الأنثروبولوجيا يقابلها في اللغة مصطلح علم الإناسة أو علم الإنسان، ويُعَرِّفُها قاموس الأنثروبولوجيا على النحو التالي، هي: علم دراسة الإنسان طبيعيا وإجتماعيا وحضاريا anthropology والمصطلح منحوت من كلمتين يونانيتين هما anthropos (إنسان) و logos (علم) وتعنيان معا علم الإنسان. -1-..فهي إذن علم يُعنى بدراسة ثقافات البلدان المجهولة من خلال المأكل والمشرب والسلوك والعادات والتقاليد.
قد تبدو لنا من الوهلة الأولى أن الأغراض علمية بل وإنسانية وتلك هي صفة العلم، ولكن هو كغيره من العلوم التي قد يساء استخدام بعض جوانبه لأغراض لا علمية ولا إنسانية على الإطلاق ..وهو الجانب الذي عبّر عنه عالم الأنثروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي بقوله هي: دراسة الإنسان بطريقة تسيء للإنسان تماما كم جرحت الفيزياء والكيمياء والطبيعيات الطبيعة في السنوات السابقة..
خطورة الأنثروبولوجيا تكمن خصوصا في كون هذ العلم يَدْرُسْ المجتمعات من خلال البحث في فلكلورها وفي تناقضاتها ونزعاتها الإحترابية الطائفية والقبلية وقضايا مثل الثأر والتنابز، والإحاطة بمثل هذه القضايا وتسخيرها لأطماع السلط السياسية يصير من السهل إشعال الحروب الأهلية والطائفية وبالتالي تضعف المجتمعات ويسهل بسط النفوذ ونهب الثروات..نجد مثلا الحرب الأهلية في رواندا نتجت عن تغذية الفتنة واللعب على تناقضات قبائل الهوتو وقبائل التوتسي من قبل القوى الإستعمارية من أجل بسط النفوذ على المخزون النفطي للبلد..وما كان لهم النجاح في إشعال فتيل الحرب الأهلية التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأبرياء لو لم تكن لهم دراية مسبقة وقاعدة بيانات عن التناقضات العرقية والقبلية بين الهوتو والتوتسي وهو مجال عمل الدراسات الأنثروبولوجية بامتياز..عالم الأنثروبولوجيا جورج بالانديه في كتابه الأنثروبولوجيا السياسية يتحدث من منطلق انثربولوجي بحت يقول: ((وتكشف الوقائع كما في روندا 1960 أنه بالإمكان إسقاط الملوك الذين مازلوا يبدون مؤلهين )) -2- ..كما تختص الدراسات الانثروبولوجية في المقدسات وحسب طبيعة الإنتماء الديني قوته وضعفه أو طبيعة الرموز المقدسة تتعامل السياسات الإستعمارية إما باستغلال ضعف الإنتماء والإعتقاد الديني وبالتالي إسقاط الأنظمة أو بالمحافظة عليها حسب طبيعة المجتمعات وخصوصية كل منها..فمثلا عن المجتمع الغاني يقول بالانديه (( في دراسة عن وضع الزعيم في أشانتي (غانا) يُظهر ك.بوزيا K Busia أن تدهور الإنتماء الديني التقليدي يترافق مع فقدان السلطات السياسية نفوذها )) -3-...بينما في دراسة أخرى عن اليابان كان العكس وهي دراسة قامت بها عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية روث بنيدكت عن الثقافة والشخصية اليابانية عنونتها بــ "زهرة الكريزتنم والسيف" The Chrsyanthenum and the sword وهي دراسة توصلت من خلالها بنيدكت إلى أهمية الإمبراطور كرمز مقدس في العقلية اليابانية وقد كان لهذه الدراسة قيمة كبيرة في بلورة السياسة الأمريكية نحو استسلام المحاربين اليابانيين -4-
أيضا من مخاطر علم الأنثروبولوجيا التنظير تحت غطاء علمي وعقلي للسياسات الإستعمارية وذلك بتصنيف الشعوب تصنيف تفاضلي عنصري مما يضفي الشرعنة والعقلنة على الإستعمار ويقدم له الحجة العلمية ليلعبَ دور هدم الهوة بين مجتمعات أعلى السلم والمجتمعات الدنيا خدمة للإنسانية!، فالعلامة العلمية هنا جاهزة وهي حمل قيم التمدن والحضارة للشعوب المتخلفة والأقل تصنيفا..وهي الذريعة التي قدمتها الداوروينية الإجتماعية تحديدا للإستعمار الحديث..من هذا المنطلق يمكننا فهم حقيقة التزامن الذي حصل بين ازدهار العلوم الإنسانية وعلم الانثروبولوجيا تحديدا وازدهار التوسع الغربي الأروبي ثم الأمريكي باتجاه إفرريقيا آسيا أمريكيا الجنوبية وأستراليا..يقول جيرار لكلرك في كتابه الأنثربولوجيا والإستعمار: (( الإمبريالية الإستعمارية المعاصرة تتوافق زمنيا مع الانثروبولوجيا المعاصرة فكلتاهما تعودان إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر))-5- ..إضافة إلى كون اللأنثربولوجيا الحديثة تأسست في أحضان القوى الإستعمارية الكلاسيكية فرنسا وبريطانيا..فأول جمعية متخصصة وجهت جهودها إلى الدراسات الأنثروبولوجية أنشأت في باريس عام 1800 تحت إسم جمعية ملاحظو الإنسان les observateurs de l’homme وكان هدفها القيام برحلات خارج أروبا لاستطلاع عدة موضوعات أنتروبولوجية عن الإنسان والحياة الإجتماعية للشعوب الأخرى، ثم الجمعية الأثنولوجية عام 1839 في فرنسا أيضا، وفي عام 1843 أقامت بريطانيا جمعيتها الأثنولوجية التي تحولت فيما بعد إلى المعهد الملكي الأنثربولوجي لبريطانيا العظمى وإيرلندا لتنتشر وتعم فيما بعد بلدن أروبية أخرى..وإثرَ هذه المرحلة مباشرة وبالتحديد بين أعوام 1860 و1880 ظهرت معظم مؤلفات المدرسة التطورية، كحق الأمومة لباخ اوفن 1861 وأبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشري لتايلور سنة 1865 ونُظم القرابة لمورغان سنة 1869 وكتاب عن المجتمع القديم سنة 1877.. مما يعني أن الإستعمار قد مر بمراحل ثلاث مرحلة ظهور النوايا والبحث عن مستعمرات ثم مرحلة ظهور الذريعة والغطاء العلمي تزامنا مع المرحلة الثالثة وهي بداية الإستعمار!
مرحلة أنثروبولوجيا الهُواة
يمكن تقسيم مراحل تطور الأنثروبولوجيا إلى مرحلتين رئيسيتين مرحلة الأنثروبولوجيين الهواة كما يصفهم ريشارد انطون ثم مرحلة سيطرة علماء الانثروبولوجيا المحترفين..المرحلة الأولى تعتمد على ما دونه بعض المبشرين والرحالة وهي مادة لم تصل بعد إلى مرحلة العلمية ولم تخرج عن الكتابات التخمينية وكانت جميعها تصب في نحت صورة نمطية عن الإنسان "البدائي" وإخراجه في مظهر المتوحش ووضع المجتمع "البدائي" في طرف نقيض مقابل المجتمع المتمدن والذي يمثله بلا أدنى شك الإنسان الأبيض صاحب الدراسة أو لنقل جامع المعلومات المغلوطة والمبالغ فيها ومجتمعه الأروبي..وقد كانت البداية الممنهجة لهذه المرحلة بالرحلات العلمية التي اجتاحت إفريقيا بدءا من سنة 1850.. ولعل أشهر هؤلاء لرحالة وأعظمهم على مر التاريخ هو الرحالة هنري مورتون ستانلي الذي جاب القارة السمراء شرقا وغربا و يعتبر من بين الأوائل الذين رسموا صورة الرجل الأبيض وربطها بالإنسان المتمدن خدمة لأطماع ملك بلجيكا الإستعمارية آنذاك ليوبولد الثاني.. يقول جيرار ليكلرك : (( اعترف ستانلي بأنه قد تم شراؤه من قبل ليوبولد الثاني ملك بلجيكا ليعمل على تجزئة إفريقيا كما أوحى بذلك في مؤتمر بروكسل 1876 وليكون على رأس البعثات العلمية العاملة في الكونغو-الأعلى )) -6-
وحتى وإن لم يعمل هؤلاء الرحالة وغيرهم من المبشرين والإدارييين بإمرة أنظمة الحكم الأروبية، فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ممثلين للحضارة وحملوا معهم نظرة استعلائية على المجتمعات محل البحث، فأدى ذلك إلى ظهور نتائج ودراسات إما عنصرية وإما محكومة بالمصلحة بعيدة كل البعد عن المنهجية العلمية لا تخدم إلا النظم الإستعمارية وإن كان بطريقة غير مباشرة وغير ممنهجة..وهذا باعتراف عالم الانثروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي الذي يقول: (( أن الطريقة التي يتكلم به الناس البيض الذين أمدوني بالمعلومات عن السكان الأصليين وطريقة إعطاء آرائهم الخاصة تنم عن ذهن غير مجرب وغير معتاد على صياغة الأفكار بمنطق ودقة وقد كانت آرائهم في الغالب مثقلة بالأخطاء والأحكام المسبقة وهذا ما لا يمكن تفاديه بالنسبة للناس العاديين الذين دخلوا الحياة العملية سواء أكانوا إدارييين أم مبشرين أم تجار )) -7-
وعلى الرغم من كل تلك النقائص فإن مرحلة الانتروبوليجيين الهواة تُعتبر مرحلة التمهيد لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الإجتماعية على أسس أكاديمية وكعلم معترف به لتفتح لنا المجال للحديث عن تنظيرات ممنهجة مهدت الطريق للقوى الإمبريالية الغربية وأعطته الحجة والذريعة لنحت مسيرة وردية في السطو على مقدرات الشعوب وتدمير الثقافات..
الأنثروبولوجيا التطورية (الداروينية الإجتماعية) والتنظير للإستعمار المباشر
تقوم على تطبيق مبدأ الإنتخاب الطبيعي على البشر في المجتمع فهي توحيد لفكرتي التطور الإجتمعاعي ونظرية التطور العضوي البيولوجي وهي تنظر للمجتمعات "البدائية" على أنها مخلفات حية أو أنها بقايا خلفتها مراحل سابقة وتَعْتَبِر الحضارة الغربية بمثابة التعبير المتقدم عن تطور المجتمعات البشرية، ومن روادها سبنسر مورغان وتايلور وويسلي وايت عن تيارها الحديث. من هذه الفلسفة اللا إنسانية نبتت فكرة الإستعمار والسيطرة على العالم ونهب الثروات ثم مُورِسَ ما يعرف انثروبولوجيا بمصطلح "التثاقف" وهو ما يعرف في وطننا العربي اليوم بالتغريب أو العصرنة أو التجديد أو أي مصطلح يجعل من الثقافة الغربية مثالا يستوجب المحاكاة..فالتثاقف باختصار هي نظرة تطورية داروينية للثقافة تفترض التخلف في حضارات وثقافات "العالم الثالث" ومن خلال الإستعمار يتم فرض ثقافة الدارس على الشعوب المستضعفة بحجة نقلهم من التخلف إلى التمدن والحال أنها ليست سوى سياسة إستعمارية هدفها تثبيت وتجذير الإستعمار لازات أغلب البلدان العربية والإسلامية تعاني من تبعاته إلى اليوم..يقول الدكتور حسين فهيم خبير البحوث بمعهد الأنثروبولوجيا للتنمية بنيويورك في كتابه "قصة الانثروبولوجيا" واصفا الثاقف : (( وقد زكى هذا الإتجاه حركة الإستعمار الأروبي للعالم العربي والإسلامي مؤكدا عجز العرب والمسلمين عن الإبتكار والإبداع والإسهام في ركب الحضارة الأمر الذي يجعل من "التغريب" أمرا ضروريا لمواكبة تطورات العصر الحديث. ولعل من أحد الأسباب الاخرى أن المسلمين والعرب ذاتهم أو النخبة المقفة منهم قد اقتنعوا بهذه الفكرة ورأوا في تراثهم عبئا ثقيلا يجب الإبتعاد عنه قدر الإمكان ليتمكنوا من الحياة على الطريقة الغربية...لهذا فإن فحص التراث العربي الإسلامي ودراسته قد يؤدي في رأينا إلى إعادة تاريخ الأنثربولوجيا من جديد أو على الأقل الأصول المعرفية والمنهجية لها بحيث لا ترد جميعها إلى عصري النهضة أو التنوير الأروبيين )) -8-..وفي ذات السياق يقول الأنثروبولوجي البريطاني رايموند فيرث: (( التاريخ لم يرو لنا أن البلاد الشمالية قد شهدت حضارة عريقة كالتي ازدهرت في الشرق الأدنى والأوسط في الصين ومصر وبحر إيجه )) -9- وهي ذات الفكرة التي يطرحها جيرار لكلرك بتسائله عن موقف الانثروبولوجيا حاليا من التراث الأدبي الكبير والغامض الذي نشهده في العالم الثالث. وغيرهم كثير أمثال العالم والمؤرخ جورج سارتن الذي يثني على الثقافة العربية ويصف العرب بعباقرة الشرق لتعلو بذلك الأصوات ويظهر اتجاه مناهض للإتجاه الذي يسعى إلى طمس هذه الحقيقة والتقليل من شأنها حتى توافق ما قرره مُسَبَّقًا علم الإجتماع الإستعماري والأنثروبولوجيا تحديدا بشرعنة وعقلنة ذريعة استعمار الغرب للشرق..ثم اتسعت تلك الإنتقادات داخل الأوساط الأكاديمية الأنثروبولوجية الموجهة تحديدا للداروينية الإجتماعية لغموضها ولاعتمادها الحدس والتخمين المؤدلَجَين في تفسير الظواهر الإجتماعية ومن ذلك النقد الدراسات الأنثروبولوجية التي قام بها العالم الفرنسي كلود ليفي ستورس أثبت من خلالها أن مجتمعات ما توصف بالبدائية هي مجتمعات في غاية التعقيد في بناها الإجتماعية والثقافية واللغوية وأن المعرفة عند الإنسان البدائي لا تختلف عن بنية المعرفة عند من يوصفون بالحُضَّر وأن الرجل البدائي لا يمثل استمرار لمراحل تاريخية سابقة..يقول ستروس في كتابه الإناسة البنيانية موجها نقدا مزدوجا للداروينية بشقيها الكلاسيكي والحديث: (( لكن المسألة ليست بمثل هذه السهولة : فالأسكيمو يعتبرون من كبار التقنيين إلا انهم من صغار الإجتماعيين. بينما نجد العكس في أستراليا..والأمثلة على هذا عديدة إذ أن ختيار عدد محدود من الضوابط من شأنه أن يتيح لنا بناء عدد لا حدود له من السلسلات التي تختلف جميعا في ما بينها. ويبدو أن التطوية الجديدة التي يذهب إليها السيد وسلي وايت عاجزة هي الاخرى عن تذليل هذه الصعوبة : فإذا كان المعيار الضابط الذي يقترحه –معدل كمية الطاقة المتوافرة للفرد الواحد في كل مجتمع- يستجيب لمثال من المثل قد يكون مقبولا في بعض مراحل الحضارة الغربية وفي عدد من جوانبها..فإن المرء لا يرى كيف يمكن تطبيق هذا العامل المحدد على الأغلبية الساحقة من المجتمعات البشرية..حيث يبدو أن هذه المقولة المقترحة لا تتخذ فوق ذلك أية دلالة على الإطلاق )) -10- ويصفها أيضابكونها (( ثمرة من التجريد الذي يظل يفتقد دائما لتأييد الشواهد والوقائع..كما ان تاريخها يظل تاريخا تخمينيا وإيديولوجيا)) -11-..ثم بعد عرضه لأنماط إجتماعية متناقضة في قبائل ألاسكا وكولومبيا يقول ستروس : (( ما الذي نستخلصه من ذلك؟ هل نستخلص ان ثمة تطورا قد حصل إنطلاقا من نمط باتجاه الآخر ؟..إن مشروعية هذه الفرضية تقتضي أن نكون قادرين على إقامة البرهان على ان أحد النمطين أقدم من الآخر..وأن النمط الأقدم المعلوم قد تطور بالضرورة باتجاه الشكل الآخر وأن هذا القانون يفعل ويثبت فعاليته في مركز المنطقة أكثر مما يثبتها في أطرافها..أما في غياب هذا البرهان المثلث المستحيل فكل نظرية حول المخلفات والمتبقيات تصبح ضربا من العبث ))..ويقول بواس وهو من أقطاب المدرسة الوظيفية معلقا على غياب هذا البرهان : (( من المؤسف ان لا يكون بمتناولنا أي شيء يمكننا من إلقاء الضوء على هذه التطورات ))-12-
تلقت الداروينية الإجتماعية ضربات موجعة من داخل الأوساط العلمية الغربية غير أن النقد وعندما تخطه أقلام إفريقية سوداء وعندما تُفضح تفسيراتها المشوهة علميا على يد الأفارقة يكون النقد حينها قد مزج بين الرد العملي والعلمي في ذات الوقت ..ففي سنة1937 ظهرت أول دراسة أنتروبولوجية بقلم إفريقي وهو جومو كينياتا رئيس كينيا فيما بعد..الدراسة تناولت النظم الإقتصادي والثقافي والسياسي لجماعات الكيكويو الأكثر انتشارا في كينيا وأثبت كينياتا أن الحكم السابق لفترة الإستعمار كان ديمقراطيا ولم يكن استبداديا وأنه أسيء فهم النظام العقاري بشكل يتيح للإستعمار ممارسة النهب والتخريب..ثم جاء المؤرخ السنغالي وعالم الأنثروبولوجيا والتاريخ والفيزياء الشيخ أنتا ديوب الذي قام بدحض الدعوى التطوية بنفس المفاهيم التطورية ذاتها، ففي الوقت الذي يدعي فيها أنصار التطور أن المجمتع الأمومي الذي يحياه الأفارقة ليس سوى حلقة أقل تطورا من النظام الأبوي السائد في أروبا يثبت أنتا ديوب أن نظام الأمومة في إفريقيا أثبت تفوقه على نظيره الأبوي في أروبا فالأول ترتب عنه الدولة الفلاحية والعمل الجماعي الإجتماعي ووعي لا يميز بين الشعوب والبلدان إضافة إلى قيم العدالة والسلام أما في الشمال حيث سادت في اليونان وفي روما العائلة الأبوية فلا يوجد إلا الدولة المدينة والتعصب الوطني وكراهية الأجنبي والفردية والعزلة المادية والقرف من الوجود ثن العنف وحب السيطرة..وقارن ديوب بين النظم السياسية في إفريقيا والغرب واعتبر أن النظام الملكي في إفريقيا يستعين دائما بمستشارين من الطبقات الدنيا مما يساعد على أخذ مصالح وهموم هذه الطبقات بعين الإعتبار وفي نظام كهذا لا معنى ولا وجود للتقلبات الثورية التي عرفها الغرب.
مثل هذه الدراسات وغيرها ساهمت في إنهاك النظرية الداروينية وساهمت وسرَّعت في الوصول إلى عقد المؤتمر الأول للمثقفين والكتاب السود في باريس سنة 1955وقعت المطالبة فيه ولأول مرة وبشكل عالمي بحق الأفارقة في تقريرهم أمورهم بذاتهم..ومن الطبيعي عندما تضعف الداروينية كنظرية مؤسسسة للإستعمار أن ينهار معها هذ الأخير وهو ما حدث في نفس السنة حيث انعقد إنقلاب مؤتمر باندوغ بأندونيسيا الذي تبنى مجموعة من القرارات المناهضة للإستعمار لتنطلق على إثره ما يسمى بحروب التحرير الوطنية.
الأنثروبولوجيا الوظيفية والإستعمار اللبرالي المتنور: الإستعمار غير المباشر (بالوكالة)
المدرسة الوظيفية قامت على انقاض التطوية بعد أن انفض عنها طلابها ومؤيدوها تقريبا وهي نظرية ترفض التفسير التطوري وتبنت نسبية الثقافة الإنسانية مما قوض دعائم فكرة العنصرية التي دعت إليه التطورية وقالت أن أسلوب حياة المجمتعات البدائية له مقوماته العقلانية وتطور ونمو تلك المجتمعات يحتاج إلى تطور تدريجي بطيء، الأمر الذي يدعو إلى بقاء الأنظمة السياسية في تلك المجتمعات واستغلال مواردها دون عناء عن طريق الإدارة غير المباشرة مع المحافظة على التقاليد الراهنة لتلك المجتمعات..يقول مؤسس هذا التيار مالينوفسكي (بريطاني بولوني الأصل): (( إن الفارق الحقيقي بين الإدارة المباشرة والإدارة غير المباشرة يتمثل في افتراض الأولى إمتلاكها القدرة على خلق نظام جديد وبضربة واحدة وعلى تحويل الأفارقة إلى أروبيين مزيفين أو متمدنين مزيفين في سنوات قليلة أما الإدارة غير المباشرة فهي على يقين من استحالة تحقيق تحول سحري من هذا النوع ...ومن الأفضل تحقيقه بتغير بطيء متدرج نابع من الداخل....إن المراقبة الثقافية غير المباشرة هي الطريقة الوحيدة التي تساعد على تطوير الحياة الإقتصادية وعلى رفع مستوى الأخلاق ومستوى التعليم في الإدارات الخاصة بالسكان الأصليين وعلى تطوير فن إفريقيا وثقافتها وديانتها ))-13- ..وبالتالي تحولت الوظيفية إلى نظرية استعمارية أخرى بمفاهيم أخرى تختلف عن سابقتها وهي أن الإستعمار يقوم باختيار القائد من ذات الشعوب المستعمَرة بغرض تنفيذ سياسات المستعمر وكالة عنه.. يقول جيرار لكلرك: (( خلق الإستعمار سلطة مستقلة عن واضعها همها الحفاظ على علاقات طيبة مع المستعمرين..وإن صادف أن فقد إدري التفاهم التقليدي سرعان ما تمده السلطة الإستعمارية بالعون الفعال..إن القيادات الإدارية ليست سوى صنيع القوة الإستعمارية ولا استمرارية دون هذه القوة )) ..ويقول أحد الانتروبولوجيين: (( لقد أدرك البريطانيون بما لديهم من حس مميز التغيرات المفاجئة فأوجدوا لذلك الإدارة غير المباشرة لتكون أداة بيد القادة المحليين وبدل أن يصرفوا قوتهم في الصراع مع القوى التقليدية القوية الجذور..آثروا إستعمالها ..وبذلك يمكنهم تهنئة أنتروبولوجييهم الأذكياء..لقد إستخدم لوغارد إكتشافا إجتماعيا انتروبولوجيا )) -14-
غير أن تطبيق هذه السياسة لاق رواجا كبيرا بعد إستقلال دول العالم الثالث حيث الفرصة سانحة لـــ "ملئ الفراغ" على حد تعبير الرئيس الامريكي الراحل دوايت إيزنهاور، وقصد بذلك بسط النفوذ الغربي على البلاد حديثة الإستقلال عن طريق الإستعمار غير المباشر المتمثل في التبعية الإقتصادية والتحديث الثقافي على الطريقة الامريكية..ثم في 2007 تطورت السياسة الأمريكية لتتبلور أكثر الأنثروبولوجيا الوظيفية عقب تأسيس القيادة الإفريقية للقواة الأمريكية USAFRICOM سنة 2007 ليستمر الغزو الأنثربولوجي لنهب الثروات لا تحت قناع الثقافة كما كان سابقا وإنما تحت غطاء الإرهاب هذه المرة!..
يقول الدكتور حسين فهيم: ((لذلك نرى من جانبنا أن الرفض المطلق للانثروبولوجيا أو قبولها كما هي في محتواها ومنطلقها الغربي يمثل ولا شك حالة من التخلف الفكري والسلبية العلمية. إن تناولنا موضوع الأنثروبولوجيا وتخصصاتها ومناهجها المختلفة وكذلك استخداماتها العلمية والعملية يجب أن يتم في إطار من النقد والتحليل والبحث عن البدائل المنبثقة من تراث العرب الفكري والعقائدي...إن وضع صياغة مفاهيم إسلامية للعلوم ليس هدفا بسيطا نظرا لتعود الباحثين المسلمين على الفكر والمناهج الغربية والإتجاهات العلمانية. لهذا يحتاج الأمر إلى ضرورة إعادة النظر في كل فروع العلوم الإجتماعية كما أن أية مراجعة لا بد ان تستند أساسا على الإيمان وتنطلق من المفاهيم القرآنية وتعاليم السنة ))-15-
قد تبدو لنا من الوهلة الأولى أن الأغراض علمية بل وإنسانية وتلك هي صفة العلم، ولكن هو كغيره من العلوم التي قد يساء استخدام بعض جوانبه لأغراض لا علمية ولا إنسانية على الإطلاق ..وهو الجانب الذي عبّر عنه عالم الأنثروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي بقوله هي: دراسة الإنسان بطريقة تسيء للإنسان تماما كم جرحت الفيزياء والكيمياء والطبيعيات الطبيعة في السنوات السابقة..
خطورة الأنثروبولوجيا تكمن خصوصا في كون هذ العلم يَدْرُسْ المجتمعات من خلال البحث في فلكلورها وفي تناقضاتها ونزعاتها الإحترابية الطائفية والقبلية وقضايا مثل الثأر والتنابز، والإحاطة بمثل هذه القضايا وتسخيرها لأطماع السلط السياسية يصير من السهل إشعال الحروب الأهلية والطائفية وبالتالي تضعف المجتمعات ويسهل بسط النفوذ ونهب الثروات..نجد مثلا الحرب الأهلية في رواندا نتجت عن تغذية الفتنة واللعب على تناقضات قبائل الهوتو وقبائل التوتسي من قبل القوى الإستعمارية من أجل بسط النفوذ على المخزون النفطي للبلد..وما كان لهم النجاح في إشعال فتيل الحرب الأهلية التي أودت بحياة مئات الآلاف من الأبرياء لو لم تكن لهم دراية مسبقة وقاعدة بيانات عن التناقضات العرقية والقبلية بين الهوتو والتوتسي وهو مجال عمل الدراسات الأنثروبولوجية بامتياز..عالم الأنثروبولوجيا جورج بالانديه في كتابه الأنثروبولوجيا السياسية يتحدث من منطلق انثربولوجي بحت يقول: ((وتكشف الوقائع كما في روندا 1960 أنه بالإمكان إسقاط الملوك الذين مازلوا يبدون مؤلهين )) -2- ..كما تختص الدراسات الانثروبولوجية في المقدسات وحسب طبيعة الإنتماء الديني قوته وضعفه أو طبيعة الرموز المقدسة تتعامل السياسات الإستعمارية إما باستغلال ضعف الإنتماء والإعتقاد الديني وبالتالي إسقاط الأنظمة أو بالمحافظة عليها حسب طبيعة المجتمعات وخصوصية كل منها..فمثلا عن المجتمع الغاني يقول بالانديه (( في دراسة عن وضع الزعيم في أشانتي (غانا) يُظهر ك.بوزيا K Busia أن تدهور الإنتماء الديني التقليدي يترافق مع فقدان السلطات السياسية نفوذها )) -3-...بينما في دراسة أخرى عن اليابان كان العكس وهي دراسة قامت بها عالمة الأنثروبولوجيا الأمريكية روث بنيدكت عن الثقافة والشخصية اليابانية عنونتها بــ "زهرة الكريزتنم والسيف" The Chrsyanthenum and the sword وهي دراسة توصلت من خلالها بنيدكت إلى أهمية الإمبراطور كرمز مقدس في العقلية اليابانية وقد كان لهذه الدراسة قيمة كبيرة في بلورة السياسة الأمريكية نحو استسلام المحاربين اليابانيين -4-
أيضا من مخاطر علم الأنثروبولوجيا التنظير تحت غطاء علمي وعقلي للسياسات الإستعمارية وذلك بتصنيف الشعوب تصنيف تفاضلي عنصري مما يضفي الشرعنة والعقلنة على الإستعمار ويقدم له الحجة العلمية ليلعبَ دور هدم الهوة بين مجتمعات أعلى السلم والمجتمعات الدنيا خدمة للإنسانية!، فالعلامة العلمية هنا جاهزة وهي حمل قيم التمدن والحضارة للشعوب المتخلفة والأقل تصنيفا..وهي الذريعة التي قدمتها الداوروينية الإجتماعية تحديدا للإستعمار الحديث..من هذا المنطلق يمكننا فهم حقيقة التزامن الذي حصل بين ازدهار العلوم الإنسانية وعلم الانثروبولوجيا تحديدا وازدهار التوسع الغربي الأروبي ثم الأمريكي باتجاه إفرريقيا آسيا أمريكيا الجنوبية وأستراليا..يقول جيرار لكلرك في كتابه الأنثربولوجيا والإستعمار: (( الإمبريالية الإستعمارية المعاصرة تتوافق زمنيا مع الانثروبولوجيا المعاصرة فكلتاهما تعودان إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر))-5- ..إضافة إلى كون اللأنثربولوجيا الحديثة تأسست في أحضان القوى الإستعمارية الكلاسيكية فرنسا وبريطانيا..فأول جمعية متخصصة وجهت جهودها إلى الدراسات الأنثروبولوجية أنشأت في باريس عام 1800 تحت إسم جمعية ملاحظو الإنسان les observateurs de l’homme وكان هدفها القيام برحلات خارج أروبا لاستطلاع عدة موضوعات أنتروبولوجية عن الإنسان والحياة الإجتماعية للشعوب الأخرى، ثم الجمعية الأثنولوجية عام 1839 في فرنسا أيضا، وفي عام 1843 أقامت بريطانيا جمعيتها الأثنولوجية التي تحولت فيما بعد إلى المعهد الملكي الأنثربولوجي لبريطانيا العظمى وإيرلندا لتنتشر وتعم فيما بعد بلدن أروبية أخرى..وإثرَ هذه المرحلة مباشرة وبالتحديد بين أعوام 1860 و1880 ظهرت معظم مؤلفات المدرسة التطورية، كحق الأمومة لباخ اوفن 1861 وأبحاث في التاريخ المبكر للجنس البشري لتايلور سنة 1865 ونُظم القرابة لمورغان سنة 1869 وكتاب عن المجتمع القديم سنة 1877.. مما يعني أن الإستعمار قد مر بمراحل ثلاث مرحلة ظهور النوايا والبحث عن مستعمرات ثم مرحلة ظهور الذريعة والغطاء العلمي تزامنا مع المرحلة الثالثة وهي بداية الإستعمار!
مرحلة أنثروبولوجيا الهُواة
يمكن تقسيم مراحل تطور الأنثروبولوجيا إلى مرحلتين رئيسيتين مرحلة الأنثروبولوجيين الهواة كما يصفهم ريشارد انطون ثم مرحلة سيطرة علماء الانثروبولوجيا المحترفين..المرحلة الأولى تعتمد على ما دونه بعض المبشرين والرحالة وهي مادة لم تصل بعد إلى مرحلة العلمية ولم تخرج عن الكتابات التخمينية وكانت جميعها تصب في نحت صورة نمطية عن الإنسان "البدائي" وإخراجه في مظهر المتوحش ووضع المجتمع "البدائي" في طرف نقيض مقابل المجتمع المتمدن والذي يمثله بلا أدنى شك الإنسان الأبيض صاحب الدراسة أو لنقل جامع المعلومات المغلوطة والمبالغ فيها ومجتمعه الأروبي..وقد كانت البداية الممنهجة لهذه المرحلة بالرحلات العلمية التي اجتاحت إفريقيا بدءا من سنة 1850.. ولعل أشهر هؤلاء لرحالة وأعظمهم على مر التاريخ هو الرحالة هنري مورتون ستانلي الذي جاب القارة السمراء شرقا وغربا و يعتبر من بين الأوائل الذين رسموا صورة الرجل الأبيض وربطها بالإنسان المتمدن خدمة لأطماع ملك بلجيكا الإستعمارية آنذاك ليوبولد الثاني.. يقول جيرار ليكلرك : (( اعترف ستانلي بأنه قد تم شراؤه من قبل ليوبولد الثاني ملك بلجيكا ليعمل على تجزئة إفريقيا كما أوحى بذلك في مؤتمر بروكسل 1876 وليكون على رأس البعثات العلمية العاملة في الكونغو-الأعلى )) -6-
وحتى وإن لم يعمل هؤلاء الرحالة وغيرهم من المبشرين والإدارييين بإمرة أنظمة الحكم الأروبية، فإنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ممثلين للحضارة وحملوا معهم نظرة استعلائية على المجتمعات محل البحث، فأدى ذلك إلى ظهور نتائج ودراسات إما عنصرية وإما محكومة بالمصلحة بعيدة كل البعد عن المنهجية العلمية لا تخدم إلا النظم الإستعمارية وإن كان بطريقة غير مباشرة وغير ممنهجة..وهذا باعتراف عالم الانثروبولوجيا الوظيفية مالينوفسكي الذي يقول: (( أن الطريقة التي يتكلم به الناس البيض الذين أمدوني بالمعلومات عن السكان الأصليين وطريقة إعطاء آرائهم الخاصة تنم عن ذهن غير مجرب وغير معتاد على صياغة الأفكار بمنطق ودقة وقد كانت آرائهم في الغالب مثقلة بالأخطاء والأحكام المسبقة وهذا ما لا يمكن تفاديه بالنسبة للناس العاديين الذين دخلوا الحياة العملية سواء أكانوا إدارييين أم مبشرين أم تجار )) -7-
وعلى الرغم من كل تلك النقائص فإن مرحلة الانتروبوليجيين الهواة تُعتبر مرحلة التمهيد لظهور علم دراسة الأنثروبولوجيا الإجتماعية على أسس أكاديمية وكعلم معترف به لتفتح لنا المجال للحديث عن تنظيرات ممنهجة مهدت الطريق للقوى الإمبريالية الغربية وأعطته الحجة والذريعة لنحت مسيرة وردية في السطو على مقدرات الشعوب وتدمير الثقافات..
الأنثروبولوجيا التطورية (الداروينية الإجتماعية) والتنظير للإستعمار المباشر
تقوم على تطبيق مبدأ الإنتخاب الطبيعي على البشر في المجتمع فهي توحيد لفكرتي التطور الإجتمعاعي ونظرية التطور العضوي البيولوجي وهي تنظر للمجتمعات "البدائية" على أنها مخلفات حية أو أنها بقايا خلفتها مراحل سابقة وتَعْتَبِر الحضارة الغربية بمثابة التعبير المتقدم عن تطور المجتمعات البشرية، ومن روادها سبنسر مورغان وتايلور وويسلي وايت عن تيارها الحديث. من هذه الفلسفة اللا إنسانية نبتت فكرة الإستعمار والسيطرة على العالم ونهب الثروات ثم مُورِسَ ما يعرف انثروبولوجيا بمصطلح "التثاقف" وهو ما يعرف في وطننا العربي اليوم بالتغريب أو العصرنة أو التجديد أو أي مصطلح يجعل من الثقافة الغربية مثالا يستوجب المحاكاة..فالتثاقف باختصار هي نظرة تطورية داروينية للثقافة تفترض التخلف في حضارات وثقافات "العالم الثالث" ومن خلال الإستعمار يتم فرض ثقافة الدارس على الشعوب المستضعفة بحجة نقلهم من التخلف إلى التمدن والحال أنها ليست سوى سياسة إستعمارية هدفها تثبيت وتجذير الإستعمار لازات أغلب البلدان العربية والإسلامية تعاني من تبعاته إلى اليوم..يقول الدكتور حسين فهيم خبير البحوث بمعهد الأنثروبولوجيا للتنمية بنيويورك في كتابه "قصة الانثروبولوجيا" واصفا الثاقف : (( وقد زكى هذا الإتجاه حركة الإستعمار الأروبي للعالم العربي والإسلامي مؤكدا عجز العرب والمسلمين عن الإبتكار والإبداع والإسهام في ركب الحضارة الأمر الذي يجعل من "التغريب" أمرا ضروريا لمواكبة تطورات العصر الحديث. ولعل من أحد الأسباب الاخرى أن المسلمين والعرب ذاتهم أو النخبة المقفة منهم قد اقتنعوا بهذه الفكرة ورأوا في تراثهم عبئا ثقيلا يجب الإبتعاد عنه قدر الإمكان ليتمكنوا من الحياة على الطريقة الغربية...لهذا فإن فحص التراث العربي الإسلامي ودراسته قد يؤدي في رأينا إلى إعادة تاريخ الأنثربولوجيا من جديد أو على الأقل الأصول المعرفية والمنهجية لها بحيث لا ترد جميعها إلى عصري النهضة أو التنوير الأروبيين )) -8-..وفي ذات السياق يقول الأنثروبولوجي البريطاني رايموند فيرث: (( التاريخ لم يرو لنا أن البلاد الشمالية قد شهدت حضارة عريقة كالتي ازدهرت في الشرق الأدنى والأوسط في الصين ومصر وبحر إيجه )) -9- وهي ذات الفكرة التي يطرحها جيرار لكلرك بتسائله عن موقف الانثروبولوجيا حاليا من التراث الأدبي الكبير والغامض الذي نشهده في العالم الثالث. وغيرهم كثير أمثال العالم والمؤرخ جورج سارتن الذي يثني على الثقافة العربية ويصف العرب بعباقرة الشرق لتعلو بذلك الأصوات ويظهر اتجاه مناهض للإتجاه الذي يسعى إلى طمس هذه الحقيقة والتقليل من شأنها حتى توافق ما قرره مُسَبَّقًا علم الإجتماع الإستعماري والأنثروبولوجيا تحديدا بشرعنة وعقلنة ذريعة استعمار الغرب للشرق..ثم اتسعت تلك الإنتقادات داخل الأوساط الأكاديمية الأنثروبولوجية الموجهة تحديدا للداروينية الإجتماعية لغموضها ولاعتمادها الحدس والتخمين المؤدلَجَين في تفسير الظواهر الإجتماعية ومن ذلك النقد الدراسات الأنثروبولوجية التي قام بها العالم الفرنسي كلود ليفي ستورس أثبت من خلالها أن مجتمعات ما توصف بالبدائية هي مجتمعات في غاية التعقيد في بناها الإجتماعية والثقافية واللغوية وأن المعرفة عند الإنسان البدائي لا تختلف عن بنية المعرفة عند من يوصفون بالحُضَّر وأن الرجل البدائي لا يمثل استمرار لمراحل تاريخية سابقة..يقول ستروس في كتابه الإناسة البنيانية موجها نقدا مزدوجا للداروينية بشقيها الكلاسيكي والحديث: (( لكن المسألة ليست بمثل هذه السهولة : فالأسكيمو يعتبرون من كبار التقنيين إلا انهم من صغار الإجتماعيين. بينما نجد العكس في أستراليا..والأمثلة على هذا عديدة إذ أن ختيار عدد محدود من الضوابط من شأنه أن يتيح لنا بناء عدد لا حدود له من السلسلات التي تختلف جميعا في ما بينها. ويبدو أن التطوية الجديدة التي يذهب إليها السيد وسلي وايت عاجزة هي الاخرى عن تذليل هذه الصعوبة : فإذا كان المعيار الضابط الذي يقترحه –معدل كمية الطاقة المتوافرة للفرد الواحد في كل مجتمع- يستجيب لمثال من المثل قد يكون مقبولا في بعض مراحل الحضارة الغربية وفي عدد من جوانبها..فإن المرء لا يرى كيف يمكن تطبيق هذا العامل المحدد على الأغلبية الساحقة من المجتمعات البشرية..حيث يبدو أن هذه المقولة المقترحة لا تتخذ فوق ذلك أية دلالة على الإطلاق )) -10- ويصفها أيضابكونها (( ثمرة من التجريد الذي يظل يفتقد دائما لتأييد الشواهد والوقائع..كما ان تاريخها يظل تاريخا تخمينيا وإيديولوجيا)) -11-..ثم بعد عرضه لأنماط إجتماعية متناقضة في قبائل ألاسكا وكولومبيا يقول ستروس : (( ما الذي نستخلصه من ذلك؟ هل نستخلص ان ثمة تطورا قد حصل إنطلاقا من نمط باتجاه الآخر ؟..إن مشروعية هذه الفرضية تقتضي أن نكون قادرين على إقامة البرهان على ان أحد النمطين أقدم من الآخر..وأن النمط الأقدم المعلوم قد تطور بالضرورة باتجاه الشكل الآخر وأن هذا القانون يفعل ويثبت فعاليته في مركز المنطقة أكثر مما يثبتها في أطرافها..أما في غياب هذا البرهان المثلث المستحيل فكل نظرية حول المخلفات والمتبقيات تصبح ضربا من العبث ))..ويقول بواس وهو من أقطاب المدرسة الوظيفية معلقا على غياب هذا البرهان : (( من المؤسف ان لا يكون بمتناولنا أي شيء يمكننا من إلقاء الضوء على هذه التطورات ))-12-
تلقت الداروينية الإجتماعية ضربات موجعة من داخل الأوساط العلمية الغربية غير أن النقد وعندما تخطه أقلام إفريقية سوداء وعندما تُفضح تفسيراتها المشوهة علميا على يد الأفارقة يكون النقد حينها قد مزج بين الرد العملي والعلمي في ذات الوقت ..ففي سنة1937 ظهرت أول دراسة أنتروبولوجية بقلم إفريقي وهو جومو كينياتا رئيس كينيا فيما بعد..الدراسة تناولت النظم الإقتصادي والثقافي والسياسي لجماعات الكيكويو الأكثر انتشارا في كينيا وأثبت كينياتا أن الحكم السابق لفترة الإستعمار كان ديمقراطيا ولم يكن استبداديا وأنه أسيء فهم النظام العقاري بشكل يتيح للإستعمار ممارسة النهب والتخريب..ثم جاء المؤرخ السنغالي وعالم الأنثروبولوجيا والتاريخ والفيزياء الشيخ أنتا ديوب الذي قام بدحض الدعوى التطوية بنفس المفاهيم التطورية ذاتها، ففي الوقت الذي يدعي فيها أنصار التطور أن المجمتع الأمومي الذي يحياه الأفارقة ليس سوى حلقة أقل تطورا من النظام الأبوي السائد في أروبا يثبت أنتا ديوب أن نظام الأمومة في إفريقيا أثبت تفوقه على نظيره الأبوي في أروبا فالأول ترتب عنه الدولة الفلاحية والعمل الجماعي الإجتماعي ووعي لا يميز بين الشعوب والبلدان إضافة إلى قيم العدالة والسلام أما في الشمال حيث سادت في اليونان وفي روما العائلة الأبوية فلا يوجد إلا الدولة المدينة والتعصب الوطني وكراهية الأجنبي والفردية والعزلة المادية والقرف من الوجود ثن العنف وحب السيطرة..وقارن ديوب بين النظم السياسية في إفريقيا والغرب واعتبر أن النظام الملكي في إفريقيا يستعين دائما بمستشارين من الطبقات الدنيا مما يساعد على أخذ مصالح وهموم هذه الطبقات بعين الإعتبار وفي نظام كهذا لا معنى ولا وجود للتقلبات الثورية التي عرفها الغرب.
مثل هذه الدراسات وغيرها ساهمت في إنهاك النظرية الداروينية وساهمت وسرَّعت في الوصول إلى عقد المؤتمر الأول للمثقفين والكتاب السود في باريس سنة 1955وقعت المطالبة فيه ولأول مرة وبشكل عالمي بحق الأفارقة في تقريرهم أمورهم بذاتهم..ومن الطبيعي عندما تضعف الداروينية كنظرية مؤسسسة للإستعمار أن ينهار معها هذ الأخير وهو ما حدث في نفس السنة حيث انعقد إنقلاب مؤتمر باندوغ بأندونيسيا الذي تبنى مجموعة من القرارات المناهضة للإستعمار لتنطلق على إثره ما يسمى بحروب التحرير الوطنية.
الأنثروبولوجيا الوظيفية والإستعمار اللبرالي المتنور: الإستعمار غير المباشر (بالوكالة)
المدرسة الوظيفية قامت على انقاض التطوية بعد أن انفض عنها طلابها ومؤيدوها تقريبا وهي نظرية ترفض التفسير التطوري وتبنت نسبية الثقافة الإنسانية مما قوض دعائم فكرة العنصرية التي دعت إليه التطورية وقالت أن أسلوب حياة المجمتعات البدائية له مقوماته العقلانية وتطور ونمو تلك المجتمعات يحتاج إلى تطور تدريجي بطيء، الأمر الذي يدعو إلى بقاء الأنظمة السياسية في تلك المجتمعات واستغلال مواردها دون عناء عن طريق الإدارة غير المباشرة مع المحافظة على التقاليد الراهنة لتلك المجتمعات..يقول مؤسس هذا التيار مالينوفسكي (بريطاني بولوني الأصل): (( إن الفارق الحقيقي بين الإدارة المباشرة والإدارة غير المباشرة يتمثل في افتراض الأولى إمتلاكها القدرة على خلق نظام جديد وبضربة واحدة وعلى تحويل الأفارقة إلى أروبيين مزيفين أو متمدنين مزيفين في سنوات قليلة أما الإدارة غير المباشرة فهي على يقين من استحالة تحقيق تحول سحري من هذا النوع ...ومن الأفضل تحقيقه بتغير بطيء متدرج نابع من الداخل....إن المراقبة الثقافية غير المباشرة هي الطريقة الوحيدة التي تساعد على تطوير الحياة الإقتصادية وعلى رفع مستوى الأخلاق ومستوى التعليم في الإدارات الخاصة بالسكان الأصليين وعلى تطوير فن إفريقيا وثقافتها وديانتها ))-13- ..وبالتالي تحولت الوظيفية إلى نظرية استعمارية أخرى بمفاهيم أخرى تختلف عن سابقتها وهي أن الإستعمار يقوم باختيار القائد من ذات الشعوب المستعمَرة بغرض تنفيذ سياسات المستعمر وكالة عنه.. يقول جيرار لكلرك: (( خلق الإستعمار سلطة مستقلة عن واضعها همها الحفاظ على علاقات طيبة مع المستعمرين..وإن صادف أن فقد إدري التفاهم التقليدي سرعان ما تمده السلطة الإستعمارية بالعون الفعال..إن القيادات الإدارية ليست سوى صنيع القوة الإستعمارية ولا استمرارية دون هذه القوة )) ..ويقول أحد الانتروبولوجيين: (( لقد أدرك البريطانيون بما لديهم من حس مميز التغيرات المفاجئة فأوجدوا لذلك الإدارة غير المباشرة لتكون أداة بيد القادة المحليين وبدل أن يصرفوا قوتهم في الصراع مع القوى التقليدية القوية الجذور..آثروا إستعمالها ..وبذلك يمكنهم تهنئة أنتروبولوجييهم الأذكياء..لقد إستخدم لوغارد إكتشافا إجتماعيا انتروبولوجيا )) -14-
غير أن تطبيق هذه السياسة لاق رواجا كبيرا بعد إستقلال دول العالم الثالث حيث الفرصة سانحة لـــ "ملئ الفراغ" على حد تعبير الرئيس الامريكي الراحل دوايت إيزنهاور، وقصد بذلك بسط النفوذ الغربي على البلاد حديثة الإستقلال عن طريق الإستعمار غير المباشر المتمثل في التبعية الإقتصادية والتحديث الثقافي على الطريقة الامريكية..ثم في 2007 تطورت السياسة الأمريكية لتتبلور أكثر الأنثروبولوجيا الوظيفية عقب تأسيس القيادة الإفريقية للقواة الأمريكية USAFRICOM سنة 2007 ليستمر الغزو الأنثربولوجي لنهب الثروات لا تحت قناع الثقافة كما كان سابقا وإنما تحت غطاء الإرهاب هذه المرة!..
يقول الدكتور حسين فهيم: ((لذلك نرى من جانبنا أن الرفض المطلق للانثروبولوجيا أو قبولها كما هي في محتواها ومنطلقها الغربي يمثل ولا شك حالة من التخلف الفكري والسلبية العلمية. إن تناولنا موضوع الأنثروبولوجيا وتخصصاتها ومناهجها المختلفة وكذلك استخداماتها العلمية والعملية يجب أن يتم في إطار من النقد والتحليل والبحث عن البدائل المنبثقة من تراث العرب الفكري والعقائدي...إن وضع صياغة مفاهيم إسلامية للعلوم ليس هدفا بسيطا نظرا لتعود الباحثين المسلمين على الفكر والمناهج الغربية والإتجاهات العلمانية. لهذا يحتاج الأمر إلى ضرورة إعادة النظر في كل فروع العلوم الإجتماعية كما أن أية مراجعة لا بد ان تستند أساسا على الإيمان وتنطلق من المفاهيم القرآنية وتعاليم السنة ))-15-
1- شاكر مصطفى سليم قاموس الانثروبولوجيا ص56
2- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
3- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
4- تفاصيل الدراسة في قصة الأنثروبولوجيا د.حسين فهيم ص140-141
5- جيرار لكلرك الأنثربولوجيا والإستعمار ص12
6- الأنثربولوجيا والإستعمار ص22-23
7- الانتروبولوجيا والإستعمار ص62
8- حسين فهيم قصة الأنثربولوجيا ص201
9- حسين فهيم..قصة الانثربولوجيا ص79
10- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص13
11- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص16
12- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص17
13- الأنثربولوجيا والإستعمار ص112
14- الأنثربولوجيا والإستعمار ص134
15- قصة الانثربولوجيا ص204-205
2- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
3- جورج بالانديه الأنثروبولوجيا السياسية ص198
4- تفاصيل الدراسة في قصة الأنثروبولوجيا د.حسين فهيم ص140-141
5- جيرار لكلرك الأنثربولوجيا والإستعمار ص12
6- الأنثربولوجيا والإستعمار ص22-23
7- الانتروبولوجيا والإستعمار ص62
8- حسين فهيم قصة الأنثربولوجيا ص201
9- حسين فهيم..قصة الانثربولوجيا ص79
10- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص13
11- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص16
12- كلود ليفي ستورس الإناسة البنيوية ص17
13- الأنثربولوجيا والإستعمار ص112
14- الأنثربولوجيا والإستعمار ص134
15- قصة الانثربولوجيا ص204-205
تعليق