف.
يتبع....
................................
الحلقة الثالثة:
أبدأ هذه الحلقة بأمرٍ سبق أن ألمحت إليه في الحلقة الأولى، وهي مسألة أني لم أكن صوفياً قط رغم ممارستي لبعض شعائرهم، وتأثري بهم في بعض الأمور حينها، ومجالستي لهم معظم وقتي خلال تلك الفترة. أعلم أنه قد يوافقني في هذا الأمر أو الرأي قارئ ويختلف معي آخرون، لكن لعلي أوغلُ في التلميح وأترك التصريح في هذا
لأمرين، الأول هو أني سبق أن عرّضت إلى أني كنت شديد التأثر بالفكر المعتزلي البعيد عن الفكر الصوفي الأشعري وإن توافقا في قلة من مسائل العقيدة، وحين حزمت أمتعتي مفارقاً فكر الإعتزال بحثاً عن الحق عاهدت نفسي أن لا أُسلم عقلي وديني لمخلوق أياً كان مذهبه وإتجاهه حتى أصل إلى شاطئ الأمان، وقد كافئني صاحب الامتنان عليّ
دوماً الذي مدّ لي في العمر حتى ذقت طعم الهداية وعشت سلامة المنهج وأسأله أن يحسن خاتمتي وخاتمة كل مسلم. الثاني هو أني قد جعلت هدفي لهذا السرد ما دبجته في العنوان، ولا يمنع أن أفرد لقصة الهداية عنواناً آخر، يستنبط العبر منه أخوةٌ لي في الدين، وشبابٌ يبحثون عن الحق ويتركون التعصب الأعمى والانزلاق وراء كل عاطفة يثيرها كل ناعق.
أعود لأول مولد حضرته مع صديقي...
قطع بكائي وقوف الحضور بلا استثناء مُطْرَبين مُنْشِدين، فأذهلني المنظر ولم أفهم المغزى من ذلك الوقوف الجماعي. مسحت دموعي بطرف كم الثوب الذي عليّ، ثم وقفت وبادرت صديقي متسائلاً عن سر هذا الوقوف!! فلم يجب، وكنت أشعر بالحرج الشديد، إذ أن منظري الغريب وقيامي متأخراً جعل الأنظار تتوجه إلي إضافة إلى شعوري
الداخلي بأني غريبٌ عنهم. ولقد كنت شديد الحرص أن لا يتنبه لذلك أحد، كون أني أتيت لأرى وأبحث في مسألة المولد وأحتاج إلى صفاء ذهن وبُعد أعين الناس عني. المهم أن طرب بعض الحاضرين وتمايلهم أثناء وقوفهم، وانخفاض رؤوس آخرين كدلالة على التأثر والخشوع، جعلني أكرر على صديقي السؤال بإلحاح.
فأجابني: لقد حضر النبي صلى الله عليه وسلم، لذا تجد المجلس قائماً إجلالاً وتعظيماً!!
قلت له: أين هو؟
فبدت علامات الإستياء من سؤالي على وجه صاحبي قائلاً: النبي صلى الله عليه وسلم حضر بروحه، ولهذا لم تره.
قلت: حسناً، لكن أين روحه الآن؟ أقصد عند من تقف الآن؟
فقال: لا أدري، انتظر إلى أن نخرج ثم نتكلم في ذلك..
أحسست أني ضايقته بالأسئلة، لكني كنت أبحث عن ديني ولم أكن أهتم إن تضايق أحد من أسئلتي وهذرتي عليه، ذلك أن لا أحد سيُشرك معي في الحساب يوم القيامة...
انتهى النشيد وحان وقت العشاء، وكانت الولائم معدة وجاهزة في فناء المنزل. تعشينا ثم خرجنا من المنزل استعداداً للرجوع إلى الجامعة. عندما خرجت أصابتني الدهشة والحيرة تجاه ما رأيت من بعض شبابهم ورجالهم، فالذين كانوا يسحون الدمع في الداخل، هم الآن يدخنون السجائر أما الملأ دون أن يتقدم لنصحهم أحد. ولقد كان هذا
المشهد يشدني في كل مرة أتيت فيها للمولد بعد ذلك اليوم..
ركبنا السيارة وإنطلقنا إلى الجامعة، والصمت هو السيد في تلك اللحظات. كنت أنتظرُ سيلاً من الأسئلة الموجهة إلي من صديقي يسألني فيها عن رأيي في المولد هذا، خصوصاً بعد ذلك العراك الصامت الذي دار بيننا بالأعين أثناء الوقوف المسمى بالحضرة.. لكن شيئاً من ذلك لم يكن!!
وصلنا للجامعة وذهب كل منا إلى غرفته. دخلت غرفتي وكان زميلي الذي يسكن معي في انتظار رجوعي من المولد الذي أخبرته عنه. سلمت، ثم ذهبت لأغير ملابسي وأنا أعلم أنه منتظر ومتلهف لما سأقوله حول تلك الرحلة، فلم أكلمه وكأني ما قرأت تقاسيم وجهه المتلهفة. كان الشوق عند زميلي لمعرفة تفاصيل الرحلة أقوى من أن ينتظر مبادرتي، فسارع هو بالسؤال: ذهبت؟
قلت: نعم.
قال: كيف رأيته؟
قلت: لا أدري!!
قال: كيف لا تدري وأنت من حضر..
قلت: دعني أنام وفي الصباح أشرح لك..
قال: لا. الآن تشرح لي، هل قابلت الولي صاحب الكرامات؟
قلت: نعم.
قال: هل رأيت بعض الكرامات التي حدثنا عنها صاحبك؟
قلت: لا أظن أن لديه كرامات أصلاً، فنفسي لم تلقى قبولاً له ولا إنشراحاً.
قال: الذي أفهمه من حديثك أنه كصاحبنا الذي حضر منذ مدة إلينا مدعياً أنه يطلع على الغيب.
قلت: ذاك لم يكن يدعي علم الغيب ولكنه ادعى أن له كشوفات.
قال: وما الفرق. المهم أنه أسقطك في حبائله وصدقت كذبته.
قلت: قد نالك منه ما نالني فلا تقلب المواجع ودعني أنام..
سكت، ولم يزد على قوله: تصبح على خير، فقد ساءته هذه الذكرى. وصاحب الكشوفات هذه له قصه، أقف عندها ليتنبه الناس أن يقعوا في مثل ما وقعنا فيه. وليعذرني القارئ إن أنا شرقت به أو غربت، فما أقصده من سرد تلك الأحداث هو الفائدة لا سواها.
قصة هذا الرجل صاحب الكشوفات حدثت في غرة الأحداث العصيبة التي كنت أمر بها قبل توبتي وعودتي إلى الله. وهي أن صاحبي الصوفي ذكر لي أن شيخاً قادماً من المنطقة الغربية لزيارة جامعتنا وذلك للقاء بعض شباب الجامعة، وأنه قد رتب له زيارة إلى غرفتي وحدد لي اليوم والساعة. فرحت بهذا الخبر وكدت أطير، فأخبرت زميلي
الذي يسكن معي الذي لم تعجبه الفكرة وقال أنه لن يكون متواجداً في الغرفة ساعة الزيارة لأنه لا يؤمن بهذه الخرافات. كنت منتظراً لهذه الزيارة بشوق بالغ فلم أبالي برد زميلي الذي يسكن معي، وعندما حل الموعد كنت قد جهزت غرفتي وطيبتها وأزلت رائحة الدخان الذي كان يملأ فضاءها المسقوف، ورتبت عفشها المتناثر يمنةً ويسرة
حتى سرقني الوقت وجاء الرجل يرافقه صاحبي الصوفي ودقا عليّ باب الغرفة ولم أكن قد أنهيت بعد لبس ثوبي. فتحت الباب وأزرار الثوب معلقة في كفي وقد أبت أن تتفكك فهي من النوع المترابط بعضه ببعض بواسطة سلسال من الحديد، ويعرفه أهل الحجاز أكثر من باقي المناطق. المهم أن الرجل دخل وحضرت لهم الشاي ودلف الرجل
يتحدث وأنا مشغول أحاول تفكيك تلك الأزرار اللعينة والتي سببت لي كثيراً من الحرج. أحس الرجل بانشغالي عنه فقطع كلامه قائلاً لماذا لا تترك الذي بين يديك لوقت آخر. تركتها وجلست أتابع حديثه فإذا بفكري قد ارتحل سريعاً عن المجلس إلى حيث معناتي التي كنت أعيشها في تلك الأيام والتي أرقتني كثيراً. فتنبه الرجل لذلك وطلب من
مرافقه (صاحبي الصوفي) أن يتركنا لوحدنا، فتركنا وبقيت أنا وإياه لوحدنا في الغرفة. أكمل حديثه عن بعض قصص السيرة النبوية، فلما انتهى قال: ألا تود أن تشاركني همومك.. قلت: لا أملك شيئاً من هم في الوقت الحالي ولله الحمد والمنة، إلا ما كان من أمور الدراسة العادية. من طبعي أن لا
أشكو لأحد مهما كان قربه مني إلا إذا تكالبت عليّ الأمور فإني أزيح هموماً غير تلك التي أحس بها في تلك اللحظات ولا تعدو أن تكون أمراً طبيعياً يمر به كل البشر، وذلك لأترك مجالاً للهم الجديد فلا أسقط على وجهي من شدة ما أحمل.
أعاد علي السؤال بصيغة أخرى: ألا تثق بي؟ قلت: ليس القصد ذلك ولكن ليس بي شيء غير الذي قلته لك، ولم أكن على علم بأن صاحبي الصوفي قد أخبره بحالي كاملاً بل لم أكن أعلم أن صاحبي هذا يعلم كل تلك التفاصيل التي أخبر الرجل بها.
فاجأني بقوله: لماذا تسلك طريق الشيطان، ألأجل...................؟!!، وعرّض بهمي الذي هو السبب الرئيس في أرقي ودوامة المشكلات التي أعيشها. أصابني الذهول والدهشة من جرأة سؤاله فأخذت سلسال الأزرار من جديد مستنجداً بها لأهرب من السؤال الذي طرحه علي أعلل نفسي بمحاولة فكها مرة أخرى لكن دون جدوى.ظل كل منا
صامتاً لفترة، فأخذ السلسال من بين يدي وفكها في ثوانٍ معدودة... كنت مشوشاً قرابة الساعتين أو أكثر إلى درجة أن كل محاولاتي لفك ذلك السلسال قد باءت بالفشل، وفكها هذا الرجل في ثواني.
أخذ بعدها خطام الحديث وفكري لم يزل حائر في طريقة فكه لذلك السلسال... نسيت كل همومي وجلست أفكر: كيف استطاع تفكيك تلك العقد بسهولة. لا أخفيكم أني أرجعت سببها في نفسي إلى الكرامات التي يمتلكها فأسلمته نفسي وفكري، وبدأ يتحدث معي عن أزمتي وكيف أصنع لها حلاً، كل ذلك بالتلميح، فلم أكن لأسمح له أن تكون أسراري
مرتعاً خصباً له. ثم بدأ بعرض عضلاته الكشفيه وأخذ يحدثني عن بعض أحداث طفولتي وأنا أستمع إليه في ذهول حتى جاء صاحبي الصوفي بعد أن ملّ الإنتظار في الخارج وقطع حديث الرجل وحبل أفكاره.
خرج الإثنان من عندي وقد وعداني بتكرار الزيارة في اليوم الثاني وذلك للقاء زميلي الذي يسكن معي. جاء زميلي فأخذت أحدثه عن كرامات الرجل وما فعل بسلسال الأزرار الخاص بثوبي وكيف استطاع كشف بعض جوانب حياتي في الطفولة. لقد بالغت في الوصف حتى جعلته يوافق على مقابلته في اليوم الثاني، ورتبت كذلك مقابلتين منفردتين
لإثنين من أعز الزملاء عندي كانوا قد زاروني في غرفتي تلك الليلة وحدثتهم بصنيع الرجل معي. كان زميلي الذي يسكن معي والإثنين الآخرين من المقربين لي طيلة فترة دراستي في الجامعة وكانوا ثلاثتهم يثقون برجاحة عقلي الذي فقدته ذلك اليوم.
جاء الغد، وحضر الرجل وطلب مقابلة كل شخص على إنفراد. وقع زميلي الذي يسكن معي كما وقعتُ أنا في اليوم السابق، وتبعه الثاني. بقي زميلنا الرابع الذي دخل عليه وقد بدأنا نشك في أن الرجل دجال دعي، لا كرامة بين يديه ولا كشف. دخل وكان أذكانا، جلس هو يتحدث مع الرجل ويخبره بكرامات حصلت له ساعة ولادته وفترة طفولته
والرجل صاحب الكشف منبهر وكأنه تلميذ عند زميلنا وكان يأخذ نفساً عميقاً كل ما سمع زميلي يحدثه بكرامة مكذوبة مدعياً أنه يعرف عنها مسبقاً.. ثم أخبر زميلي أنه على خير وأنه سيكون له شأن عظيم وخرافات تجعل الطفل يضحك في مهده.
سافر الرجل وترك الحادثة لنا ولبقية زملائنا الذين عندما عرفوا ما حصل اتخذونا هزواً بين أقراننا وحُق لهم ذلك. فلا أدري أين كانت تلك العقول عن تصديق مثل ذلك الرجل الذي لا يرقى أن يكون ممثلاً من الدرجة صفر في عالم الكذب والدجل. الأعجب من كل ذلك أني علاقتي مع صاحبي الصوفي استمرت وبقيت على حالها رغم أني صرحت له أن الرجل الذي جاءنا كذابٌ أشر.
يتبع..................
الحلقة الرابعة:
أعلم أن هذه الحلقة ينتظرها الكثير على أنها ليست الأكثر إثارة من بين الحلقات، وذلك أن فيها أول لقاء جمعني بمن اكتسح العالم الاسلامي بشهرته، وتسابقت القنوات لاستضافته، وتهافت كثير من الناس للالتقاء به. لن أُقيّم ولن أتحيز ولكن أترك للقارئ الكريم الحكم بعد الإطلاع، ومن صاحب اللب الحصيف أطلب الإنصاف، وذلك بعد سرد الحقائق لا سواها من غير تزييف ولا كذب.
لقد تلقيت في حياتي صفعات ما ندمت قط يوماً على تلقيها، لأنها تضيف إلي قوة وصلابة، خبرة ودربة، حنكة وحكمة. تعلمت من خلالها كيف أواجه الخصم العنيد، وأجالس ذا العقل الرشيد، وأتجاهل السفيه. تعلمت أن ما فات لا يمكن إرجاعه ولا إصلاح ما عطب منه على الأغلب، لكن الخطأ لا يتكرر إذا استوعبت الدرس، واستعنت بالله ثم بالحدس، فإن الله لا يخيب رجاء من سأله صادقاً وعاد إليه منيباً تائباً...
حضرت بعد ذلك المولد عدة موالد كانت كلها تقام في نفس المكان من كل يوم أربعاء، كل مرة أتفاجأ بطالب من طلبة الجامعة قد وقع في حبائلهم، وأظن بل أجزم أن كل من رآني منهم كان له نفس الشعور الذي جال في خاطري تجاه كل منهم.
ليس من السهل أن تتداخل وسط مجتمع مترابط متماسك لتكون أنت الغريب بينهم، وإن لم يُشعروك بذلك. كان صاحبي الصوفي يحس ويعلم أني أمشي حَذِراً على هذه الطريق، خائفٌ أترقب، أتوجس من كل شيء وأسأل عن كل شيء، فكان حذراً ألا يقع على مسامع أذني شيئاً من خرافاتهم التي لا يقبلها مجنون ولا يُقر بها طفلٌ غر، إلا من
كان الران على قلبه فإنه بعيد عن سبيل الهداية يهوي بها في ظلمات الغواية إلا أن ينقذه الله منها فهو نعم الناصر والهادي، وإذا وقع الذي كان يحذر منه أو يخاف فإنه سرعان ما كان يبادر إلى محوها من ذاكرتي أو تشتيتها. كان قصده من ذلك أن أتدرج حتى أثبت، لكني كنت أشق الصفوف والناس بحثاً عن حقيقةٍ بَعٌدَت عني لسنوات طوال
وغِبْتُ عن العيش في كنفها دهراً... كنت أسأل في كل شاردة وواردة تخرج من أفواههم وهو يحاول منعي من الاتصال بجماعته بشكل لبق غير رسمي إلا بحضوره ليكون رقيباً على كل ما يقال وينطق به قومه..
لقد كنت أقف عند مسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في كل حوار كالشوكة الراسية الشامخة في البلعوم الضيق. كثيراً ما كان ينفض المجلس بقوله إذا لم تؤمن بهذه المسألة فهذا شأنك. وكنت أكرر عليه السؤال: هل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقضة فيقول: لا.
فأقول له: لماذا لم تره؟ ألم تقل لي أن الذي يحب النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يراه.
فيقول: نعم، لكن الناس درجات.
فأرد عليه: هل في قلبك شك من حب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيقول: لا. لكن عليك أن تبلغ درجة معينة حتى تراه يقضة.
فأكرر عليه السؤال حتى يمل. إذ كنت أراه غارقاً في المحبة لكنه الإصرار على الجهل. وكان يعرف ما أرمي إليه فيسكت.
مرت الأيام وإذا به يبشرني أن علي الجفري قادم للدمام قريباً لإحياء مولد لا أذكره الآن، فقد كانت مناسباتهم كثيرة لا تنتهي طوال السنة. كان يعلم أني بإنتظار رؤيته فلقد تكلمنا كثيراً عنه، وكان هو حديث الشباب في كل مجلس. كنت أنا قد التقيت بأخيه في عاصمة الضباب قبل سنتين من ذلك الموعد المنتظر، فقد جمعني به أكثر من مجلس،
وهو شاب شخصيته تختلف عن شخصية علي الجفري كثيراً، كانت لقاءتنا محدودة نظراً لقصر المدة التي قضيتها في لندن تلك الأيام لكني أشهد له بالخلق الرفيع والأدب العالي، والتواضع الجم.
جاء موعد حضور علي الجفري إلى الدمام وكان الموعد كالعادة يوم الإربعاء. أخذنا في التجهز للذهاب إلى المولد، وأثناء ذلك فوجئنا بخبر يقول أن الجفري متواجد في الجامعة. ذهب صاحبي ليستقصي الخبر، ثم عاد. قلت له: ها.. أحقاً حضر إلى هنا.
قال: نعم.
قلت: أين هو الآن.
قال: لا يمكننا رؤيته إلا في الدمام، لأنه على موعد بلقاء بعض أساتذة الجامعة في جلسة خاصة سرية وسريعة، ثم يلحق بنا إلى الدمام.
قلت: لكني أريده على انفراد.
قال: صدقني، لا يمكن ذلك، وأعدك أن أرتب لك شيئاً من ذلك هناك في الدمام. توضأت وأتممت تجهيزي وتوجهنا إلى مواقف السيارات حيث كان بانتظارنا أحد الطلبة ليقلنا بسيارته إلى هناك. لقد أصابتني الربكة والقلق، فأنا مقدم على مقابلة شخصية ذات مكانة علمية مرموقة في نظري حينها، صاحب
الطلعة البهية والابتسامة التي لا تفارق محياه. كان الصمت مخيماً على جو السيارة، فالموقف له رهبة ولهفة....
وصلنا إلى هناك وكانت السيارات قد غطت المكان من كثرة الحضور الذين توافدوا من كل حدب وصوب.. دخلنا إلى المجلس وإذا فيه شخصيات تبرز أهميتها من خلال تصدرها المجلس الرئيسي. كان الجميع ينتظر حضوره بشوق.. كان من بين الشخصيات وفد جاء من البحرين أي من صوفية البحرين وآخر من الأحساء، كلهم جاءوا يريدون مقابلة الجفري...
إضافة إلى بعض الشخصيات التي تصدرت المجلس والتي لم أستطع أن أتعرف عليها إلا من خلال صاحبي الذي أشار على أحدهم بأنه لا يريد أن يعرفه أحد!! لم أكن مهتماً كثيراً بما يحدث حولي... فقد سبقني ذهني دقائق معدودة هي لحظة لقاءي بالجفري.. كان يرسم لقاءً آخر مع الجفري على الرغم من كونه لم يحضر بعد.. كنت أجلس في
المجلس الرئيسي على الأرض وسط الجالسين وبين المنشدين وأصحاب الدفوف.
أصبح للمكان جلبة، فعرفنا أن الجفري حضر.. فدخل وسلم على الحاضرين وتوجه للسلام على الوفدين وكبار الشخصيات من الجالسين في صدر المجلس. لقد كانت نبضات قلبي تتسارع بشكل ما عهدته أبداً قبل تلك اللحظة. ها أنا ذا أقابل الرجل الذي حلمت بمقابلته طوال الثلاثة أشهر الماضية، هو الآن أمامي مباشرة... لقد كان للمكان
رهبة في نفسي، بسبب أني كنت أنتظر هذا اللقاء بفارغ الصبر، بينما لم يكن كذلك صاحبي فهو قد اعتاد على رؤيته مراراً وتكراراً، بل ومن هم أعلى شأناً وأرفع درجةً وعلماً منه في عالم التصوف. كان صاحبي مرتاح أشد الارتياح حين رآني قد أُسرت بمقابلة الجفري وكيف تبدل حالي ولم أنفرد به بعد...
بدأ الإنشاد المصاحب بالدفوف وكنت هذه المرة بين المنشدين أُنشد وأشدو على غير عادتي في تلك المناسبات، وعندما جاءت الحضرة وقفت وأنا انظر لصاحبي غير راضٍ ولا مقتنع بهذا الذي يحصل، وفاجأني قيام الجفري ثم تمايله طرباً بتلك الأناشيد. بعد إلقاء القصائد المعتادة، جاء وقت الكلمة التي سيلقيها الجفري على مسامع الحضور والجالسين.
تم تجهيز مكبرات الصوت التي وُصلت بأرجاء المنزل كله تقريباً وذلك ليتمكن الحاضرين في المجالس المجاورة والنساء اللواتي كن في القسم الآخر من سماع النشيد والكلمة. سبق كلمة الجفري بعض الكلمات المختصرة لبعض الحاضرين المتصدرين للمجلس ومن ثم أُعطي اللاقط للجفري ليبدأ حديثه..
كانت الأنظار والأفئدة منصته لما سيقوله الرجل، كان جل الحاضرين من الشباب الذين أتى أكثرهم من الجامعة ليستمعوا إليه على الهواء مباشرة، وهو بارع في استجذاب انتباه الشباب، قادر على أسر أذهانهم، وسلب أفئدتهم.. بدأ الجفري حديثه بالثناء على الكلمات التي أُلقيت قبله مرحباً بمن حضر من خارج المنطقة، ثم لما لا حظ
أن الأغلب على الحضور هم الشباب، ألقى كلمة حارة حارة، موجعة للقلوب، مذكرة، مزلزلة، كانت عن عظمة الله. ثم بعد أن ألهب الحضور بعظمة الله بدأ يتحدث عن حال الإنسان حال فعله للمعصية والله يراه ويسمعه، والملائكة تكتب وتسجل... باختصار كانت عن التقوى لكنها كانت غاية في التأثير. أصبح للمجلس صوتٌ ودوي من البكاء.
انتهى من كلمته وبدأ الحضور يتوافدون للسلام عليه في صف طويل. جاء إلي صاحبي وقال: ألا تريد السلام على صاحبك.
قلت: حتى يخف هذا القطار الطويل..
انتظرت إلى أن أوشك الطابور أن ينتهي ثم وقفت معهم، لقد كان الجو مهيباً بالنسبة لي. جاء دوري، فسلمت عليه وعرفت له بنفسي، فشد علي مرحباً بي بحرارة، فعرفت أنه يعلم أني من الأسر الهاشمية.
قلت له: لقد قابلت أخوك في لندن وجلسنا سوياً أكثر من مرة، وقد حدثني كثيراً عنك وها أنا ذا أراك اليوم. ثم عرضتُ عليه بعد ذلك بعض الرؤى التي رأيتها في منامي، ولم يأتي بتفسيرها كما فسرها لي ابن الرومي. وكنت قد رأيت بداية استقامتي بعض الرؤى المتتابعة فعرضتها على ابن الرومي فما أخطأ في شيء مما قاله لي في تفسيرها.
أما الجفري فإني لم أعرض عليه ما رأيت إلا بإصرار من صاحبي الذي كان يريد أن يثبت لي أن ابن الرومي ***** دجال.
كانت أنظار الشباب الذين خلفي لا تفارق ما يدور بيني وبينه، فما إن انتهيت حتى انهالت عليّ الأسئلة ماذا قلت للحبيب أي للجفري؟ لماذا شد على يديك وهو يصافحك؟ ما ذا كان يقول لك؟
قلت: لا شيء، وذهبت أنا وصاحبي عائدين للجامعة.
سألني صاحبي ونحن عند باب غرفتي في الجامعة: هل سألته عن مناماتك.
يتبع..............
الحلقة الخامسة:
قلت: نعم.
قال: وماذا أجابك..
قلت: اخبرك غداً..
لقد كنت متأثراً جداً... فهذا صاحب الكرامات والكشوفات قد عجز عن تفسير رؤاي التي أصر صاحبي عليّ بأن أفسرها عنده. ذهبت إلى فراشي مباشرة، لكن التفكير طغى على النوم فجلست أفكر وأفكر وأعيد شريط الأحداث لتلك الليلة مرات وكرات. ليس من السهل أن تنتظر وتنتظر ثم ترجع بغير الشيء الذي توقعت حدوثه... لقد كنت أحاول
أن أجد له مخرجاً، فقد كانت محاضرته بالغة التأثير لمن حضر.
الجفري لم يتطرق في تلك الليلة أبداً لأي شيء يمس السلفية وأتباعها ذلك أنه رأى أن كثيراً من الحاضرين لم يكونوا من أنصار الطرق الصوفية، فكان يتساءل: ماذا في المولد غير الطاعات وعمل الصالحات؟ لقد طرح أسئلةً عدة على مثل هذا النسق، فهو يعلم أن هذه الليلة خالية من كل الشركيات، فقد كان دعاءه الذي ختم به تلك الليلة خالياً من أي توسل...
لقد كان رجلاً ذكياً، يعرف متى يأسر القلوب وكيف، يعرف كيف يجذب الشباب ومتى.
طلع الصبح وأنا مازلت أعيش ذهول الليلة السابقة، حتى جاء صاحبي الصوفي متلهفاً يريد أن يعرف رأيي فقد ساوره القلق حين لم أُجب على سؤاله. أفطرنا سوياً وجلسنا نشرب الشاي وأنا أرى في عينيه كثيراً من الأسئلة، تعمدت تجاهل تلك التساؤلات الصامتة، حتى ضاق من تجاهلي البيّن، فسألني: هل أجابك الجفري؟
قلت: على ماذا؟
قال: على الرؤى التي عرضتها عليه.
قلت: نعم.
قال: وبماذا أجابك؟
قلت: لقد أصاب ال***** وأخطأ صاحبك...
فأطرق مذهولاً من وقع إجابتي عليه، فلم يكن يتوقع تلك الإجابة أبداً لقد ظن أني وقعت على حين غره، لقد توقع أني صيداً سهلاً، أتأثر بالعاطفة مهملاً عقلي الذي قدسته سنواتٍ مضت. كانت إجابتي تعبر عن حنقي وخوفي في نفس الوقت. أعرف أن كثيراً من أقراني تأثروا بهذا المنهج الأعوج المعتمد على العاطفة والخرافة والأحلام بسرعة البرق وكلمح البصر.
كنت حنقاً لأني استصغرت نفسي وعقلي أن يصدق كل ما يقولون، وخائفاً لأني مازلت لم أجد الطريق الذي أضع عليه قدمي، لقد كان الخوف يملئ قلبي وأطرافي لأني أعلم أن الحق ليس عند أهل الإعتزال الذين سبحت في وحلهم سنوات طوال، أكلتْ من عمري وفكري ما أكلت، وليس الحق عند أهل التصوف ولو أني وجدت عندهم بعضه.
لقد جلست أبكي ساعات طوال و أياماً معدودات أبحث عن الحق فلا أجده. لقد عاهدت ربي عندما تبت عند باب الكعبة أن أبحث عن الحق حتى أجده، وهاهي المدة تطول بي وأنا لم أركب سفينة النجاة بعد، تتقاذفني أمواج الضلالة، أَشْرَقُ بمياهها المالحة، أبحث عن العذب الفرات من الماء سائغُ الشراب، فلا أجد إلا ملحاً أُجاجاً.
لقد كان الألم يزيد عندما أسمع قول الحق تبارك وتعالى: (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). إن أشد العذاب ولظاه، أمره وأدهاه، أصعبه وأقساه، أن تعرف أنك تسير على غير سبيل الرشاد، وتبحث عنه فلا تدركه.
المهم أن صاحبي وقف مشدوهاً أمام إصراري على التحقق من طريقهم وعدم التسليم لهم، والانقياد لأوليائهم وشيوخهم. لم أكن أبحث عن تفسير عند الجفري بقدر ما كنت أختبر كراماته المزعومة، وكان صاحبي يعلم ذلك علم اليقين، لذا فإنه لم يلبث أن خرج من عندي حيران أسفا.
مرت الأيام واليقين يتسلل إلى قلبي بأن هؤلاء القوم ليسوا على الطريق الصحيح ولا على النهج القويم، فأخذت أنعزل وأتغيب عن تلك الموالد، وصاحبي يحاول ذات اليمين وذات الشمال أن يعيدني إلى خط البداية على أقل تقدير. كانت محاولاته لا تعدو أن تكون عاطفية، فهو يردد دائماً الناس لا يحبون أهل البيت ويقصد بهم الذين هم
نهج السلف الصالح، ولا يتوددون إليهم، وأذكر أنه ذات مرة احتدم النقاش، إذ أنه كان يردد تلك الجمل التي سئمت من سماعها في عهد الاعتزال الخائب وهاهي ذا تتكرر على مسامعي من جديد ولكن بثوب آخر. قلت له والغضب بادٍ عليّ: وماذا قدم أهل البيت المتأخرين من أتباع الجفري أو حتى الشيعة للأمة؟ من الذي يجاهد اليوم في الشيشان؟
من الذي حرر أفغانستان؟ من الذي يوصل المساعدات إلى أفريقيا وإلى كل مكان في العالم الإسلامي؟ ماذا قدم الجفري وأصحاب الكرامات للأمة؟ لقد انهلت عليه بأسئلة كالريح العاصف، والسيل والجارف، والمطر الهادر، لم تكن أسئلة بقدر ما كانت سيلاً من اللطمات المتعاقبة، كانت مفاجئة بالنسبة له. وكما هي العادة فقد أطرق قليلاً ثم خرج من عندي.
كانت تلك الأيام بمثابة المخاض لبداية هداية المنهج بالنسبة لي. أخذت علاقتي بصاحبي منحى التوتر والأخذ والشد حتى جاء موسم الحج، وما أدراك ما موسم الحج. ففيه الرحلة التي حججت بيت الله برفقة الجفري وكانت فيها قاسمة الظهر، وأعلنت بعدها الفراق لأتباع هذا النهج، وطلقت فكرهم طلاقاً لا رجعة فيه. إنها رحلة لن أنساها ما
حييت، كيف لا وقد كشفت لي زيف فكر القوم، وهشاشة طريقهم، وظلال منهجهم.
يتبع.............
الحلقة السادسة:
نادي منادي الحج، أن هلموا إلى البلد الحرام، أن تعالوا إلى البيت العتيق، حيث الأمن والأمان، حيث الطهر والإيمان. لقد كان فؤادي يرجف كلما ارتحل يوماً مودعاً، وجد آخر مقبلاً، يبشر بأن آن أوان الحج، وحان وقت أداء الركن العظيم. بعد تردد شديد، أعلمت والدي أني أنوي الذهاب إلى الحج، فوافق من فوره وأمدني بالمال الذي
أحتاج إليه، فجزاه الله عني خيراً، ورفع منزلته، وغفر ذنبه، إنه جواد كريم.
هاهي القوافل تستعد للسير إلى مكة، وأنا لا زلت حائراً في شأن الحملة التي سأذهب معها. هل أحج برفقة الجفري أم لا؟ كنت شديد الحيرة، صليت الإستخارة أكثر من مرة، وطالت حيرتي وكاد أن يذهب الحج فأغدو بلا حج. مضت القوافل وبقيت وحدي فلم أجد بداً من اللحاق بحملة الجفري. لحقت بهم براً إلى مكة وهناك اتصلت بهم وأرسلوا
لي مندوباً ليأخذني إلى مقر المبيت في منى. ما أعظم تلك الأحاسيس التي لا تنسى، فقد كان للإيمان هديلٌ لا يهدأ، وللأشواق حرارةٌ لا تنطفئ. وصلت مكة وأنا أحضن هواءها وسماءها، أتأمل جبالها وأوديتها، فإذا بها ليست كباقي الأرض، بل أسمى وأعلى، أرفع وأعز. كل شيء في تلك الأرض مخبتٌ لله، حتى غصون الأشجار، وصخور
تلك الجبال الشاهقات. سبحان من جعل ذلك البلد مهبطاً للوحي ومناراً للهدى، هوى للأفئدة وعلاجاً لضيقيّ الصدور.
وصلنا إلى منى ورأيت جموعاً من الناس ينزلون من الحافلات متوجهين إلى المخيم، كانت إحدى الحافلات تقل الجفري، فرأيته وسلمت عليه، ثم دخلنا. بدأ النداء علينا واحداً تلو الآخر لأخذ الفراش والوسادة والغطاء. جمعت حاجياتي وذهبت إلى آخر المخيم، فكانت لي إحدى زواياه. هيأت مكاني ورتبته ثم خرجت لأنظر لعلي أجدُ أحداً
أعرفه، فما إن خرجت حتى وجدت خلقاً كثيراً ممن كنت اجتمع بهم في الجامعة أو في الموالد. كانت أكبر المفاجآت بالنسبة لي هي أني وجدت ذلك الرجل صاحب الكرامات والكشوفات الذي زارانا في الجامعة، فسلم عليّ بحرارة وأخذ يضمني وأنا في الحقيقة مليء بالغيظ. جلست أتأمله وكيف ينخدع به الفتيان، ويفتنون بحركاته التي هي أشبه
بحركات مشعوذٍ مبتدأ، فكنت أتحسس عقلي وأسأل نفسي أين كان في ذلك اليوم الذي مرر علينا خديعته. أحس الرجل بأن شيئاً ما تغير، فأنا لا أستطيع أن أخفي تلك التعابير من وجهي، فسألني: ماذا بك؟ هل أنت متضايق من شيء؟ أتريد أن نجلس سوياً لنتحدث؟
قلت: لا، ليس بي شيء. لكني أشعر بتعب الرحلة فأنا قطعت شرق المملكة إلى غربها براً. مضى لشأنه ثم عاد وأنا برفقة بعض الشباب، فناداني وسحبني بعيداً عنهم، ثم أعطاني ورقة. قلت: ما هذه؟
قال: لا تفتحها الآن. افتحها عندما تعود إلى الدمام.
قلت: ولم؟
قال: اسمع، هذه الورقة تجعلك ترى النبي صلى الله عليه وسلم يقضة.
قلت: وكيف ذلك؟
قال: عندما تكون في غرفتك خالياً بنفسك، تنظف وتتطيب، ونظف غرفتك ثم طيبها هي الأخرى. بعد ذلك، قم بفتح جزء يسير من النافذة، وافرش السجادة التي اعتدت أن تصلي فيها واجلس عليها بعد أن تطفئ الأنوار وردد الدعاء الذي في الورقة. عندها ترى النبي صلى الله عليه وسلم بقدر إيمانك.
قلت: ماذا يعني بقدر إيماني؟
قال: إذا كان إيمانك عالياً فسوف تراه على هيئته وأما إن كان إيمانك غير ذلك فإنك سوف ترى نوره فقط.
أخذتها، ومضيت إلى فراشي لأستريح قليلاً من عناء السفر وتعب الرحلة. لم استطع النوم في تلك الأجواء الإيمانية فأنا أحس أني لوحدي في هذا المخيم بل في منى كلها، لا أشعر بأي كائن حولي، حتى الورقة التي أعطاني إياها لم تكن لتشد انتباهي بل لقد هممت بتمزيقها ثم تراجعت لأحتفظ بها كدليل على سذاجة القوم وقلة عقولهم.
نادوا علينا بالغداء، تغديت وجلست معهم قليلاً ثم تفرق كلٌ وشأنه، فذهبت لأقابل الجفري وكان في خيمته الخاصه لا يُسمح بالدخول إليه فيها لأي أحد. طلبت من الشخص الواقف عند بابه أن يأذن لي بمقابلته، فأبى. قلت له: ادخل عليه واخبره أن فلان يريد لقاءه على انفراد. دخل عليه ثم عاد وقال لي: تفضل. دخلت عليه وسلمت ثم جلست.
قلت: أرجو أن لا أكون قد أزعجتك. قال: لا. وأنا أشهد أن من طبعه التواضع والبشاشة في وجوه الناس خصوصاً أمثالي الذين يحاول الجفري وغيره أن يحُوّلوا انتمائهم إلى الصوفية المبتدعة. تجاذبنا أطراف الحديث حول رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقضة والأدلة القائمة على ذلك واستنباطات العلماء. كان يحاول أن يقول لي بطريقة
غير مباشرة أني أقدم العقل على النقل في هذه المسألة، وأنا أحاول أن أُقدر للعقل قدره الذي جعله الله لنا وأمضاه لنا في الشرع. لم يطل النقاش فلم يكن الوقت ملائماً لذلك فاستأذنت وخرجت من عنده.
بعد أيام كان موعد اللقاء الكبير الذي ينتظره القوم، فقد أتى الناس من كل مكان بعد العشاء ليستمعوا إلى تلك المحاضرة التي سيلقيها الجفري ولكن بعد إلقاء عدد من الكلمات والأناشيد المُصاحبَة بالدف. تجمع الناس وكانت الخيمة ممتلئة بطريقة لم أعهدها من قبل، فأنت لا تكاد تجلس إلا محصوراً من شدة الزحام. بدأ بعض المحاضرين
الذين أتوا من مصر بإلقاء بعض الكلمات والمدائح في الجفري، ثم جاء وقت النشيد. كان الكل طرباً منصتاً لتلك الكلمات التي ما خلت من الشرك، فقد بدأت وقتها أميز بين الطالح والصالح منها. تقدم احدهم لإنشاد كلمات من تأليفه فكانت أردى بضائع الأدب الذي سمعته في حياتي، وأقبح الأوصاف المبتذلة التي مرت عليّ، لم أكن وحدي
مستاءً منها، بل الحق أن كثيراً ممن حولي كان لغطهم قد كثر جرّاء ما يتلفظ به ذلك السفيه الأحمق. لقد كان ينشد مادحاً فاطمة بنت أشرف الخلق بكلمات ما سمع ولن يسمع الدهر أشد وقاحةً منها. لقد كان ينهق بموالٍ مزعج للأذان، مُغلفٍ للقلوب. كان يصف جسدها الشريف ثم يأتي على باقي أنحاء جسدها ويمدح صدرها ويولول (يمول) بقوله وصدرها... وجسدها...
لم أحتمل ذلك الهراء، والقول الفاحش في بنت أشرف خلق الله كلهم، فوقفت بين الجمع لأكثر من دقيقة كنت فيها متردداً بأن أذهب فأصفع هذا الوقح على وجهه أمام الناس وأُخرس لسانه وكان الجفري ينظر إليّ وأنا أنظر إليه والشرر يتطاير من عينيّ، فقررت الخروج غاضباً أشد ما يكون الغضب على بشر قط. توجهت إلى مكاني، أخذت
سجادتي ومصحفي وخرجت مسرعاً أركض نحو جبل منى وأنا أبكي كالطفل الذي فقد أمه وأهله وعشيرته كلهم. أخذت أصعد الجبل حتى وصلت إلى مكان لا يصل إليه. فرشت سجادتي على تلك الأرض الصخرية ووضعت المصحف جانباً وأخذت أبكي بكاءً شديداً. أصابتني نوبة من البكاء لم أعهدها على نفسي من قبل أبداً. جلست على
تلك الحال حتى هدأت نفسي ففتحت المصحف وأخذت أقرأ فيه حتى انتصف الليل. فرجعت للمخيم ولم اكلم أحداً قط، وأويت إلى فراشي فنمت.
طلع الصباح فقابلت الجفري في غرفته الخاصة، ولا أذكر هل هو الذي استدعاني إليه أم أنا الذي ذهبت للقاءه. كان قد رآني ذهبت مغضباً من مجلسه الليلة السابقة فسألني: هل حضرت المحاضرة ليلة أمس.
قلت: لا.
قال: لقد فاتك الإبتهال (الدعاء الذي يُختم به المجلس) ليلة البارحة. لماذا لم تحضر؟
قلت: أنت تعلم سبب انصرافي.
قال: لماذا؟
قلت: قلت لك أنت تعرف ما الذي دعاني إلى الخروج من مجلسك.
قال: أتقصد ذلك النشيد وتلك الكلمات التي ألقيت في السيدة فاطمة.
قلت: ألم أقل لك أنك تعرف.
قال: لكن يا سيد هذا محب جديد لآل البيت، وما أردنا أن نوقفه هكذا أمام الناس فنحرجه فيذهب عنا ولا يعود.
قلت: أوا تجاملون في عرض بنت أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم. لقد كان سؤالي عليه بمثابة المفاجأة فلم يكن يتوقع أن أكون جريئاً معه هكذا.
قال: أنا أقدر غضبك وغيرتك، لكن الأمر كما شرحت لك.
قلت: إن كنت لا تبالي في عرض بنت أشرف الخلق، فلا تنسى أنها جدتك.
قال: يا سيد اعلم أن ما حدث خطأ لكن....
قاطعته قائلاً: أنت هنا بمثابة داعية أو عالم عند أولئك الناس الذين حضروا بالأمس وسكوتك هو إقرار لكلام الرجل.
لم أنتظر رده فسلمت وخرجت.
فلتزلزل جبال منى ولتدك جبال الأرض قاطبة ًإذا كان عرض الزهراء محل مجاملة لضيف جديد... ألا فلتسقط السماء كِسفاً على قومٍ أهانوا عرض نبيهم وادعوا محبته زوراً وبهتاناً... ولتمور البحار موراً موراً.. ألا فلتنخلع القلوب، ولتتفطر الأكباد، ولتذرف الأعين حجارةً حمراء... ألا فلتتفجر الدماء في العروق... ألا فلتتحرق الأرض بمن فيها على مثل أولئك القوم..
كان ذلك اليوم آخر عهدي بالجفري، وياله من ختام!!!
مضت باقي الأيام وأنا لا أكل معهم ولا أجالسهم قط. كل ما أفعله النوم في فراشي، ولو استطعت إلى غير ذلك سبيلاً لفعلت. كنت لا آتي إلا آخر الليل، وأخرج في الصباح الباكر حتى انتهى الموسم وعاد كلٌ من حيث أتى.
عندما عدت إلى الدمام، قابلني صاحبي ورأى مني تغيراً شديداً فلم أخفي عليه ما حصل بل واجهته، أخذ يبرر فلم أجعله يكمل، إذ أن الأمر حساس إلى درجة عالية. كان يحاول معي من فترة إلى أخرى أن أذهب معه إلى المولد حتى أيس من ذلك، فلم يعد يسألني الذهاب معه.
يتبع.........
الحلقة السابعة والأخيرة:
كانت الأفكار تدور في رأسي، أأهجر هذا الصاحب؟ أم أحاول أن أدفعه إلى طريق الهداية علّ الله أن يهديه على يدي. هجرته فترة وهو يحاول فك قيد الهجر، فعزمت على المضي قدماً نحو دفعه إلى الطريق، ودعوت الله له بالهداية. كان يتصل بي من حين لآخر، حتى عندما أكون في رحلات خارج المملكة. وأذكر أنه اتصل بي وأنا في
القاهرة وطلب مني أن أذهب لقبر الحسين وأسلم عليه وأدعو له هناك. اشتط غضباً، إذ كيف يتجرأ ويطلب هكذا طلب مني، فرفضت رفضاً قاطعاً وشرحت له أن الميت لن ينفعني ولا يمك ضري.
قال: حسناً، اذهب إلى هناك واجعلها على نيتي لا نيتك وادع لي هناك.
قلت: أتسخر مني؟
قال: لا والله، لكني لا أريد أن تفوت الفرصة عليّ...
رفضت وانتهت المكالمة بيننا على أني لن أذهب.
عندما عدت إلى الدمام واستقريت بها، كنت أدعوه من فترة لأخرى لمنزلي، ثم أحاول معه بأن أشرح له طريق الحق. كنت أعلم انه يحب النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أركز على أن المحب لمن يحب مطيع. ولكم كنت أردد على مسمعه هذا البيت:
يا مدعي حب طـــه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبين
كانت أغلب الحوارات التي تدار بيني وبينه عن المولد، وشرعيته. كنت أبين له دوماً أننا نُنقص من قدر من النبي صلى الله عليه وسلم حين نقول بجواز المولد هذا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما ترك خيراً إلا دلنا عليه ولا شراً إلا حذرنا منه. كنت أعرض عليه تجربتي وأقول له: ادع الله مخلصاً ودن أن تتوسل بأحد والجأ إليه، اسأله أن يدلك على الطريق.
كنت أكرر عليه ذلك ويأتيني بكلام لبعض العلماء ثم آتيه بالرد، وهكذا حتى جاء ذلك اليوم الموعود. كنت في بيتي برفقة زوجتي، فإذا بجرس هاتفي المحمول يرن، فإذا هو صاحبي، فتحت الهاتف ثم سلمت فرد علي السلام وأخذ يسألني عن أخباري وأحوالي ثم قال: أنا اتصلت أريد أن أخبرك بشيء.
قلت: تفضل، هات ما عندك..
قال: لقد دعيت الله واستخرت ثم تأملت ما دار بيننا في الفترة الأخيرة فأيقنت أن المولد لا خير فيه، بل هو بدعة، ثم تأملت أبواب التوسل فوجدت أن الله لا يحتاج إلى واسطة حتى أصل إليه، بل قريب، مجيب لكمن دعاه، يعطي من سأله ولا يخيب رجاه....
بالله ما ظنك وأنت تسمع مثل هذه الكلمات؟ كيف هو حالك وأنت ترى هذا الخطاب؟ ما هو شعورك وهذا الحديث يرن في أذنيك؟ لم أتمالك نفسي حينها فوجدت عينيّ تجودا بالدمع الغزير، ثم بكيت فرحاً جذلاً.... لقد كان موقفاً مؤثراً لي ولزوجي، حتى فاضت أدمعها معي... كان صاحبي يتكلم فشعر أني لست على ما يرام، ثم عرف من صوتي أن تأثرت بما قاله...
بالله ألا يتأثر الإنسان عندما يرى صاحبه ورفيق دربه يضع قدميه على الطريق الحق، والصراط المستقيم. من الذي لا يتغير حاله ويبكي فرحاً حين يرى مسلماً كان على شفا جرف هار ثم ينقذه الله ويلبسه ثوب الهداية، كيف وذلك المسلم تربطك به علاقة قديمة، في فترة هي من أعز فترات الإنسان ألا وهي الحياة الجامعية....
أتم صاحبي مكالمته والدموع ما زالت تنـزف بلا توقف...
فسبحان القائل: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) سورة النور.
تلك كانت حكايتي مع الصوفية في تجربة ستظل في ذاكرتي ماحييت، أسأل الله أن ينفع بها وأن يجعل فيها الفائدة والعظة والعبرة وأن يحسن عاقبتي إنه ولي ذلك والقادر عليه... وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين....
منقوووووووووووووووول
أرجوا أن تنال إعجابكم وأن تكون سببا لهداية من ضل عن طريق الحق
تعليق