مسألة هدم الأصنام وتكسير التماثيل
وشبهات حول تعامُل الصحابة الكرام معها في الأمصار
وشبهات حول تعامُل الصحابة الكرام معها في الأمصار
إن الأوثان - أو الآثار - التي في بعض البلدان تُترك بحجة أنها لا تعبد؛ فالحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا ، ثم إن الإسلام جاء باحترام الأديان الأخرى ولا يعرف عن المسلمين أنهم إذا استولوا على بلد هدموا تماثيله. هذه باختصار أقوى حجج من رأى ترك هدم الأوثان وكسر التماثيل والأصنام في هذا الزمن .
والرد عليهم من وجوه:
الوجه الأول: الرد على قولهم: (إن هذه الأوثان الضخمة في البلاد لا تُعبد)، فهذا كلام شخص لم يسمع في حياته بقوله تعالــى: ( وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) [نوح: 23] ولا يعرف تفسيرها مع أنها آية من كتاب الله مصدر التشريع وتفسيرها في صحيح البخاري كما جاء عن ابن عباس قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت).
فهذا هو سبب الشرك في الناس وهذه بدايته فلم تكن تلك التماثيل تعبد أبدًا، بل كانت للذكرى والتذكر لكن لما تركت جاء في المستقبل من يعبدها.
الوجه الثاني: أن تركها يسبب عبادتها، فمن المعلوم تاريخيًّا أن أهل الجزيرة التي هي مهبط الوحي وسكانها أقرب الناس إلى الحق فقد نزل القرآن بلسانهم والنبي أرسل من جنسهم ومع ذلك راجت فيهم عبادة الجمادات ورجعت إليهم الجاهلية الأولى، بل أعظم منها كما ذكر ذلك المؤرخون لتلك الحقبة؛ ففي الجاهلية الأولى كانوا إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين بخلاف الأخرى إذا ركبوا في الفلك دعوا فلانًا وعلانًا فلا يلجئون إلى الله ويخلصون له لا في السراء ولا في الضراء فدل على أنها أشد جاهلية وأكثر رجعية.
الوجه الثالث: يدل على عدم صحة هذا الكلام: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة كسر جميع الأصنام والتي كان عددها ثلاثمائة وستين صنمًا حول الكعبة فلم يحترم أديان أهل تلك الأصنام ولم يوقر معبوداتهم ولم يبال بآلهتهم ولا برموزهم ولم يكتف عليه الصلاة والسلام بذلك، بل أرسل الصحابة رضي الله عنهم إلى جميع أقطار الجزيرة ليهدموا الأصنام ويكسروا الأوثان.. وهنا سؤال يطرح نفسه واستفهام في محله يقول: إذا كان هذا فعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فهل يقال إن الرسول لم يحترم الأديان الأخرى ولم يوقر معبودات الآخرين ولم يبال بطقوسهم ورموز آلهتهم! أو هل يقال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعتد بالتراث الإنساني؟!.
الوجه الرابع: الرد على زعمهم (إنها كانت تعبد) أي قبل فتح مكة لكن أثناء تكسيرها وما بعد ذلك هل يتوقع أحد بأنها كانت تعبد والرسول صلى الله عليه وسلم حي وبين ظهرانيهم؟ وقد قال عن الدجال وهو أعظم فتنة وأكبر ضررًا «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه» فالصحابة رضي الله عنهم كانوا في مأمن من فتنة الدجال وكذلك في مأمن من الشرك أكثر من غيرهم لوجود الرسول عليه الصلاة والسلام بينهم ثم الذين يلونهم أقل أمنًا وأكثر عرضةً للفتن ثم الذين يلونهم إلى عصرنا هذا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: «هذا العام خير من الذي بعده».
فزمن الصحابة والحالة كانت آمنة ورجعة عبادة الأصنام مستبعدة جدًّا وعودة الجاهلية أكثر بعدًا من زمننا هذا ومع ذلك استمر الصحابة رضي الله عنهم في هدم الأصنام وكسر الأوثان آخذين بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا يتواصون بها كما في حديث أبي الهياج الأسدي رضي الله عنه قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن لا تدع وثنًا إلا كسرته ولا صورة إلا طمستها ولا قبرًا إلا سويته»).
مع العلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف قرنه بأنه خير القرون وأنه لا يمكن أن يأتي قرن خير منه فقال: «خير القرون قرني ثم الذي يليه ثم الذي يليه...». والخيرية هنا تشمل الخيرية في العقيدة والثبات على الدين الصحيح والإخلاص لله وعدم الشرك. وبلا شك أنها خير من قرننا هذا ومع ذلك كسر عليه الصلاة والسلام الأصنام وأمر بهدمها.. فهل يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم تناقض كيف يصف قرنه بذلك الوصف ومع ذلك يكسر الأصنام ويهدم الأوثان خشية على الصحابة من الشرك وشفقته على عقيدتهم من الكفر، فهل يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أقواله تناقض أفعاله؟!
الوجه الخامس: وهو أكثر صراحة وأقوى في الدلالة على دحض شبهة القول بأن هذه الأصنام وتلك التماثيل لن تعبد وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر الصحابة بهدم الأصنام وكسر التماثيل كما سبق مع أنه قال للصحابة: «أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب» ومع ذلك لم يرو عن أحد من الصحابة الاعتراض على الأمر بهدم الأصنام وتكسير الأوثان, ولم يرد عن صحابي واحد أنه قال: ما دام الشيطان لن يعبد في جزيرة العرب فلماذا إذن تكسير الأصنام وهدم التماثيل فلتترك لأنها من التراث الإنساني؟!
وأيضًا لا يعرف عن صحابي أو من سار على نهج الصحابة من التابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين أنه قال: إن هذا تناقض من الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يأمر الصحابة بهدم الأصنام وتكسير الأوثان مع أن الله أوحى إليه (بأن الشيطان أيس من أن يعبد في جزيرة العرب)، فهذا يدل على أن الشرع الصحيح والقول الصواب أنه لا يلتفت إلى هذه الشبهة ولا يقال بأن هذه الأصنام وتلك التماثيل لا تعبد.
الوجه السادس: إن هذه الأصنام وتلك التماثيل على فرض أنها لا تعبد في الحاضر أو المستقبل فهي في نفسها منكر يجب إزالته؛ لأنها آلهة عبدت من دون الله في الماضي فكيف يرضى المسلم أن يراها منصوبة ويتركها؟ وآلهة ضاهت الله في خلقه وزاحمته في ألوهيته وتدبيره فكيف يراها غير منكر لها؟ وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» ولهذا قال العلماء أن من لا ينكر المنكر بقلبه فهو على خطر عظيم وعلى جرف هارٍ، بل إن هناك من العلماء من نهى عن النظر إلى التماثيل والصور خشية أن يراها فلا ينكرها بقلبه أو بلسانه أو بيده وقد يكون مستطيعًا؛ فيقع في النهي الوارد في هذا الحديث، قال المروذي: قلت للإمام أحمد رحمهما الله: الرجل يدعى فيرى سترًا عليه تصاوير؟ قال الإمام أحمد: لا ينظر إليه، قلت له: قد نظرت إليه كيف أصنع، أهتكه؟ قال: تخرق شيء الناس؟ ولكن إن أمكنك خلعه اخلعه. فقلت له الرجل يكتري البيت يرى فيه تصاوير ترى أن يحكه؟ قال: نعم فقلت لـه: إن دخلت حمامًا فرأيت فيه صورة ترى أن أحك الرأس قال: نعم) (1).
وقال الشيخ عبد الله الغماري المالكي: (إن القاعدة الشرعية المستمدة من الأحاديث وإجماع العلماء أن كل ما حرم الشرع فعله تحرم مشاهدته ـ على وجه الرضا والاستحسان ـ والمساعدة عليه بأي نوع من أنواع المساعدة فالذي يشاهد عملية الزنى آثم، والذي يشاهد التماثيل المجسمة في الميادين آثم؛ لأن عمل التماثيل حرام فالنظر إليها حرام...) (2).
يتبع ..
تعليق