السـلآم عليكم
(1)
الأمـة كِيـان جماعي تجمعه روابط الدين أو اللغة أو التاريخ، و ولاء أفرادهـا تحكمه بُعدُ الانتماء العقائدي النـاظم للعلاقات، و مـا عداه ليس إلا اعتبارا مُحدِّدا للأمة السياسية التي تسع التعدد العقائدي تحت ميثاق جامع، و على أساس هـذا التمييز سيكون حديثنـا عن الأمـة بالتعريف الأول فننظر في شروط التمكين و أسباب التضعضع الداخلي و أثر ذلك على انحـلال الأمـة و أفول قُـطبِـيتهـا وصولا إلـى واقع الانبطاح الكلي و الشلل الوجودي الذي قد يصيب الأمة في لحظة زمنية مـا قد تطول و قد تقل . إن الأمـة العقائدية ليست خطـا متسلسلا مُرتفعـا عبر التاريخ كمـا أنهـا ليست انحدارا مستديمـا ، و إنمـا تموجـات صـاعدة و هابطة تعكس مدى فاعليتهـا و خمولهـا عبر الزمن و تكشف لحظـات القوة التي ارتبطت بالعزة و التمكين و تُجلـي لحظات الضعف التي ارتبطت بالركون و الجمود في مجـال زمني مـا ، و قوة الأمـة تكمن في قدرتهـا علـى صنـاعـة وجودهــا الحضاري الذي يغطي أشكـال التمدن و في غلبة جُموعهــا علـى مقارعـة الظلم و في بناء نظامـه السياسي الراشد، و قبل هـذا و ذاك يتجلـى في مـدى التزامهـا بالمنهـاج العقائدي و مـا يلحقـه من ترتيبات عملية و أحكـام شرعية، في المقابل يكمن ضعفهـا في تقهقرهـا الحضاري و تراجعهـا الوجودي و في استكـانة جُموعهـا في قبول الإذلال و الاستعباد، و قبل هـذا أو ذاك تتشخصـن هزالتهـا في تمزق منظومـة القيم الدينية و مـا تُرسيهـا من نظم فاعلـة .
لمّـا توسعت الأمـة طولا و عرضا في بلاد العـالم و انتشرت في كل القارات كـان لِزامـا النظر في فـاعليتهـا علـى مستوى كـل قُـطر، إذ بذلك تتضح مدى صمودهـا أو ذوبانهـا فتُكشَف أسباب الانحطـاط و عوامل السقوط في شِرَك الجمود، و المُلاحَظ أن الأمـة القطرية المعاصرة تعـاني من تمزقات و أمراض حوَّلتهـا إلـى كتلـة مُهملـة و إلـى أمـة عقائدية غثائية مشلولة إذ لمّـا تفككت قيم الولاء المطلق لله تعالى و انتقلت من بُعدها الوجدانـي الأصيل إلـى بُعدهـا الكـلامـي صـارت الأمـة القطرية أفرادا بلا روابط تمامـا مثل حباتِ عقدٍ متناثرة لا تنجمع . إن الانحلال الداخـلي و انهيار سلطـة الجمـاعـة العقائدية أنتج بدوره تأزمـات غائرة في بنية التفكير الجمـاعي و حوَّل الشعب إلـى قطـاعات غير مؤثرة في صنـاعـة الحضارة و السياسة و أشغلَ الأفـراد بمعارك هـامشية فأنست مسؤوليتهـا الكبرى في دحـر الظلم السياسي الذي يولِّـد إشكاليات اجتماعية و مآزق اقتصادية و تشوهـات دينية تُصيب الأمـة القطرية بتجمد يُشـل من حركتهـا مـا لـم يتم النـظر في الأصول الكبرى المسببة لهـذا الجمود، فمن أين نشأت الغثائيـة ؟؟
( 2 )
كـانت عـلاقـة الأمـة العقائدية بالسياسة عـلاقة محمولـة علـى قيم المنظومـة الدينية بحيث اعتبرت عناوين الولاء و الطـاعـة و البيعة القائمة علـى الاختيار مفردات دينية يؤديهـا المسلم بموجب مسؤولياته الشرعية لحل مشاكـل التناحر حول السلطة، و كـانت السياسة الشرعية القائمة علـى تنزيل المشروع الإسلامي منهـاجيا يستهدف تحصين العقل الجمـاعي من خـلال تحقيق مطلبين كليين : مطلب العدل في توزيع الثروة كمسلك غـائي أرضي و مطلب الإحـسان في تحقيق العبودية الكـاملة لله تعـالى . لــقد دارَ الزمـان و تولـى السيفُ القيادةَ و تحولت معـه البيعـة إلـى مجرد طقس تقليدي قائم علـى الإكـراه، و لمّـا سـادت لغـة السوط و صارت حيازة السلـطة تتم عبر مسالك الغلبـة و الانتزاء يتلقفهـا طـاغية عن طـاغية كـان لِزامـا أن تنهـار منظومـة العـلاقة بين الدين و السياسـة، بين الحـاكم و المحكومين إذ تغيرت قيم الحكم علـى مستوى الهرم لتمس بَعدهـا وضع الأمـة بالتدريج، و مـع ذلك و نظرا لبساطة تركيبة الدولـة السلطـانية في تاريخنـا الإسلامي لم تقدر أن تُصِبِ المجتمع بالشلل الحضاري لأن تغلغل الدولـة التسلطية ظل ساريـا فقط في نظام الدولـة و لم يمس قدرة الأمـة علـى الإنتاج و العطـاء إلا في بعض الظروف التي التهمت فيهـا الدولةُ المجتمعَ و ساستهـا بالقهر و الإذلال ، لذلك لم تمت الأمة إبـان حكم الدولة الأمـوية أو العباسية رغم الفساد السياسي و الحكم المستبد بفعـل استقلالية المجتمع عن الدولة السلطانية حيث قادت الكوادر الفُقَهـائية و المعارضة السياسية و الحركـات الكـلامية المجتمعَ و حصنتـه من التفكك الديني الداخلي و سلحتـهُ بقيم الدفاع عن الدين و أبقتْ في عقلهـا الجمـاعي مركزية الدين الوجودي و شموليته المعيارية، ففي هـذا المنـاخ نشطت حركـة التأليف في كـافـة المصنفات الشرعية و الأدبية و الفلسفية و الكـلامية و العُـلومية و تعددت فيه المدارس الفقهـائية بشكل دل علـى حيوية الحضارة التي صنعتهـا طبقة المجتمع لا طبقة الدولة إذ لـم تكن الأخيرة قد تحكمت كثيرا في الأولـى إلا بمقدار ضئيل يخص المعـارضين "لشرعية" الحكم الأموي و العباسي .
عـلاقـة الدولة بالمجتمع يمثل مدخـلا هـامـا لمن يودّ فهْـمَ كيف يُصنع التفرق الداخـلي و كيف تنتشر في ذاتـه أمراضا اجتمـاعية و اقتصادية و دينية، فكلمـا تنـاسبَ رأسُ الدولـة جســدَ المجتمع كلمـا تحقق الانسجـام التداولي و كلمـا تنـاقضت مشاريعهـمـا كلمـا اضطربت وِجهـة التغيير و أنتجت تصدعـات متغلغلة في مفاصل المجتمع فتتراكمَ عبر الزمن لتصبح معيقات موضوعية و ذاتية حـادة، لذلك يُدرك المتأمـل في مسيرة التاريخ الإسلامي كيف التحمت مرجعية المجتمع بمرجعية الدولة في عهـد الخـلفاء الراشدين و صارت دولة الخـلافـة لُحــمَــة الأمـة حتـى بدأ التصدع يسري شيئا فشيئا بعد الانقلاب الأمـوي الذي مكَّن من إرسـاء تقاليد سياسية جديدة أفرزت قيمـا اجتماعية فاسدة موروثة، و لم يكن بمقدور الدولة السلطانية فصل نفسهـا عن المجتمع علـى مستوى وظيفتهـا القائمة علـى إنفـاذ الشريعـة علنـاً نظرا لطبيعـة المجـال التداولي الإسلامي الضاغـط و النـاظم للفكر و العمـل، لذلك بدأ الشروع في تبني آليات الالتفاف علـى الدين عن طريق الاستئثار بالسلطة و التحكم ببيت المـال و ترك هوامش لتعبير النـاس عن مظالمهم أمـام قضاء مستقل دون أن يمتد ذلك إلـى ملاحقة الظالمين الكِبـار الذين وُضعوا فوق المحـاسبة .
( 3 )
بعد انهيـار سلطـة الخـلافة و حلول القُطريات و دُويلات التجزئة توسعت الشقة بين الدولة و الأمـة و برزت صراعـات شديدة عكست في الواقع أزمـة الهوية و الشرعية، إذ أن جهـاز الدولة المُستَورَد لم يكن في الحقيقة إلا بدايـة انفصال الرأس عن الجسد و نقطة تحول كبير في أدوار رجال الدعوة و الدولة حيث علتِ الدولة و صارت كِيانـا خـارقا يملك إمكـانية اختراق جميع نواحـي الحياة العـامـة و التأثير في نمـط العـلاقات بين النـاس و التحكم في رغيف العيش مـمـا جعـل بمقدوره تشتيت العقل الجمـاعي و تخريب آليات دفاعـه و تقطيع كـل تكتلات المـمانعـة و زرع أشكـال جديدة تتأسس ثقافتهـا علـى الانبطـاح و التواكلية و الفردانية ، من هنـا تبدأ عمليات المسخ و قلب القيم و تجميد الطـاقات و ترسيخ الأنـانيات الفردية فتنحـل عُـرى الجمـاعـة إلـى كتلة بشريـة فاقدة للإرادة و المبادرة . إن هـذه الوضعيات الجديدة التي تلخصهـا عنوان "الغثائية" لم تكن لتصل هـذا الحد من التردي لولا ارتباط الدولـة بالاستبداد السياسي و لولا جنون السلطـة الجبرية في إخـضاع كـل تيار أو حركـة تحت قبضتهـا، فالدولة البولسية بتركيبتهـا البنيوية تنزع نحـو الداخـل للإخـضاع و تنزع للخـارج للخضوع فتُنـشِــئُ في الداخـل تناحرا اجتمـاعية و تمزقات اقتصادية و تشوهـات دينية و مفاسد أخـلاقية تودي بالأمـة إلـى مهـالك حقيقية لا تقوى بسببهــا علـى مواجهــة التحديات فتكون بذلك ثمرة من ثمرات الاستبداد السياسي الذي أجهـز علـى كـل الإرادات و قتـلَ كـل أكـل للتحرر .
سُذَّجٌ أولئـك الذين يظنون أن الاستبداد السياسي شأن سياسي، فالبعض من الشيوخ الذين يتساهلون مع الظلمـة الفاسدين و يعتقدون بأن تبعـاتـه تعود لذاتـه لا لذات الجمـاعة، هـؤلاء لـم يستوعبوا تحليل عـلاقـة الاستبداد بالأمـة و لم يدركوا حجـم الفرق بين مـا آلت إليهـا الدولـة المعـاصرة من تضخم في الصلاحيات و بين مـا كـانت في المـاضي ، ففي زمننــا يمـارس الاستبداد تأثيرات مفصلية علـى الأمـة بحيث يُنتج بسياساته خرابا هـائلا في البنيات الداخلية "الفوقية" و "التحتية" ممـا يسمح للمستبدين بإحكـام السيطرة علـى كـل أنواع المعارضات و تنويم قطـاعات شعبية و تفكيك عـلاقات القيم و تحويل المجتمع لكومـة قش متراخية تذروهـا الرياح . إنّ ممـا كـان يعطي للمجتمع الإسلامي هيبتـه في الماضي أنه ظـلّ يستمـد عـلاقاته البنـائية من مجالـه التداولي الذي يمثل المرجعية الدينية الكلية إذ سـاعده ذلك علـى بقاء رسالتـه الخـالدة حيّـةً في العقل الجمـاعي مـما جعـل الطـاغية يخشـى دومـا من كلمـة فقيه ثائر أو زعيم معارض، أمــا واقعنـا المعـاصر فقد تحـالفَ الاستبداد مع التغريب القيمي ممـا قضـى علـى كل العوامـل التــي كـانت تمنح الأمـة القوة علـى استنكـار المنكر . إن هـذه الوضعية الجديدة أنتجت تحديات كبيرة جعلت طُلاب التغيير أحيانـا ييأسون من إمكـانية تجاوز سلطـة الواقع و إكراهـاته نظرا لطبيعـة الخراب الهـائل الذي مس العقول و القلوب، فالتغريب هـو الســلاح الثقافي الذي يوظفـه المستبدون لأجـل إحداث فراغـات بين مكونـات المجتمع و هـو الشرط الذي يعين الظلمـة المعـاصرين علـى تفكيك الأمـة لوحدات مهملة يسهـل قضمهـا جملـة .
علــمٌ يتبــخــر ....
يسكت بعض الشيوخ عن داء الاستبداد و يعتبرون بأن الإصلاح ينبغـي أن يكون بالتوعية و الخطب التنبيهية التـي تدور حول العقيدة إجمـالا، لذلك يُكثِـر هـؤلاء من الخِطـابات الدينية و يخطبون علـى الشاشات الفضائية بالحديث عن المواضيع التـي تُحمِّلُ الإنسان مسؤولية أوضاعـه دون أن يضعوا أيديهم علـى الفضاء الذي أنتج الأمراض المتعددة، و المُلاحَظ أن هـؤلاء الصامتين و المُباركين أحيانـا أخرى علـى كثرة ندواتهم و دروسهم إلا أنهم لا يؤسسون لقواعد شعبية جمـاعية قادرة علـى ممارسـة الفعل السياسي التـي تنهـى عن المنكر السلطـاني و تقف ضد المفاسد الكبرى لأن المعرفـة الدينية لا يمكن لهـا وحدهـا أن تصنـع الرجـال في الميدان و لا يمكن لهـا أن تُكسِبَ هـؤلاء الجرأة علــى تحدي الظلم السياسي ، لذلك تجد أتباع هـذا الشيخ أو ذاك لا يكترثون بالهموم الجمـاعية و لا يندمجون في صفوف القضايا الجمـاعية الكبرى بسبب الفردانية الإسلامية التـي زرعهـا بعض الشيوخ العـاجزين في العقول، و تجدُ في المقابل سر نجـاح التنظيمـات الإسلامية في مصر -مثلا- علـى الصمود في الميادين رغم ضراوة العنف المسلط عليهم .
إن العلم الذي لا يلامس الواقع و لا يحوم حول الانتهـاكـات التي تُرتَكب ضد الإنسان هـو علم يتبخـر في الفراغ، فلا فائدة البتـة من فصاحـة لغوية بيانية تُزلزلُ العقول و لا تُحرك القلوب فالرهـان علـى الخطب في إحداث تغيير مجرد وهـم كبير بحكم طبيعـة الدولة البوليسية التـي تلتهم كـل شيء بالتدريج .
و الله أعلـم
(1)
الأمـة كِيـان جماعي تجمعه روابط الدين أو اللغة أو التاريخ، و ولاء أفرادهـا تحكمه بُعدُ الانتماء العقائدي النـاظم للعلاقات، و مـا عداه ليس إلا اعتبارا مُحدِّدا للأمة السياسية التي تسع التعدد العقائدي تحت ميثاق جامع، و على أساس هـذا التمييز سيكون حديثنـا عن الأمـة بالتعريف الأول فننظر في شروط التمكين و أسباب التضعضع الداخلي و أثر ذلك على انحـلال الأمـة و أفول قُـطبِـيتهـا وصولا إلـى واقع الانبطاح الكلي و الشلل الوجودي الذي قد يصيب الأمة في لحظة زمنية مـا قد تطول و قد تقل . إن الأمـة العقائدية ليست خطـا متسلسلا مُرتفعـا عبر التاريخ كمـا أنهـا ليست انحدارا مستديمـا ، و إنمـا تموجـات صـاعدة و هابطة تعكس مدى فاعليتهـا و خمولهـا عبر الزمن و تكشف لحظـات القوة التي ارتبطت بالعزة و التمكين و تُجلـي لحظات الضعف التي ارتبطت بالركون و الجمود في مجـال زمني مـا ، و قوة الأمـة تكمن في قدرتهـا علـى صنـاعـة وجودهــا الحضاري الذي يغطي أشكـال التمدن و في غلبة جُموعهــا علـى مقارعـة الظلم و في بناء نظامـه السياسي الراشد، و قبل هـذا و ذاك يتجلـى في مـدى التزامهـا بالمنهـاج العقائدي و مـا يلحقـه من ترتيبات عملية و أحكـام شرعية، في المقابل يكمن ضعفهـا في تقهقرهـا الحضاري و تراجعهـا الوجودي و في استكـانة جُموعهـا في قبول الإذلال و الاستعباد، و قبل هـذا أو ذاك تتشخصـن هزالتهـا في تمزق منظومـة القيم الدينية و مـا تُرسيهـا من نظم فاعلـة .
لمّـا توسعت الأمـة طولا و عرضا في بلاد العـالم و انتشرت في كل القارات كـان لِزامـا النظر في فـاعليتهـا علـى مستوى كـل قُـطر، إذ بذلك تتضح مدى صمودهـا أو ذوبانهـا فتُكشَف أسباب الانحطـاط و عوامل السقوط في شِرَك الجمود، و المُلاحَظ أن الأمـة القطرية المعاصرة تعـاني من تمزقات و أمراض حوَّلتهـا إلـى كتلـة مُهملـة و إلـى أمـة عقائدية غثائية مشلولة إذ لمّـا تفككت قيم الولاء المطلق لله تعالى و انتقلت من بُعدها الوجدانـي الأصيل إلـى بُعدهـا الكـلامـي صـارت الأمـة القطرية أفرادا بلا روابط تمامـا مثل حباتِ عقدٍ متناثرة لا تنجمع . إن الانحلال الداخـلي و انهيار سلطـة الجمـاعـة العقائدية أنتج بدوره تأزمـات غائرة في بنية التفكير الجمـاعي و حوَّل الشعب إلـى قطـاعات غير مؤثرة في صنـاعـة الحضارة و السياسة و أشغلَ الأفـراد بمعارك هـامشية فأنست مسؤوليتهـا الكبرى في دحـر الظلم السياسي الذي يولِّـد إشكاليات اجتماعية و مآزق اقتصادية و تشوهـات دينية تُصيب الأمـة القطرية بتجمد يُشـل من حركتهـا مـا لـم يتم النـظر في الأصول الكبرى المسببة لهـذا الجمود، فمن أين نشأت الغثائيـة ؟؟
( 2 )
كـانت عـلاقـة الأمـة العقائدية بالسياسة عـلاقة محمولـة علـى قيم المنظومـة الدينية بحيث اعتبرت عناوين الولاء و الطـاعـة و البيعة القائمة علـى الاختيار مفردات دينية يؤديهـا المسلم بموجب مسؤولياته الشرعية لحل مشاكـل التناحر حول السلطة، و كـانت السياسة الشرعية القائمة علـى تنزيل المشروع الإسلامي منهـاجيا يستهدف تحصين العقل الجمـاعي من خـلال تحقيق مطلبين كليين : مطلب العدل في توزيع الثروة كمسلك غـائي أرضي و مطلب الإحـسان في تحقيق العبودية الكـاملة لله تعـالى . لــقد دارَ الزمـان و تولـى السيفُ القيادةَ و تحولت معـه البيعـة إلـى مجرد طقس تقليدي قائم علـى الإكـراه، و لمّـا سـادت لغـة السوط و صارت حيازة السلـطة تتم عبر مسالك الغلبـة و الانتزاء يتلقفهـا طـاغية عن طـاغية كـان لِزامـا أن تنهـار منظومـة العـلاقة بين الدين و السياسـة، بين الحـاكم و المحكومين إذ تغيرت قيم الحكم علـى مستوى الهرم لتمس بَعدهـا وضع الأمـة بالتدريج، و مـع ذلك و نظرا لبساطة تركيبة الدولـة السلطـانية في تاريخنـا الإسلامي لم تقدر أن تُصِبِ المجتمع بالشلل الحضاري لأن تغلغل الدولـة التسلطية ظل ساريـا فقط في نظام الدولـة و لم يمس قدرة الأمـة علـى الإنتاج و العطـاء إلا في بعض الظروف التي التهمت فيهـا الدولةُ المجتمعَ و ساستهـا بالقهر و الإذلال ، لذلك لم تمت الأمة إبـان حكم الدولة الأمـوية أو العباسية رغم الفساد السياسي و الحكم المستبد بفعـل استقلالية المجتمع عن الدولة السلطانية حيث قادت الكوادر الفُقَهـائية و المعارضة السياسية و الحركـات الكـلامية المجتمعَ و حصنتـه من التفكك الديني الداخلي و سلحتـهُ بقيم الدفاع عن الدين و أبقتْ في عقلهـا الجمـاعي مركزية الدين الوجودي و شموليته المعيارية، ففي هـذا المنـاخ نشطت حركـة التأليف في كـافـة المصنفات الشرعية و الأدبية و الفلسفية و الكـلامية و العُـلومية و تعددت فيه المدارس الفقهـائية بشكل دل علـى حيوية الحضارة التي صنعتهـا طبقة المجتمع لا طبقة الدولة إذ لـم تكن الأخيرة قد تحكمت كثيرا في الأولـى إلا بمقدار ضئيل يخص المعـارضين "لشرعية" الحكم الأموي و العباسي .
عـلاقـة الدولة بالمجتمع يمثل مدخـلا هـامـا لمن يودّ فهْـمَ كيف يُصنع التفرق الداخـلي و كيف تنتشر في ذاتـه أمراضا اجتمـاعية و اقتصادية و دينية، فكلمـا تنـاسبَ رأسُ الدولـة جســدَ المجتمع كلمـا تحقق الانسجـام التداولي و كلمـا تنـاقضت مشاريعهـمـا كلمـا اضطربت وِجهـة التغيير و أنتجت تصدعـات متغلغلة في مفاصل المجتمع فتتراكمَ عبر الزمن لتصبح معيقات موضوعية و ذاتية حـادة، لذلك يُدرك المتأمـل في مسيرة التاريخ الإسلامي كيف التحمت مرجعية المجتمع بمرجعية الدولة في عهـد الخـلفاء الراشدين و صارت دولة الخـلافـة لُحــمَــة الأمـة حتـى بدأ التصدع يسري شيئا فشيئا بعد الانقلاب الأمـوي الذي مكَّن من إرسـاء تقاليد سياسية جديدة أفرزت قيمـا اجتماعية فاسدة موروثة، و لم يكن بمقدور الدولة السلطانية فصل نفسهـا عن المجتمع علـى مستوى وظيفتهـا القائمة علـى إنفـاذ الشريعـة علنـاً نظرا لطبيعـة المجـال التداولي الإسلامي الضاغـط و النـاظم للفكر و العمـل، لذلك بدأ الشروع في تبني آليات الالتفاف علـى الدين عن طريق الاستئثار بالسلطة و التحكم ببيت المـال و ترك هوامش لتعبير النـاس عن مظالمهم أمـام قضاء مستقل دون أن يمتد ذلك إلـى ملاحقة الظالمين الكِبـار الذين وُضعوا فوق المحـاسبة .
( 3 )
بعد انهيـار سلطـة الخـلافة و حلول القُطريات و دُويلات التجزئة توسعت الشقة بين الدولة و الأمـة و برزت صراعـات شديدة عكست في الواقع أزمـة الهوية و الشرعية، إذ أن جهـاز الدولة المُستَورَد لم يكن في الحقيقة إلا بدايـة انفصال الرأس عن الجسد و نقطة تحول كبير في أدوار رجال الدعوة و الدولة حيث علتِ الدولة و صارت كِيانـا خـارقا يملك إمكـانية اختراق جميع نواحـي الحياة العـامـة و التأثير في نمـط العـلاقات بين النـاس و التحكم في رغيف العيش مـمـا جعـل بمقدوره تشتيت العقل الجمـاعي و تخريب آليات دفاعـه و تقطيع كـل تكتلات المـمانعـة و زرع أشكـال جديدة تتأسس ثقافتهـا علـى الانبطـاح و التواكلية و الفردانية ، من هنـا تبدأ عمليات المسخ و قلب القيم و تجميد الطـاقات و ترسيخ الأنـانيات الفردية فتنحـل عُـرى الجمـاعـة إلـى كتلة بشريـة فاقدة للإرادة و المبادرة . إن هـذه الوضعيات الجديدة التي تلخصهـا عنوان "الغثائية" لم تكن لتصل هـذا الحد من التردي لولا ارتباط الدولـة بالاستبداد السياسي و لولا جنون السلطـة الجبرية في إخـضاع كـل تيار أو حركـة تحت قبضتهـا، فالدولة البولسية بتركيبتهـا البنيوية تنزع نحـو الداخـل للإخـضاع و تنزع للخـارج للخضوع فتُنـشِــئُ في الداخـل تناحرا اجتمـاعية و تمزقات اقتصادية و تشوهـات دينية و مفاسد أخـلاقية تودي بالأمـة إلـى مهـالك حقيقية لا تقوى بسببهــا علـى مواجهــة التحديات فتكون بذلك ثمرة من ثمرات الاستبداد السياسي الذي أجهـز علـى كـل الإرادات و قتـلَ كـل أكـل للتحرر .
سُذَّجٌ أولئـك الذين يظنون أن الاستبداد السياسي شأن سياسي، فالبعض من الشيوخ الذين يتساهلون مع الظلمـة الفاسدين و يعتقدون بأن تبعـاتـه تعود لذاتـه لا لذات الجمـاعة، هـؤلاء لـم يستوعبوا تحليل عـلاقـة الاستبداد بالأمـة و لم يدركوا حجـم الفرق بين مـا آلت إليهـا الدولـة المعـاصرة من تضخم في الصلاحيات و بين مـا كـانت في المـاضي ، ففي زمننــا يمـارس الاستبداد تأثيرات مفصلية علـى الأمـة بحيث يُنتج بسياساته خرابا هـائلا في البنيات الداخلية "الفوقية" و "التحتية" ممـا يسمح للمستبدين بإحكـام السيطرة علـى كـل أنواع المعارضات و تنويم قطـاعات شعبية و تفكيك عـلاقات القيم و تحويل المجتمع لكومـة قش متراخية تذروهـا الرياح . إنّ ممـا كـان يعطي للمجتمع الإسلامي هيبتـه في الماضي أنه ظـلّ يستمـد عـلاقاته البنـائية من مجالـه التداولي الذي يمثل المرجعية الدينية الكلية إذ سـاعده ذلك علـى بقاء رسالتـه الخـالدة حيّـةً في العقل الجمـاعي مـما جعـل الطـاغية يخشـى دومـا من كلمـة فقيه ثائر أو زعيم معارض، أمــا واقعنـا المعـاصر فقد تحـالفَ الاستبداد مع التغريب القيمي ممـا قضـى علـى كل العوامـل التــي كـانت تمنح الأمـة القوة علـى استنكـار المنكر . إن هـذه الوضعية الجديدة أنتجت تحديات كبيرة جعلت طُلاب التغيير أحيانـا ييأسون من إمكـانية تجاوز سلطـة الواقع و إكراهـاته نظرا لطبيعـة الخراب الهـائل الذي مس العقول و القلوب، فالتغريب هـو الســلاح الثقافي الذي يوظفـه المستبدون لأجـل إحداث فراغـات بين مكونـات المجتمع و هـو الشرط الذي يعين الظلمـة المعـاصرين علـى تفكيك الأمـة لوحدات مهملة يسهـل قضمهـا جملـة .
علــمٌ يتبــخــر ....
يسكت بعض الشيوخ عن داء الاستبداد و يعتبرون بأن الإصلاح ينبغـي أن يكون بالتوعية و الخطب التنبيهية التـي تدور حول العقيدة إجمـالا، لذلك يُكثِـر هـؤلاء من الخِطـابات الدينية و يخطبون علـى الشاشات الفضائية بالحديث عن المواضيع التـي تُحمِّلُ الإنسان مسؤولية أوضاعـه دون أن يضعوا أيديهم علـى الفضاء الذي أنتج الأمراض المتعددة، و المُلاحَظ أن هـؤلاء الصامتين و المُباركين أحيانـا أخرى علـى كثرة ندواتهم و دروسهم إلا أنهم لا يؤسسون لقواعد شعبية جمـاعية قادرة علـى ممارسـة الفعل السياسي التـي تنهـى عن المنكر السلطـاني و تقف ضد المفاسد الكبرى لأن المعرفـة الدينية لا يمكن لهـا وحدهـا أن تصنـع الرجـال في الميدان و لا يمكن لهـا أن تُكسِبَ هـؤلاء الجرأة علــى تحدي الظلم السياسي ، لذلك تجد أتباع هـذا الشيخ أو ذاك لا يكترثون بالهموم الجمـاعية و لا يندمجون في صفوف القضايا الجمـاعية الكبرى بسبب الفردانية الإسلامية التـي زرعهـا بعض الشيوخ العـاجزين في العقول، و تجدُ في المقابل سر نجـاح التنظيمـات الإسلامية في مصر -مثلا- علـى الصمود في الميادين رغم ضراوة العنف المسلط عليهم .
إن العلم الذي لا يلامس الواقع و لا يحوم حول الانتهـاكـات التي تُرتَكب ضد الإنسان هـو علم يتبخـر في الفراغ، فلا فائدة البتـة من فصاحـة لغوية بيانية تُزلزلُ العقول و لا تُحرك القلوب فالرهـان علـى الخطب في إحداث تغيير مجرد وهـم كبير بحكم طبيعـة الدولة البوليسية التـي تلتهم كـل شيء بالتدريج .
و الله أعلـم