منهج عثمان في جمع القرآن
1 - عمل عثمان في جمع القرآن
كان المقصود من جمع القرآن زمن عثمان قطع دابر الفتنة التي طرأت على المسلمين من الاختلاف في كتاب الله، بجمع وتحديد الأوجه المتواترة المجمع عليها في تلاوة القرآن، وإبعاد كل ما لم تثبت قرآنيته، سواء بنسخ، أو بأن لم يكن قرآنًا أصلاً.
قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ومفروضٍ قراءتُه وحفظُه؛ خشية وقوع الفساد والشبهة على من يأتي بعد.(1)
فأراد عثمان أن ينسخ من الصحف التي جمعها أبو بكر مصاحف مجمعًا عليها تكون أئمة للناس في تلاوة القرآن.
قال ابن حزم: خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل- رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.(2)
فلم يكن قصد عثمان جمع ما ليس مجموعًا، فقد كان القرآن زمن الصديق قد جُمِع، وإنما قصَدَ نسخَ ما كان مجموعًا منه زمن الصديق في مصاحف يقتدي بِها المسلمون.
قال النووي: خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم .ـ(3)
قال البيهقي: ثم نسخ (زيدٌ) ما جمعه في الصحف (في عهد أبي بكر) في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى .ـ(4)
2 - خطة العمل
شرع الصحابة الموكلون بجمع القرآن في كتابة المصحف الإمام، الذي نسخوا منه بعد ذلك المصاحف المرسلة إلى الأمصار، وكان الخليفة عثمان ? يتعاهدهم ويشرف عليهم، وكان الموجودون من الصحابة جميعًا يشاركون في هذا العمل.
ويُمكن أن يلخص منهج الجمع العثماني فيما يأتي:
1 - الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق ، ويظهر هذا جليًّا في طلب عثمان الصحف التي جمع فيها أبو بكرٍ القرآن من حفصة -رضي الله عنها، وقد كانت هذه الصحف -كما مرَّ- مستندةً إلى الأصل المكتوب بين يدي النَّبِيّ .
وبذلك ينسد باب القالة، فلا يزعم زاعم أن في الصحف المكتوبة في زمن أبي بكر ما لم يُكتب في المصحف العثماني، أو أنه قد كتب في مصاحف عثمان ما لم يكن في صحف أبي بكر.(5)
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: … فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ.(6)
2 - أن يتعاهد لجنة الجمع ويشرف عليها خليفة المسلمين بنفسه:
فعن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبـْـعَةِ(7) التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم.(8)
3 - أن يأتي كلُّ مَن عنده شيءٌ من القرآن سمعه من الرَّسُول ? بِما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جُمِع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده شيء منه، ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف، ولا يُشَكُّ في أنه جمِع عن ملأٍ منهم.(9)
ويدل على ذلك ما صحَّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت.(10)
وورد كذلك أن عثمان دعا الناس إلى أن يأتوا بِما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النَّبِيّ ، وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستيثاق.
فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنةً، وأنتم تَمترون في القرآن… فأَعْزِم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيءٌ لَمَا جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم: لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ، وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم.(11)
4 - الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش.
كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.(12)
والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتُها عن النَّبِيّ ، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقةٌ ولا اختلاف، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رَسُول اللهِ لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحدٌ منهم القراءة بِها.
قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم.(13)
فلعلَّ عثمان عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف.(14)
وقد اختلف الصحابة في كلمة (التابوت) هل هي بالتاء أم بالهاء.
كما قال الزهري: واختلفوا يومئذٍ في (التابوت) و(التابوه)، فقال النفر القرشيون: (التابوت)، وقال زيدٌ: (التابوه)، فرُفِع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت)، فإنه بلسان قريشٍ.(15)
على أنه قد ورد أن الذي رأى أنَّها بالتاء هو زيدٌ، كما روى الطحاوي عن زيد ابن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{،(16) قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: (التَّابُوتُ)، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ (التَّابُوتُ).(17)
5 - أن يُمنع كتابة ما نُسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادًا، وما لم تُعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحًا لمعنىً، أو بيانًا لناسخ أو منسوخٍ، أو نحو ذلك.(18)
ومِمَّا يدل لذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(19)
6 - أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بِها القرآن، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة(20) مع مراعاة ما يأتي:
أ- عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجهٍ مختلفةٍ عن النَّبِيّ ، يبقيه الكَتَبَةُ خاليًا عن أية علامة تقصِر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية،(21) فتكتب هذه الكلمات برسم واحدٍ في جميع المصاحف، محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة، ومن أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: } كَيْفَ نُنْشِزُهَا{،(22) بالزاي المنقوطة، فقد قرأها أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب } نُنْشِرُهَا {، بالراء المهملة.(23)
2 - وقوله ?: } هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {،(24) بالباء الموحدة من البلوى، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف: } هُنَالِكَ تَتْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {، بالتاء المثناة من التلاوة، مكان الباء الموحدة.(25)
3 - وقوله تعالى: } فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ {،(26) بفتح العين والميم، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف وشعبة: } فِي عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ {، بضم العين والميم.(27)
ب- ما لا يحتمله الرسم الواحد، كالكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، ولم تنسخ في العرضة الأخيرة، ورسمُها على صورة واحدة لا يكون محتملاً لما فيها من أوجه القراء، فمثل هذه الكلمات ترسم في بعض المصاحف على صورة تدل على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى.(28)
ولم يكتب الصحابة تلك الكلمات برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية؛ لئلا يُتَوَهَّم أن الثاني تصحيحٌ للأول، وأن الأول خطأ، وكذلك لأن جعل إحدى القراءات في الأصل والقراءات الأخرى في الحاشية تحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجِّح؛ إذ إنَّهم تلقَّوْا جميع تلك الأوجه عن النَّبِيّ ? ، وليست إحداها بأولى من غيرها.(29)
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - قوله تعالى: } وقالوا اتخذ الله ولدًا {،(30) فقد قرأها عبد الله بن عامرٍ الشامي: } قالوا اتخذ الله ولدًا { بغير واو. وهي كذلك في مصاحف أهل الشام.(31)
2 - قوله ?: } وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ {،(32) فقد قرأها أبو جعفرٍ، ونافعٌ، وابن عامرٍ: } وَأَوْصَى بِها إِبْرَاهِيمُ { من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين. قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان ?، ورسمت في بقية المصاحف بواوين قبل الصاد، من غير ألفٍ بينهما.(33)
3 - وقوله تعالى: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ {،(34) فقد قرأها عبد الله بن كثير المكي: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ {، بزيادة ( مِنْ) قبل (تَحْتِهَا). وهي كذلك في المصحف المكي، وفي بقية المصاحف بحذفها.(35)
4 - وقوله تعالى: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {،(36) في قراءة أبي جعفر، ونافع، ورواية حفص عن عاصم بِهاء بعد الياء في (تَشْتَهِيهِ)، وقد قرأها بقية القراء: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {، دون الهاء الأخيرة.(37)
قال أبو عمرو الداني: في مصاحف أهل المدينة والشام ( تَشْتَهِيهِ ) بِهاءين، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة، وغلط.
وقال أبو عبيد: وبِهاءين رأيته في الإمام. وفي سائر المصاحف (تَشْتَهِي) بِهاء واحدة اهـ.(38)
7 - بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت ، ثم يراجعه عثمان بنفسه.
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ يَقْرَأُ بِها، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ } مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ {،(39) فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.(40)
كانت هذه هي المراجعة الأولى لزيدٍ ، ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء.
فعن زيد بن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{ قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: التَّابُوتُ، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ التَّابُوتَ، ثُمَّ عَرَضَهُ -يَعْنِي الْمُصْحَفَ- عَرْضَةً أُخْرَى، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى حَفْصَةَ أَنْ تُعْطِيَهُ الصَّحِيفَةَ، وَحَلَفَ لَهَا لَيَرُدَّنَّ الصَّحِيفَةَ إلَيْهَا، فَأَعْطَتْهُ فَعَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي شَيْءٍ، فَرَدَّهَا إلَيْهَا وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ يَكْتُبُونَ مَصَاحِفَ.(41)
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بِما جمعه الصديق كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لِمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلافٍ بين الحفَّاظ والعلماء.
وقد نفَّذ الصحابة هذه الضوابط أدقَّ تنفيذٍ، فكانوا ربَّما انتظروا الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانًا، حتى يستثبتوا مِمَّا عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة والإملاء كانوا من الحفاظ القراء.
عن مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ فيمن أملى عليهم، فربَّما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقَّاها من رَسُول اللهِ ?، ولعله أن يكون غائبًا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يُرسَل إليه.(42)
ثم أمر عثمان ? بعد ذلك بنسخ المصاحف عن المصحف الإمام، وإرسالها إلى الأمصار، وهي التي عرفت فيما بعدُ بالمصاحف العثمانية، وحولها يدور الحديث في الفصل الآتي -إن شاء الله.
-------------------------------------------
(1) البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212-213).
(3) التبيان في آداب حملة القرآن ص 96.
(4) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/148).
(5) الكواكب الدرية ص 21.
(6) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(7) الرَّبْعَة: جُونة العطَّار، وصندوق أجزاء المصحف. القاموس المحيط (ربع) ص 929.
(8) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(9) انظر البرهان في علوم القرآن (1/238-239).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30. وقال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فتح الباري (8/634).
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف. ص 31.
(12) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(13) فتح الباري (8/625).
(14) فتح الباري (8/625).
(15) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف ص 26، وانظر فتح الباري (8/635).
(16) سورة البقرة من الآية 248.
(17) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(18) انظر البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(19) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(20) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 387-388.
(21) النشر في القراءات العشر (1/33).
(22) سورة البقرة من الآية 259.
(23) النشر في القراءات العشر (2/231).
(24) سورة يونس ?، من الآية 30.
(25) النشر في القراءت العشر (2/283).
(26) سورة الهمزة، آية 9.
(27) النشر في القراءات العشر (2/403).
(28) سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين، للشيخ على محمد الضباع. ص 101-106،وانظر أيضًا شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن لإبراهيم المارغني التونسي ص 436 وما بعدها.
(29) مناهل العرفان (1/259)، والكواكب الدرية ص 22-23.
(30) سورة البقرة، من الآية 116.
(31) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 54، والنشر في القراءات العشر (1/11)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(32) سورة البقرة، من الآية 132.
(33) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 51، 54، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(34) سورة التوبة من الآية 100.
(35) النشر في القراءات العشر (1/11)، و(2/280)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 448، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 57.
(36) من الآية 71 من سورة الزخرف.
(37) النشر في القراءات العشر (2/370)، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 53، 56.
(38) شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 455-456.
(39) سورة الأحزاب، من الآية 23.
(40) رواه البخاري في الصحيح كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4988.
(41) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(42) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف. ص 29.
1 - عمل عثمان في جمع القرآن
كان المقصود من جمع القرآن زمن عثمان قطع دابر الفتنة التي طرأت على المسلمين من الاختلاف في كتاب الله، بجمع وتحديد الأوجه المتواترة المجمع عليها في تلاوة القرآن، وإبعاد كل ما لم تثبت قرآنيته، سواء بنسخ، أو بأن لم يكن قرآنًا أصلاً.
قال القاضي الباقلاني: لم يقصد عثمانُ قَصْدَ أبي بكرٍ في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما قصد جمعَهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النَّبِيّ ، وإلغاء ما ليس كذلك، وأخْذَهُم بِمصحفٍ لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أُثبِت مع تنزيلٍ، ولا منسوخ تلاوته كُتِبَ مع مُثْبَت رسمه ومفروضٍ قراءتُه وحفظُه؛ خشية وقوع الفساد والشبهة على من يأتي بعد.(1)
فأراد عثمان أن ينسخ من الصحف التي جمعها أبو بكر مصاحف مجمعًا عليها تكون أئمة للناس في تلاوة القرآن.
قال ابن حزم: خشي عثمان أن يأتي فاسقٌ يسعى في كيد الدين، أو أن يهِمَ واهمٌ من أهل الخير، فيبدِّل شيئًا من المصحف، فيكون اختلاف يؤدي إلى الضلال، فكتب مصاحف مجمعًا عليها، وبعث إلى كل أفق مصحفًا، لكي -إن وهم واهمٌ، أو بدَّل مبدِّل- رُجِع إلى المصحف المجمع عليه، فانكشف الحق، وبطل الكيد والوهم.(2)
فلم يكن قصد عثمان جمع ما ليس مجموعًا، فقد كان القرآن زمن الصديق قد جُمِع، وإنما قصَدَ نسخَ ما كان مجموعًا منه زمن الصديق في مصاحف يقتدي بِها المسلمون.
قال النووي: خاف عثمان وقوع الاختلاف المؤدي إلى ترك شيء من القرآن، أو الزيادة فيه، فنسخ من ذلك المجموع الذي عند حفصة، الذي أجمعت الصحابة عليه مصاحفَ، وبعث بِها إلى البلدان، وأمر بإتلاف ما خالفها، وكان فعله هذا باتفاق منه ومن علي بن أبي طالب، وسائر الصحابة، وغيرهم .ـ(3)
قال البيهقي: ثم نسخ (زيدٌ) ما جمعه في الصحف (في عهد أبي بكر) في مصاحف بإشارة عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى .ـ(4)
2 - خطة العمل
شرع الصحابة الموكلون بجمع القرآن في كتابة المصحف الإمام، الذي نسخوا منه بعد ذلك المصاحف المرسلة إلى الأمصار، وكان الخليفة عثمان ? يتعاهدهم ويشرف عليهم، وكان الموجودون من الصحابة جميعًا يشاركون في هذا العمل.
ويُمكن أن يلخص منهج الجمع العثماني فيما يأتي:
1 - الاعتماد على جمع أبي بكر الصديق ، ويظهر هذا جليًّا في طلب عثمان الصحف التي جمع فيها أبو بكرٍ القرآن من حفصة -رضي الله عنها، وقد كانت هذه الصحف -كما مرَّ- مستندةً إلى الأصل المكتوب بين يدي النَّبِيّ .
وبذلك ينسد باب القالة، فلا يزعم زاعم أن في الصحف المكتوبة في زمن أبي بكر ما لم يُكتب في المصحف العثماني، أو أنه قد كتب في مصاحف عثمان ما لم يكن في صحف أبي بكر.(5)
عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: … فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِها حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ.(6)
2 - أن يتعاهد لجنة الجمع ويشرف عليها خليفة المسلمين بنفسه:
فعن كَثِير بن أفلَحَ قال: لَمَّا أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار ، فيهم أُبَيُّ بن كعبٍ وزيد بن ثابت، قال: فبعثوا إلى الرَّبـْـعَةِ(7) التي في بيت عُمَرَ، فجِيء بِها، قال: وكان عثمانُ يتعاهدهم.(8)
3 - أن يأتي كلُّ مَن عنده شيءٌ من القرآن سمعه من الرَّسُول ? بِما عنده، وأن يشترك الجميع في علم ما جُمِع، فلا يغيب عن جمع القرآن أحدٌ عنده شيء منه، ولا يرتاب أحدٌ فيما يودَع المصحف، ولا يُشَكُّ في أنه جمِع عن ملأٍ منهم.(9)
ويدل على ذلك ما صحَّ عن عليِّ بنِ أبي طالبٍ أنه قال: يا أيها الناسُ، لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إلاَّ عن ملأٍ منَّا جميعًا، فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خيرٌ من قراءتك، وهذا يكاد أن يكون كُفْرًا. قلنا: فماذا ترى؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحفٍ واحدٍ، فلا تكون فرقةٌ، ولا يكون اختلافٌ. قلنا: فنعم ما رأيت.(10)
وورد كذلك أن عثمان دعا الناس إلى أن يأتوا بِما عندهم من القرآن المكتوب بين يدي النَّبِيّ ، وأنه كان يستوثق لذلك أشد الاستيثاق.
فعن مصعب بن سعد قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: أيها الناس! عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة سنةً، وأنتم تَمترون في القرآن… فأَعْزِم على كل رجل منكم ما كان معه من القرآن شيءٌ لَمَا جاء به، وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم: لَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ ، وهو أملاه عليك؟ فيقول: نعم.(11)
4 - الاقتصار عند الاختلاف على لغة قريش.
كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاَثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ، فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا.(12)
والمقصود من الجمع على لغة واحدة: الجمع على القراءة المتواترة المعلوم عند الجميع ثبوتُها عن النَّبِيّ ، وإن اختلفت وجوهها، حتى لا تكون فرقةٌ ولا اختلاف، فإن ما يعلم الجميع أنه قراءة ثابتة عن رَسُول اللهِ لا يختلفون فيها، ولا ينكر أحدٌ منهم القراءة بِها.
قال أبو شامة: يحتمل أن يكون قوله: نزل بلسان قريش، أي: ابتداء نزوله، ثم أبيح أن يقرأ بلغة غيرهم.(13)
فلعلَّ عثمان عندما جمع القرآن رأى الحرف الذي نزل القرآن أولاً بلسانه أولى الأحرف، فحمل الناس عليه عند الاختلاف.(14)
وقد اختلف الصحابة في كلمة (التابوت) هل هي بالتاء أم بالهاء.
كما قال الزهري: واختلفوا يومئذٍ في (التابوت) و(التابوه)، فقال النفر القرشيون: (التابوت)، وقال زيدٌ: (التابوه)، فرُفِع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه (التابوت)، فإنه بلسان قريشٍ.(15)
على أنه قد ورد أن الذي رأى أنَّها بالتاء هو زيدٌ، كما روى الطحاوي عن زيد ابن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{،(16) قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: (التَّابُوتُ)، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ (التَّابُوتُ).(17)
5 - أن يُمنع كتابة ما نُسخت تلاوته، وما لم يكن في العرضة الأخيرة، وما كانت روايته آحادًا، وما لم تُعلم قرآنيته، أو ما ليس بقرآن، كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة، شرحًا لمعنىً، أو بيانًا لناسخ أو منسوخٍ، أو نحو ذلك.(18)
ومِمَّا يدل لذلك ما ورد عن محمد بن سيرين عن كَثِير بن أفلَحَ قال: فكانوا إذا تدارؤوا في شيء أخَّروه، قال محمد: فقلت لكَثِيرٍ -وكان فيهم (فيمن يكتب): هل تدرون لم كانوا يُؤَخِّرونه؟ قال: لا. قال محمد: فظننت أنَّهم إنَّما كانوا يُؤَخِّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الآخرة، فيكتبونَها على قوله.(19)
6 - أن يشتمل الجمع على الأحرف التي نزل بِها القرآن، والتي ثبت عرضها في العرضة الأخيرة(20) مع مراعاة ما يأتي:
أ- عند كتابة اللفظ الذي تواتر النطق به على أوجهٍ مختلفةٍ عن النَّبِيّ ، يبقيه الكَتَبَةُ خاليًا عن أية علامة تقصِر النطق به على وجه واحد؛ لتكون دلالة المكتوب على كلا اللفظين المنقولين المسموعين متساوية،(21) فتكتب هذه الكلمات برسم واحدٍ في جميع المصاحف، محتمل لما فيها من الأوجه المتواترة، ومن أمثلة ذلك:
1 - قوله تعالى: } كَيْفَ نُنْشِزُهَا{،(22) بالزاي المنقوطة، فقد قرأها أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب } نُنْشِرُهَا {، بالراء المهملة.(23)
2 - وقوله ?: } هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {،(24) بالباء الموحدة من البلوى، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف: } هُنَالِكَ تَتْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ {، بالتاء المثناة من التلاوة، مكان الباء الموحدة.(25)
3 - وقوله تعالى: } فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ {،(26) بفتح العين والميم، فقد قرأ حمزة والكسائي وخلف وشعبة: } فِي عُمُدٍ مُمَدَّدَةٍ {، بضم العين والميم.(27)
ب- ما لا يحتمله الرسم الواحد، كالكلمات التي تضمنت قراءتين أو أكثر، ولم تنسخ في العرضة الأخيرة، ورسمُها على صورة واحدة لا يكون محتملاً لما فيها من أوجه القراء، فمثل هذه الكلمات ترسم في بعض المصاحف على صورة تدل على قراءة، وفي بعضها برسم آخر يدل على القراءة الأخرى.(28)
ولم يكتب الصحابة تلك الكلمات برسمين أحدهما في الأصل والآخر في الحاشية؛ لئلا يُتَوَهَّم أن الثاني تصحيحٌ للأول، وأن الأول خطأ، وكذلك لأن جعل إحدى القراءات في الأصل والقراءات الأخرى في الحاشية تحكُّمٌ، وترجيحٌ بلا مرجِّح؛ إذ إنَّهم تلقَّوْا جميع تلك الأوجه عن النَّبِيّ ? ، وليست إحداها بأولى من غيرها.(29)
ومن الأمثلة على ذلك:
1 - قوله تعالى: } وقالوا اتخذ الله ولدًا {،(30) فقد قرأها عبد الله بن عامرٍ الشامي: } قالوا اتخذ الله ولدًا { بغير واو. وهي كذلك في مصاحف أهل الشام.(31)
2 - قوله ?: } وَوَصَّى بِها إِبْرَاهِيمُ {،(32) فقد قرأها أبو جعفرٍ، ونافعٌ، وابن عامرٍ: } وَأَوْصَى بِها إِبْرَاهِيمُ { من الإيصاء. وقد رسمت في مصاحف أهل المدينة والشام بإثبات ألف بين الواوين. قال أبو عبيد: وكذلك رأيتها في الإمام مصحف عثمان ?، ورسمت في بقية المصاحف بواوين قبل الصاد، من غير ألفٍ بينهما.(33)
3 - وقوله تعالى: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ {،(34) فقد قرأها عبد الله بن كثير المكي: } وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ {، بزيادة ( مِنْ) قبل (تَحْتِهَا). وهي كذلك في المصحف المكي، وفي بقية المصاحف بحذفها.(35)
4 - وقوله تعالى: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {،(36) في قراءة أبي جعفر، ونافع، ورواية حفص عن عاصم بِهاء بعد الياء في (تَشْتَهِيهِ)، وقد قرأها بقية القراء: } وَفِيهَا مَا تَشْتَهِي الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ {، دون الهاء الأخيرة.(37)
قال أبو عمرو الداني: في مصاحف أهل المدينة والشام ( تَشْتَهِيهِ ) بِهاءين، ورأيت بعض شيوخنا يقول: إن ذلك كذلك في مصاحف أهل الكوفة، وغلط.
وقال أبو عبيد: وبِهاءين رأيته في الإمام. وفي سائر المصاحف (تَشْتَهِي) بِهاء واحدة اهـ.(38)
7 - بعد الفراغ من كتابة المصحف الإمام يراجعه زيد بن ثابت ، ثم يراجعه عثمان بنفسه.
عن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: فَقَدْتُ آيَةً مِنَ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ، قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللهِ يَقْرَأُ بِها، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ } مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ {،(39) فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ.(40)
كانت هذه هي المراجعة الأولى لزيدٍ ، ويظهر من الروايات أنه عرضه مرتين أخريين، فأظهرت الثانية الاختلاف في لفظ (التابوت)، ولم تكشف الثالثة عن شيء.
فعن زيد بن ثابت أنَّه لَمَّا بَلَغَ: } إنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ{ قَالَ زَيْدٌ: فَقُلْت أَنَا: التَّابُوتُ، فَرَفَعْنَا ذَلِكَ إلَى عُثْمَانَ، فَكَتَبَ التَّابُوتَ، ثُمَّ عَرَضَهُ -يَعْنِي الْمُصْحَفَ- عَرْضَةً أُخْرَى، فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ شَيْئًا، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إلَى حَفْصَةَ أَنْ تُعْطِيَهُ الصَّحِيفَةَ، وَحَلَفَ لَهَا لَيَرُدَّنَّ الصَّحِيفَةَ إلَيْهَا، فَأَعْطَتْهُ فَعَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَيْهَا، فَلَمْ يَخْتَلِفَا فِي شَيْءٍ، فَرَدَّهَا إلَيْهَا وَطَابَتْ نَفْسُهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ يَكْتُبُونَ مَصَاحِفَ.(41)
وفي هذا الأثر ما يدل على أن المعارضة بِما جمعه الصديق كانت بعد الانتهاء من كتابة المصحف الإمام، لِمزيد الاطمئنان، وفي هذا ما يدل على بقاء الأوجه الثابتة من القراءة بغير اختلافٍ بين الحفَّاظ والعلماء.
وقد نفَّذ الصحابة هذه الضوابط أدقَّ تنفيذٍ، فكانوا ربَّما انتظروا الغائب الذي عنده الشيء من القرآن زمانًا، حتى يستثبتوا مِمَّا عنده، على الرغم من أن القائمين بالكتابة والإملاء كانوا من الحفاظ القراء.
عن مالك بن أبي عامر، قال: كنتُ فيمن أملى عليهم، فربَّما اختلفوا في الآية، فيذكرون الرجل قد تلقَّاها من رَسُول اللهِ ?، ولعله أن يكون غائبًا أو في بعض البوادي، فيكتبون ما قبلها وما بعدها، ويدعون موضعها حتى يجيء، أو يُرسَل إليه.(42)
ثم أمر عثمان ? بعد ذلك بنسخ المصاحف عن المصحف الإمام، وإرسالها إلى الأمصار، وهي التي عرفت فيما بعدُ بالمصاحف العثمانية، وحولها يدور الحديث في الفصل الآتي -إن شاء الله.
-------------------------------------------
(1) البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/212-213).
(3) التبيان في آداب حملة القرآن ص 96.
(4) دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (7/148).
(5) الكواكب الدرية ص 21.
(6) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(7) الرَّبْعَة: جُونة العطَّار، وصندوق أجزاء المصحف. القاموس المحيط (ربع) ص 929.
(8) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(9) انظر البرهان في علوم القرآن (1/238-239).
(10) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان المصاحف ص 30. وقال الحافظ ابن حجر: بإسنادٍ صحيح. فتح الباري (8/634).
(11) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف. ص 31.
(12) رواه البخاري في صحيحه: كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4987.
(13) فتح الباري (8/625).
(14) فتح الباري (8/625).
(15) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف ص 26، وانظر فتح الباري (8/635).
(16) سورة البقرة من الآية 248.
(17) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(18) انظر البرهان في علوم القرآن (1/235-236)، والإتقان في علوم القرآن (1/171).
(19) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان رحمة الله عليه المصاحف ص 33، وأورده الحافظ ابن كثير من طريق ابن أبي داود، وقال: إسناده صحيح. فضائل القرآن ص 45.
(20) انظر نكت الانتصار لنقل القرآن ص 387-388.
(21) النشر في القراءات العشر (1/33).
(22) سورة البقرة من الآية 259.
(23) النشر في القراءات العشر (2/231).
(24) سورة يونس ?، من الآية 30.
(25) النشر في القراءت العشر (2/283).
(26) سورة الهمزة، آية 9.
(27) النشر في القراءات العشر (2/403).
(28) سمير الطالبين في رسم وضبط الكتاب المبين، للشيخ على محمد الضباع. ص 101-106،وانظر أيضًا شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن لإبراهيم المارغني التونسي ص 436 وما بعدها.
(29) مناهل العرفان (1/259)، والكواكب الدرية ص 22-23.
(30) سورة البقرة، من الآية 116.
(31) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 54، والنشر في القراءات العشر (1/11)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(32) سورة البقرة، من الآية 132.
(33) كتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 51، 54، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 442.
(34) سورة التوبة من الآية 100.
(35) النشر في القراءات العشر (1/11)، و(2/280)، وشرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 448، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 57.
(36) من الآية 71 من سورة الزخرف.
(37) النشر في القراءات العشر (2/370)، وكتاب المصاحف لابن أبي داود ص 49، 53، 56.
(38) شرح الإعلان بتكميل مورد الظمآن ص 455-456.
(39) سورة الأحزاب، من الآية 23.
(40) رواه البخاري في الصحيح كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن (8/626) ح 4988.
(41) رواه الطحاوي في تأويل مشكل الآثار، باب بَيَانُ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ? مِنْ قَوْلِهِ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ. (4/193).
(42) رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف باب جمع عثمان ? القرآن في المصاحف. ص 29.
تعليق