السـلام عليكم
بعيدا عن الإشكـالات الفلسفية و الجدلية التي ترتبط بمفهوم الوعـي في عـلاقتـه بالواقع ، يكون من الأهميـة بمكـان الحديث عنـه بصفتـه نَسـقـاً فكريا متراكمـا عبر الزمن يشغـل مجـالا حـاسمـا في التعـامـل مع قضـايا الواقع السياسي و الاجتمـاعي ، علـى هـذا الشكل نكون قد وضعنـا معركـة الوعـي في سياقـه الواقعي بصفته تكوينـا شَبَكـاتــيا من نظـامِ المعـارف تتحدَّد به المواقف و التصورات و مُجمل اعتبارات بنـاء الرأي تُجـاهَ المُشكـلات المطروحـة و ليس بصفتـه موضوعـا إشـكـاليا غـارقا في جدليات الواقع و المـادة .
لا تكمن خُطورة الوعـي في اعتباره المُوجِّـهَ الرئيس لكيفية التصرف في الوضعيات المتعددة فقط ، و إنمـا أيضـا في كونـه "الإطـار" القادر علـى صنـاعـة تحولات غـائرة علـى خرائط العقل البشري و في كونـه الخصم اللدود لكل أشكـال الانحـلالات السياسية و الأخـلاقية و الإيديولوجية ، لذلك ليس أمـرا غريبـا أن تُخَـاضَ معـارك مضمورة ضد تشكـيل حـاسـة الوعـي و توضعُ علـى أنقاضـه مُخططـاتٌ و برامجَ يُـرادُ منهـا تشتيتـه و تشويهه و كبح تكوينـه ، فالرهان صـار يدور حول مشروعـات تدمير الوعـي الإنـسانـي و تفريغـه من كـل المسؤوليات و الرسـالات النبيلـة و تقييد حركتـه علـى الواقع بالشكـل الذي يُسهِّـلُ عملية التحكم فيه عن بُعـد ، فالنجـاحُ في تأبيد الجهـل بالذات و تغييب الوعـي عن المجتمـع يعنـي ببسـاطـة استمـرار مُسلسل التخلف الاجتمـاعي و الاقتصادي و السياسي و ضرب إحدى مُؤَسِّسـات التغيير الفاعـل و إشـاعـة الأنـانيات المُخـربـة لأفق الجمـاعـة ، لذلك يُمـثل الوعي – بوصفـه منظومـة مقاومـة – إحدى واجهـات المعـركـة الطويلـة ضد كـل مظـاهـر الجمـود التي تلغي وظيفـة العقل و تُحـنِّـطُ الذات بقيود العجز و السلبية القاتلـة و تُحـوِّلـه إلـى كِيـان بلا قيمـة إنسانية .
إن امتـلاك هـذا السلاح الغـائي ليس إلا شكـلا من أشكـال تحرر الذات من سلطـة الاستبداد السياسي و من مختلف تجلياتـه علـى واقع المجتمع إذ يصير بذاك التعريف نقيضـا لكل نزعـة سكونـية استقالت من مَهـام تغيير المنكر علـى اختـلاف ألوانـه و مجـالاتـه ، فهو وعـي حركـي حي يروم تغييرَ البنيات الذهنية المتكلسـة و إصلاحَ مسارات التوجـه الاجتمـاعي و إزالةَ الغَبـش عن أصول الفسـاد و بعثَ الإحـساس بالمسؤولية و الأمـانـةِ . إن هـذه المقتضيـات هي جزء لا تتجزأ من رسـالـة أي إنسـان لكنهـا طُمِرَت بفعـل تراكمـات مصنوعـة من مواد تُبـلِّــدُ العقل و تُغلـفـهُ برداء اللاوعي ، طُمِـرت بعد سلسلـة لامتنـاهية من البرامج المُخدِّرَة للذات فأثمرت جُزُراً عقلية متنـافرة تتحكم فيهـا نزوة "الأنـا" المطلق و أوجدتْ سيـاقـا اجتمـاعيا مفصولا عن القيم الجمـاعية التي تُعـلي من قَدر المجموع .
لقد كان من الطبيعي جدا أن تـنتشر قوى الخمول و تسودَ ثقافـة الانبطـاح للواقعية السلبية و تنحـلّ عُـرى الترابط الاجتمـاعي نظـراً لـطولِ المرحلـة الاستبدادية في العـالـم الإسلامي و العربي و مـا أنتجتـهُ من أوبئـة فكريـة أصابت حـاسـة الوعي في صميمـها ، و لِأنّ بناء الوعي الجمـاعي فلسفةُ حيــاةٍ مُستنـدةٍ لمرجعية كلية تـمر عبر قنوات و مخططـات رسميـة و غير رسميـة فإن إعـادة صيـاغتـه يتطلب استِدامةَ النـظرِ في طـبائع الأصول التـي أودت بالمجتمعـات إلـى الانحدار نحو الشلل الفكري و الانحراف السلوكي لكي نفهمَ كيف يصير اللاوعـي عنوانـا للتخلف ، لـكن ، كيف ذلك و قد تدهورت الأوضـاع السياسية و الاجتمـاعية و الاقتصادية و الدينية و تفككت قيم المجتمعـات في عـالمنـا الإسلامي و العربي و انتهت إلى حـالات من التشظي الذي أنتجَ كـلّ مظـاهر "الأنـا" و التسلط و كل أشكـال الانفراد بالسلطـة ؟
إنّ حديثَنـا عن الوعـي ليس حديثـا إطـلاقيا منسوبـا إلـى الإنسـان بلا تقييد ، إنمـا هـو وعي في إطـار نسقٍ معرفيٍّ مُحدّد لأن الوعي الإنسـانيَّ في عمومـه و إنْ كـان يُكسِبُ صـاحبَـه معنـًى خـاصا من الانضبـاط و حُسنِ التصرف و القدرة علـى إدارة الحيـاة الشخصية بِحكمةٍ إلا أنـهُ في المحصلـة لا يمكن لـه أن يُعــبِّــرَ عن الطبيعـة الحقيقيـة للإنسـان المُرَكَّبـة من ثنـائية الروح و المـادة باعتبار أن الوعيَ مبـنِـيٌّ علـى أساس فلسفـةٍ لهـا مرجعية توجيهية مـادية، لذلـك كـان هـذا الوعيُ وعيـاً بالذات في بعض أجزائه و ليس وعيـا كُلِّـيـا بـه ، فضـلا عن كونـه وعـيا انشطـاريـا يُفَرِّقُ بين الالتزام و الحريـة الشخصيـة ، فقد نـجدُ الشخصَ الواعـي مُدرِكـاً لواجباتـه و مسؤولياتـه تُجـاه الآخرين مُلتزِمـاً بالقوانين العـامـة و الأعـراف السـائدة ، لكنـهُ يتعـاطـى مـع مسألـة الحريـة بنزعـة فردانية مفرطـة تُتــيحُ لـه التصرف في الذات تصرفـا لا أخـلاقيا ، لذلـك نرى بأنه ليس هنـاك وعي إنسـانيٌّ إلا في حدود مرجعياتـه التـي تبنـي في الإنسـان نمطَ الوعي الخاص، و من ثم يُصبِحُ الحديث عن الوعـي الإنسـانـي- بمـا هو منظومـة حقوق و واجبـات "كونية"- تبريرا فلسفيا لنزعـة التنميط الثقافي التـي تستهدفُ نـمْـذَجَــةَ العقل و إحـلالَ المطلق العـام محـل النسبي الخـاص ، و عليه لا يمكن فصـل قضيـة الوعي عن قضيـة الهويـة التـي تمنحُه مجـالات التصرف لأنـهُ ببساطـة يُمـثِّـلُ ترجمةً ذهنية مُتسـاوٍقـة مـع الهويـة كوِعـاء للوعـي المُكوَّن و لأن الوعـي إنمـا هو " قدرة الذات علـى امتـلاك هويتهـا الخـاصـة ضمن لفيفٍ من الهويات الأخرى " حسب تعبير عباس أمير .
بيد أن هـذا الوعي ليس مُعطـىً جـاهـزا أو عبارة عن "وجبة" فكريـة تُعِدُّهُ جهـاتٌ محددة ، و إنمـا هو حصيلة تراكمـات عبر الزمن يتفاعـلُ فيه العقل مع الواقع تفاعـلَ تأثير و تأثـر مُهتدِيــاً بالموروثـات و المكتسبـات فترسمُ في الذات وعيـاً خـاصـا تُحدَّدُ به سلسلـةُ المواقف العقلية و الوِجدانية حُيـال الآخرين ، فالأطرافُ التي تصنعُ خريطـة الوعـي لا يمكن إسنـادهـا إلـى عـامـل واحد و لا يمكن حصرهـا في أبعـادٍ بعينهـا لأن الوعـي في نهـاية المطـاف نتيجـةٌ ، و النتيجـة هي حتمـا حصيلـةُ تفاعـلات لمجموعـة من الأجنـاس المختلفة من حيث التكوين . و علـى هـذا الأســاس يمكن القول بأن كــلاّ من المجتمع – بطبقاتـه الفكرية و رموزه السياسية و مؤسساته المدنية – و الدولـة ( بأجهـزتـهـا و أدواتهـا الأخطبوتية و مؤسساتهـا التربوية ) والدين – بقيمـه و مبادئـه الوجودية – هم المسؤولون في المقام الأول عن بلورة نمطَ الوعي المُكوَّن و هم المُحدِّدون لتركيبة الوعي لأن الدين و المجتمع و الدولة تُمثل "أقـانيمَ" يتأثـر بهـا أي شخص فيحمـل في وعيـه آثارهـا التـي تتطور لتصيرَ سلطة ذهنية آسِـرَة . هـذا يعنـي أن التدهـور الحـاصل في فهـم الدين و في تشكيلات الدولـة و وظيفتهـا يُنتِجُ بيئــة فاسدةً تنعكسُ عبر الزمـن علـى تصورات الإنسـان فتؤثِّـرُ علـى سلوكـه و أفعـالـه و تدفعـهُ إلـى فقدان معنـى رسالتـه و هدفـه في الحياة .
لقـد كـانت صنـاعـة الوعي فيمـا مـضى من نصيبِ الدين و المجتمـع حيث كـان الأخير بمعية الأول طريقـا للتهذيب و تبصرة الفكر و النفس بفعـل تمتــعهـا باستقلالية كبيرة عن سلطـة الدولـة نتيجـةَ محدوديـة صلاحياتهـا ، لكنـهُ (أي الوعي) الآن صـارَ محصلةَ مجموعِ السياسات الرسمية التي مست مفاصل المجتمع و خربت قيمـه الموروثـة عبر التـاريخ ، فانهيـار العقل الجماعي للأمـة و انحطـاط تفكيرهـا و سيادة أسلوب التواكـل و انتشار الأمية و غيرهـا ليسوا إلا تجليـات لأزمـة الوعي التي صُنِعت عبر عدة وسائط و قنواتٍ قتلت روح الأمـل في الإنـسان و بلَّدت تفكيره و حجَبتْـهُ من الارتقاء نحو فضاءات المعـرفـة . عمـودُ تلك الوسـائط منظومـةُ تعليمٍ مترديةٍ في عـالمنـا الإسلامي و سياساتُ دولٍ فاشلـة في ميدان تخليق المؤسسات و تحقيقِ تنميةٍ تُوفِّـرُ للنـاس حدا أدنـى من العيش الكريم ، فضـلا عن اهتراء المكونـات السياسية و غلبـةِ منطق الارتزاق و المنفعـة الأنـانية فيهـا و تجمُّـد العمل السياسي في حدود الترويج لخطـابات تعبوية موسمية خـادعـة تفتقر للمصداقية و الفاعلية...فعندمـا تتخـلـى هـذه الكيانـات السياسية عن وظـائفهـا في الرفـع من مستوى التفكير و تتعاطـى أفيونـات المواسم الإنتـخـابوية بتخدير النـاس بالوعـود و إغراقهم في أحـلامٍ راكدةٍ، و عندمـا تشهـد الكيانـات الجمعوية استقالات جمـاعية من سـاحـة الفكر و انزواء مُعظمهـا في أقفـاص الخمـول و السبات الطويل و تتحولُ إلـى مقاولات رِبحيـة تُحركهـا دوافع المنفعـة المـادية آنـذاك لا يسعُ اللبيبَ إلا التبشير بعـالم الغثائيـات التـي تُعـبِّــرُ عن انهيـارٍ سحيقٍ لحـاسـة الوعـي و حلولٍ للنزعـات الفوضوية و العبثية في مجتمـعـاتنـا ككل .
بعيدا عن الإشكـالات الفلسفية و الجدلية التي ترتبط بمفهوم الوعـي في عـلاقتـه بالواقع ، يكون من الأهميـة بمكـان الحديث عنـه بصفتـه نَسـقـاً فكريا متراكمـا عبر الزمن يشغـل مجـالا حـاسمـا في التعـامـل مع قضـايا الواقع السياسي و الاجتمـاعي ، علـى هـذا الشكل نكون قد وضعنـا معركـة الوعـي في سياقـه الواقعي بصفته تكوينـا شَبَكـاتــيا من نظـامِ المعـارف تتحدَّد به المواقف و التصورات و مُجمل اعتبارات بنـاء الرأي تُجـاهَ المُشكـلات المطروحـة و ليس بصفتـه موضوعـا إشـكـاليا غـارقا في جدليات الواقع و المـادة .
لا تكمن خُطورة الوعـي في اعتباره المُوجِّـهَ الرئيس لكيفية التصرف في الوضعيات المتعددة فقط ، و إنمـا أيضـا في كونـه "الإطـار" القادر علـى صنـاعـة تحولات غـائرة علـى خرائط العقل البشري و في كونـه الخصم اللدود لكل أشكـال الانحـلالات السياسية و الأخـلاقية و الإيديولوجية ، لذلك ليس أمـرا غريبـا أن تُخَـاضَ معـارك مضمورة ضد تشكـيل حـاسـة الوعـي و توضعُ علـى أنقاضـه مُخططـاتٌ و برامجَ يُـرادُ منهـا تشتيتـه و تشويهه و كبح تكوينـه ، فالرهان صـار يدور حول مشروعـات تدمير الوعـي الإنـسانـي و تفريغـه من كـل المسؤوليات و الرسـالات النبيلـة و تقييد حركتـه علـى الواقع بالشكـل الذي يُسهِّـلُ عملية التحكم فيه عن بُعـد ، فالنجـاحُ في تأبيد الجهـل بالذات و تغييب الوعـي عن المجتمـع يعنـي ببسـاطـة استمـرار مُسلسل التخلف الاجتمـاعي و الاقتصادي و السياسي و ضرب إحدى مُؤَسِّسـات التغيير الفاعـل و إشـاعـة الأنـانيات المُخـربـة لأفق الجمـاعـة ، لذلك يُمـثل الوعي – بوصفـه منظومـة مقاومـة – إحدى واجهـات المعـركـة الطويلـة ضد كـل مظـاهـر الجمـود التي تلغي وظيفـة العقل و تُحـنِّـطُ الذات بقيود العجز و السلبية القاتلـة و تُحـوِّلـه إلـى كِيـان بلا قيمـة إنسانية .
إن امتـلاك هـذا السلاح الغـائي ليس إلا شكـلا من أشكـال تحرر الذات من سلطـة الاستبداد السياسي و من مختلف تجلياتـه علـى واقع المجتمع إذ يصير بذاك التعريف نقيضـا لكل نزعـة سكونـية استقالت من مَهـام تغيير المنكر علـى اختـلاف ألوانـه و مجـالاتـه ، فهو وعـي حركـي حي يروم تغييرَ البنيات الذهنية المتكلسـة و إصلاحَ مسارات التوجـه الاجتمـاعي و إزالةَ الغَبـش عن أصول الفسـاد و بعثَ الإحـساس بالمسؤولية و الأمـانـةِ . إن هـذه المقتضيـات هي جزء لا تتجزأ من رسـالـة أي إنسـان لكنهـا طُمِرَت بفعـل تراكمـات مصنوعـة من مواد تُبـلِّــدُ العقل و تُغلـفـهُ برداء اللاوعي ، طُمِـرت بعد سلسلـة لامتنـاهية من البرامج المُخدِّرَة للذات فأثمرت جُزُراً عقلية متنـافرة تتحكم فيهـا نزوة "الأنـا" المطلق و أوجدتْ سيـاقـا اجتمـاعيا مفصولا عن القيم الجمـاعية التي تُعـلي من قَدر المجموع .
لقد كان من الطبيعي جدا أن تـنتشر قوى الخمول و تسودَ ثقافـة الانبطـاح للواقعية السلبية و تنحـلّ عُـرى الترابط الاجتمـاعي نظـراً لـطولِ المرحلـة الاستبدادية في العـالـم الإسلامي و العربي و مـا أنتجتـهُ من أوبئـة فكريـة أصابت حـاسـة الوعي في صميمـها ، و لِأنّ بناء الوعي الجمـاعي فلسفةُ حيــاةٍ مُستنـدةٍ لمرجعية كلية تـمر عبر قنوات و مخططـات رسميـة و غير رسميـة فإن إعـادة صيـاغتـه يتطلب استِدامةَ النـظرِ في طـبائع الأصول التـي أودت بالمجتمعـات إلـى الانحدار نحو الشلل الفكري و الانحراف السلوكي لكي نفهمَ كيف يصير اللاوعـي عنوانـا للتخلف ، لـكن ، كيف ذلك و قد تدهورت الأوضـاع السياسية و الاجتمـاعية و الاقتصادية و الدينية و تفككت قيم المجتمعـات في عـالمنـا الإسلامي و العربي و انتهت إلى حـالات من التشظي الذي أنتجَ كـلّ مظـاهر "الأنـا" و التسلط و كل أشكـال الانفراد بالسلطـة ؟
إنّ حديثَنـا عن الوعـي ليس حديثـا إطـلاقيا منسوبـا إلـى الإنسـان بلا تقييد ، إنمـا هـو وعي في إطـار نسقٍ معرفيٍّ مُحدّد لأن الوعي الإنسـانيَّ في عمومـه و إنْ كـان يُكسِبُ صـاحبَـه معنـًى خـاصا من الانضبـاط و حُسنِ التصرف و القدرة علـى إدارة الحيـاة الشخصية بِحكمةٍ إلا أنـهُ في المحصلـة لا يمكن لـه أن يُعــبِّــرَ عن الطبيعـة الحقيقيـة للإنسـان المُرَكَّبـة من ثنـائية الروح و المـادة باعتبار أن الوعيَ مبـنِـيٌّ علـى أساس فلسفـةٍ لهـا مرجعية توجيهية مـادية، لذلـك كـان هـذا الوعيُ وعيـاً بالذات في بعض أجزائه و ليس وعيـا كُلِّـيـا بـه ، فضـلا عن كونـه وعـيا انشطـاريـا يُفَرِّقُ بين الالتزام و الحريـة الشخصيـة ، فقد نـجدُ الشخصَ الواعـي مُدرِكـاً لواجباتـه و مسؤولياتـه تُجـاه الآخرين مُلتزِمـاً بالقوانين العـامـة و الأعـراف السـائدة ، لكنـهُ يتعـاطـى مـع مسألـة الحريـة بنزعـة فردانية مفرطـة تُتــيحُ لـه التصرف في الذات تصرفـا لا أخـلاقيا ، لذلـك نرى بأنه ليس هنـاك وعي إنسـانيٌّ إلا في حدود مرجعياتـه التـي تبنـي في الإنسـان نمطَ الوعي الخاص، و من ثم يُصبِحُ الحديث عن الوعـي الإنسـانـي- بمـا هو منظومـة حقوق و واجبـات "كونية"- تبريرا فلسفيا لنزعـة التنميط الثقافي التـي تستهدفُ نـمْـذَجَــةَ العقل و إحـلالَ المطلق العـام محـل النسبي الخـاص ، و عليه لا يمكن فصـل قضيـة الوعي عن قضيـة الهويـة التـي تمنحُه مجـالات التصرف لأنـهُ ببساطـة يُمـثِّـلُ ترجمةً ذهنية مُتسـاوٍقـة مـع الهويـة كوِعـاء للوعـي المُكوَّن و لأن الوعـي إنمـا هو " قدرة الذات علـى امتـلاك هويتهـا الخـاصـة ضمن لفيفٍ من الهويات الأخرى " حسب تعبير عباس أمير .
بيد أن هـذا الوعي ليس مُعطـىً جـاهـزا أو عبارة عن "وجبة" فكريـة تُعِدُّهُ جهـاتٌ محددة ، و إنمـا هو حصيلة تراكمـات عبر الزمن يتفاعـلُ فيه العقل مع الواقع تفاعـلَ تأثير و تأثـر مُهتدِيــاً بالموروثـات و المكتسبـات فترسمُ في الذات وعيـاً خـاصـا تُحدَّدُ به سلسلـةُ المواقف العقلية و الوِجدانية حُيـال الآخرين ، فالأطرافُ التي تصنعُ خريطـة الوعـي لا يمكن إسنـادهـا إلـى عـامـل واحد و لا يمكن حصرهـا في أبعـادٍ بعينهـا لأن الوعـي في نهـاية المطـاف نتيجـةٌ ، و النتيجـة هي حتمـا حصيلـةُ تفاعـلات لمجموعـة من الأجنـاس المختلفة من حيث التكوين . و علـى هـذا الأســاس يمكن القول بأن كــلاّ من المجتمع – بطبقاتـه الفكرية و رموزه السياسية و مؤسساته المدنية – و الدولـة ( بأجهـزتـهـا و أدواتهـا الأخطبوتية و مؤسساتهـا التربوية ) والدين – بقيمـه و مبادئـه الوجودية – هم المسؤولون في المقام الأول عن بلورة نمطَ الوعي المُكوَّن و هم المُحدِّدون لتركيبة الوعي لأن الدين و المجتمع و الدولة تُمثل "أقـانيمَ" يتأثـر بهـا أي شخص فيحمـل في وعيـه آثارهـا التـي تتطور لتصيرَ سلطة ذهنية آسِـرَة . هـذا يعنـي أن التدهـور الحـاصل في فهـم الدين و في تشكيلات الدولـة و وظيفتهـا يُنتِجُ بيئــة فاسدةً تنعكسُ عبر الزمـن علـى تصورات الإنسـان فتؤثِّـرُ علـى سلوكـه و أفعـالـه و تدفعـهُ إلـى فقدان معنـى رسالتـه و هدفـه في الحياة .
لقـد كـانت صنـاعـة الوعي فيمـا مـضى من نصيبِ الدين و المجتمـع حيث كـان الأخير بمعية الأول طريقـا للتهذيب و تبصرة الفكر و النفس بفعـل تمتــعهـا باستقلالية كبيرة عن سلطـة الدولـة نتيجـةَ محدوديـة صلاحياتهـا ، لكنـهُ (أي الوعي) الآن صـارَ محصلةَ مجموعِ السياسات الرسمية التي مست مفاصل المجتمع و خربت قيمـه الموروثـة عبر التـاريخ ، فانهيـار العقل الجماعي للأمـة و انحطـاط تفكيرهـا و سيادة أسلوب التواكـل و انتشار الأمية و غيرهـا ليسوا إلا تجليـات لأزمـة الوعي التي صُنِعت عبر عدة وسائط و قنواتٍ قتلت روح الأمـل في الإنـسان و بلَّدت تفكيره و حجَبتْـهُ من الارتقاء نحو فضاءات المعـرفـة . عمـودُ تلك الوسـائط منظومـةُ تعليمٍ مترديةٍ في عـالمنـا الإسلامي و سياساتُ دولٍ فاشلـة في ميدان تخليق المؤسسات و تحقيقِ تنميةٍ تُوفِّـرُ للنـاس حدا أدنـى من العيش الكريم ، فضـلا عن اهتراء المكونـات السياسية و غلبـةِ منطق الارتزاق و المنفعـة الأنـانية فيهـا و تجمُّـد العمل السياسي في حدود الترويج لخطـابات تعبوية موسمية خـادعـة تفتقر للمصداقية و الفاعلية...فعندمـا تتخـلـى هـذه الكيانـات السياسية عن وظـائفهـا في الرفـع من مستوى التفكير و تتعاطـى أفيونـات المواسم الإنتـخـابوية بتخدير النـاس بالوعـود و إغراقهم في أحـلامٍ راكدةٍ، و عندمـا تشهـد الكيانـات الجمعوية استقالات جمـاعية من سـاحـة الفكر و انزواء مُعظمهـا في أقفـاص الخمـول و السبات الطويل و تتحولُ إلـى مقاولات رِبحيـة تُحركهـا دوافع المنفعـة المـادية آنـذاك لا يسعُ اللبيبَ إلا التبشير بعـالم الغثائيـات التـي تُعـبِّــرُ عن انهيـارٍ سحيقٍ لحـاسـة الوعـي و حلولٍ للنزعـات الفوضوية و العبثية في مجتمـعـاتنـا ككل .