سليمة محفوظي
دراسة المعنى هو فك البناء اللغوي من حيث هو أصوات ومفردات وتراكيب "من أجل إعادة بنائه دلاليا."1 ودراسة المعنى انطلاقا من بحث المثيرات اللغوية الدالة في أي نص من النصوص (المستويات اللغوية) يعني تحديد العناصر المراد تحليلها، وبيان دورها ومحاولة كشف العلاقات القائمة بينها، وتتبع التدرج التعبيري ومدى توافق العناصر المكونة أو تعارضها أو تمايزها أو توازنها...
والمتعامل مع النص ينبغي أن يراعي جملة من الأمور منها:
أن يكون النص رسالة لغوية تحقق الهدفين: التعبير والتبليغ
أن يحدد مجال النص المدروس، فالنصوص اللغوية تختلف من حيث طبيعتها وجنسها ونوعها وغايتها.
أن يبتعد الدارس قدر الإمكان عند كل ما من شأنه أن يوجه الدراسة مسبقا نحو هدف أو غاية، أو دعم موقف أو مذهب أو نحو ذلك كما يحدث عند كثير من أصحاب المذاهب والفلسفات المختلفة.
أما المناهج المتبعة في تحليل النصوص وكشف معاينتها ودلالاتها فكثيرة و مختلفة، سواء على مستوى الوسائل والأدوات المستعملة أم على مستوى النتائج والغايات المرجوة.2
فهناك من يدرس المعنى بالنظر إلى النصوص في محاولة فهمها وتفسيرها من خلال مكونات النص ذاتها بصرف النظر عن مصدر النص أو الغرض الذي أو مناسبة التي لابست ذلك الوجود، لأن كل هذه العناصر الخارجية، لا تفيد على حد زعمهم-في كشف أسرار النص، وإدراك إبعاده ومعاينيه ودلالاته، لأن الذي يفيد ذلك إنما هو طبيعة العناصر اللغوية المشكلة للنص، ونظام بناء تلك العناصر وطريقة صياغتها الحال، إلا بالاعتماد على جوهر المادة اللغوية من حيث كونها أصواتا ومفردات وتراكيب.
إن هذا المطلب مقبول في حد ذاته، من حيث أنه يبدأ من النص وينتهي إليه، ولكن يعاب على هذا المنهج أمور أهمها:
• إهماله جانبا مهما جدا من جوانب النص الذي يراد درسه وتحليله وهو السياق الذي يساعد كثيرا على تحديد المعاني وتقريب الدلالات على مستوى المفردات أو التراكيب
يقول جون ليونر:( أعطني السياق الذي وضعت فيه الكلمة وسوف أخبرك بمعناها)، ويقول: (من المستحيل أن تعطى معنى كلمة بدون وضعها في سياق، وتكوين المهاجم مفيدة بقدر ما تذكره من عدد سياقات الكلمات وتنوعها.)3
• إغراق بعض أصحاب هذا (المذهب الأسلوبي) في استعمال مصطلحات ورسومات وبيانات غامضة معقدة أحيانا، لا تضئ جوانب النص بقدر ما تعقد السبيل إلى فهمه، دون أن يكون ذلك هدفا مقصودا في حد ذاته، لأن جميع المناهج قديمها وحديثها إنما تتجه نحو غاية واحدة هي كشف النص وتفسيره، وتجلية رموزه وإيضاح علاقاته، ولكن اختلاف تلك المناهج إنما يأتي من اختلاف وجهات نظر الباحثين وغايتهم ومن اختلاف زوايا النظر إلى النصوص.
وفي مقابل المنهج الأساسي "البنائي" الذي يعتمد على النص بوصفه وحدة دلالية واحدة في إيضاح كل المعطيات التي تساعد على تفسير النص دون النظر إلى مساعدات من خارجه، حتى لو كانت تفسيرات صاحب النص ذاته، في مقابل هذا المنهج، ينهج باحثون آخرون نهجا يختلف عن ذلك، أساسه النظر في النصوص اللغوية دون استبعاد مختلف العناصر الخارجية التي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالنص، أي أنهم ينظرون في النصوص في ضوء مختلف السياقات المحيطة بكل نص من النصوص، ويعرف هذا الاتجاه بـ"المنهج السياسي" أو "النظرية السياقية".
ولعل أشهر من يمثل هذا الاتجاه في الفكر العربي الإسلامي المفسرون والبلاغيون والنقاد واللغويون، فقد أسهم المفسرون للقرآن الكريم بنصيب وافر في هذا المجال، فكان بحثهم في النصوص القرآنية يعتمد كثيرا على الاستفادة من مختلف العناصر التي يمكن أن تقدم إيضاحات مهمة كف بينهم مثلا بأسباب النزول وعلاقة الآيات والصور فيما بينها ونحو ذلك كما أسهم البلاغيون في وضع أسس هذا المنهج وإقامة دعائمه ولعل أشهر علم في هذا المجال هو عبد القاهر الجرجاني فقد مثلت جهوده البلاغية اللغوية والنقدية مرتكزا تراثيا أصيلا يضاف إلى عدد من الآراء البلاغية والنحوية والنقدية الناضجة التي سبقته، والتي تلح على وجوب مراعاة مختلف السياقات المحيطة بالعملية اللغوية، إن في صورتها المنطوقة وإن في صورتها المرسومة (المكتوبة).4
فالألفاظ المفردة أو الأشكال التركيبية النحوية مثلا لا يكون، لها أهمية إلا حيث ترتبط بالسياق الذي يضعها فيه صاحب النص، وبغير ذلك قد يؤدي تفسير نص من النصوص بالاعتماد والمعزول على المفردات أو التراكيب، إلى تفسيرات غير دقيقة، وربما متعسفة، وقد يحاول كل دارس أن يفرض تلك المعاني والتفسيرات المتعسفة على النص اللغوي، وعليه فإن المعول عليه في إبراز المعاني وتحديد الدلالات الدقيقة إنما هو مراعاة التفاعل القائم بين مختلف العناصر اللغوية المشكلة للنص من جهة، وبينها وبين طبيعة الظروف والملابسات المحيطة بالنص، أي مراعاة من السياق، سياق لغوي داخلي، وسياق حالي خارجي، ولعل عبارة علماء العربية القدامى: " لكل مقام مقال" أحد ما يفسر هذا المنهج.
وفكرة المقام تمثل مركز الدلالة الوظيفية من حيث إبراز مختلف الجوانب التي تظهر فيها الأحداث اللغوية، والعلاقات والظروف المقتضية لإيراد الكلام.
وتظهر أهمية مراعاة السياق عند النظر في النصوص. حينما يتعلق الأمر باللغة المجازية خاصة، وهي لغة الإبداع (لغة العاطفة والانفعال)مثلا، كما هو حال لغة الشعر.
ويقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: "الكلام عن ضربين ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن "زيد" مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: "حج زيد"، وبالانطلاق عند " عمرو" فقلت: عمر منطلق، وعلى هذا القياس. وضرب آخر لا تصل منه إلى أي فرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل أو ترى إنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر" أو قلت " طويل النجاد" أو قلت في المرأة: " نؤوم الضحى" فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا، هو غرضك، كمعرفتك من كثير رماد القدر" أنه مضياف، ومن "طويل النجاد" أنه طويل القامة، ومن "نؤوم الضحى" في المرأة، أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها وإذا قد عرفت هذه الجملة فهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول "المعنى" و"معنى المعنى"، تعني "بالمعنى" المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و"بمعنى المعنى" أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفض بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرت كل دلائل الإعجاز وإذا كان أصحاب نظرية السيادة قد اهتموا بالدول الذي تؤديه الكلمة أو العبارة في السيادة الذي ترد فيه فقد عرفوا المعنى بأنه حصيلة استعمال الكلمة في اللغة من حيث وضعها في السياقات مختلفة إلا أنهم بل إن بعضهم يكون قد بالغ حيث يذهب إلى أن لا معنى للكلمة خارج السياق قد اتهموا بالدور الذي تؤديه الكلمة أو العبارة في السياق الذي ترد فيه، فقد عرفوا المعنى بأنه حصيلة استعمال الكلمة في اللغة، من حيث وضعها في السياقات مختلفة، إلا أنهم بل إن بعضهم يكون قد بالغ حيث يذهب إلى أن لا معنى للكلمة خارج السياق، فيرى ستيفن أولمن Stephan Ullman في ذلك مبالغة، لأن للكلمات المفردة معاني ودلالات يتواضع عليها المتكلمون والسامعون، ثم ترون في تضاعيف المعاجم، ومع أن بعض معاني الكلمات يعتريها الغموض الشديد، فلا بد أن يكون لها معنى أو عدة معان مركزية ثابتة
ودراسة المعنى عند أصحاب نظرية السياق تتطلب تحليل مختلف السياقات والمواقف التي ترد فيها النصوص، حتى ما كان منها غير لغوي، وعليه اقترحوا تقسيما للسياق العام إلى السياقات جزئية هي:5
1- السياق اللغوي، وهو حصيلة استخدام مختلف العناصر اللغوية المشكلة للنص من مفردات في العلاقات بعضها ببعض فالمعنى الذي يقدمه المعجم لكلمة من الكلمات معنى عام يتصف بالاحتمال والتعدد أحيانا، في حين أن المعنى الذي يقدمه السياق اللغوي لتلك الكلمة هو معنى محدد معين، له خصائص وسمات محددة غير قابل للتعدد أو التعميم.
2- السياق العاطفي: وهو الذي يحدد طبيعة استعمال الكلمة أو العبارة بين دلالتها الموضوعية ودلالتها العاطفية، كما يحدد السياق العاطفي درجة الانفعال قوة وضعفا، فالمتكلم الذي يكون في حالة من الشعور الجامح، قد يغلوا استعمال ألفاظ وعبارات قد لا يقصد هو نفسه معناها الحقيقي الموضوعي، فتكون محملة بما اعتراه من انفعال واندفاع. وعادة ما تكون طريقة الأداء الكلامي (مسموع) الأقدر على إبراز درجة الانفعال فتنطق الكلمات وكأنها تحاكي معانيها المقصودة محاكاة حقيقية، كما لا يخفى ما يكون الإشارات والإيماءات المصاحبة من أهمية في إبراز تلك المعاني الانفعالية.
سياق الموقف: ويهتم بمراقبة العلاقات الزمانية والمكانية التي يحدث فيها الكلام، أو ما أطلق عليه علماء العربية القدامى "المقام" فقد يؤدي سياق الموقف بالمتكلم إلى أن يعدل عن استعمال كلمة أو عبارة خوفا أو تأدبا وإن كانت تنطبق على الحالة التي هو بصددها، كأن يعدل عن الحقيقة إلى المجاز و إلى التلميح دون التصريح.
إن دراسة النصوص في ضوء مراعاة المقام تتطلب من الباحث الإلمام المكاني بالمعطيات الاجتماعية التي يجري فيها الكلام ولذلك نلاحظ أنه عادة ما يمهد الآثار الأدبية بدراسة للبيئة الزمانية والمكانية وللملابسات الشخصية لما لهذه العناصر من أهمية في بلوغ المعاني المقصودة.
3- السياق الثقافي: وهو سياق جزئي، له ارتباط وثيق بسياق الموقف أو المقام، والسياق الثقافي يحدد الدلالات المقصودة من الكلمات عندما تستعمل استعمالات عامة.
فقد مختلف دلالة كلمة من حيث القيمة التعبيرية والتأثيرية عند الأشخاص الذي تختلف مستوياتهم الثقافية، فالكلمات ، الحرية والعدل والظلم، لها الدلالات عامة أصلية قد يشترك فيها جميع أفراد البيئة اللغوية الواحدة، ولكن لتلك الكلمات دلالات خاصة (أبعاد دلالية)يختلف أفراد البيئة اللغوية الواحدة في إدراك قيمتها وأبعادها بسبب ما تضيفه عليها الطبيعة الثقافية لكل فرد من إضافات وهوامش دلالية.
الهوامش
1-الجرجاني:دلائل الإعجاز,ص236-235
2-تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها265
3-صلاح حسنين:علم الدلالة,ص191
4-الطاهر بومزبر:التواصل اللساني والشعرية,ص35
5-أبو بكر العزاوي:اللغة والحجاج,ص48
دراسة المعنى هو فك البناء اللغوي من حيث هو أصوات ومفردات وتراكيب "من أجل إعادة بنائه دلاليا."1 ودراسة المعنى انطلاقا من بحث المثيرات اللغوية الدالة في أي نص من النصوص (المستويات اللغوية) يعني تحديد العناصر المراد تحليلها، وبيان دورها ومحاولة كشف العلاقات القائمة بينها، وتتبع التدرج التعبيري ومدى توافق العناصر المكونة أو تعارضها أو تمايزها أو توازنها...
والمتعامل مع النص ينبغي أن يراعي جملة من الأمور منها:
أن يكون النص رسالة لغوية تحقق الهدفين: التعبير والتبليغ
أن يحدد مجال النص المدروس، فالنصوص اللغوية تختلف من حيث طبيعتها وجنسها ونوعها وغايتها.
أن يبتعد الدارس قدر الإمكان عند كل ما من شأنه أن يوجه الدراسة مسبقا نحو هدف أو غاية، أو دعم موقف أو مذهب أو نحو ذلك كما يحدث عند كثير من أصحاب المذاهب والفلسفات المختلفة.
أما المناهج المتبعة في تحليل النصوص وكشف معاينتها ودلالاتها فكثيرة و مختلفة، سواء على مستوى الوسائل والأدوات المستعملة أم على مستوى النتائج والغايات المرجوة.2
فهناك من يدرس المعنى بالنظر إلى النصوص في محاولة فهمها وتفسيرها من خلال مكونات النص ذاتها بصرف النظر عن مصدر النص أو الغرض الذي أو مناسبة التي لابست ذلك الوجود، لأن كل هذه العناصر الخارجية، لا تفيد على حد زعمهم-في كشف أسرار النص، وإدراك إبعاده ومعاينيه ودلالاته، لأن الذي يفيد ذلك إنما هو طبيعة العناصر اللغوية المشكلة للنص، ونظام بناء تلك العناصر وطريقة صياغتها الحال، إلا بالاعتماد على جوهر المادة اللغوية من حيث كونها أصواتا ومفردات وتراكيب.
إن هذا المطلب مقبول في حد ذاته، من حيث أنه يبدأ من النص وينتهي إليه، ولكن يعاب على هذا المنهج أمور أهمها:
• إهماله جانبا مهما جدا من جوانب النص الذي يراد درسه وتحليله وهو السياق الذي يساعد كثيرا على تحديد المعاني وتقريب الدلالات على مستوى المفردات أو التراكيب
يقول جون ليونر:( أعطني السياق الذي وضعت فيه الكلمة وسوف أخبرك بمعناها)، ويقول: (من المستحيل أن تعطى معنى كلمة بدون وضعها في سياق، وتكوين المهاجم مفيدة بقدر ما تذكره من عدد سياقات الكلمات وتنوعها.)3
• إغراق بعض أصحاب هذا (المذهب الأسلوبي) في استعمال مصطلحات ورسومات وبيانات غامضة معقدة أحيانا، لا تضئ جوانب النص بقدر ما تعقد السبيل إلى فهمه، دون أن يكون ذلك هدفا مقصودا في حد ذاته، لأن جميع المناهج قديمها وحديثها إنما تتجه نحو غاية واحدة هي كشف النص وتفسيره، وتجلية رموزه وإيضاح علاقاته، ولكن اختلاف تلك المناهج إنما يأتي من اختلاف وجهات نظر الباحثين وغايتهم ومن اختلاف زوايا النظر إلى النصوص.
وفي مقابل المنهج الأساسي "البنائي" الذي يعتمد على النص بوصفه وحدة دلالية واحدة في إيضاح كل المعطيات التي تساعد على تفسير النص دون النظر إلى مساعدات من خارجه، حتى لو كانت تفسيرات صاحب النص ذاته، في مقابل هذا المنهج، ينهج باحثون آخرون نهجا يختلف عن ذلك، أساسه النظر في النصوص اللغوية دون استبعاد مختلف العناصر الخارجية التي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالنص، أي أنهم ينظرون في النصوص في ضوء مختلف السياقات المحيطة بكل نص من النصوص، ويعرف هذا الاتجاه بـ"المنهج السياسي" أو "النظرية السياقية".
ولعل أشهر من يمثل هذا الاتجاه في الفكر العربي الإسلامي المفسرون والبلاغيون والنقاد واللغويون، فقد أسهم المفسرون للقرآن الكريم بنصيب وافر في هذا المجال، فكان بحثهم في النصوص القرآنية يعتمد كثيرا على الاستفادة من مختلف العناصر التي يمكن أن تقدم إيضاحات مهمة كف بينهم مثلا بأسباب النزول وعلاقة الآيات والصور فيما بينها ونحو ذلك كما أسهم البلاغيون في وضع أسس هذا المنهج وإقامة دعائمه ولعل أشهر علم في هذا المجال هو عبد القاهر الجرجاني فقد مثلت جهوده البلاغية اللغوية والنقدية مرتكزا تراثيا أصيلا يضاف إلى عدد من الآراء البلاغية والنحوية والنقدية الناضجة التي سبقته، والتي تلح على وجوب مراعاة مختلف السياقات المحيطة بالعملية اللغوية، إن في صورتها المنطوقة وإن في صورتها المرسومة (المكتوبة).4
فالألفاظ المفردة أو الأشكال التركيبية النحوية مثلا لا يكون، لها أهمية إلا حيث ترتبط بالسياق الذي يضعها فيه صاحب النص، وبغير ذلك قد يؤدي تفسير نص من النصوص بالاعتماد والمعزول على المفردات أو التراكيب، إلى تفسيرات غير دقيقة، وربما متعسفة، وقد يحاول كل دارس أن يفرض تلك المعاني والتفسيرات المتعسفة على النص اللغوي، وعليه فإن المعول عليه في إبراز المعاني وتحديد الدلالات الدقيقة إنما هو مراعاة التفاعل القائم بين مختلف العناصر اللغوية المشكلة للنص من جهة، وبينها وبين طبيعة الظروف والملابسات المحيطة بالنص، أي مراعاة من السياق، سياق لغوي داخلي، وسياق حالي خارجي، ولعل عبارة علماء العربية القدامى: " لكل مقام مقال" أحد ما يفسر هذا المنهج.
وفكرة المقام تمثل مركز الدلالة الوظيفية من حيث إبراز مختلف الجوانب التي تظهر فيها الأحداث اللغوية، والعلاقات والظروف المقتضية لإيراد الكلام.
وتظهر أهمية مراعاة السياق عند النظر في النصوص. حينما يتعلق الأمر باللغة المجازية خاصة، وهي لغة الإبداع (لغة العاطفة والانفعال)مثلا، كما هو حال لغة الشعر.
ويقول عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز: "الكلام عن ضربين ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن "زيد" مثلا بالخروج على الحقيقة، فقلت: "حج زيد"، وبالانطلاق عند " عمرو" فقلت: عمر منطلق، وعلى هذا القياس. وضرب آخر لا تصل منه إلى أي فرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن بذلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض. ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل أو ترى إنك إذا قلت: "هو كثير رماد القدر" أو قلت " طويل النجاد" أو قلت في المرأة: " نؤوم الضحى" فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره، ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا، هو غرضك، كمعرفتك من كثير رماد القدر" أنه مضياف، ومن "طويل النجاد" أنه طويل القامة، ومن "نؤوم الضحى" في المرأة، أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها وإذا قد عرفت هذه الجملة فهنا عبارة مختصرة وهي أن تقول "المعنى" و"معنى المعنى"، تعني "بالمعنى" المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، و"بمعنى المعنى" أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفض بك ذلك المعنى إلى معنى آخر كالذي فسرت كل دلائل الإعجاز وإذا كان أصحاب نظرية السيادة قد اهتموا بالدول الذي تؤديه الكلمة أو العبارة في السيادة الذي ترد فيه فقد عرفوا المعنى بأنه حصيلة استعمال الكلمة في اللغة من حيث وضعها في السياقات مختلفة إلا أنهم بل إن بعضهم يكون قد بالغ حيث يذهب إلى أن لا معنى للكلمة خارج السياق قد اتهموا بالدور الذي تؤديه الكلمة أو العبارة في السياق الذي ترد فيه، فقد عرفوا المعنى بأنه حصيلة استعمال الكلمة في اللغة، من حيث وضعها في السياقات مختلفة، إلا أنهم بل إن بعضهم يكون قد بالغ حيث يذهب إلى أن لا معنى للكلمة خارج السياق، فيرى ستيفن أولمن Stephan Ullman في ذلك مبالغة، لأن للكلمات المفردة معاني ودلالات يتواضع عليها المتكلمون والسامعون، ثم ترون في تضاعيف المعاجم، ومع أن بعض معاني الكلمات يعتريها الغموض الشديد، فلا بد أن يكون لها معنى أو عدة معان مركزية ثابتة
ودراسة المعنى عند أصحاب نظرية السياق تتطلب تحليل مختلف السياقات والمواقف التي ترد فيها النصوص، حتى ما كان منها غير لغوي، وعليه اقترحوا تقسيما للسياق العام إلى السياقات جزئية هي:5
1- السياق اللغوي، وهو حصيلة استخدام مختلف العناصر اللغوية المشكلة للنص من مفردات في العلاقات بعضها ببعض فالمعنى الذي يقدمه المعجم لكلمة من الكلمات معنى عام يتصف بالاحتمال والتعدد أحيانا، في حين أن المعنى الذي يقدمه السياق اللغوي لتلك الكلمة هو معنى محدد معين، له خصائص وسمات محددة غير قابل للتعدد أو التعميم.
2- السياق العاطفي: وهو الذي يحدد طبيعة استعمال الكلمة أو العبارة بين دلالتها الموضوعية ودلالتها العاطفية، كما يحدد السياق العاطفي درجة الانفعال قوة وضعفا، فالمتكلم الذي يكون في حالة من الشعور الجامح، قد يغلوا استعمال ألفاظ وعبارات قد لا يقصد هو نفسه معناها الحقيقي الموضوعي، فتكون محملة بما اعتراه من انفعال واندفاع. وعادة ما تكون طريقة الأداء الكلامي (مسموع) الأقدر على إبراز درجة الانفعال فتنطق الكلمات وكأنها تحاكي معانيها المقصودة محاكاة حقيقية، كما لا يخفى ما يكون الإشارات والإيماءات المصاحبة من أهمية في إبراز تلك المعاني الانفعالية.
سياق الموقف: ويهتم بمراقبة العلاقات الزمانية والمكانية التي يحدث فيها الكلام، أو ما أطلق عليه علماء العربية القدامى "المقام" فقد يؤدي سياق الموقف بالمتكلم إلى أن يعدل عن استعمال كلمة أو عبارة خوفا أو تأدبا وإن كانت تنطبق على الحالة التي هو بصددها، كأن يعدل عن الحقيقة إلى المجاز و إلى التلميح دون التصريح.
إن دراسة النصوص في ضوء مراعاة المقام تتطلب من الباحث الإلمام المكاني بالمعطيات الاجتماعية التي يجري فيها الكلام ولذلك نلاحظ أنه عادة ما يمهد الآثار الأدبية بدراسة للبيئة الزمانية والمكانية وللملابسات الشخصية لما لهذه العناصر من أهمية في بلوغ المعاني المقصودة.
3- السياق الثقافي: وهو سياق جزئي، له ارتباط وثيق بسياق الموقف أو المقام، والسياق الثقافي يحدد الدلالات المقصودة من الكلمات عندما تستعمل استعمالات عامة.
فقد مختلف دلالة كلمة من حيث القيمة التعبيرية والتأثيرية عند الأشخاص الذي تختلف مستوياتهم الثقافية، فالكلمات ، الحرية والعدل والظلم، لها الدلالات عامة أصلية قد يشترك فيها جميع أفراد البيئة اللغوية الواحدة، ولكن لتلك الكلمات دلالات خاصة (أبعاد دلالية)يختلف أفراد البيئة اللغوية الواحدة في إدراك قيمتها وأبعادها بسبب ما تضيفه عليها الطبيعة الثقافية لكل فرد من إضافات وهوامش دلالية.
الهوامش
1-الجرجاني:دلائل الإعجاز,ص236-235
2-تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها265
3-صلاح حسنين:علم الدلالة,ص191
4-الطاهر بومزبر:التواصل اللساني والشعرية,ص35
5-أبو بكر العزاوي:اللغة والحجاج,ص48