السـلام عليكم
في الدول المتخلفة، تشهـد عملية الإصلاحـات فيهـا منحـى غريبا يجعلهـا تترنح دومـاً بين السقوط و الهـاويـة، فقد تبدأ دولـة هنـا أو هنـاك بعملية تحديثٍ للإدارة و ترميمٍ لمرافق الدولـة و بنـاءٍ لهياكلهـا و إحـياءٍ لفاعلية الأحزاب فيهـا، و قـد تذهـب بعيدا في إشـاعـة أجواء المنـاخ الديمقراطي وسطَ شعبهـا بحيث يؤدي إلـى رفع سقف الوعـي الشعبي و إدمـاج طبقات كبرى ضمـن تحولات الدولـة علـى مستويات السياسة و الاقتصاد و الثقافـة.. قـد تكون الكوادر السياسيـة الصـاعدة صادقة في نواياهـا و قادرة علـى تجاوز تحديات التحديث و مـا تطرحها من إشكـالات بنيوية عويصـة فيحدث أن تصطدم بإرادات مـانعـة من تحقق التغيير تتستـر أحيانـا بمفاهيم الحفاظ علـى "الأمـن القومي" فتستقوي بعضـلات السلـطة المستبدة .
من وحـي الواقع المرير المعـاصر يُجـلي المُكـافِحُ حقائقَ التغيير و رجـالاتـه و يكتشف منـاهضي الاستقلال و عصاباته، من هـذا الواقع المليء بالتنـاقضات و الصراعـات علـى السلطـة تسطُعُ حقيقـةُ الديكتاتوريين و حـاشياتهم من "رجال" الإعـلام و القضاء و "الأمـن" و طوابيرٍ من الرعاع الذين يقبلون الاستبداد طواعيةً و يُـفضِّلون الاستعباد بديلا عن دفــع ثمن الحريـة و الكرامـة .
مِحنــةُ دُولِنـا تدور بين النهوض و الإجهـاض، و أسبابُ تعثراتهـا ضاربـة في بنياتٍ عقلية متخلفـة تقودهـا أحيانــا كِيانـات بشرية مريضـة بحب الزعـامـة و جنون السلـطة، كِيانـات تستمـد ولاءاتهـا من إمـلاءات الخـارج تحت دعـاوى و عنـاوين مُغريـة لكنهـا تُخـفي داخلهـا مشاريع الإلحـاق و استدامـة التخلف و قطْعَ الأوصـال و تخريب دوافع النهوض بالمطلق، علــى رأس هــذه الكِيانـات شخصيـة الانقلابيّ المُستبِــدِّ لُزومـاً ،الطـاغية التصاقـا، الضعيفُ حقيقةً،الديكتاتور أصـلا و فصــلاً ،و لأنهــا عقليـةٌ في عمومهــا تظل نموذجـا صـارخـا في تصوير الديكتاتوريات الحديثـة فلِأنهــا تُعـبِّــرُ عـن أصول المستبد و جِذرهـا و لا تنـم إلا عـن مـثال ثابتٍ لِمُعـيقات النهوض، كمـا أنهـا منظومـة جـامعـة لـكل شرور العجرفـات و العنتريات و عشق التفرد ، إذ تتحكم في برمجيات الانقلابيّ شخصيةُ الطـاغية بكـل مـا تتضمنــه من لواحق الاستبداد و التفرعـن .
عـقل الانقلابي و الدكتاتور عقلان متقاطعـان في نقطـة محورية هي الاستبداد و التحكم في مفاصل الدولـة و المجتمع حصراً، فهمـا متحدان من حيث الوظيفـة لكنهمـا مختلفان من حيث بعض الوجوه،فإذا كـانا يشتركـان في وظيفـة الإخضـاع و السيطـرة علـى مراكـز القرار سواء ارتبط بمؤسسات سياسية أو بكيانـات مدنية فإنهمـا قد يفترقـان من حيث الآليات الموصلـة لداء الانقلابية و الديكتاتورية من منطلق أنَّ شخصية الانقلابي بحكم تكوين العسكري لا يُحقق أهدافـه إلا من منظور السطو المسلح علـى مكتسبات التحول الاجتمـاعي و الاقتصادي و الثقافي مُستغـلا في ذلـك أدوات البطش و الإكـراه، في حين قد يتخـذ الديكتاتور منحـى آخـر يقوم علـى الوصول إلـى السلطـة بالخيارات السلمية و الأدوات الديمقراطية مُستغـلا في ذلك كـاريزميته أو نظرياتـه الإيديولوجية . و علــى هـذا الأساس يكون كـل انقلابيّ ديكتاتوراً و لا يكون بالضرورة كـل ديكتاتوريٍّ انقلابيـًّا .
و لـو تأملنـا في تمظهـرات الانقلابـات المعـاصرة خصوصـا مـا لـه ارتباط بمجريات اللحظـة الراهنـة في بعض الدول لَوجدنـا أنهـا تنـفصـل إلـى أربعـة أنواع :
النـوع الأول: الانقـلاب العسكري "الذكــيّ" :( مصر)
مُقتـضى هـدا النوع يتأسس علـى "بيداغوجيا" سياسيـة مقيتـة تجعـل ،تدليسـاُ، فِـعْـلَ الانقلاب مشروعـا شعبيـا من حيث الظـاهـر، إذ تتوارى في هـّذا النوع وسـائلُ الإكراه المباشرة وراء صور "شعبية" افتعـالية الغرض منهـا إخـفاء الوجه الديكتـاتوري العسكري خلفَ مشاهـد اختـلاقية مدعـومـة بسلطـة الإعـلام المُشتَراة و بسلطـة الأمـر الواقع . إن الانقلاب العسكري "الذكـي" أسلوب قذر يعتمـد علـى خلط الأوراق السياسية و علـى إيجاد منـاسبات للسطو علـى الحكم من خـلال بنـاء حـالات شعبية سـاخطة و من خـلال تحريب الواقع السياسي و تشكيل استقطـابات حـادة تعمـل علــى تأزيم المنـاخ العـام بشكــل يُسهِّــلُ علـى السلطـة الانقلابية مشروعهــا في نـقض الخيارات السلمية التـي أفرزت خرائط مدنية مُنتَخـبة، و لعــل مِصـر تُمـثل نموذجــا واضحـا لهـذا النوع الانقلابي علـى الإرادة الشعبية، فهـي لم تمـارس هـذا الفعـل بالشكـل الذي جرت العـادة فيهـا انقضاضُ العسكر علــى الحكم مباشرة، و إنمــا اتخذت بُعـداً نِفـاقيا بدأت مخططــاته تلعـب علــى المتناقضات الإيديولوجية الداخلية لتهيئـة أجـواء السطو "الذكي" علـى الدولـة، كمـا قامت علــى تركيبـات سينمـائية مُفَبركــة لثورة الست سـاعات المضادة . و رغـم كـل المساحيق التي يسعـى من خـلالهـا الانقلابيون العسكريون و المرتزقـة الإعلاميون إلـى تجميل وجــه الانقلاب البشع، إلا أن تجـاعيده القبيحــة تـظل بـارزة لكل مدقق للأحداث كمـا تؤكدهــا توالي الأيام .
النـوع الثانـي : الانقلاب الغبي ( بوركينافاسو)
مُقتـضى هـذا النوع يتأسس علـى "بيداغوجيا" عسكرية خـالصة تستقوي بمنطق الغلبة في حيازة السلطـة و لا تقيم أيّ اعتبار لمسالك الشرعية الدستورية بأي حـال من الأحوال، هــو انقلاب غبيٌّ يعتمـد علـى قرارات الجنرالات في الجيش للتحكم بالشعب عُـنوةً و فرض وصايته عليه قسراً، انقلابٌ بلا مواربـة و لا نِفـاق ،بل صراحـةٌ و اتفاق، صيغته تبدأ عـادةً بقيام قائد عسكري بالحجر علـى الرئيس المُنتخـب أو غير المنتخب و الشروع في تجميد مؤسسات الدولـة مؤقتـا ثم تكليف زعيم عسكري بقيادة الشأن السياسي في زمن انتقالي فتنتهـي بإطـلاق دعوات خـادعـة للقوى الفـاعلـة للمشاورة حول سُبــل الخروج من الأوضاع الصعبـة للبلد ، و مــا أن تنطـلي خُدع الجنرالات العسكريين علـى عموم الشعب و قادة التنظيمـات المدنية حتـى يبدأ الديكتاتور الانقلابيُّ بقيادة حمـلات تجفيف منـابع المُعـارِضين و تفريغ مراكز تصريف القرار من كــل الوجوه المضادة للسلطـة و تنصيب الأسرة العسكريـة في قطـاعـات السيادة و الخدمـات ذات الصلـة بمصالح الشعب بديـلا عن مبدأ تداول السلطـة و احترام إرادة الشعب فتتمركز بذلك كل السلط في قيادة عسكريـة تحكم مدى الحياة و يتأبــد معهـا التخلف . و مــا انقلابـات القارة الإفريقيـة المتكـاثرة إلا أمثلـة علــى هـذا النمط الرديء، و مـا نموذج بوركينـافاسو منــا ببعيــد .
النـوع الثـالث : الانقلاب الهـادئ (تونس)
مُقتـضى هـذا النوع يقوم علـى "بيداغوجيــا" تكتيكية تفرض منطقهـا بحكم الأمـر الواقـع فتجعـلُ الفُرَقـاءَ السياسيين مُلزمين باقتسـام السلـطة كخيار وحيد للخروج من المأزق تبريرا لواقع الاحتقان المصنوع من الداخـل و الخـارج، و هـو بذلك أسلوب انقلابي لا يعترف بالشرعية الدستورية و لا بمـا آلــت إليهــا نتـائج الانتخـابات إلا في حدود وجود تيار في الحكم ينسجم مُعتَقدُه مع إيديولوجية الدولة ، و لا تتغنـى الدولة الانقلابية بمفردات التعددية و حق الأغلبية في إدارة الحكومـة إلا عندمـا تقبلُ التنظيمـات الفائزة بإمـلاءات و وصاية الجنرالات و الشخصيات النـافذة فتنـصاع للوبيات الفساد، فـهـو انقلاب هـادئ يتأسس علــى خلق سياقات و أجواء هـادئة في عملية انتقال السلـطة بما قد تُـشعِــرُ بوجود توافقات بين الكتل و الطبقات السياسية، لكنهــا في العمق انحنــاءٌ مستور للعـاصفـة العسكرية التي تُخــطط لتنميط الحكم السياسي و تحويلـه إلــى "مزارع" دائمـة يعبث فيهــا الفاسدون .
و إذا كــانت طبائع الانقلابات الأخـرى في عـلاقاتهـا بالقوى المُعـارِضـة تتميز بكونهـا فرضـاً للقوة الظـاهـرة لقبول الواقع الجديد فيُولِّـدُ بدوره احتجـاجـات ظـاهرة علـى تحـايلات قوى الانقلاب عبر رفض كل سينـاريوهـات المُستبدين الطغـاة و الطعن في كل مـا يترتب عليه من أشكـال إجرائية و صيغ تنظيمية و قرارات انقلابية فإن التيارات الفائزة عبر الصنـاديق الانتخابية في ظل منظور منظومـة الانقلاب الهـادئ تضطـرّ تحت إكراهـات الضغط الداخـلي و الخـارجي إلـى الصمــت علـى مُـخطط الانقلاب و القبول بالخريطـة السياسية الجديدة دونمـا اعتراض أو نقد، و هـو صمت قد يعطــي لـه المُنحَنــي للانقلاب إطـارا تبريريا بكونـه أسلوبـا سياسيا ينطلق من قواعـد الترجيح بين مصالح و مفاسد أملتهـا ظروفُ الواقع و تداعيات الضغط الخـارجي ، و لكنــه مع ذلك يبقـى انقلابـا صـامتـا بحكم تغيير الخريطـة السياسية و تجاوز كل القواعـد الديمقراطية في حيازة السلـطة بطريقـة عمودية هـاجسهـا الأكبر "تصفيـةُ" خُصومٍ و إعـادة المشهـد السياسي إلـى مـا قبل الانتصـار الديمقراطي للإرادة الشعبية .
إنّ ممـا لا شك فيه أن تونـس تمثل النموذج الأبرز لهـذا النوع الانقلابي إذ رغـمَ الحسـم الكبير لحركة النهـضة في الانتخـابات البرلمـانية و تصدُّر قوائمهـا بمـا يؤهلهـا لتشكيل و قيادة الحكومـة إلا أنهــا صـارت في عُرفِ الديكتـاتوريين العسكريين و "العَلمـانيين" مصدرا تُهدِّد الحياة السياسية و بالتـالي كِيـانـا وجبَ وأدِ صوتـه و خنق فاعليتـه الحِزبية و الحد من طموحـاتـه السياسية و الحضارية، الشيء الذي أفضـى في نهـاية الأمـر إلـى الإطـاحـة به بطرق هـادئـة تنتـقل فيها السلـطة بموجب توافقات اضطرارية إلـى تشكيلات حِـزبية مُتكـالِبــة تحرِمُ النهـضة من حقهــا في قيادة الحكومـة و تمنعهـا من تنزيل برامجهـا السياسية و الاقتصادية ، و بذلك يكون مخطط الانقلابيين بمعونـة دول الإقطـاع الخليجيين خـاصـة المُقـاطعـة الصهيونية (الإمـارات) و السعودية قد أجهـز علـى البواكير الأولـى لنشوء دولـة حرة تحتـرم لأول مـرة حق شعبهـا في اختيار حُكـامهـا و يكون قد أقبرَ جزئيا محـاولات فكّ الارتباط بين النظم الديكتاتورية و بين إمـلاءات الخـارج، أي أعـادَ الدولـة من جديد إلـى مفهـوم القُطريــة التــي تفيد معنـى التبعيـة الحضارية حصراً .
النـوع الرابع : الانقلاب الفوضوي (ليبيا،اليمن..)
مُقتضـى هـذا النوع يرتكز علـى منطلقات فوضويـة في السطو علـى السلطـة و يقوم علـى الرهـان المباشر علـى القوة المـادية في التحكم بمفاصـل الدولـة، فهـو فوضوي لأنـه يمـارس عُنـفا رهيبـا ضد التيارات التـي حسمت أمرها من خـلال الآليات المشروعـة فيعمد إلـى تحريك أدوات البطش بشكل عشوائـي و يدير كـل الإمكـانيات العسكرية لإسقـاط الشرعية التمثيليـة دونمـا نـظر في المآلات الكـارثية التـي تنتجهـا تلك المُغـامرات الفوضوية علـى مستقبل البلاد و العباد، لهـذا يُمـثِّلُ هـذا النوع من الانقلابـات أسوأ النمـاذج و أحطهـا أسلوبـا في حيازة السلطة السياسية باعتبار تسلطه الدموي و نزوعـه العنيف نـحو "تصفية" كــل المُعـارضات الشريفـة و بنـاء دولـة عسكرية كـاملة الأركـان .
في الغـالب، يكون أبطـال هـذا النموذج رجـالات عسكرٍ ذوو تجـارب في القيادات العسكرية و أصحـاب نفوذ ذوو عـلاقـات تبعية للخـارج كمـا هـو الشأن مـع التجربـة الليبية و اليمنية اللتان كشفتا عن وجود ديكتاتوريين عسكريين و طـائفيين مستعدين لحرق البلد و إنهـاء التجـارب الديموقراطية الفتية لكي تعود إلـى أحـضان الإقطـاعيين و رموز الفسـاد . إن الانقلاب العسكري بزعـامـة الخـائن حفتـر و عـصابته من المرتزقـة أرادوهـا دولـة تقود الشعب بلغـة القوة فشرعـوا في تبرير انقلابهم الوحشي تحت الدعـاوى المملـة التـي يُجيد تـلامذة التغريب حِفظهـا و استظهـارهـا و المتمثلـة في شعـارات " محـاربة الإرهـاب" و محـاربة "الجمـاعات المتطرفـة" و الحركـات المسلحـة و غيرهـا من العنـاوين المُؤَدلَجــة، سـاكتين عن الجريمـة الانقلابية الكُبرى التـي أعـادت الدولـة إلـى حِقبِ الديكتاتوريات المُتَوارَثــة و أبَّدت التخلف فيهــا أجـيالا بلا حصر .
و إذا كـانت رياح الثورات المضادة التـي أزاحت إرادة الشعوب عن حقهـا في مشاركـة القرار السياسي السيادي و التـي استقوت بإقطـاعِــيـي البترودولار و استعـانت بهم لخوض حروب استرداد فوجدت في الأحداث الجـارية فُرصـة "لتصفية" حساباتها مع التيارات الإسلامية و ترجمـة أحقادهـا الطـائفية إلـى "مشاريع" إجهاض محـاولات بنـاء دولـة عـادلة فإن الثورات الحقيقيـة لا زالـت لـم تستنـفذ إمكـانياتهـا في حسم معـاركهـا النهـائية مـع الانقلابيين و لا زالت أيقونـة الثورة تشتـعل غضبا في قلوب الأحـرار الشرفـاء ، و ستظـل كـذلك متوقدة بأمــل تحقيق نـصر شامـل و كـامـل علـى كـل الأقزام العسكريين و الإقطـاعيين الصِّفريين و جوارِبهم من مرتزقـة الإعـلام و القضـاء و الشرطـة .
في الدول المتخلفة، تشهـد عملية الإصلاحـات فيهـا منحـى غريبا يجعلهـا تترنح دومـاً بين السقوط و الهـاويـة، فقد تبدأ دولـة هنـا أو هنـاك بعملية تحديثٍ للإدارة و ترميمٍ لمرافق الدولـة و بنـاءٍ لهياكلهـا و إحـياءٍ لفاعلية الأحزاب فيهـا، و قـد تذهـب بعيدا في إشـاعـة أجواء المنـاخ الديمقراطي وسطَ شعبهـا بحيث يؤدي إلـى رفع سقف الوعـي الشعبي و إدمـاج طبقات كبرى ضمـن تحولات الدولـة علـى مستويات السياسة و الاقتصاد و الثقافـة.. قـد تكون الكوادر السياسيـة الصـاعدة صادقة في نواياهـا و قادرة علـى تجاوز تحديات التحديث و مـا تطرحها من إشكـالات بنيوية عويصـة فيحدث أن تصطدم بإرادات مـانعـة من تحقق التغيير تتستـر أحيانـا بمفاهيم الحفاظ علـى "الأمـن القومي" فتستقوي بعضـلات السلـطة المستبدة .
من وحـي الواقع المرير المعـاصر يُجـلي المُكـافِحُ حقائقَ التغيير و رجـالاتـه و يكتشف منـاهضي الاستقلال و عصاباته، من هـذا الواقع المليء بالتنـاقضات و الصراعـات علـى السلطـة تسطُعُ حقيقـةُ الديكتاتوريين و حـاشياتهم من "رجال" الإعـلام و القضاء و "الأمـن" و طوابيرٍ من الرعاع الذين يقبلون الاستبداد طواعيةً و يُـفضِّلون الاستعباد بديلا عن دفــع ثمن الحريـة و الكرامـة .
مِحنــةُ دُولِنـا تدور بين النهوض و الإجهـاض، و أسبابُ تعثراتهـا ضاربـة في بنياتٍ عقلية متخلفـة تقودهـا أحيانــا كِيانـات بشرية مريضـة بحب الزعـامـة و جنون السلـطة، كِيانـات تستمـد ولاءاتهـا من إمـلاءات الخـارج تحت دعـاوى و عنـاوين مُغريـة لكنهـا تُخـفي داخلهـا مشاريع الإلحـاق و استدامـة التخلف و قطْعَ الأوصـال و تخريب دوافع النهوض بالمطلق، علــى رأس هــذه الكِيانـات شخصيـة الانقلابيّ المُستبِــدِّ لُزومـاً ،الطـاغية التصاقـا، الضعيفُ حقيقةً،الديكتاتور أصـلا و فصــلاً ،و لأنهــا عقليـةٌ في عمومهــا تظل نموذجـا صـارخـا في تصوير الديكتاتوريات الحديثـة فلِأنهــا تُعـبِّــرُ عـن أصول المستبد و جِذرهـا و لا تنـم إلا عـن مـثال ثابتٍ لِمُعـيقات النهوض، كمـا أنهـا منظومـة جـامعـة لـكل شرور العجرفـات و العنتريات و عشق التفرد ، إذ تتحكم في برمجيات الانقلابيّ شخصيةُ الطـاغية بكـل مـا تتضمنــه من لواحق الاستبداد و التفرعـن .
عـقل الانقلابي و الدكتاتور عقلان متقاطعـان في نقطـة محورية هي الاستبداد و التحكم في مفاصل الدولـة و المجتمع حصراً، فهمـا متحدان من حيث الوظيفـة لكنهمـا مختلفان من حيث بعض الوجوه،فإذا كـانا يشتركـان في وظيفـة الإخضـاع و السيطـرة علـى مراكـز القرار سواء ارتبط بمؤسسات سياسية أو بكيانـات مدنية فإنهمـا قد يفترقـان من حيث الآليات الموصلـة لداء الانقلابية و الديكتاتورية من منطلق أنَّ شخصية الانقلابي بحكم تكوين العسكري لا يُحقق أهدافـه إلا من منظور السطو المسلح علـى مكتسبات التحول الاجتمـاعي و الاقتصادي و الثقافي مُستغـلا في ذلـك أدوات البطش و الإكـراه، في حين قد يتخـذ الديكتاتور منحـى آخـر يقوم علـى الوصول إلـى السلطـة بالخيارات السلمية و الأدوات الديمقراطية مُستغـلا في ذلك كـاريزميته أو نظرياتـه الإيديولوجية . و علــى هـذا الأساس يكون كـل انقلابيّ ديكتاتوراً و لا يكون بالضرورة كـل ديكتاتوريٍّ انقلابيـًّا .
و لـو تأملنـا في تمظهـرات الانقلابـات المعـاصرة خصوصـا مـا لـه ارتباط بمجريات اللحظـة الراهنـة في بعض الدول لَوجدنـا أنهـا تنـفصـل إلـى أربعـة أنواع :
النـوع الأول: الانقـلاب العسكري "الذكــيّ" :( مصر)
مُقتـضى هـدا النوع يتأسس علـى "بيداغوجيا" سياسيـة مقيتـة تجعـل ،تدليسـاُ، فِـعْـلَ الانقلاب مشروعـا شعبيـا من حيث الظـاهـر، إذ تتوارى في هـّذا النوع وسـائلُ الإكراه المباشرة وراء صور "شعبية" افتعـالية الغرض منهـا إخـفاء الوجه الديكتـاتوري العسكري خلفَ مشاهـد اختـلاقية مدعـومـة بسلطـة الإعـلام المُشتَراة و بسلطـة الأمـر الواقع . إن الانقلاب العسكري "الذكـي" أسلوب قذر يعتمـد علـى خلط الأوراق السياسية و علـى إيجاد منـاسبات للسطو علـى الحكم من خـلال بنـاء حـالات شعبية سـاخطة و من خـلال تحريب الواقع السياسي و تشكيل استقطـابات حـادة تعمـل علــى تأزيم المنـاخ العـام بشكــل يُسهِّــلُ علـى السلطـة الانقلابية مشروعهــا في نـقض الخيارات السلمية التـي أفرزت خرائط مدنية مُنتَخـبة، و لعــل مِصـر تُمـثل نموذجــا واضحـا لهـذا النوع الانقلابي علـى الإرادة الشعبية، فهـي لم تمـارس هـذا الفعـل بالشكـل الذي جرت العـادة فيهـا انقضاضُ العسكر علــى الحكم مباشرة، و إنمــا اتخذت بُعـداً نِفـاقيا بدأت مخططــاته تلعـب علــى المتناقضات الإيديولوجية الداخلية لتهيئـة أجـواء السطو "الذكي" علـى الدولـة، كمـا قامت علــى تركيبـات سينمـائية مُفَبركــة لثورة الست سـاعات المضادة . و رغـم كـل المساحيق التي يسعـى من خـلالهـا الانقلابيون العسكريون و المرتزقـة الإعلاميون إلـى تجميل وجــه الانقلاب البشع، إلا أن تجـاعيده القبيحــة تـظل بـارزة لكل مدقق للأحداث كمـا تؤكدهــا توالي الأيام .
النـوع الثانـي : الانقلاب الغبي ( بوركينافاسو)
مُقتـضى هـذا النوع يتأسس علـى "بيداغوجيا" عسكرية خـالصة تستقوي بمنطق الغلبة في حيازة السلطـة و لا تقيم أيّ اعتبار لمسالك الشرعية الدستورية بأي حـال من الأحوال، هــو انقلاب غبيٌّ يعتمـد علـى قرارات الجنرالات في الجيش للتحكم بالشعب عُـنوةً و فرض وصايته عليه قسراً، انقلابٌ بلا مواربـة و لا نِفـاق ،بل صراحـةٌ و اتفاق، صيغته تبدأ عـادةً بقيام قائد عسكري بالحجر علـى الرئيس المُنتخـب أو غير المنتخب و الشروع في تجميد مؤسسات الدولـة مؤقتـا ثم تكليف زعيم عسكري بقيادة الشأن السياسي في زمن انتقالي فتنتهـي بإطـلاق دعوات خـادعـة للقوى الفـاعلـة للمشاورة حول سُبــل الخروج من الأوضاع الصعبـة للبلد ، و مــا أن تنطـلي خُدع الجنرالات العسكريين علـى عموم الشعب و قادة التنظيمـات المدنية حتـى يبدأ الديكتاتور الانقلابيُّ بقيادة حمـلات تجفيف منـابع المُعـارِضين و تفريغ مراكز تصريف القرار من كــل الوجوه المضادة للسلطـة و تنصيب الأسرة العسكريـة في قطـاعـات السيادة و الخدمـات ذات الصلـة بمصالح الشعب بديـلا عن مبدأ تداول السلطـة و احترام إرادة الشعب فتتمركز بذلك كل السلط في قيادة عسكريـة تحكم مدى الحياة و يتأبــد معهـا التخلف . و مــا انقلابـات القارة الإفريقيـة المتكـاثرة إلا أمثلـة علــى هـذا النمط الرديء، و مـا نموذج بوركينـافاسو منــا ببعيــد .
النـوع الثـالث : الانقلاب الهـادئ (تونس)
مُقتـضى هـذا النوع يقوم علـى "بيداغوجيــا" تكتيكية تفرض منطقهـا بحكم الأمـر الواقـع فتجعـلُ الفُرَقـاءَ السياسيين مُلزمين باقتسـام السلـطة كخيار وحيد للخروج من المأزق تبريرا لواقع الاحتقان المصنوع من الداخـل و الخـارج، و هـو بذلك أسلوب انقلابي لا يعترف بالشرعية الدستورية و لا بمـا آلــت إليهــا نتـائج الانتخـابات إلا في حدود وجود تيار في الحكم ينسجم مُعتَقدُه مع إيديولوجية الدولة ، و لا تتغنـى الدولة الانقلابية بمفردات التعددية و حق الأغلبية في إدارة الحكومـة إلا عندمـا تقبلُ التنظيمـات الفائزة بإمـلاءات و وصاية الجنرالات و الشخصيات النـافذة فتنـصاع للوبيات الفساد، فـهـو انقلاب هـادئ يتأسس علــى خلق سياقات و أجواء هـادئة في عملية انتقال السلـطة بما قد تُـشعِــرُ بوجود توافقات بين الكتل و الطبقات السياسية، لكنهــا في العمق انحنــاءٌ مستور للعـاصفـة العسكرية التي تُخــطط لتنميط الحكم السياسي و تحويلـه إلــى "مزارع" دائمـة يعبث فيهــا الفاسدون .
و إذا كــانت طبائع الانقلابات الأخـرى في عـلاقاتهـا بالقوى المُعـارِضـة تتميز بكونهـا فرضـاً للقوة الظـاهـرة لقبول الواقع الجديد فيُولِّـدُ بدوره احتجـاجـات ظـاهرة علـى تحـايلات قوى الانقلاب عبر رفض كل سينـاريوهـات المُستبدين الطغـاة و الطعن في كل مـا يترتب عليه من أشكـال إجرائية و صيغ تنظيمية و قرارات انقلابية فإن التيارات الفائزة عبر الصنـاديق الانتخابية في ظل منظور منظومـة الانقلاب الهـادئ تضطـرّ تحت إكراهـات الضغط الداخـلي و الخـارجي إلـى الصمــت علـى مُـخطط الانقلاب و القبول بالخريطـة السياسية الجديدة دونمـا اعتراض أو نقد، و هـو صمت قد يعطــي لـه المُنحَنــي للانقلاب إطـارا تبريريا بكونـه أسلوبـا سياسيا ينطلق من قواعـد الترجيح بين مصالح و مفاسد أملتهـا ظروفُ الواقع و تداعيات الضغط الخـارجي ، و لكنــه مع ذلك يبقـى انقلابـا صـامتـا بحكم تغيير الخريطـة السياسية و تجاوز كل القواعـد الديمقراطية في حيازة السلـطة بطريقـة عمودية هـاجسهـا الأكبر "تصفيـةُ" خُصومٍ و إعـادة المشهـد السياسي إلـى مـا قبل الانتصـار الديمقراطي للإرادة الشعبية .
إنّ ممـا لا شك فيه أن تونـس تمثل النموذج الأبرز لهـذا النوع الانقلابي إذ رغـمَ الحسـم الكبير لحركة النهـضة في الانتخـابات البرلمـانية و تصدُّر قوائمهـا بمـا يؤهلهـا لتشكيل و قيادة الحكومـة إلا أنهــا صـارت في عُرفِ الديكتـاتوريين العسكريين و "العَلمـانيين" مصدرا تُهدِّد الحياة السياسية و بالتـالي كِيـانـا وجبَ وأدِ صوتـه و خنق فاعليتـه الحِزبية و الحد من طموحـاتـه السياسية و الحضارية، الشيء الذي أفضـى في نهـاية الأمـر إلـى الإطـاحـة به بطرق هـادئـة تنتـقل فيها السلـطة بموجب توافقات اضطرارية إلـى تشكيلات حِـزبية مُتكـالِبــة تحرِمُ النهـضة من حقهــا في قيادة الحكومـة و تمنعهـا من تنزيل برامجهـا السياسية و الاقتصادية ، و بذلك يكون مخطط الانقلابيين بمعونـة دول الإقطـاع الخليجيين خـاصـة المُقـاطعـة الصهيونية (الإمـارات) و السعودية قد أجهـز علـى البواكير الأولـى لنشوء دولـة حرة تحتـرم لأول مـرة حق شعبهـا في اختيار حُكـامهـا و يكون قد أقبرَ جزئيا محـاولات فكّ الارتباط بين النظم الديكتاتورية و بين إمـلاءات الخـارج، أي أعـادَ الدولـة من جديد إلـى مفهـوم القُطريــة التــي تفيد معنـى التبعيـة الحضارية حصراً .
النـوع الرابع : الانقلاب الفوضوي (ليبيا،اليمن..)
مُقتضـى هـذا النوع يرتكز علـى منطلقات فوضويـة في السطو علـى السلطـة و يقوم علـى الرهـان المباشر علـى القوة المـادية في التحكم بمفاصـل الدولـة، فهـو فوضوي لأنـه يمـارس عُنـفا رهيبـا ضد التيارات التـي حسمت أمرها من خـلال الآليات المشروعـة فيعمد إلـى تحريك أدوات البطش بشكل عشوائـي و يدير كـل الإمكـانيات العسكرية لإسقـاط الشرعية التمثيليـة دونمـا نـظر في المآلات الكـارثية التـي تنتجهـا تلك المُغـامرات الفوضوية علـى مستقبل البلاد و العباد، لهـذا يُمـثِّلُ هـذا النوع من الانقلابـات أسوأ النمـاذج و أحطهـا أسلوبـا في حيازة السلطة السياسية باعتبار تسلطه الدموي و نزوعـه العنيف نـحو "تصفية" كــل المُعـارضات الشريفـة و بنـاء دولـة عسكرية كـاملة الأركـان .
في الغـالب، يكون أبطـال هـذا النموذج رجـالات عسكرٍ ذوو تجـارب في القيادات العسكرية و أصحـاب نفوذ ذوو عـلاقـات تبعية للخـارج كمـا هـو الشأن مـع التجربـة الليبية و اليمنية اللتان كشفتا عن وجود ديكتاتوريين عسكريين و طـائفيين مستعدين لحرق البلد و إنهـاء التجـارب الديموقراطية الفتية لكي تعود إلـى أحـضان الإقطـاعيين و رموز الفسـاد . إن الانقلاب العسكري بزعـامـة الخـائن حفتـر و عـصابته من المرتزقـة أرادوهـا دولـة تقود الشعب بلغـة القوة فشرعـوا في تبرير انقلابهم الوحشي تحت الدعـاوى المملـة التـي يُجيد تـلامذة التغريب حِفظهـا و استظهـارهـا و المتمثلـة في شعـارات " محـاربة الإرهـاب" و محـاربة "الجمـاعات المتطرفـة" و الحركـات المسلحـة و غيرهـا من العنـاوين المُؤَدلَجــة، سـاكتين عن الجريمـة الانقلابية الكُبرى التـي أعـادت الدولـة إلـى حِقبِ الديكتاتوريات المُتَوارَثــة و أبَّدت التخلف فيهــا أجـيالا بلا حصر .
و إذا كـانت رياح الثورات المضادة التـي أزاحت إرادة الشعوب عن حقهـا في مشاركـة القرار السياسي السيادي و التـي استقوت بإقطـاعِــيـي البترودولار و استعـانت بهم لخوض حروب استرداد فوجدت في الأحداث الجـارية فُرصـة "لتصفية" حساباتها مع التيارات الإسلامية و ترجمـة أحقادهـا الطـائفية إلـى "مشاريع" إجهاض محـاولات بنـاء دولـة عـادلة فإن الثورات الحقيقيـة لا زالـت لـم تستنـفذ إمكـانياتهـا في حسم معـاركهـا النهـائية مـع الانقلابيين و لا زالت أيقونـة الثورة تشتـعل غضبا في قلوب الأحـرار الشرفـاء ، و ستظـل كـذلك متوقدة بأمــل تحقيق نـصر شامـل و كـامـل علـى كـل الأقزام العسكريين و الإقطـاعيين الصِّفريين و جوارِبهم من مرتزقـة الإعـلام و القضـاء و الشرطـة .