السلام عليكم
ليس ثمة شك عندي بأن موضوع الإسلاميين في عـلاقاتهم باللائكيين قد أخـذ حيزا واسعـا في أدبيات السجـال الفكري المعـاصر و أن البحث في هـذا الاتجاه يجد مبرراته في حـالـة التوترات الدائمة بين الدائرتين و في انعـكـاسات ذلك علـى الواقع الدال علـى حجم الأزمة التـي قادتهـا دُوَيلات التجزئـة اللائكية، و في رأيي أن تضخيم هـذا الموضوع علـى المستوى النظري و حشـو الدوريات الفكرية بهـا و تصوير المنظور اللائكي كمـا لـو أنـه تيـار عريض من حيث الامتداد الشعبي ليست إلا حيلـة تُحـاول من خـلالهـا الأقـلامُ اللائكية بثَّ وهـمٍ يختلق وجودَ كتـلـة جمـاهيرية لائكية علـى الواقع، في حين يؤشـر هـذا الأخير علـى انحـصار الخيـار التغريبي بالجـانب التنظيري دون التنظيمي و فشـلـه في صنـاعـة سياقـات تتوازى فيهـا الأبعـاد الإسلامية و اللائكية جنبا لجنب . لذلـك ، وَجَبَ التنبيـه منذ البدايـة علـى أن حجم الضجيج الحـاصل في موضوع الإسلاميين و اللائكيين الذي غذتهـا حمـلاتٍ دِعـائية إعـلامية و أقـلام مثقفين لائكيين مُتحـالفين مـع الديكتاتوريات لا يمكن أن يحجب في الواقع مـدى فشلهم الذريع في تكوين قواعـد شعبية تنتصـر للخيار اللائكي كمرجعية أصولية تُؤَسسُ عليهـا المواقف و لا يمكن أن تُقدِّمَ "شرعية" تبريرية للتغريبيين لمنـاطحـة المجـال التداولي الإسلامي المُهَيمن علـى ثقافـة المسلم.
لقد عـاش الجمهـور في كنـف هـذا المجـال عبر التاريخ الإسلامي علـى مـا فيه من مد و جزر و ظـل يُحـاكِمُ إليه تصوراتـه و أفعـالـه و سائر حركـاته المادية و المعنوية ، و رغم اختراقِ منظومـات فكرية لـه في كثير من فترات التـاريخ إلا أن المسلمين لـم يتأثروا بالآراء التـي تُعلـي من القيم الدخيلـة علـى حساب السيادة الإلهية و لم تنسحِقْ تصوراتـهم بخليط من الاعتقادات المُلَوِّثـة لحـاكمية الشريعـة ، بل ظـلّ الضمير الشعبي وفِـيّـا لمساره التاريخي مندمـجا مـع مجـاله التداولي الإسلامي غيرَ مكترث بالصدامـات العقلية التـي كـان يخوضهـا بعض ممن تمردوا علـى سلطـة النص الديني المقدس فتساوقت في ذهنياتهم مرجعيات متناقضة أرادوا منهـا عقد قِران بموجب آفـة التوفيق التلفيقية، بل و حتـى في فترات الاضطرابات السياسية و مـا تلتهـا من مواجهـات عنيفة كـانت أطراف الصراع لا تـجد بديلا عن المرجعية الدينية في تبرير دوافع الاحتجـاج بغض النظر عن صحـة أو خطأ منهجيات التأويلات المعتمدة . لقد كـانت تركيبـة النموذج النفسي للشعوب المسلمـة مُكونـة من مرجعية ثابتـة تجدُ أصولُهـا متصلـة بالكتاب و السنـة و متـناغمـة مع المنـاخ الاجتمـاعي و العقدي و السياسي الذي أنتجه تجـارب المسلمين ، الشيء الذي صـار من غير المقبول النظر في أيـة حـاكمية صادرة عن معايير مًغـايرة تتخذ من المنظورات الأجنبية الكلية أصولا في تقعيد الحكم و أساسا في بنـاء الرأي و حَكمًا في فض المنـازعـات . إنّ هـذا مـا يُفسر إعـراض المجتمعـات الإسلامية عن الفلسفـة اليونانية المفصولة عن السياق ، و هـو مـا يفسر أيضـا محدودية القواعد الشعبية – إن لم نقل بانعدامهـا – لدى الفلاسفـة المسلمين التاريخيين الذين راهنوا علـى المرجعية اليونـانية لإصـلاح الأوضـاع الداخلية .
لو دققنـا النظر علـى خريطـة التنظيمـات الإيديولوجية في عـالمنـا الإسلامي و مـدى عـلاقاتهـا بهموم الشعوب لوجدنـاهـا ارتباطـات لا تتجـاوز بُعدهـا الكـلامي الغـارق في حِيَـل التشدق بالجمـاهيرية و مصالح الطبقة الكـادحـة، إذ لمـا عجزت تلك الحركـات النخبوية في تكوين تيار شعبي عريض صـار من الطبيعي الاستغراق النظري في الحديث عن "إرادة الشعب" و " أولوية الطبقة العـاملة" و " النضال الجمـاهيري" و "الثورة الشعبية" و غيرهـا من العنـاوين الموهمـة بالتحام النخبة مـع مطـالب الشعوب، بيد أن كثرة الدوران حول المفردات ذات الصلة بالجمـاعـة لا تعكس في الواقع إلا أزمـة اللائكيين في كسب ثقـة الشعوب المسلمة و لا تكشف إلا عـن وجود مسـاحـات سحيقـة بين الطبقتين، دليلُ ذلـك أن الدول اللائكية الأعرابية لـم تعتـمد علـى شعوبهـا في سبيل الوصول للسلطة و لم تكن ثمرةَ مُبـاركـةٍ شعبية لهـؤلاء، دليلُ ذلك أن نداءات اللائكيين للشعوب بالتحرك ضد طرف مـا سواء كـان دولـة أو تنظيمـا لا تجدُ آذانـا صـاغية و لا تجـاوبـا شعبيا جمـاعيا ، بل يخجل المرء بذكـر أمثلـة تعرَّت فيهـا دعـوات لائكية عن كـل إرادة شعبية ، فمـا الذي أسهمَ في تكوين نُخب معزولـة عن ضمير الجمـاعـة و مـا الذي جعلهـا تفشـلُ في صنـاعـة وعي جمـاهيري منظم ؟
قد يُعْـزي اللائكيُّ سبب ذلك إلـى اعتبارات موضوعية مرتبطة بظواهـر اجتمـاعية أو اقتصادية تحول دون فهم الطرح اللائكي و منظوره في الإصلاح ، و قد تستفزه قواعـد الإسلاميين الشعبية فلا يجدُ بُـدّا من ربط السبب بالدين نفسـه أو بأفهـام النـاس له ...فهـؤلاء القوم لا يكلفون أنفسهم لحـظةَ تحليل الايدولوجيا الخـاصة بهم و لا يتصرفون إلا من موقع الذات المطلقة التي تملك احتكـار حق النقد دون أن تمتـد نزعتهم تلك إلـى أصول التفكير لديهم، و لا يُـراجعون مشكلتهم البنيوية مـع الدين كنقيض لأسلوبهم النظري و العملي . منطقُ الأستذة عندهم ظـلّ مرتبطـا بغرور فكري يحتكر "الأنـا" و ظل لصيقـا بِكِـبـرٍ معرفي يدّعـي العقلانية و العصرنـة دون أن يُفصِـحَ عن أزمتـه المستديمـة مـع الدين كمرجعية نـاظمـة. إن تغــوّل الذات اللائكية و تحصين العقل ضد كـل نقـد إسلامي كـانت إحدى آفـات هـذا الفكر الذي فشلَ في فهم تركيبة الشخصية المسلمة ، فالشعب الذي يُخـاطبه اللائكيّ "الإسلامويُّ"ُ ليس إلا كتلـة مـادية تلهـث وراء الرغيف و ليس إلا جمعـا بشريا من الجِيـاع تنتظـر لقمـةَ عيشٍ ، ليس إلا طبقـة إنسـانية تحكمها نزوات الشبق،ليس إلا كيـانـا أنهكه الجهـلُ الديني و شتّـتَ شملهم و شل طاقاتهم فأقعدهم عـاجزين علـى تغيير الواقع السياسي..
إن ربح رهـان الشعب و كسب جمـاهيرية فاعلـة لـه مسالكه المنـاسبـة، أولهـا احترام الشعب المسلم في قنـاعـاته التكوينية و عدم التعـامل مـعه كمـا لو أنـه عبارة عن كم مـادي تتوقف رهـاناته عند حدود الإشبـاع الطبيعي لمطـالب العدل و الحرية و الكرامـة، فإذا اختُزلت أبعـادُ الإنسان المسلم في تلك المطالب (و هي في رأينـا ضرورات لا مطـالب ) و جُعلَت غـايـةَ النضـال السياسي فلـن يُسهِـمَ إلا في تشكـيل كِيـانات مُستنـسَخـة مقطوعـةِ الصلـة عـن وظيفـة الإنسـان في الاستخـلاف الذي أرادهُ الله تعـالـى لعباده ، فتحقيق مقاصد الأبدان إنِ لـمْ يتنـاسب مـع مقاصد الأديان و يتساوق مـع غاياته الكلية انحرف بالإنـسان عـن وِجهتـه الغائية .
مخطئون إن تصورنـا إمكـانية تكوين قواعد شعبية بمقتضى الحديث المكثف عن مطـالبهـا ، لأن الخطـاب التجريدي مهمـا أقنعَ و أجـاد إلا أنـه لا يستطيع أن يبني بالضرورة إرادة التغيير ،قد يكسبُ أفرادا و يُغري البعض بسحره و جمـالـه اللغوي لكنـه لا يمكن أن يصنـع فعلَ الإرادة التــي تبنيهـا القلوب و تدفعهـا إلـى التحرر من سلطة الواقع . و مـع تعدد الخطابات اللائكية في الأدبيات الفكرية المعـاصرة و مـا قد يبدو علـى ظـاهرهـا من انحياز للشعب و معـارضة الحكم الاستبدادي بل و تحمّـل بعض القيادات ضرائبَ النقد الصريح للسلطة الجـائرة إلا أن ذلك برأيي لـم يستطع أن يُكوِّن كتلـة شعبية لائكية ذات قيادة و لم يزِدِ الشعبَ إلا إعراضـا عن المُطـالبات اللائكية رغم وجاهتها ،الشيء الذي يقودنـا إلـى اعتبار أن الشعب المسلم -بمـا هـو كِيـان جماعي- غير مؤمن بالخطـابات اللائكية المُرسلـة و لا يُقيمُ وزنـا لكل الشعـارات و العنـاوين التـي تـنـادي بهـا قيادات الأحزاب اللائكية ، لقد عبّـر عن ذلك بوضوح أثنـاء كـل عملية انتخـابية حرة فضحت حجم الامتداد الشعبي و أزالت الغطـاء عن أي شرعية شعبية يمكن أن يستندوا إليهـا في تبرير مرجعياتهم . و لم تكن هذه النتائج برأيي إلا تعبيرات عن رفض الخطـاب اللائكي باعتباره خطـابا منـافقا لا يؤمن بالحريات بمـا هي مطـالب موضوعية مفصولـة عن الايدولوجيا و لا يراهـا إلا بمنظـار واحد تستعدي كـل الرؤى المغـايرة ،و بالتـالي فهـو يصـادر كـل نظرة تتأسس علـى منظور وجودي مختلف بفعل العبودية الفكرية التي توغلت فيه فجعلت كل تصور قائم علـى المعـالجة الدينية مجرد أساطير و نَظَرات غير عقلانية عندهم .
لم تفلح كل المحـاولات النظرية التي رمت إلـى مجـاملـة هـذا الشعب أو ذاك في تكوين تنظيمـات لائكية ذات قيادة لهـا هياكلهـا و مؤسساتهـا الداخلية إلا في حـالات ظرفية انخدع فيهـا الشعب من إيديولوجيات قومية استغلت بعض العناوين الكبرى كمعـاداة "إسرائيل" و "الدفاع عن الطبقة الكـادحـة" لأجـل كسب الثقـة الجمـاهيرية، بل حتـى في حـالتنـا هـذه لـم تتشكـل القيادة اللائكية بالمعنـى التنظيمي و لم تستطع الشعبية العفوية أن تُستَثمَـرَ في تكتـل عريض قادر علـى التحدي لأن الاستجابات اللحظية الخـاضعـة للمنـاخ السياسي و الإطـار التاريخي لا يمكنهـا أن تصمـد أمـام الزمن و لا يمكنهـا أن تُعـبِّـر عن وحدة متجـانسة من قنـاعـات أهلهـا .
لمـا افتقدت النخب اللائكية عبر التاريخ لكل سند شعبي و انحصرت الدعوة للمشروع التغريبي في أفراد بعينهم كـان من اللازم أن يتوجـه هـؤلاء إلـى أسلوب المخـادعـة و الانعطـاف نحو إتباع سياسـة مَرنـة تقوم علـى مبدأ الظهور بمظهـر الغيور علـى مصالح الشعوب و الزعم بالدفاع عن مطـالبه في محـاربة الاستبداد ثم اختـلاق حدود فاصلـة بين 'الإسلام السياسي" و الإسلام و ذلك في ثلاث اتجاهـات :
1 – اتجاه الزعم بالتحدث باسم الشعب و تكثير الخطـابات النظرية التي تُعلي من مركزية الشعب، فهـؤلاء الآن يبتكرون خطـة جديدة بعدمـا كشفت كل الدلائل عن غُربَـة هـذا "التيار" الدخيل عن وِجدان الشعب المسلم، و المُـلاحَظ أن جـل الكتـابات اللائكية الصحفية و الأكـاديمية تدور حول هـذه الخطـة و تتحدث عن الأوضـاع الاجتمـاعية و الاقتصادية الصعبـة بشكل يوحـي و كأنهم مُـنظِّرون حريصون علـى سلامـة عيش الشعوب، و كأنهم جـادون في حرية أن يختـار الشعب أسلوب عيشهم، و كأنهم يريدون أن يُنسوا الجميعَ مـا أفرزتـهُ الأيادي اللائكية من أوضاع رهيبة طـالت كل شيء في المجتمع ( اعتقالات،فقر،اغتيالات،تحلل قيمي،تغول الدولة..).
2 – اتجـاه الزعـم بالدفاع عن الدولة "المدنية"و رفض الاستبداد و الإكثار من مزايـا الحكم السياسي المدني و أدواته الإجرائية بشكل غرضـهُ تدليس الواقع و إيهام الشعوب بارتباط هـؤلاء النخب بمطـالبهم في تحقيق دولة عـادلة يحكمهـا الشعب عبر ممثليه ، فلا يمضِ وقت قصير حتـى تنكشف "المدنية" التي يقصدهـا اللائكيون علـى الأرض عبر موالاتهم للظلمـة الجـائرين في حروبهم الضروسـة علـى كل رمز إسلامي، بل و استعدائهم و استقوائهم بكل الأذرع العسكرية و الإعـلامية و القضائية و المـالية لتثبيت الدولة العسكرية و فرضهـا بلغـة القوة دونمـا أي اعتبار لمبدأ التداول السلمي علـى السلطـة .
3 – اتجـاه الزعم بعدم التعرض للدين كرسـالـة سمـاوية مقدسة و الذهـاب بالنقد في نفس الوقت لأقصـى حد ممكن في حق الإسلاميين، و قد اخترعوا هـذه الفريـة لوقايـة اللائكيين من غضب الشعوب المسلمة و للإيحـاء بأن المعركـة إنمـا هي دائرة بين "الحداثيين" و "المستغلين بالدين" و ليس بين "الحداثيين" و "الدين"،فأشـاعـوا في أدبياتهم كـلامـا يدور حول كونهم ليسوا ضد الدين و مـا يقرره من أحكـام عباداتية خـاصة بعلاقة الفرد بربـه و إنمـا ضد الإسلاميين المُسيَّسين الذين أساءوا للدين و السياسة معـا .
إن محـاولات اللائكيين الارتباط بالشعوب عبر المزاعـم الثلاث لم تُفلح برأيي في حجب أقليتهم النخبوية و الشعبية لأن الممارسـات علـى الأرض كفيلـة بفضح ازدواجية المعـايير التي يُجيدونهـا بخصوص عناوين "الحيادية" و "المدنية" و "الشعبية" .
ليس ثمة شك عندي بأن موضوع الإسلاميين في عـلاقاتهم باللائكيين قد أخـذ حيزا واسعـا في أدبيات السجـال الفكري المعـاصر و أن البحث في هـذا الاتجاه يجد مبرراته في حـالـة التوترات الدائمة بين الدائرتين و في انعـكـاسات ذلك علـى الواقع الدال علـى حجم الأزمة التـي قادتهـا دُوَيلات التجزئـة اللائكية، و في رأيي أن تضخيم هـذا الموضوع علـى المستوى النظري و حشـو الدوريات الفكرية بهـا و تصوير المنظور اللائكي كمـا لـو أنـه تيـار عريض من حيث الامتداد الشعبي ليست إلا حيلـة تُحـاول من خـلالهـا الأقـلامُ اللائكية بثَّ وهـمٍ يختلق وجودَ كتـلـة جمـاهيرية لائكية علـى الواقع، في حين يؤشـر هـذا الأخير علـى انحـصار الخيـار التغريبي بالجـانب التنظيري دون التنظيمي و فشـلـه في صنـاعـة سياقـات تتوازى فيهـا الأبعـاد الإسلامية و اللائكية جنبا لجنب . لذلـك ، وَجَبَ التنبيـه منذ البدايـة علـى أن حجم الضجيج الحـاصل في موضوع الإسلاميين و اللائكيين الذي غذتهـا حمـلاتٍ دِعـائية إعـلامية و أقـلام مثقفين لائكيين مُتحـالفين مـع الديكتاتوريات لا يمكن أن يحجب في الواقع مـدى فشلهم الذريع في تكوين قواعـد شعبية تنتصـر للخيار اللائكي كمرجعية أصولية تُؤَسسُ عليهـا المواقف و لا يمكن أن تُقدِّمَ "شرعية" تبريرية للتغريبيين لمنـاطحـة المجـال التداولي الإسلامي المُهَيمن علـى ثقافـة المسلم.
لقد عـاش الجمهـور في كنـف هـذا المجـال عبر التاريخ الإسلامي علـى مـا فيه من مد و جزر و ظـل يُحـاكِمُ إليه تصوراتـه و أفعـالـه و سائر حركـاته المادية و المعنوية ، و رغم اختراقِ منظومـات فكرية لـه في كثير من فترات التـاريخ إلا أن المسلمين لـم يتأثروا بالآراء التـي تُعلـي من القيم الدخيلـة علـى حساب السيادة الإلهية و لم تنسحِقْ تصوراتـهم بخليط من الاعتقادات المُلَوِّثـة لحـاكمية الشريعـة ، بل ظـلّ الضمير الشعبي وفِـيّـا لمساره التاريخي مندمـجا مـع مجـاله التداولي الإسلامي غيرَ مكترث بالصدامـات العقلية التـي كـان يخوضهـا بعض ممن تمردوا علـى سلطـة النص الديني المقدس فتساوقت في ذهنياتهم مرجعيات متناقضة أرادوا منهـا عقد قِران بموجب آفـة التوفيق التلفيقية، بل و حتـى في فترات الاضطرابات السياسية و مـا تلتهـا من مواجهـات عنيفة كـانت أطراف الصراع لا تـجد بديلا عن المرجعية الدينية في تبرير دوافع الاحتجـاج بغض النظر عن صحـة أو خطأ منهجيات التأويلات المعتمدة . لقد كـانت تركيبـة النموذج النفسي للشعوب المسلمـة مُكونـة من مرجعية ثابتـة تجدُ أصولُهـا متصلـة بالكتاب و السنـة و متـناغمـة مع المنـاخ الاجتمـاعي و العقدي و السياسي الذي أنتجه تجـارب المسلمين ، الشيء الذي صـار من غير المقبول النظر في أيـة حـاكمية صادرة عن معايير مًغـايرة تتخذ من المنظورات الأجنبية الكلية أصولا في تقعيد الحكم و أساسا في بنـاء الرأي و حَكمًا في فض المنـازعـات . إنّ هـذا مـا يُفسر إعـراض المجتمعـات الإسلامية عن الفلسفـة اليونانية المفصولة عن السياق ، و هـو مـا يفسر أيضـا محدودية القواعد الشعبية – إن لم نقل بانعدامهـا – لدى الفلاسفـة المسلمين التاريخيين الذين راهنوا علـى المرجعية اليونـانية لإصـلاح الأوضـاع الداخلية .
لو دققنـا النظر علـى خريطـة التنظيمـات الإيديولوجية في عـالمنـا الإسلامي و مـدى عـلاقاتهـا بهموم الشعوب لوجدنـاهـا ارتباطـات لا تتجـاوز بُعدهـا الكـلامي الغـارق في حِيَـل التشدق بالجمـاهيرية و مصالح الطبقة الكـادحـة، إذ لمـا عجزت تلك الحركـات النخبوية في تكوين تيار شعبي عريض صـار من الطبيعي الاستغراق النظري في الحديث عن "إرادة الشعب" و " أولوية الطبقة العـاملة" و " النضال الجمـاهيري" و "الثورة الشعبية" و غيرهـا من العنـاوين الموهمـة بالتحام النخبة مـع مطـالب الشعوب، بيد أن كثرة الدوران حول المفردات ذات الصلة بالجمـاعـة لا تعكس في الواقع إلا أزمـة اللائكيين في كسب ثقـة الشعوب المسلمة و لا تكشف إلا عـن وجود مسـاحـات سحيقـة بين الطبقتين، دليلُ ذلـك أن الدول اللائكية الأعرابية لـم تعتـمد علـى شعوبهـا في سبيل الوصول للسلطة و لم تكن ثمرةَ مُبـاركـةٍ شعبية لهـؤلاء، دليلُ ذلك أن نداءات اللائكيين للشعوب بالتحرك ضد طرف مـا سواء كـان دولـة أو تنظيمـا لا تجدُ آذانـا صـاغية و لا تجـاوبـا شعبيا جمـاعيا ، بل يخجل المرء بذكـر أمثلـة تعرَّت فيهـا دعـوات لائكية عن كـل إرادة شعبية ، فمـا الذي أسهمَ في تكوين نُخب معزولـة عن ضمير الجمـاعـة و مـا الذي جعلهـا تفشـلُ في صنـاعـة وعي جمـاهيري منظم ؟
قد يُعْـزي اللائكيُّ سبب ذلك إلـى اعتبارات موضوعية مرتبطة بظواهـر اجتمـاعية أو اقتصادية تحول دون فهم الطرح اللائكي و منظوره في الإصلاح ، و قد تستفزه قواعـد الإسلاميين الشعبية فلا يجدُ بُـدّا من ربط السبب بالدين نفسـه أو بأفهـام النـاس له ...فهـؤلاء القوم لا يكلفون أنفسهم لحـظةَ تحليل الايدولوجيا الخـاصة بهم و لا يتصرفون إلا من موقع الذات المطلقة التي تملك احتكـار حق النقد دون أن تمتـد نزعتهم تلك إلـى أصول التفكير لديهم، و لا يُـراجعون مشكلتهم البنيوية مـع الدين كنقيض لأسلوبهم النظري و العملي . منطقُ الأستذة عندهم ظـلّ مرتبطـا بغرور فكري يحتكر "الأنـا" و ظل لصيقـا بِكِـبـرٍ معرفي يدّعـي العقلانية و العصرنـة دون أن يُفصِـحَ عن أزمتـه المستديمـة مـع الدين كمرجعية نـاظمـة. إن تغــوّل الذات اللائكية و تحصين العقل ضد كـل نقـد إسلامي كـانت إحدى آفـات هـذا الفكر الذي فشلَ في فهم تركيبة الشخصية المسلمة ، فالشعب الذي يُخـاطبه اللائكيّ "الإسلامويُّ"ُ ليس إلا كتلـة مـادية تلهـث وراء الرغيف و ليس إلا جمعـا بشريا من الجِيـاع تنتظـر لقمـةَ عيشٍ ، ليس إلا طبقـة إنسـانية تحكمها نزوات الشبق،ليس إلا كيـانـا أنهكه الجهـلُ الديني و شتّـتَ شملهم و شل طاقاتهم فأقعدهم عـاجزين علـى تغيير الواقع السياسي..
إن ربح رهـان الشعب و كسب جمـاهيرية فاعلـة لـه مسالكه المنـاسبـة، أولهـا احترام الشعب المسلم في قنـاعـاته التكوينية و عدم التعـامل مـعه كمـا لو أنـه عبارة عن كم مـادي تتوقف رهـاناته عند حدود الإشبـاع الطبيعي لمطـالب العدل و الحرية و الكرامـة، فإذا اختُزلت أبعـادُ الإنسان المسلم في تلك المطالب (و هي في رأينـا ضرورات لا مطـالب ) و جُعلَت غـايـةَ النضـال السياسي فلـن يُسهِـمَ إلا في تشكـيل كِيـانات مُستنـسَخـة مقطوعـةِ الصلـة عـن وظيفـة الإنسـان في الاستخـلاف الذي أرادهُ الله تعـالـى لعباده ، فتحقيق مقاصد الأبدان إنِ لـمْ يتنـاسب مـع مقاصد الأديان و يتساوق مـع غاياته الكلية انحرف بالإنـسان عـن وِجهتـه الغائية .
مخطئون إن تصورنـا إمكـانية تكوين قواعد شعبية بمقتضى الحديث المكثف عن مطـالبهـا ، لأن الخطـاب التجريدي مهمـا أقنعَ و أجـاد إلا أنـه لا يستطيع أن يبني بالضرورة إرادة التغيير ،قد يكسبُ أفرادا و يُغري البعض بسحره و جمـالـه اللغوي لكنـه لا يمكن أن يصنـع فعلَ الإرادة التــي تبنيهـا القلوب و تدفعهـا إلـى التحرر من سلطة الواقع . و مـع تعدد الخطابات اللائكية في الأدبيات الفكرية المعـاصرة و مـا قد يبدو علـى ظـاهرهـا من انحياز للشعب و معـارضة الحكم الاستبدادي بل و تحمّـل بعض القيادات ضرائبَ النقد الصريح للسلطة الجـائرة إلا أن ذلك برأيي لـم يستطع أن يُكوِّن كتلـة شعبية لائكية ذات قيادة و لم يزِدِ الشعبَ إلا إعراضـا عن المُطـالبات اللائكية رغم وجاهتها ،الشيء الذي يقودنـا إلـى اعتبار أن الشعب المسلم -بمـا هـو كِيـان جماعي- غير مؤمن بالخطـابات اللائكية المُرسلـة و لا يُقيمُ وزنـا لكل الشعـارات و العنـاوين التـي تـنـادي بهـا قيادات الأحزاب اللائكية ، لقد عبّـر عن ذلك بوضوح أثنـاء كـل عملية انتخـابية حرة فضحت حجم الامتداد الشعبي و أزالت الغطـاء عن أي شرعية شعبية يمكن أن يستندوا إليهـا في تبرير مرجعياتهم . و لم تكن هذه النتائج برأيي إلا تعبيرات عن رفض الخطـاب اللائكي باعتباره خطـابا منـافقا لا يؤمن بالحريات بمـا هي مطـالب موضوعية مفصولـة عن الايدولوجيا و لا يراهـا إلا بمنظـار واحد تستعدي كـل الرؤى المغـايرة ،و بالتـالي فهـو يصـادر كـل نظرة تتأسس علـى منظور وجودي مختلف بفعل العبودية الفكرية التي توغلت فيه فجعلت كل تصور قائم علـى المعـالجة الدينية مجرد أساطير و نَظَرات غير عقلانية عندهم .
لم تفلح كل المحـاولات النظرية التي رمت إلـى مجـاملـة هـذا الشعب أو ذاك في تكوين تنظيمـات لائكية ذات قيادة لهـا هياكلهـا و مؤسساتهـا الداخلية إلا في حـالات ظرفية انخدع فيهـا الشعب من إيديولوجيات قومية استغلت بعض العناوين الكبرى كمعـاداة "إسرائيل" و "الدفاع عن الطبقة الكـادحـة" لأجـل كسب الثقـة الجمـاهيرية، بل حتـى في حـالتنـا هـذه لـم تتشكـل القيادة اللائكية بالمعنـى التنظيمي و لم تستطع الشعبية العفوية أن تُستَثمَـرَ في تكتـل عريض قادر علـى التحدي لأن الاستجابات اللحظية الخـاضعـة للمنـاخ السياسي و الإطـار التاريخي لا يمكنهـا أن تصمـد أمـام الزمن و لا يمكنهـا أن تُعـبِّـر عن وحدة متجـانسة من قنـاعـات أهلهـا .
لمـا افتقدت النخب اللائكية عبر التاريخ لكل سند شعبي و انحصرت الدعوة للمشروع التغريبي في أفراد بعينهم كـان من اللازم أن يتوجـه هـؤلاء إلـى أسلوب المخـادعـة و الانعطـاف نحو إتباع سياسـة مَرنـة تقوم علـى مبدأ الظهور بمظهـر الغيور علـى مصالح الشعوب و الزعم بالدفاع عن مطـالبه في محـاربة الاستبداد ثم اختـلاق حدود فاصلـة بين 'الإسلام السياسي" و الإسلام و ذلك في ثلاث اتجاهـات :
1 – اتجاه الزعم بالتحدث باسم الشعب و تكثير الخطـابات النظرية التي تُعلي من مركزية الشعب، فهـؤلاء الآن يبتكرون خطـة جديدة بعدمـا كشفت كل الدلائل عن غُربَـة هـذا "التيار" الدخيل عن وِجدان الشعب المسلم، و المُـلاحَظ أن جـل الكتـابات اللائكية الصحفية و الأكـاديمية تدور حول هـذه الخطـة و تتحدث عن الأوضـاع الاجتمـاعية و الاقتصادية الصعبـة بشكل يوحـي و كأنهم مُـنظِّرون حريصون علـى سلامـة عيش الشعوب، و كأنهم جـادون في حرية أن يختـار الشعب أسلوب عيشهم، و كأنهم يريدون أن يُنسوا الجميعَ مـا أفرزتـهُ الأيادي اللائكية من أوضاع رهيبة طـالت كل شيء في المجتمع ( اعتقالات،فقر،اغتيالات،تحلل قيمي،تغول الدولة..).
2 – اتجـاه الزعـم بالدفاع عن الدولة "المدنية"و رفض الاستبداد و الإكثار من مزايـا الحكم السياسي المدني و أدواته الإجرائية بشكل غرضـهُ تدليس الواقع و إيهام الشعوب بارتباط هـؤلاء النخب بمطـالبهم في تحقيق دولة عـادلة يحكمهـا الشعب عبر ممثليه ، فلا يمضِ وقت قصير حتـى تنكشف "المدنية" التي يقصدهـا اللائكيون علـى الأرض عبر موالاتهم للظلمـة الجـائرين في حروبهم الضروسـة علـى كل رمز إسلامي، بل و استعدائهم و استقوائهم بكل الأذرع العسكرية و الإعـلامية و القضائية و المـالية لتثبيت الدولة العسكرية و فرضهـا بلغـة القوة دونمـا أي اعتبار لمبدأ التداول السلمي علـى السلطـة .
3 – اتجـاه الزعم بعدم التعرض للدين كرسـالـة سمـاوية مقدسة و الذهـاب بالنقد في نفس الوقت لأقصـى حد ممكن في حق الإسلاميين، و قد اخترعوا هـذه الفريـة لوقايـة اللائكيين من غضب الشعوب المسلمة و للإيحـاء بأن المعركـة إنمـا هي دائرة بين "الحداثيين" و "المستغلين بالدين" و ليس بين "الحداثيين" و "الدين"،فأشـاعـوا في أدبياتهم كـلامـا يدور حول كونهم ليسوا ضد الدين و مـا يقرره من أحكـام عباداتية خـاصة بعلاقة الفرد بربـه و إنمـا ضد الإسلاميين المُسيَّسين الذين أساءوا للدين و السياسة معـا .
إن محـاولات اللائكيين الارتباط بالشعوب عبر المزاعـم الثلاث لم تُفلح برأيي في حجب أقليتهم النخبوية و الشعبية لأن الممارسـات علـى الأرض كفيلـة بفضح ازدواجية المعـايير التي يُجيدونهـا بخصوص عناوين "الحيادية" و "المدنية" و "الشعبية" .
تعليق