السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
- حادثة إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن إبن أم مكتوم ..
القصه بإيجاز هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لكبار المشركين ليدعوهم للدخول في الإسلام ، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم يطلب منه الإرشاد فجعل رسول الله يعرض عنه لدعوة كبار المشركين وذلك بإعتبار أن دعوة هؤلاء أهم وأولى فنزل قول الله تعالى (عبس وتولّى) عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك..
جاء في سنن الترمذي : أنزل (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني , وعند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عظماء المشركين فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرض عنه ويقبل على الآخر, ويقول : أترى بما أقول بأسا , فيقال : لا , ففي هذا أنزل .
قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُنْزِلَ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
وقد أورده الإمام مالك في الموطأ مرسلاً أي بدون ذكر عائشه وهذا ما جعل البخاري ومسلم لا يخرجانه في الصحيحين وقد رجّح العلماء رواية مالك المرسله ..
قال الحاكم في المستدرك: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، فَقَدْ أَرْسَلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
وذكر الترمذي أيضاً في العلل قول شيخه البخاري أن الحديث مرسل ، وقال الدارقطني في العلل:
يَرْوِيهِ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَاخْتُلِفَ عنه؛ فرواه عبد الرحيم بن سليمان، ويحيى بن سعيد الأموي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن عائشة واختلف عن أبي معاوية فأسنده عنه عبد الله بن هاشم الطوسي، وغيره يرسله ، كذلك رواه مالك بن أنس، وغيره، عن هشام، عن أبيه مرسلا، وهو الصحيح.
من ناحية أخرى صحح الشيخ الألباني الحديث في صحيح الترمذي وأورده إبن حبان في مصنفه (صحيح إبن حبان) وعلّق عليه شعيب الأرناؤوط بما يدّل على موافقتهما..
وأياً كان حكم الروايه فهذا لا يمنع ثبوت القصّه وذلك من وجهين:
- مراسيل عروة بن الزبير لها موثوقيّه عاليه فوالده ووالدته صاحبيان وجدّه الصدّيق رضي الله عنه وخالته عائشه والتي كانت من اكثر من أخذ عنها العلم ..
والمعروف أن الحديث المرسل ليس بحجه عند علماء الحديث ولكن الواقع أنه كان هناك خلاف في قبول الحديث المرسل أو ردّه ، وأبرز من ورد عنهم قبول المرسل أبو حنيفه ومالك وأحمد ولكن ذلك كان مقيّداً بشروط متعلقه بالإحتراز في النقل وعدم الإرسال إلا عن الثقات وكون المرسل من أهل القرون الثلاثه الفاضله وقيل الإثنين، وقد وضع الإمام الشافعي أيضاً شروط لقبول الحديث المرسل في كتابه الرساله ، وهذا الأمر فيه تفصيل تعرّض له السيوطي في كتابه تقريب الراوي ..
وقد لخّص إبن تيميه رحمه الله هذه المسأله في منهاج السنه:
وَالْمَرَاسِيلُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا، وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ مِنْهَا الْمَقْبُولَ، وَمِنْهَا الْمَرْدُودَ، وَمِنْهَا الْمَوْقُوفَ، فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَمَنْ عُرِفَ أَنَّهُ يُرْسِلُ عَنِ الثِّقَةِ وَغَيْرِ الثِّقَةِ كَانَ إِرْسَالُهُ رِوَايَةً عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَهَذَا مَوْقُوفٌ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمَرَاسِيلِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ كَانَ مَرْدُودًا.
- الوجه الثاني هو أن المفسّرين إتفقوا على أن سبب نزول آية (عبس وتولّى) كان في حادثة إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن إبن ام مكتوم وقد اورد إبن جرير أقوال مجاهد وقتاده والضحاك وغيرهم وقال القرطبي في تفسيره: فَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَجْمَعُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.. أ هـ
ومثل ذلك ذكره الشوكاني في تفسيره فإجماع المفسّرين على أن سبب نزول الآيه هو قصة إبن أم مكتوم وفي ذلك دلاله قويّه على أن هناك أصل لهذه القصه ..
- ردّ الزعم بأن ذلك لا يليق بمقام النبوّه:
وذلك من وجوه:
* جاء العتاب بالفعل للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع في سورة الأنفال في قصة الأسرى وسورة التوبه في قصة الذين أذن لهم بالتخلف عن الجهاد وكذلك في سورة التحريم وغيرها ..
* عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت على فعل معصيه وحاشاه أن يقدم على معصيه وإنما جاء لفعل خلاف الأَولَى ، فكان مبتغاه أن يدخل كبار قريش في الإسلام عسى أن يحدث ذلك نقله كبيره في مسيرة الدعوه فسعى لدعوة الكبار وأعرض عن الرجل الأعمى وهو الصحابي إبن أم مكتوم ، فجاء الرد في قوله تعالى في نفس السوره:
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿١٠﴾
* معنى ( عَبَسَ ) قبض وجهه تكرهاً وعبوس النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كراهة مقدم إبن أم مكتوم ذاته وإنما كراهة مقدمه وقت إنشغاله بما ظن انه أَولى ولو قدم في أي لوقت آخر لما كان العبوس وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف التي نتبيّن منها حسن خلقه وتواضعه والتي لا تخفى على مسلم ، قال إبن كثير في تفسيره: وودَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوْ كَفَّ سَاعَتَهُ تِلْكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَاطَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ. وعَبَس فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِ ..
* صيغة أول السوره جاءت بصيغة المجهول عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ ثم وجّه الله تعالى الخطاب لنبيّه قائلاً: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿٤﴾ ، وذلك يدلّ على رقّة ولطف العتاب إذ لم يقل عبست وتولّيت ، قال إبن عاشور: لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُفَاتِحَهُ بِمَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ بَاعِثًا عَلَى أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَعْنِيَّ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَلَا يُفَاجِئُهُ الْعِتَابُ، وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقَعَ الْعِتَابُ فِي نَفْسِهِ مُدَرَّجًا وَذَلِكَ أَهْوَنُ وَقْعًا ..
- فوائد مُستخلصه من هذه القصه:
يقول الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره: وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يتزك، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.
قلت وهناك شواهد على ذلك من القرآن الكريم منها قوله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴿البقرة: ٢٧٢﴾ ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿القصص: ٥٦﴾ ..
والعالم التقي الورع الحريص على إيصال علمه وإفادة الغير يبذل قصارى جهده مع من يريد التعلّم ويسعى للحق ، أما من ينشد المماحكه والخوض في الجدل والسفسطه والتشغيب فهذا ممن كان الأَولَى بالعالم تفاديه وعدم الخوض معه في أمر التعليم إن تبيّن له ذلك ..
ويواصل الإمام ويقول: فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.
وأخيراً فذكر عتاب النبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم لهو من الأدلّة الدامغه على أمانته في تبليغ القرآن الذي أنزله ربنا تبارك وتعالى وتبليغ الشريعه دون زياده أو نقصان مع كامل تجرّده عن حظوظ نفسه ولو كان في النفس شيء لإحتفظ بما جاء من عتاب لنفسه وجعله بينه وبين ربّه وهذا مما تميل إليه النفس البشريه وهو إعطاء الخصوصيه لمثل هذه المواقف ..
وبالتبليغ تجلّت أمانته عليه الصلاة والسلام وأُستخلِصت الدروس والعبر لسائر الأمه من هذه القصّه ..
والله أعلم ..
- حادثة إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن إبن أم مكتوم ..
القصه بإيجاز هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب لكبار المشركين ليدعوهم للدخول في الإسلام ، فجاءه عبد الله بن أم مكتوم يطلب منه الإرشاد فجعل رسول الله يعرض عنه لدعوة كبار المشركين وذلك بإعتبار أن دعوة هؤلاء أهم وأولى فنزل قول الله تعالى (عبس وتولّى) عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك..
جاء في سنن الترمذي : أنزل (عبس وتولى) في ابن أم مكتوم الأعمى أتى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فجعل يقول : يا رسول الله أرشدني , وعند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من عظماء المشركين فجعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يعرض عنه ويقبل على الآخر, ويقول : أترى بما أقول بأسا , فيقال : لا , ففي هذا أنزل .
قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَرَوَى بَعْضُهُمْ هَذَا الحَدِيثَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُنْزِلَ عَبَسَ وَتَوَلَّى فِي ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ عَائِشَةَ.
وقد أورده الإمام مالك في الموطأ مرسلاً أي بدون ذكر عائشه وهذا ما جعل البخاري ومسلم لا يخرجانه في الصحيحين وقد رجّح العلماء رواية مالك المرسله ..
قال الحاكم في المستدرك: حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ، فَقَدْ أَرْسَلَهُ جَمَاعَةٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ
وذكر الترمذي أيضاً في العلل قول شيخه البخاري أن الحديث مرسل ، وقال الدارقطني في العلل:
يَرْوِيهِ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، وَاخْتُلِفَ عنه؛ فرواه عبد الرحيم بن سليمان، ويحيى بن سعيد الأموي، وَأَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن عائشة واختلف عن أبي معاوية فأسنده عنه عبد الله بن هاشم الطوسي، وغيره يرسله ، كذلك رواه مالك بن أنس، وغيره، عن هشام، عن أبيه مرسلا، وهو الصحيح.
من ناحية أخرى صحح الشيخ الألباني الحديث في صحيح الترمذي وأورده إبن حبان في مصنفه (صحيح إبن حبان) وعلّق عليه شعيب الأرناؤوط بما يدّل على موافقتهما..
وأياً كان حكم الروايه فهذا لا يمنع ثبوت القصّه وذلك من وجهين:
- مراسيل عروة بن الزبير لها موثوقيّه عاليه فوالده ووالدته صاحبيان وجدّه الصدّيق رضي الله عنه وخالته عائشه والتي كانت من اكثر من أخذ عنها العلم ..
والمعروف أن الحديث المرسل ليس بحجه عند علماء الحديث ولكن الواقع أنه كان هناك خلاف في قبول الحديث المرسل أو ردّه ، وأبرز من ورد عنهم قبول المرسل أبو حنيفه ومالك وأحمد ولكن ذلك كان مقيّداً بشروط متعلقه بالإحتراز في النقل وعدم الإرسال إلا عن الثقات وكون المرسل من أهل القرون الثلاثه الفاضله وقيل الإثنين، وقد وضع الإمام الشافعي أيضاً شروط لقبول الحديث المرسل في كتابه الرساله ، وهذا الأمر فيه تفصيل تعرّض له السيوطي في كتابه تقريب الراوي ..
وقد لخّص إبن تيميه رحمه الله هذه المسأله في منهاج السنه:
وَالْمَرَاسِيلُ قَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا وَرَدِّهَا، وَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّ مِنْهَا الْمَقْبُولَ، وَمِنْهَا الْمَرْدُودَ، وَمِنْهَا الْمَوْقُوفَ، فَمَنْ عُلِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ قُبِلَ مُرْسَلُهُ، وَمَنْ عُرِفَ أَنَّهُ يُرْسِلُ عَنِ الثِّقَةِ وَغَيْرِ الثِّقَةِ كَانَ إِرْسَالُهُ رِوَايَةً عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَهَذَا مَوْقُوفٌ، وَمَا كَانَ مِنَ الْمَرَاسِيلِ مُخَالِفًا لِمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ كَانَ مَرْدُودًا.
- الوجه الثاني هو أن المفسّرين إتفقوا على أن سبب نزول آية (عبس وتولّى) كان في حادثة إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن إبن ام مكتوم وقد اورد إبن جرير أقوال مجاهد وقتاده والضحاك وغيرهم وقال القرطبي في تفسيره: فَرَوَى أَهْلُ التَّفْسِيرِ أَجْمَعُ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ طَمِعَ فِي إِسْلَامِهِمْ، فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.. أ هـ
ومثل ذلك ذكره الشوكاني في تفسيره فإجماع المفسّرين على أن سبب نزول الآيه هو قصة إبن أم مكتوم وفي ذلك دلاله قويّه على أن هناك أصل لهذه القصه ..
- ردّ الزعم بأن ذلك لا يليق بمقام النبوّه:
وذلك من وجوه:
* جاء العتاب بالفعل للنبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع في سورة الأنفال في قصة الأسرى وسورة التوبه في قصة الذين أذن لهم بالتخلف عن الجهاد وكذلك في سورة التحريم وغيرها ..
* عتاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت على فعل معصيه وحاشاه أن يقدم على معصيه وإنما جاء لفعل خلاف الأَولَى ، فكان مبتغاه أن يدخل كبار قريش في الإسلام عسى أن يحدث ذلك نقله كبيره في مسيرة الدعوه فسعى لدعوة الكبار وأعرض عن الرجل الأعمى وهو الصحابي إبن أم مكتوم ، فجاء الرد في قوله تعالى في نفس السوره:
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ ﴿٥﴾ فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ ﴿٦﴾ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَىٰ ﴿٨﴾ وَهُوَ يَخْشَىٰ ﴿٩﴾ فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ ﴿١٠﴾
* معنى ( عَبَسَ ) قبض وجهه تكرهاً وعبوس النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن كراهة مقدم إبن أم مكتوم ذاته وإنما كراهة مقدمه وقت إنشغاله بما ظن انه أَولى ولو قدم في أي لوقت آخر لما كان العبوس وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها الكثير من المواقف التي نتبيّن منها حسن خلقه وتواضعه والتي لا تخفى على مسلم ، قال إبن كثير في تفسيره: وودَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَوْ كَفَّ سَاعَتَهُ تِلْكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ مُخَاطَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ؛ طَمَعًا وَرَغْبَةً فِي هِدَايَتِهِ. وعَبَس فِي وَجْهِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ وَأَعْرَضَ عَنْهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْآخَرِ ..
* صيغة أول السوره جاءت بصيغة المجهول عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١﴾ أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ ﴿٢﴾ ثم وجّه الله تعالى الخطاب لنبيّه قائلاً: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ ﴿٣﴾ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَىٰ ﴿٤﴾ ، وذلك يدلّ على رقّة ولطف العتاب إذ لم يقل عبست وتولّيت ، قال إبن عاشور: لَمْ يَشَأِ اللَّهُ أَنْ يُفَاتِحَهُ بِمَا يَتَبَادَرُ مِنْهُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ بَاعِثًا عَلَى أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَعْنِيَّ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَلَا يُفَاجِئُهُ الْعِتَابُ، وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقَعَ الْعِتَابُ فِي نَفْسِهِ مُدَرَّجًا وَذَلِكَ أَهْوَنُ وَقْعًا ..
- فوائد مُستخلصه من هذه القصه:
يقول الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره: وهذه فائدة كبيرة، هي المقصودة من بعثة الرسل، ووعظ الوعاظ، وتذكير المذكرين، فإقبالك على من جاء بنفسه مفتقرا لذلك منك هو الأليق الواجب، وأما تصديك وتعرضك للغني المستغني الذي لا يسأل ولا يستفتي لعدم رغبته في الخير، مع تركك من هو أهم منه، فإنه لا ينبغي لك، فإنه ليس عليك أن لا يزكى، فلو لم يتزك، فلست بمحاسب على ما عمله من الشر.
قلت وهناك شواهد على ذلك من القرآن الكريم منها قوله تعالى: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴿البقرة: ٢٧٢﴾ ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴿القصص: ٥٦﴾ ..
والعالم التقي الورع الحريص على إيصال علمه وإفادة الغير يبذل قصارى جهده مع من يريد التعلّم ويسعى للحق ، أما من ينشد المماحكه والخوض في الجدل والسفسطه والتشغيب فهذا ممن كان الأَولَى بالعالم تفاديه وعدم الخوض معه في أمر التعليم إن تبيّن له ذلك ..
ويواصل الإمام ويقول: فدل هذا على القاعدة المشهورة، أنه: " لا يترك أمر معلوم لأمر موهوم، ولا مصلحة متحققة لمصلحة متوهمة " وأنه ينبغي الإقبال على طالب العلم، المفتقر إليه، الحريص عليه أزيد من غيره.
وأخيراً فذكر عتاب النبي صلى الله عليه وسلّم في القرآن الكريم لهو من الأدلّة الدامغه على أمانته في تبليغ القرآن الذي أنزله ربنا تبارك وتعالى وتبليغ الشريعه دون زياده أو نقصان مع كامل تجرّده عن حظوظ نفسه ولو كان في النفس شيء لإحتفظ بما جاء من عتاب لنفسه وجعله بينه وبين ربّه وهذا مما تميل إليه النفس البشريه وهو إعطاء الخصوصيه لمثل هذه المواقف ..
وبالتبليغ تجلّت أمانته عليه الصلاة والسلام وأُستخلِصت الدروس والعبر لسائر الأمه من هذه القصّه ..
والله أعلم ..
تعليق