يقول جلال كشك في كتابه ثورة يوليو الأمريكية – دار الثقافة الجديدة ط 3 - :
" كانت التقاليد المصرية العريقة تقضى بدفن الجثة بعد أربعين يوما، ولك هاهي رمة تاريخية مر عليها أربعون عاما ويرفض البعض أن نواريها التراب أو أن يفتح ملفها السري ليعرف المصريون سر ما حاق بدولتهم وأمتهم. سر هذه المعجزة- الكارثة التي غيرت خريطة الشرق الأوسط- وحسمت الصراع العربي الإسرائيلي فيما يبدو، وكأنه الهزيمة الشاملة لمصر والعرب والانتصار الإسرائيلي الساحق في حجمه وسهولته.. ولابد أن نواجه الحقيقة.. إن كان ثمة أمل في خلاص لابد أن نقول إن عبد الناصر كان ضرورة لقيام إمبراطورية إسرائيل، ولم يحدث أن تحقق خلال سبع عشرة سنة أن انهارت دولة وتألق خصمها مثلما حدث في عهد عبد الناصر بين مصر وإسرائيل.
إن الصراع بين مصر و إسرائيل لم يكن أبدا مجرد غضبة لحقوق الشعب الفلسطيني، و إن دار فترة على أرض فلسطين، إنما المواجهة الرئيسية بين مصر و إسرائيل كانت حول الشرق الأوسط، (...) وقد استطاع انقلاب يوليو أن يمنع الشعب المصري من القيام بمهمته التاريخية، وهي التصدي للاستعمار الإسرائيلي.(...)..
والآن بعد أربعين سنة تبدو النتيجة شديدة الوضوح غير قابلة للمكابرة. إسرائيل أقوى دولة في الشرق الأوسط، ومصر تراجعت إلى الدرجة الرابعة بعد أن تفوقت عليها إسرائيل وتركيا وإيران. (...) إسرائيل في رعاية الولايات المتحدة وبفص صدام التي أسقطت التكليف عن دول الخليج، تتفاوض من أجل التطبيع مع العرب كلهم وبلا أي تنازل من جانبها، بل لاقتسام ثروة وماء العرب، وأخذ حصة الأسد في أسواقهم. وما كان يمكن أن يتحقق ذلك إلا بفضل ثورة يوليو وما أفرخت من ثعابين! (...)
يقول جلال كشك في مكان آخر من نفس الكتاب أن إسرائيل لم تكن تبحث عن دولة بل عن قاعدة لإمبراطورية.
إنني أرجو القارئ أن يلاحظ أن تعبير الإمبراطورية الإسرائيلية ، والذي لا بد روع معجبي هيكل، فاعتبروه دليلا على نفاذ بصره وسعة بصيرته، هذا التعبير بحذافيره استعمله جلال كشك قبل هيكل بعشرين عاما على الأقل، أما محتواه ومضمونه فقد كان معروفا منذ الفراعنة، وأنه، قبل قيام دولة إسرائيل، كان هناك من يقول – لعله الشيخ مصطفي صبري- أنه طوال ألف و أربعمائة عام فإن المنطقة الممتدة من الصين إلى المغرب قد تعودت أن تعيش بعاصمة مركزية واحدة، و أنه يخشى أن تكون هذه العاصمة – بعد انهيار دولة الخلافة – دولة يهودية.
ولقد أدرك كل المفكرين الإسلاميين هذه الحقيقة..
وكان منهم أولئك المفكرون الذي شارك هيكل في إعدامهم.. وعلى رأسهم الشهيدين سيد قطب وعبد القادر عودة.
الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتد خارج العالم العربي ليست إذن اكتشافا عبقريا مذهلا لهيكل، وليست حتى سرا، إنما حقيقة جاهد هو أن يطمسها نصف قرن حتى لم يعد إلى طمسها سبيل فعاد ليطرحها بصورة أخرى.
بل إن هيكل نفسه يعترف أن ثورة 23 يوليو نفسها كانت جزءا من هذا التصور والتطور، تطور الإمبراطورية الأمريكية وفي بؤبؤ العين منها إسرائيل وكان هذا شديد الوضوح منذ البداية، وليس الأمر وضوحه فقط، بل وتم الاتفاق عليه، فلماذا أجل هيكل اكتشافه خمسين عاما ليبدو لنا مزهوا باكتشافه ضائقا بغبائنا.
لقد حاولت كثيرا يا قراء أن أنقل لكم وجهة نظر جلال كشك كاملة، لكن وجهة نظره تستعصي على التلخيص. لذلك أنتهز فرصة قيام الجميل بعرض فصل من فصول ثورة يوليو لأستعين به. وقد أورده الكاتب كدليل ليس على عدم مصداقية هيكل فقط، بل على تعمده التزوير..
يقول الجميل:
التاريخ البلاستيك: وقفة عند اتهامات كشك لهيكل..
كان هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب محمد جلال كشك الذي خصصه في الهجوم الصارخ على محمد حسنين هيكل.. وخص الفصل الأول في نقد كتاب "ملفات السويس" في طبعتيه العربية والإنجليزية، علما بأن عنوان الطبعة الإنجليزية للكتاب هو: "السويس قطع ذيل الأسد: نظرة مصرية". ويعد جلال كشك من أقسى المهاجمين الذين تعرضوا لهيكل ، فقد وصم كشك محمد حسنين هيكل بالكذب والتزوير والاستهتار والتهريج (المرجع نفسه، ص 37- 38)الكتاب بل ووصل في هجومه عليه ليصفه بالعمالة والخيانة والمأجورية والتجسس (المرجع نفسه، فصول الكتاب.
يقول الجميل أنه راجع بدقة مقارنات جلال كشك، و أنه يشهد بأنها كلها صحيحة..
ملحوظة: ولعل القارئ يذكر ما نشرته منذ شهور، عندما تعرضت لكون لإصلاح الزراعي هو فكرة أمريكية، ألح بها الرئيس الأمريكي روزفيلت على الملك فاروق منذ عام 1945. وساعدني صديقي الأستاذ محمد طاهر في كندا في العثور على نسخة من الطبعة الإنجليزية كي أتأكد بنفسي من تعمد هيكل للتدليس.. ولقد تأكدت!! انتهت الملحوظة.
نعود إلى سيار الجميل في قراءته لكتاب جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية:"
1. الطبعة العربية من كتاب " ملفات السويس "- يقول كشك- " هي التي سقطت منها وقائع وحقائق في غاية الأهمية، وأنها طالت بشقشقة اللسان والتهريج ببطولات كاذبة استحى هو أن يعرضها للقارئ الأجنبي، أو أخطر ناشرة الإنجليزي إلى حذفها تمسكا بشرف الكلمة، واحتراما لهذا القارئ الأجنبي.. الذي كان عند حسن ظنهما فاستقبل هذه الطبعة ببرود لم يجابه به أي كتاب لهيكل ذاته.
يكتب هيكل في الطبعة العربية من ملفات السويس عن مجموعة من الناشرين الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان واليابانيين يطالبونه بكتاب عن السويس.. وهذا ما كرره هيكل في مقدمة كتاب قصة السويس (بالعربية)، وسنراه يكرره في مقدمة كتاب حرب الخليج (بالعربية).. أما في الطبعة الإنجليزية، فلا نجد فيها هكذا كلام وادعاءات .. لماذا؟ إن ذلك ببساطة هو جزء من صناعة دعائية واضحة للمؤلف هيكل بنفسه عن نفسه لترويج نفسه عربيا.. وقد نجح كثيرا في مهمته هذه، إذ كان معظم القراء العرب وما زالوا يصدقون ما يكتبه هيكل وما يروجه عن نفسه بنفسه.
2. لقد سجل الناقد على هيكل بعد مقارنته بين الطبعتين من " الكتاب مسألة تشويه هيكل لوثيقة روزفلت والتي أرسلها إلي الملك فاروق، إذ حذف من الطبعة العربية جملة خطيرة جدا تقول: " واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح تقسيم الملكيات الكبيرة في مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها (وكلمة الفلاحين بالأحرف اللاتينية إذ ظهرت بشكلFellahin) ( ) السويس: قطع ذيل الأسد وقارن ذلك مع الطبعة العربية التي حذفت منها الفقرة كاملة، لا لسبب إلا لأن القارئ العربي سيعلم بأن مشروع الإصلاح الزراعي هو أصلا مطلب أمريكي منذ 13 فبراير / شباط 1945، أي قبل ثورة يوليو المصرية بسبع سنوات!
3. تشويه هيكل قضية الأمة العربية في صراعها الاستراتيجي ضد الصهيونية، واعتباره في النسخة الإنجليزية " قطع ذيل الأسد " بأن إسرائيل خاضت حربا ضد بريطانيا وعملاء بريطانيا من الحكام العرب وان الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد أبدا في الطبعة العربية الموسعة. أما هذا الكلام الذي كتبه هيكل، فما هو إلا تشويه متعمد لطبيعة الصراع المبدئي بين العرب والصهاينة.
4. وبصدد وحدة وادي النيل، نرى هيكل يقول في كتابه " قطع ذيل الأسد " (بالإنجليزية): " مسألة السودان أو ما يسمى بوحدة وادي النيل لعبت دورا هاما في مفاوضات ما بعد الحرب، فقد كان مفهوما أنها قضية عزيزة على قلب الملك فاروق، الأمر الذي لا يستطيع أحد من وزرائه تجاهله. لكن عندما اختفت الملكية أصبح الطريق سالكا للسودان لكي يستقل عن كل من مصر وبريطانيا " (قطع ذيل الأسد) إلا أن هذا الكلام ينافي الحقيقة التاريخية، فلقد صوت السودانيون بأغلبية ساحقة مع وحدة وادي النيل في أول انتخابات حرة تشهدها بلادهم. وأن أول خطاب أذاعه محمدنجيب بصوته كان موجها إلي: "إخواني أبناء وادي النيل ". وان البرلمان المصري على امتداد عهده شهد مشروعية وحدة وادي النيل (ثورة يوليو)..
5. ونشهد قراءة النص التالي في الطبعة الإنجليزية " قطع ذيل الأسد " والمفتقد من الطبعة العربية، إذ يقول: " كان ناصر وصحبه يتطلعون بأمل للأمريكيين، لم يكن عالم اتصال مباشر سابق مع الأمريكيين " (قطع ذيل..، ص 33). ونسأل أيضا: لماذا لم نجد هذه "المعلومة" فعلا في الطبعة العربية "ملفات السويس، وإذا لم يكن هناك ثمة اتصال مباشر سابق.. معنى ذلك أن هناك اتصال غير مباشر سابق! علما بأن هيكل نفسه كتب قبل عشر سنوات من نشره هذا الكلام، وبالذات في كتابه "قصة السويس "، أي في سنة 1976 كتب يقول: لم يكن هناك اتصال بين الثورة (1952) والولايات المتحدة قبل ليلة 23 يوليو " (قصة السويس، ص 68). في حين يغير النص في طبعة سنة 1986 المزيدة والمنقحة، ليقول: لم يكن لهم اتصال مباشر مع الأمريكيين (قطع ذيل الأسد، ص 33).
6. عندما يتحدث انتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا عن ذكرياته مع الملك فاروق وباشوات مصر.. فان هيكل يخفي النص كاملا في الطبعة العربية " ملفات السويس "، في حين ينشره كاملا في الطبعة الإنجليزية "قطع ذيل الأسد "، لماذا؟ لأن نص كلام إيدن يمتلأ بالكراهية للملك والاستصغار بمصطفى النحاس وتحذير ساسة مصر القدماء. إذ يقول انتوني ايدن بحكم معرفته بحكام مصر السابقين من طراز فاروق والنحاس، فان الثورة لم تفاجئه، وأنه طالما حذر السياسيين القدامى من اللعب بالنار بإثارة مشاعر الجماهير بالدعاية ، وكان واضحا أن هذا تحذير موجه للجدد أيضا " (قطع ذيل..، ص 64).
7. في الطبعة العربية، يكتب هيكل بأن الولايات المتحدة هي المتبنية لحلف بغداد، وكانت مصممة على ضم مصر إليه، ولكن بسبب مقاومة مصر قررت عزلها فترة حتى "تستبعد مصر وتأثيرها عن الموضوع كله حتى يستقر رأيها على ما سوف تفعله، وسوف تجد نفسها (أي: مصر في النهاية مرغمة على اللحاق بالآخرين، وإلا وجدت نفسها معزولة" (ملفات السويس، ص 360). أما في الطبعة الإنجليزية، فلقد أقتصر هيكل على أن يقول: " أكد الأمريكيون لعبد الناصر أنه لا نية لديهم في الانضمام لحلف بغداد " (قطع ذيل الأسد، ص71).
8. ثمة انتقادات ومقارنات وتعليقات وملاحظات دقيقة أخرى سيجدها القارئ في الفصل الأول الموسوم: التاريخ البلاستيك وهيكل في كتاب " ثورة يوليو.. " لمحمد جلال كشك، وجميعها صحيحة بعد مطابقة الطبعات العربية من "ملفات السويس " بالطبعة الإنجليزية من " قطع ذيل الأسد "
ويستطرد سيار الجميل:
وبرغم الأسلوب السياسي الذي هاجم فيه محمد جلال كشك عدوه اللدود محمد حسنين هيكل، واختلافي مع اللغة التي استخدمها كشك في هجومه على هيكل، في استخدام الأسلوب السياسي ضده، إلا أن في كتاب " ثورة يوليو الأمريكية.. " إدانات "واضحة ومقارنات صحيحة لا حصر لها في المعلومات التي سجلها المؤلف على كتب هيكل، وان كشك قد وثق جملة كبيرة من مقارناته التي سيستخدمها الباحثون في نقد هيكل بمتابعاتهم عنه مستقبلا.. علما بأن هيكل لم يرد حتى يومنا هذا على اتهامات كشك وغيره ، وهذا ما يضعف من كتابات الرجل، خصوصا وان الاتهامات لم تكن قليلة، فلقد بلغت عدد صفحات كتاب كشك (645) صفحة. ومن يقرأ كتاب محمد جلال كشك سيقف جائرا جدا ليست إزاء رجل اسمه محمد حسنين هيكل، بل إزاء جملة من الأسرار التاريخية في حياة العرب إبان النصف الثاني من القرن العشرين.. والتي اعتقد أن ألغازها ستحلها الأجيال العربية القادمة في القرن الحادي والعشرين.
" كانت التقاليد المصرية العريقة تقضى بدفن الجثة بعد أربعين يوما، ولك هاهي رمة تاريخية مر عليها أربعون عاما ويرفض البعض أن نواريها التراب أو أن يفتح ملفها السري ليعرف المصريون سر ما حاق بدولتهم وأمتهم. سر هذه المعجزة- الكارثة التي غيرت خريطة الشرق الأوسط- وحسمت الصراع العربي الإسرائيلي فيما يبدو، وكأنه الهزيمة الشاملة لمصر والعرب والانتصار الإسرائيلي الساحق في حجمه وسهولته.. ولابد أن نواجه الحقيقة.. إن كان ثمة أمل في خلاص لابد أن نقول إن عبد الناصر كان ضرورة لقيام إمبراطورية إسرائيل، ولم يحدث أن تحقق خلال سبع عشرة سنة أن انهارت دولة وتألق خصمها مثلما حدث في عهد عبد الناصر بين مصر وإسرائيل.
إن الصراع بين مصر و إسرائيل لم يكن أبدا مجرد غضبة لحقوق الشعب الفلسطيني، و إن دار فترة على أرض فلسطين، إنما المواجهة الرئيسية بين مصر و إسرائيل كانت حول الشرق الأوسط، (...) وقد استطاع انقلاب يوليو أن يمنع الشعب المصري من القيام بمهمته التاريخية، وهي التصدي للاستعمار الإسرائيلي.(...)..
والآن بعد أربعين سنة تبدو النتيجة شديدة الوضوح غير قابلة للمكابرة. إسرائيل أقوى دولة في الشرق الأوسط، ومصر تراجعت إلى الدرجة الرابعة بعد أن تفوقت عليها إسرائيل وتركيا وإيران. (...) إسرائيل في رعاية الولايات المتحدة وبفص صدام التي أسقطت التكليف عن دول الخليج، تتفاوض من أجل التطبيع مع العرب كلهم وبلا أي تنازل من جانبها، بل لاقتسام ثروة وماء العرب، وأخذ حصة الأسد في أسواقهم. وما كان يمكن أن يتحقق ذلك إلا بفضل ثورة يوليو وما أفرخت من ثعابين! (...)
***
يقول جلال كشك في مكان آخر من نفس الكتاب أن إسرائيل لم تكن تبحث عن دولة بل عن قاعدة لإمبراطورية.
***
إنني أرجو القارئ أن يلاحظ أن تعبير الإمبراطورية الإسرائيلية ، والذي لا بد روع معجبي هيكل، فاعتبروه دليلا على نفاذ بصره وسعة بصيرته، هذا التعبير بحذافيره استعمله جلال كشك قبل هيكل بعشرين عاما على الأقل، أما محتواه ومضمونه فقد كان معروفا منذ الفراعنة، وأنه، قبل قيام دولة إسرائيل، كان هناك من يقول – لعله الشيخ مصطفي صبري- أنه طوال ألف و أربعمائة عام فإن المنطقة الممتدة من الصين إلى المغرب قد تعودت أن تعيش بعاصمة مركزية واحدة، و أنه يخشى أن تكون هذه العاصمة – بعد انهيار دولة الخلافة – دولة يهودية.
ولقد أدرك كل المفكرين الإسلاميين هذه الحقيقة..
وكان منهم أولئك المفكرون الذي شارك هيكل في إعدامهم.. وعلى رأسهم الشهيدين سيد قطب وعبد القادر عودة.
الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتد خارج العالم العربي ليست إذن اكتشافا عبقريا مذهلا لهيكل، وليست حتى سرا، إنما حقيقة جاهد هو أن يطمسها نصف قرن حتى لم يعد إلى طمسها سبيل فعاد ليطرحها بصورة أخرى.
بل إن هيكل نفسه يعترف أن ثورة 23 يوليو نفسها كانت جزءا من هذا التصور والتطور، تطور الإمبراطورية الأمريكية وفي بؤبؤ العين منها إسرائيل وكان هذا شديد الوضوح منذ البداية، وليس الأمر وضوحه فقط، بل وتم الاتفاق عليه، فلماذا أجل هيكل اكتشافه خمسين عاما ليبدو لنا مزهوا باكتشافه ضائقا بغبائنا.
***
لقد حاولت كثيرا يا قراء أن أنقل لكم وجهة نظر جلال كشك كاملة، لكن وجهة نظره تستعصي على التلخيص. لذلك أنتهز فرصة قيام الجميل بعرض فصل من فصول ثورة يوليو لأستعين به. وقد أورده الكاتب كدليل ليس على عدم مصداقية هيكل فقط، بل على تعمده التزوير..
يقول الجميل:
التاريخ البلاستيك: وقفة عند اتهامات كشك لهيكل..
كان هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب محمد جلال كشك الذي خصصه في الهجوم الصارخ على محمد حسنين هيكل.. وخص الفصل الأول في نقد كتاب "ملفات السويس" في طبعتيه العربية والإنجليزية، علما بأن عنوان الطبعة الإنجليزية للكتاب هو: "السويس قطع ذيل الأسد: نظرة مصرية". ويعد جلال كشك من أقسى المهاجمين الذين تعرضوا لهيكل ، فقد وصم كشك محمد حسنين هيكل بالكذب والتزوير والاستهتار والتهريج (المرجع نفسه، ص 37- 38)الكتاب بل ووصل في هجومه عليه ليصفه بالعمالة والخيانة والمأجورية والتجسس (المرجع نفسه، فصول الكتاب.
يقول الجميل أنه راجع بدقة مقارنات جلال كشك، و أنه يشهد بأنها كلها صحيحة..
ملحوظة: ولعل القارئ يذكر ما نشرته منذ شهور، عندما تعرضت لكون لإصلاح الزراعي هو فكرة أمريكية، ألح بها الرئيس الأمريكي روزفيلت على الملك فاروق منذ عام 1945. وساعدني صديقي الأستاذ محمد طاهر في كندا في العثور على نسخة من الطبعة الإنجليزية كي أتأكد بنفسي من تعمد هيكل للتدليس.. ولقد تأكدت!! انتهت الملحوظة.
نعود إلى سيار الجميل في قراءته لكتاب جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية:"
1. الطبعة العربية من كتاب " ملفات السويس "- يقول كشك- " هي التي سقطت منها وقائع وحقائق في غاية الأهمية، وأنها طالت بشقشقة اللسان والتهريج ببطولات كاذبة استحى هو أن يعرضها للقارئ الأجنبي، أو أخطر ناشرة الإنجليزي إلى حذفها تمسكا بشرف الكلمة، واحتراما لهذا القارئ الأجنبي.. الذي كان عند حسن ظنهما فاستقبل هذه الطبعة ببرود لم يجابه به أي كتاب لهيكل ذاته.
يكتب هيكل في الطبعة العربية من ملفات السويس عن مجموعة من الناشرين الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان واليابانيين يطالبونه بكتاب عن السويس.. وهذا ما كرره هيكل في مقدمة كتاب قصة السويس (بالعربية)، وسنراه يكرره في مقدمة كتاب حرب الخليج (بالعربية).. أما في الطبعة الإنجليزية، فلا نجد فيها هكذا كلام وادعاءات .. لماذا؟ إن ذلك ببساطة هو جزء من صناعة دعائية واضحة للمؤلف هيكل بنفسه عن نفسه لترويج نفسه عربيا.. وقد نجح كثيرا في مهمته هذه، إذ كان معظم القراء العرب وما زالوا يصدقون ما يكتبه هيكل وما يروجه عن نفسه بنفسه.
2. لقد سجل الناقد على هيكل بعد مقارنته بين الطبعتين من " الكتاب مسألة تشويه هيكل لوثيقة روزفلت والتي أرسلها إلي الملك فاروق، إذ حذف من الطبعة العربية جملة خطيرة جدا تقول: " واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح تقسيم الملكيات الكبيرة في مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها (وكلمة الفلاحين بالأحرف اللاتينية إذ ظهرت بشكلFellahin) ( ) السويس: قطع ذيل الأسد وقارن ذلك مع الطبعة العربية التي حذفت منها الفقرة كاملة، لا لسبب إلا لأن القارئ العربي سيعلم بأن مشروع الإصلاح الزراعي هو أصلا مطلب أمريكي منذ 13 فبراير / شباط 1945، أي قبل ثورة يوليو المصرية بسبع سنوات!
3. تشويه هيكل قضية الأمة العربية في صراعها الاستراتيجي ضد الصهيونية، واعتباره في النسخة الإنجليزية " قطع ذيل الأسد " بأن إسرائيل خاضت حربا ضد بريطانيا وعملاء بريطانيا من الحكام العرب وان الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد أبدا في الطبعة العربية الموسعة. أما هذا الكلام الذي كتبه هيكل، فما هو إلا تشويه متعمد لطبيعة الصراع المبدئي بين العرب والصهاينة.
4. وبصدد وحدة وادي النيل، نرى هيكل يقول في كتابه " قطع ذيل الأسد " (بالإنجليزية): " مسألة السودان أو ما يسمى بوحدة وادي النيل لعبت دورا هاما في مفاوضات ما بعد الحرب، فقد كان مفهوما أنها قضية عزيزة على قلب الملك فاروق، الأمر الذي لا يستطيع أحد من وزرائه تجاهله. لكن عندما اختفت الملكية أصبح الطريق سالكا للسودان لكي يستقل عن كل من مصر وبريطانيا " (قطع ذيل الأسد) إلا أن هذا الكلام ينافي الحقيقة التاريخية، فلقد صوت السودانيون بأغلبية ساحقة مع وحدة وادي النيل في أول انتخابات حرة تشهدها بلادهم. وأن أول خطاب أذاعه محمدنجيب بصوته كان موجها إلي: "إخواني أبناء وادي النيل ". وان البرلمان المصري على امتداد عهده شهد مشروعية وحدة وادي النيل (ثورة يوليو)..
5. ونشهد قراءة النص التالي في الطبعة الإنجليزية " قطع ذيل الأسد " والمفتقد من الطبعة العربية، إذ يقول: " كان ناصر وصحبه يتطلعون بأمل للأمريكيين، لم يكن عالم اتصال مباشر سابق مع الأمريكيين " (قطع ذيل..، ص 33). ونسأل أيضا: لماذا لم نجد هذه "المعلومة" فعلا في الطبعة العربية "ملفات السويس، وإذا لم يكن هناك ثمة اتصال مباشر سابق.. معنى ذلك أن هناك اتصال غير مباشر سابق! علما بأن هيكل نفسه كتب قبل عشر سنوات من نشره هذا الكلام، وبالذات في كتابه "قصة السويس "، أي في سنة 1976 كتب يقول: لم يكن هناك اتصال بين الثورة (1952) والولايات المتحدة قبل ليلة 23 يوليو " (قصة السويس، ص 68). في حين يغير النص في طبعة سنة 1986 المزيدة والمنقحة، ليقول: لم يكن لهم اتصال مباشر مع الأمريكيين (قطع ذيل الأسد، ص 33).
6. عندما يتحدث انتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا عن ذكرياته مع الملك فاروق وباشوات مصر.. فان هيكل يخفي النص كاملا في الطبعة العربية " ملفات السويس "، في حين ينشره كاملا في الطبعة الإنجليزية "قطع ذيل الأسد "، لماذا؟ لأن نص كلام إيدن يمتلأ بالكراهية للملك والاستصغار بمصطفى النحاس وتحذير ساسة مصر القدماء. إذ يقول انتوني ايدن بحكم معرفته بحكام مصر السابقين من طراز فاروق والنحاس، فان الثورة لم تفاجئه، وأنه طالما حذر السياسيين القدامى من اللعب بالنار بإثارة مشاعر الجماهير بالدعاية ، وكان واضحا أن هذا تحذير موجه للجدد أيضا " (قطع ذيل..، ص 64).
7. في الطبعة العربية، يكتب هيكل بأن الولايات المتحدة هي المتبنية لحلف بغداد، وكانت مصممة على ضم مصر إليه، ولكن بسبب مقاومة مصر قررت عزلها فترة حتى "تستبعد مصر وتأثيرها عن الموضوع كله حتى يستقر رأيها على ما سوف تفعله، وسوف تجد نفسها (أي: مصر في النهاية مرغمة على اللحاق بالآخرين، وإلا وجدت نفسها معزولة" (ملفات السويس، ص 360). أما في الطبعة الإنجليزية، فلقد أقتصر هيكل على أن يقول: " أكد الأمريكيون لعبد الناصر أنه لا نية لديهم في الانضمام لحلف بغداد " (قطع ذيل الأسد، ص71).
8. ثمة انتقادات ومقارنات وتعليقات وملاحظات دقيقة أخرى سيجدها القارئ في الفصل الأول الموسوم: التاريخ البلاستيك وهيكل في كتاب " ثورة يوليو.. " لمحمد جلال كشك، وجميعها صحيحة بعد مطابقة الطبعات العربية من "ملفات السويس " بالطبعة الإنجليزية من " قطع ذيل الأسد "
ويستطرد سيار الجميل:
وبرغم الأسلوب السياسي الذي هاجم فيه محمد جلال كشك عدوه اللدود محمد حسنين هيكل، واختلافي مع اللغة التي استخدمها كشك في هجومه على هيكل، في استخدام الأسلوب السياسي ضده، إلا أن في كتاب " ثورة يوليو الأمريكية.. " إدانات "واضحة ومقارنات صحيحة لا حصر لها في المعلومات التي سجلها المؤلف على كتب هيكل، وان كشك قد وثق جملة كبيرة من مقارناته التي سيستخدمها الباحثون في نقد هيكل بمتابعاتهم عنه مستقبلا.. علما بأن هيكل لم يرد حتى يومنا هذا على اتهامات كشك وغيره ، وهذا ما يضعف من كتابات الرجل، خصوصا وان الاتهامات لم تكن قليلة، فلقد بلغت عدد صفحات كتاب كشك (645) صفحة. ومن يقرأ كتاب محمد جلال كشك سيقف جائرا جدا ليست إزاء رجل اسمه محمد حسنين هيكل، بل إزاء جملة من الأسرار التاريخية في حياة العرب إبان النصف الثاني من القرن العشرين.. والتي اعتقد أن ألغازها ستحلها الأجيال العربية القادمة في القرن الحادي والعشرين.
***
تعليق