كشف الشخصيات 6
) برتراند راسل
بقلم عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى من كتاب كواشف زيوف
https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4581
"برتراندرسل" وآراؤه الإلحادية
من هو "برتراندرسل"؟
هو فيلسوف إنكليزي ملحد معاصر .
وذو تأثير قوي في ميدان الدراسات الفلسفية .
عاش ما بين : (1873 – 1970م) .
وهو من أسرة ارستقراطية معروفة . كان جده رئيساً للوزارة الإنجليزية ، على مبدأ الأحرار .
وقد أثار حرباً شعواء ليظفر بحرية التجارة ، وبالتعليم العام المجاني ، وبتحرير طائفة اليهود .
كان "برتراندرسل" أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية .
كتب في مختلف مجالات الفكر الفلسفي ، وكتب في غيرها أيضاً ، وكان ذا نشاط تأليفي غير عادي ، وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وذيولها .
وهو ذو تطرف سياسي . ومتطرف جداً في إلحاده . وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة .
أثرت كتاباته السهلة على العامة ، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله .
استعراض لأهم آرائه وأفكاره وحركة فكره الفلسفية :
أولاً: سار في فلسفته ضمن أطوار ، من المثالية إلى الوضعية . وقد ركز اهتمامه أخيراً على المذهب الوضعي ، فصار يرى أن المعرفة تظل مستحيلة ما لم نستعن في محاولة الوصول إليها بمناهج الطبيعة .
وواقعية "رسل" قريبة من الواقعية الملاحظة في مذهب "هيوم" التجريبي .
وقد سيطر على فلسفته مذهب الشك ، حتى كاد الشك المطبق يخيم على جميع جوانب فلسفته .
وعلى الرغم من حدة ذكائه ، وسعة اطلاعه ، عجز عن أن يضع مذهباً فلسفياً متناسقاً ، يربط بين جميع آرائه ونظرياته ، وعجز أيضاً عن تحاشي الوقوع في التناقض ، إذ يلمس الباحث القارئ لكتبه ، ظاهرة التناقض جلية في بعض جوانب فلسفته .
لقد تبنى مواقف فكرية كان من سماتها التغير المتواصل ، فلم يكن يثبت عند موقف منها . وانتهى إلى الادعاء بأنه يستحيل إدراك الواقع خارج نطاق مناهج علوم الطبيعة ، فحصر المعرفة في العلوم الطبيعية وحدها ، ثمّ أخذ يتشكك حتى في قيمة تلك المعرفة ،وهو في ذلك يقول :
"حتى المعرفة التي تمدنا بها علوم الطبيعة لا تعدو أن تكون مجرد معرفة احتمالية".
ثانياً: رفض "رسل" مثالية "هيجل" كلها رفضاً قاطعأً ، وادعى أن العالم الواقع يتألف من مجرد معطيات حسية تترابط فيما بينها بواسطة علاقات منطقية صرفة . وزعم أن المادة وإن كان لها وجود واقعي ملموس ، فمن المستحيل إدراكها إدراكاً مباشراً.
ومضى "رسل" في بلورته لنظريته في المعرفة دون أن يخرج بها عن النظرية الأفلاطونية الكلاسيكية ، بيد أنه ينتهي فيما بعد إلى التسليم بعجزه عن تقديم حلول قاطعة لمشكلة المعرفة في جملتها ، نظراً إلى ما يكتنف تلك المحاولة في رأيه من صعوبات جمة ، فنراه يقترب من الموقف نفسه الذي انتهت إليه الوضعية قبله .
واعترف "رسل" بأن آراءه في علم النفس قد جاءت مغرقة في نزعتها المادية ، ومع ذلك فإنه لم يتبنَّ وجهة نظر مادية خالصة في هذا المجال .
ثالثاً: ذهب إلى اعتبار الإنسان جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة . وزعم أن العقل الإنساني خاضع للقوانين الطبيعية ، إذ اعتبرها متحكمة في جميع ضروب الفكر .
وزعم أن العلم الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا ، لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس .
وزعم أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة ، إذ لو كان الخلود هو المصير الذي ينتظر النفس بعد الموت ، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟ .
رابعاً : أفرط "برتراندرسل" إفراطاً شديداً في صب هجومه على الدين قائلاً:
" إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب ، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم . وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث .
خامساً: يرى "رسل" أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا ، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة ، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية ، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها .
وإذ زعم أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية ، فقد بدا له أن يقدم برهاناً على ذلك مثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير ، فقال : إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين ، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب .
وللتشجيع على الإباحية الجنسية ، زعم "رسل" أن القواعد الأخلاقية قد أخذت ترتكز اليوم شيئاً فشيئاً على تصورات خرافية باطلة . منها على سبيل المثال ما نشاهده من انحراف في سن التشريعات الأخلاقية الجنسية ، المتمثلة اتجاه المجتمعات الحديثة إلى تحريم جميع صور الزواج الجماعي ، وقصره على صورته الواحدية ، وفي استهجان الزنى ، ومحاربة الزانين .
وزعم أن السعادة التي هي الغاية التي يجب أن تطمح الإنسانية إليها ، لا سبيل إلى بلوغها إلا بقهر عوامل الخوف والإرهاب اللذين دأبت الأديان والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان ، وذلك بالوقوف في وجههما بفضائل الشجاعة والإقدام ، وتقويتهما عن طريق التربية ، وخلع الكمالات على الإنسان بالتحلي بشتى القيم...
سادساً: سئل "برتراندرسل" : هل يحيا الإنسان بعد الموت؟
فأجاب بالنفي ، وشرح جوابه بقوله :
"عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم ، وليس من خلال ضباب العاطفة ،نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت ، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي . ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت . لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب ، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم ، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا ، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية" .
سابعاً: كتب "رسل" قصة أدبية ، ذكر فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا ، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة ، بطريق المصادفة ، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون ، يعود به كل شيء إلى سديم ، كما كان أولاً .
وعلق الملحد "صادق جلال العظم" على هذه القصة الخيالية ، التي سماها قطعة أدبية جميلة فقال :
" هذا المقطع الذي كتبه "رسل" يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية : نشوء الكون وتطوره . نشوء الحياة وتطورها . أصل الإنسان ونشأته وتطوره . نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها . وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم ، ولا أمل لكائن بعدها بشيء ، إنه من السديم وإلى السديم يعود" .
ثامناً : ذكر "وحيد الدين خان" ، أنه قرأ كل أعمال "برتراندرسل" واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها .
إنه بعد أن درس الفيزياء ، وعلم الحياة ، وعلم النفس ، والمنطق الرياضي ، انتهى إلى أن "مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً". ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة .
ويقول بالنسبة إلى الفلسفة :
"تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة ، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى ".
ويقول "رسل":
"عن تصورنا العلمي للكون ، لا تدعمه حواسُّنا التجريبية ، بل هو عالم مستنبط كلياً ".
ويبلغ به الأمر إلى أن يقول :
" إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب".
أي : إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع .
وانتهى "رسل" أيضاً إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى ، ولذلك يجب أن تخضع "التجريبية" باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة . يقول هذا حتى في النظريات والقوانين العلمية .
ومع ذلك فإنه يختار لنفسه مذهب الإلحاد ، ويعتمد على افتراضات لا يمكن إخضاعها للتجربة بحال من الأحوال ، وذلك بالنسبة إلى نشأة الكون والحياة . ويرجح الداروينية مع أنها من وجهة نظره فكرة استنباطية لا تدعمها التجربة ، ولا تزيد على أنها فكرة في مخيلات أصحابها .
ويقول أيضاً:
" لقد وجدت معظم الفلاسفة قد أخطؤوا في فهم الشيء الذي يمكن استنباطه بالتجربة فحسب ، والشيء الذي لا يمكن استنباطه بالتجربة ".
ويقول أيضاً:
" لسوء حظنا لم تعد الطبيعة النظرية تحدثنا اليوم بالثقة الرائعة نفسها التي كانت تحدثنا بها في القرن السابع عشر . لقد كانت لأعمال "نيوتن" أربعة تخيلات أساسية ، هي : المكان ، والزمان ، والمادة ، والقوة .
وقد أصبحت هذه العناصر نسياً منسياً في علم الطبيعة الحديث. فقد كان الزمان والمكان من الأشياء الجامدة والمستقلة عند "نيوتن" والآن قد تمَّ تبديلهما بما يُسمى "المكان-الزمان" والذي لا يعتبر جوهرياً أساسياً ، وإنما هو نظام للروابط ، وأصبحت "المادة" شكلاً لسلسلة الوقائع ، وأصبحت "القوة" الآن "الطاقة" . والطاقة نفسها شيء لا يمكن فصله عن المادة الباقية . والسبب كان هو الشكل الفلسفي لما كان يسميه علماء الطبيعة بالقوة ، وقد أصبح هذا التصور قديماً ، إن لم أقل : إنه قد مات فعلاً ، إلا أن هذه الفكرة لم تعد قوية كما كانت من قبل" .
ويقول "رسل" أيضاً:
"إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره ، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً ، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".
ويقول أيضاً:
" إن العلوم تشمل كلا العالمين :الحقيقي والعالم المتخيّل وجوده . وكلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد ، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة ، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية يتم استنباطها بناءً على المشاهدة . والحقيقة أنه لا يمكن رفض مذهب الشك الكلي إطلاقاً ، إلا أنه مع ذلك يصعب قبول التشكيك الكلي في نفس الوقت".
ويقول أيضاً:
"إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية (في النظريات أو الآراء) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون بكثرة وبدون جدوى".
ونظراً إلى واقع حال "رسل" التائه عن الحقيقة ، استطاع البروفسور "ألان وود" أن يقرظه بقوله : "برتراندرسل فيلسوف بدون فلسفة".
يتبع
) برتراند راسل
بقلم عبد الرحمن حسن حبنكة الميدانى من كتاب كواشف زيوف
https://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=4581
"برتراندرسل" وآراؤه الإلحادية
من هو "برتراندرسل"؟
هو فيلسوف إنكليزي ملحد معاصر .
وذو تأثير قوي في ميدان الدراسات الفلسفية .
عاش ما بين : (1873 – 1970م) .
وهو من أسرة ارستقراطية معروفة . كان جده رئيساً للوزارة الإنجليزية ، على مبدأ الأحرار .
وقد أثار حرباً شعواء ليظفر بحرية التجارة ، وبالتعليم العام المجاني ، وبتحرير طائفة اليهود .
كان "برتراندرسل" أشهر الفلاسفة الذين عرفهم الفكر الفلسفي أثناء الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية .
كتب في مختلف مجالات الفكر الفلسفي ، وكتب في غيرها أيضاً ، وكان ذا نشاط تأليفي غير عادي ، وقد ظل صاحب الخطوة الأولى لدى الذين يطلقون على أنفسهم تقدميين من المثقفين المعاصرين الملاحدة في أوروبا وذيولها .
وهو ذو تطرف سياسي . ومتطرف جداً في إلحاده . وقد بسط أفكاره السياسية والإلحادية المتطرفة في كتابات أدبية مؤثرة .
أثرت كتاباته السهلة على العامة ، وأثرت كتاباته العميقة على الفكر الأوروبي المعاصر كله .
استعراض لأهم آرائه وأفكاره وحركة فكره الفلسفية :
أولاً: سار في فلسفته ضمن أطوار ، من المثالية إلى الوضعية . وقد ركز اهتمامه أخيراً على المذهب الوضعي ، فصار يرى أن المعرفة تظل مستحيلة ما لم نستعن في محاولة الوصول إليها بمناهج الطبيعة .
وواقعية "رسل" قريبة من الواقعية الملاحظة في مذهب "هيوم" التجريبي .
وقد سيطر على فلسفته مذهب الشك ، حتى كاد الشك المطبق يخيم على جميع جوانب فلسفته .
وعلى الرغم من حدة ذكائه ، وسعة اطلاعه ، عجز عن أن يضع مذهباً فلسفياً متناسقاً ، يربط بين جميع آرائه ونظرياته ، وعجز أيضاً عن تحاشي الوقوع في التناقض ، إذ يلمس الباحث القارئ لكتبه ، ظاهرة التناقض جلية في بعض جوانب فلسفته .
لقد تبنى مواقف فكرية كان من سماتها التغير المتواصل ، فلم يكن يثبت عند موقف منها . وانتهى إلى الادعاء بأنه يستحيل إدراك الواقع خارج نطاق مناهج علوم الطبيعة ، فحصر المعرفة في العلوم الطبيعية وحدها ، ثمّ أخذ يتشكك حتى في قيمة تلك المعرفة ،وهو في ذلك يقول :
"حتى المعرفة التي تمدنا بها علوم الطبيعة لا تعدو أن تكون مجرد معرفة احتمالية".
ثانياً: رفض "رسل" مثالية "هيجل" كلها رفضاً قاطعأً ، وادعى أن العالم الواقع يتألف من مجرد معطيات حسية تترابط فيما بينها بواسطة علاقات منطقية صرفة . وزعم أن المادة وإن كان لها وجود واقعي ملموس ، فمن المستحيل إدراكها إدراكاً مباشراً.
ومضى "رسل" في بلورته لنظريته في المعرفة دون أن يخرج بها عن النظرية الأفلاطونية الكلاسيكية ، بيد أنه ينتهي فيما بعد إلى التسليم بعجزه عن تقديم حلول قاطعة لمشكلة المعرفة في جملتها ، نظراً إلى ما يكتنف تلك المحاولة في رأيه من صعوبات جمة ، فنراه يقترب من الموقف نفسه الذي انتهت إليه الوضعية قبله .
واعترف "رسل" بأن آراءه في علم النفس قد جاءت مغرقة في نزعتها المادية ، ومع ذلك فإنه لم يتبنَّ وجهة نظر مادية خالصة في هذا المجال .
ثالثاً: ذهب إلى اعتبار الإنسان جزءاً لا قيمة له بين أجزاء الطبيعة . وزعم أن العقل الإنساني خاضع للقوانين الطبيعية ، إذ اعتبرها متحكمة في جميع ضروب الفكر .
وزعم أن العلم الذي يشكل المصدر الوحيد لمعرفتنا ، لا يمكن أن يفسح مجالاً للاعتقاد بوجود الله ، أو بخلود النفس .
وزعم أن فكرة الخلود فكرة بالغة البطلان والاستحالة ، إذ لو كان الخلود هو المصير الذي ينتظر النفس بعد الموت ، فما السبب إذن في عجز النفس عن أن تشغل لها حيزاً إلى جانب الجسد في هذه الحياة الدنيا؟ .
رابعاً : أفرط "برتراندرسل" إفراطاً شديداً في صب هجومه على الدين قائلاً:
" إن الدين لا يقوم إلا على عوامل الترهيب والتلويح بالعقاب ، وبالتالي فإن الدين يشكل ضرباً من ضروب الشر التي تملأ هذا العالم . وهذا هو السبب في أننا نجد أن أولئك الذين لم يبلغوا بعدُ درجة كافية من النضج الأخلاقي والعقلي هم وحدهم الذين ما زالوا يتمسكون بالمعايير الدينية التي تناهض بطبيعتها جميع المعايير الإنسانية الخيرة التي يجب أن تسود عالمنا الحديث .
خامساً: يرى "رسل" أن للإنسان إرادة حرة تدفعه إلى أن يقيم لنفسه في الحياة مثلاً عليا ، يطمح بها إلى تحقيق حياة خيرة ، تسير على هدى المعرفة والمحبة الإنسانية ، ومن شأن حرية الاختيار هذه أن تغني الإنسان عن البحث عن نظريات أخلاقية لا طائل وراءها .
وإذ زعم أنه لا جدوى للنظريات الأخلاقية التجريدية لضرورات الحياة العملية ، فقد بدا له أن يقدم برهاناً على ذلك مثال الأم التي تواجه مرض طفلها الصغير ، فقال : إن تلك الأم لا تحتاج في سعيها وراء شفاء طفلها إلى مشرعين أخلاقيين ، وإنما تحتاج إلى طبيب ماهر قادر على وصف العلاج المناسب .
وللتشجيع على الإباحية الجنسية ، زعم "رسل" أن القواعد الأخلاقية قد أخذت ترتكز اليوم شيئاً فشيئاً على تصورات خرافية باطلة . منها على سبيل المثال ما نشاهده من انحراف في سن التشريعات الأخلاقية الجنسية ، المتمثلة اتجاه المجتمعات الحديثة إلى تحريم جميع صور الزواج الجماعي ، وقصره على صورته الواحدية ، وفي استهجان الزنى ، ومحاربة الزانين .
وزعم أن السعادة التي هي الغاية التي يجب أن تطمح الإنسانية إليها ، لا سبيل إلى بلوغها إلا بقهر عوامل الخوف والإرهاب اللذين دأبت الأديان والشرائع الأخلاقية على التلويح بهما في وجه الإنسان ، وذلك بالوقوف في وجههما بفضائل الشجاعة والإقدام ، وتقويتهما عن طريق التربية ، وخلع الكمالات على الإنسان بالتحلي بشتى القيم...
سادساً: سئل "برتراندرسل" : هل يحيا الإنسان بعد الموت؟
فأجاب بالنفي ، وشرح جوابه بقوله :
"عندما ننظر إلى هذا السؤال من زاوية العلم ، وليس من خلال ضباب العاطفة ،نجد أنه من الصعب اكتشاف المبرر العقلي لاستمرار الحياة بعد الموت ، فالاعتقاد السائد بأننا نحيا بعد الموت يبدو لي بدون أي مرتكزٍ أو أساسٍ علمي . ولا أظن أنه يتسنى لمثل هذا الاعتقاد أن ينشأ وأن ينتشر لولا الصدى الانفعالي الذي يحدثه فينا الخوف من الموت . لا شك أن الاعتقاد بأننا سنلقى في العالم الآخر أولئك الذين نكن لهم الحب ، يعطينا أكبر العزاء عند موتهم ، ولكني لا أجد أي مبرر لافتراض أن الكون يهتم بآمالنا ورغباتنا ، فليس لنا أي حق في أن نطلب من الكون تكييف نفسه وفقاً لعواطفه وآمالنا ، ولا أحسب أن من الصواب والحكمة أن نعتنق آراء لا تستند إلى أدلة بينة وعلمية" .
سابعاً: كتب "رسل" قصة أدبية ، ذكر فيها أن السديم الحار دار عبثاً في الفضاء عصوراً لا تعد ولا تحصى دوراناً ذاتيا ، ثمّ نشأت عن هذا الدوران هذه الكائنات المنظمة البديعة ، بطريق المصادفة ، وأن اصطداماً كبيراً سيحدث في هذا الكون ، يعود به كل شيء إلى سديم ، كما كان أولاً .
وعلق الملحد "صادق جلال العظم" على هذه القصة الخيالية ، التي سماها قطعة أدبية جميلة فقال :
" هذا المقطع الذي كتبه "رسل" يلخص لنا بكل بساطة النظرة العلمية الطبيعية للقضايا التالية : نشوء الكون وتطوره . نشوء الحياة وتطورها . أصل الإنسان ونشأته وتطوره . نشوء الديانات والعبادات والطقوس وتطورها . وأخيراً يشدد على أن النهاية الحتمية لجميع الأشياء هي الفناء والعدم ، ولا أمل لكائن بعدها بشيء ، إنه من السديم وإلى السديم يعود" .
ثامناً : ذكر "وحيد الدين خان" ، أنه قرأ كل أعمال "برتراندرسل" واستطاع بعد قراءتها أن يلتقط من أقواله ما يكشف عن النهايات الفكرية التي انتهى إليها .
إنه بعد أن درس الفيزياء ، وعلم الحياة ، وعلم النفس ، والمنطق الرياضي ، انتهى إلى أن "مذهب التشكيك في الوجود مستحيل نفسياً". ومع ذلك فإن الإنسان عاجز عن أن يحيط إلا بأقل قدر من المعرفة .
ويقول بالنسبة إلى الفلسفة :
"تدعي الفلسفة منذ القدم ادعاءات كبيرة ، ولكن حصيلتها أقل بكثير بالنسبة إلى العلوم الأخرى ".
ويقول "رسل":
"عن تصورنا العلمي للكون ، لا تدعمه حواسُّنا التجريبية ، بل هو عالم مستنبط كلياً ".
ويبلغ به الأمر إلى أن يقول :
" إن أفكار الناس لا توجد إلا في مخيلاتهم فحسب".
أي : إن التجربة لا تستطيع أن تثبت مطابقة هذه الأفكار للواقع .
وانتهى "رسل" أيضاً إلى أن التجربة قد أعطيت لها الأهمية الكبرى ، ولذلك يجب أن تخضع "التجريبية" باعتبارها فلسفةً لتحديات مهمة . يقول هذا حتى في النظريات والقوانين العلمية .
ومع ذلك فإنه يختار لنفسه مذهب الإلحاد ، ويعتمد على افتراضات لا يمكن إخضاعها للتجربة بحال من الأحوال ، وذلك بالنسبة إلى نشأة الكون والحياة . ويرجح الداروينية مع أنها من وجهة نظره فكرة استنباطية لا تدعمها التجربة ، ولا تزيد على أنها فكرة في مخيلات أصحابها .
ويقول أيضاً:
" لقد وجدت معظم الفلاسفة قد أخطؤوا في فهم الشيء الذي يمكن استنباطه بالتجربة فحسب ، والشيء الذي لا يمكن استنباطه بالتجربة ".
ويقول أيضاً:
" لسوء حظنا لم تعد الطبيعة النظرية تحدثنا اليوم بالثقة الرائعة نفسها التي كانت تحدثنا بها في القرن السابع عشر . لقد كانت لأعمال "نيوتن" أربعة تخيلات أساسية ، هي : المكان ، والزمان ، والمادة ، والقوة .
وقد أصبحت هذه العناصر نسياً منسياً في علم الطبيعة الحديث. فقد كان الزمان والمكان من الأشياء الجامدة والمستقلة عند "نيوتن" والآن قد تمَّ تبديلهما بما يُسمى "المكان-الزمان" والذي لا يعتبر جوهرياً أساسياً ، وإنما هو نظام للروابط ، وأصبحت "المادة" شكلاً لسلسلة الوقائع ، وأصبحت "القوة" الآن "الطاقة" . والطاقة نفسها شيء لا يمكن فصله عن المادة الباقية . والسبب كان هو الشكل الفلسفي لما كان يسميه علماء الطبيعة بالقوة ، وقد أصبح هذا التصور قديماً ، إن لم أقل : إنه قد مات فعلاً ، إلا أن هذه الفكرة لم تعد قوية كما كانت من قبل" .
ويقول "رسل" أيضاً:
"إنه قد توصل بعد دراسات استنفدت كل عمره ، إلى أن الاستنباط الذي لا يمكن إيضاحه يعتبر أيضاً مقبولاً وجائزاً ، وعند رفض هذا النوع من الاستنباط سوف يصاب النظام الكامل للعلوم والحياة الإنسانية بالشلل".
ويقول أيضاً:
" إن العلوم تشمل كلا العالمين :الحقيقي والعالم المتخيّل وجوده . وكلما تقدم العلم ازداد فيه عنصر الاعتقاد ، فبعض الأشياء في العلوم حقائق مشاهدة ، ولكن الأشياء العليا تجريدات علمية يتم استنباطها بناءً على المشاهدة . والحقيقة أنه لا يمكن رفض مذهب الشك الكلي إطلاقاً ، إلا أنه مع ذلك يصعب قبول التشكيك الكلي في نفس الوقت".
ويقول أيضاً:
"إنه لا يمكن الادعاء بالقطعية (في النظريات أو الآراء) على النحو الذي سار عليه الفلاسفة المتسرعون بكثرة وبدون جدوى".
ونظراً إلى واقع حال "رسل" التائه عن الحقيقة ، استطاع البروفسور "ألان وود" أن يقرظه بقوله : "برتراندرسل فيلسوف بدون فلسفة".
يتبع
تعليق