التفسير الإسلامي للتاريخ المسوِّغات والأطروحات والإشكالات المنهجية أحمد إبراهيم أبو شوك

تقليص

عن الكاتب

تقليص

باحث سلفى مسلم (نهج السلف) اكتشف المزيد حول باحث سلفى
X
تقليص
يُشاهد هذا الموضوع الآن: 0 (0 أعضاء و 0 زوار)
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • باحث سلفى
    =-=-=-=-=-=

    حارس من حراس العقيدة
    • 13 فبر, 2007
    • 5183
    • مسلم (نهج السلف)

    التفسير الإسلامي للتاريخ المسوِّغات والأطروحات والإشكالات المنهجية أحمد إبراهيم أبو شوك

    التفسير الإسلامي للتاريخ


    المسوِّغات والأطروحات والإشكالات المنهجية


    مجلة إسلامية المعرفة - العدد: 037 – 038


    أحمد إبراهيم أبو شوك


    مقدمة

    الادِّعاء بأن للتاريخ منهج واحد، يمكن من خلاله الوصول إلى الوقائع التاريخية الثابتة، وتصويرها تصويراً علمياً مجرداً، لا علاقة له بمعتقدات المؤرخ، أو أرائه الفلسفية، أو قيمه الخُلقيَّة، أو أهدافه الذاتية، أو حقبته التاريخية، أو بيئته الثقافية، هو ادِّعاء يفتقر إلى الموضوعية، ويقود إلى الاعتقاد بأن قضية المنهجية التاريخية قد حُسمت من قبل، ولم تعد تحتاج إلى نظرة جديدة.

    إلا أن هذا الادِّعاء يخالف واقع الحال، علماً بأن معظم المناهج البحثية الخاصة بتفسير التاريخ البشري قد تشكلت بنيتها التحتية وفق منطلقات أيديولوجية معينة، لها نظرتها الخاصة لطبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان، والكون، والظروف البيئية المحيطة به، وكيفية تفسير العوامل الثابتة والمتغيرة التي تحكم حركة التاريخ البشري والعمران الاجتماعي.

    وانطلاقاً من هذه الزاوية يمكننا أن نصنِّف التفسير الإسلامي للتاريخ داخل هذا الإطار الأيديولوجي، ونميزه عن التفسيرات الوضعية الأخرى، لأنه يستند إلى مقررات ربانية مستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وتطبيقات بشرية قائمة على مدى فهم أصحاب هذا التفسير لهذه المقررات، وكيفية توظيفها في منظومة منهجية تصلح لقراءة التاريخ البشري، وتحليل وقائعه. إذاً التفسير الإسلامي للتاريخ في جزئياته، كما يرى محمد قطب، هو اجتهاد بشري، يخطئ ويصيب، ويكون دائماً عرضة للمناقشة والتصويب ككل فكر يصدر عن الإنسان، لكن يظل تفسيراً له ميزاته الخاصة التي تدور في فلك المقررات الربانية التي تجعله أكثر موثوقية من التفسيرات العَلْمَانيَّة الأخرى.

    وعلى هدي هذه الفرضيات يناقش هذا البحث المسوِّغات الفكرية التي أفضت إلى ظهور التفسير الإسلامي للتاريخ (أو أسلمة علم التاريخ) في النصف الأخير من القرن العشرين للميلاد، ويحلل الأطروحات الإسلامية التي قُدِّمت في هذا الشأن كبدائل للأطروحات الغربية الخاصة بتفسير التاريخ البشري، ثم يستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجه هذه الأطروحات، وكيفية تقويمها لتكون أجدر استيعاباً لمفردات التاريخ البشري وحركته، وأكثر تثاقفاً مع المناهج البحثية التاريخية المعاصرة.

    أولاً: مسوِّغات أسلمة علم التاريخ

    يرفض منظِّرو أسلمة علم التاريخ المنهج الغربي المادي المتعلق بمعالجة الواقعة التاريخية، والمسألة الحضارية، ويحتجون بأنه منهج عَلْمَاني، يؤمن بضرورة إقصاء العناصر الغيبية من مراجع المعرفة التاريخية ومصادرها، ويبني فرضياته على التجربة والعقل، وأحياناً على قيم غيبية تستمد شرعيتها من التراث الإنساني نفسه. فهذا الإقصاء، من وجهة نظرهم، يُقعد المنهج الغربي عن دوره الفاعل في إعطاء قراءات موضوعية لحركة التاريخ البشري العام.

    ويقوم هذا الرفض على عدد من المسوِّغات أن غياب البُعد الروحي الغيبـي في مناهج البحث التاريخي في الغرب قد أفضى إلى قصور واضح في فهم العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والطبيعة، ولازم هذا القصور نقص طبيعي في فهم حيثيات الوقائع التاريخية، وتفسيرها تفسيراً موضوعياً.

    ويعدُّ أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ هذا القصور، الذي يستمد حجيته من منطلقات أيديولوجية، عيباً جوهرياً في منهج البحث التاريخي الغربي، وليس مجرد عيب جزئي فقط في تفسير الواقعة التاريخية أو تصويرها.

    ومن ناحية أخرى يرفض أصحاب التفسير الإسلامي للتاريخ مبدأ الحتميات (الحتمية التاريخية، والحتمية المادية، والحتمية الاقتصادية)، باعتباره مبدءاً يهدف إلى تحقير الإنسان الذي كرَّمه الله سبحانه وتعالى، وفضَّله على كثير من خلقه، وذلك في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}(الإسراء: 70).

    وعليه، فإن الحتمية الوحيدة المعترف بها في هذا الإطار هي حتمية القدرة الإلهية، التي لا تلغي دور الإنسان الإيجابي وفاعليته، لأنها حتمية نتائج قائمة على أسباب معينة. وهذه الأسباب هي حصيلة إرادة الإنسان الحرة، التي تجعله ملزماً بتحمل النتائج المتربتة على فعله التاريخي في الحياة الدنيا والآخرة. وترفض أدبيات منظِّري أسلمة علم التاريخ التفسير الوضعي القائم على مبدأ الضرورة، وقوانين التطور التصاعدية (أو اللولبية) لحركة التاريخ، لأن هذه القوانين والقواعد المادية المصاحبة لها تجعل الإنسان مجرد عنصر ثانوي من عناصر التاريخ، وتخضع حركاته وسكناته إلى قوة العناصر المادية القاهرة التي تجعل عطاءه الفكري، والعقدي، والاجتماعي، مجرد تجليات لتأثير الظروف المادية المحيطة به.

    وهذه الفرضية، حسب رأي منظِّري الأسلمة تتعارض مع قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:11)، علماً أن هذا القول الفصل يعطى الإنسان دوراً إيجابياً في حركة التاريخ، وصناعة وقائعه دون أن يكون تابعاً لهذه الوقائع أو دائراً في فلكها دوراناً يفقده إرادته الفاعلة.

    كما ترفض هذه الأدبيات مبدأ التطور البشري القائم على مفهوم النشوء والارتقاء الدارويني، بل ترى أن بني البشر قد تناسلوا من نبي الله آدم عليه السلام، وبدأوا حياتهم مُقرِّين بوحدانية الله سبحانه وتعالى، ومتفاعلين فيما بينهم، وفق سلوك حضاري يرقى على سلوك الحيوان، الذي لم يهبه الله سبحانه وتعالى نعمتي العقل والنطق، بل جعله من المخلوقات المسخرة لخدمة الإنسان ومنفعته.

    ويرفض منظِّرو أسلمة علم التاريخ التحقيب الثلاثي الأوروبي، الذي يقسم تاريخ العالم العام إلى "قديم، ووسيط، وحديث"، بحجة أن هذا التقسيم لا يراعي خصوصيات تواريخ الشعوب الأخرى.

    وشاهدهم في ذلك أن التحقيب الثلاثي الأوروبي يضع تاريخ العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، وعدداً من أروع الحقب التاريخية البيزنطية، وإنجازات سلالة تانغ الصينية، وغيرها من الحضارات الأخرى، داخل عباءة العصور الأوروبية المظلمة، علماً بأن هذه الشعوب قد عاشت واقعاً تاريخياً يختلف مضموناً ومعنىً مع الواقع الذي عاشته أوروبا في تلك العصور الوسطى.

    وأخيراً فإن منظِّري الأسلمة يعتقدون أن أي تفسير لتاريخ الأمة الإسلامية يقصي البُعد الديني عن أدواته التحليلية يعدُّ تفسيراً محكوماً عليه "بالقصور الفاحش والفشل الذريع"، لأنه لا يستند إلى النص الإسلامي، الذي يمثل أقوى العوامل الحاسمة في صياغة إسهامات الأمة الإسلامية، وتشكيل رصيدها التاريخي الضخم. وشاهدهم في ذلك أن معظم المستشرقين الذين اهتموا بدراسة تراث الأمة الإسلامية قد أخطأوا الظن في فهم وحدته التاريخية، وطبيعة نسيجه الداخلي المتجانس، لأنهم نظروا إلى هذا التراث التاريخي نظرة تتسم بالتجزئة والتقطع، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار حركة المجتمع المسلم، ووحدته وصيرورته التي "كانت تجد في قيم الإسلام، ومبادئه، ومثله، مراكز ثقلها، وضبطها، ومؤشرات تمخضها الدائم عن المزيد من الوقائع والأحداث".

    وعليه فإن البُعد الغيبـي من وجهة نظرهم يمثل ضرورة ملحة لأي منهج علمي يهدف إلى تقديم قراءة موضوعية لمفردات أحداث التاريخ الإسلامي، وتوطينها في محيط التاريخ العالمي العام. لقد قادت هذه المسوِّغات الناقدة للمنهج الغربي المادي لتفسير التاريخ نفراً من النخبة المسلمة إلى البحث عن تفسير إسلامي للتاريخ، يستمد شرعيته من جملة من مرتكزات الفكر الإسلامي، القائمة على قيم عقدية تختلف اختلافاً جذرياً مع مرتكزات الفكر الغربي الخاصة بتفسير قضية الخلق، والكون، ودور العناصر الغيبية والمحسوسة في تحديد مسار حركة التاريخ البشري.

    وستكون هذه المرتكزات الفكرية الإسلامية محور نقاشنا في الفقرات التالية.

    ثانياً: المرتكزات الفكرية لأطروحات أسلمة علم التاريخ

    استقت أطروحات أسلمة علم التاريخ مرتكزاتها الفكرية من معارف الوحي (القرآن والسنة)، التي مكَّنتها من تجاوز بعض الإخفاقات العامة للمدارس التاريخية الوضعية، وأهلتها لتقديم قراءات جديدة لطبيعة العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والنواميس الكونية، وفاعلية دورها في تحديد مسار حركة التاريخ البشري، وتشكيل وقائعه.

    وقد صدر في هذا الشأن عدد من الأطروحات العلمية الجادة، التي انطلقت من فرضية مؤداها أن المساحة الواسعة التي خصصها القرآن للمسألة التاريخية كافية لأن تضع المرتكزات الفكرية للتفسير الإسلامي للتاريخ، التي يمكن من خلاله ربط قيم السماء بالأرض، وتأصيل قضية خلق الإنسان، واستيعاب طبيعة الصراع بين قوى الخير والشر، ثم فهم المصير المحتوم الذي ستؤول إليه هذه القضايا.

    ومن ثم يمكننا أن نفصِّل هذه المرتكزات الفكرية على النحو التالي: يتجلى المرتكز الفكري الأول في الإقرار التام بأن الفعل التاريخي لا يتحقق إلا في إطار المشيئة الإلهية، حيث تتطابق نتائجه مع علم الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان، وتختلف أسبابه اختلافاً طردياً مع حرية الاختيار المتاحة للإنسان لتنفيذ الفعل التاريخي، وذلك في إطار علاقته المتبادلة مع "عالم الأفكار" و"عالم الأشياء".

    فمن هذه الزاوية جاء تقسيم الفعل التاريخي إلى قسمين:
    قسم يمثله الفعل الإلهي المباشر، الذي يأتي متناسقاً مع النواميس الكونية والقوى الطبيعية، أو يتجاوز النمط المعهود ويتبلور فيما يعرف بخوارق العادات. وهذه الخوارق نفسها تأتي في شكل قوة طبيعية مادية محسوسة، كالسيل، والجفاف، والغرق، والطوفان، أو تتجسد في شكل قوة روحية غير مرئية مثل التأييد الذي يمد به الله سبحانه وتعالى عباده الصالحين عن طريق الملائكة، أو عن طريق رفع الروح المعنوية عند المحن والشدائد.
    وفي كلتا الحالتين فإن غاية الفعل الإلهي المباشر هي تذكير الناس بأن كلمة الله هي النافذة في هذا الكون، وأن قدرته هي القدرة اللانهائية في تشكيل الحدث التاريخي. ويتبلور ذلك في قوله سبحانه وتعالى: {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ.} (آل عمران: 47).

    أما القسم الآخر فيمثله الفعل الإلهي غير المباشر، الذي يحدث في إطار الحرية الإنسانية التي كرم الله بها بني آدم، وبلورها في قوى العقل والإرادة، والانفعال، والحس، والحركة، ثم جسد استجابات هذه القوى في الفعل الإنساني المؤثر في البيئة والمتأثر بها.

    لذا فإن هناك سمة "تناغم وتشابك وتداخل بين إرادة الله سبحانه وتعالى وإرادة الإنسان، يصعب التفريق والفصل والقول بأن هذا من عمل الله وهذا من عمل الإنسان"، بل القاعدة الأساسية أن الكل "من عند الله".

    ولكن في الوقت نفسه يؤكد الله سبحانه أن للإنسان حرية كاملة في صياغة الحدث التاريخي. وذلك في حدود قدراته، وإمكاناته الذاتية، والمؤثرات البيئية التي يعمل فيها، لذا فإن النتيجة التاريخية لتجربته الفردية أو الجماعية التي رتبتها المشيئة الإلهية تأتي متناسقة مع روح الفعل البشري، وطبيعة التجربة نفسها، ومع مفهوم استجابة الإنسان لقوى الخير والشر، والثواب والعقاب، والتحدي ورد الفعل الموازي، والحركة والمقاومة.

    وبهذه الكيفية يضيف عماد الدين خليل بُعداً آخر لقراءة الحدث التاريخي، وينفي القول بأن تصرفات الإنسان هي عبارة عن انعكاسات للصراع الجدلي بين القوى المادية أو انبثاق لمسيرة العقل الكلي تجاه الوجود المطلق، بل يمضي في الاتجاه الذي يؤكد أن للإنسان دوراً ريادياً في صياغة الحدث التاريخي. ويقر أيضاً بأن هذا الدور ناتج عن تبادل أفعاله وردود أفعاله مع الظروف البيئية المحيطة، وعن خصوصية وضعه المتميز على سائر المخلوقات، الذي يتجلى في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً.}(الإسراء 70).

    وتقود هذه الفرضية خليلاً إلى القول ضمناً بأن الإسلام يعطي مساحة لنظرية التفسير البطولي للتاريخ لأنه يفسح "الطريق أمام المتفوقين الذين تجاوزوا مواقع ضعفهم وانتصروا على قوى الشر التي تشدهم … [وتحملوا] مسئولية توجيه التاريخ وتشكيل حركته، شرط أن يضمنوا مسيرة الجماهير وراءهم، وإلا فإنهم سيصعدون وحدهم، وسوف تتّسم تجربتهم بالفردية ولا تنعكس بشكل كافٍ على مسيرة الأمة كلها في إطار النظام والفكر الإسلامي".

    وواضح أن الكاتب قد تأثر في هذا المنحى برأي الفيلسوف البريطاني توينبي (ت 1975م) الذي يرى أن الصفوة المبدعة هي أساس البناء الحضاري، لأن سلوكها دائماً موضع تقدير واقتداء بالنسبة للكثرة الغالبة التي جُبلت على محاكاتها. ويتجسد المرتكز الفكري الثاني في قضية الصراع البشري، الذي يتبلور في عملية نشوء الحضارات وسقوطها، إلا أنه حسب رأي منظِّري الأسلمة صراع لا ينحصر في صراع نقائض الفكر البشري الذي تبناه هيجل، أو صراع وسائل الإنتاج الذي روَّج له كارل ماركس، أو جدلية التحدي والاستجابة عند توينبي، بل يتجاوز هذه الفرضيات العلمانية ليشمل ضروباً شتى من الصراع، أو التناقض، أو التقابل، أو الثنائية في الأفعال وردودها، أو التدافع. وكما يرى عماد الدين خليل، ومحمد قطب، وعبد الحميد صديقي، فإن القاسم المشترك بين هذه الضروب المختلفة يستند في جوهره إلى الصراع الذي نشب بين آدم وإبليس (أو الشيطان)، وفق معايير تعكس قِيم الإيمان والكفر، وتجسد أدبيات الحق والباطل. واتجاهات الصراع بالكيفية المشار إليها يجب أن تتبلور في بُعدين لا ثالث لهما.

    أحدهما بُعد "ذاتي عامودي" يرتبط بمواجهة الإنسان لنفسه في إطار القوى البيئية والمؤثرات الوراثية، وآخر خارجي أفقي يتعلق بالقضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وإن وجود هذين الاتجاهين هو وجود سرمدي ليس مربوطاً بأجل معين، كما يراه المثاليون، والماديون، والحضاريون، وإن حركتهما ليست حركة لولبية تصاعدية حتمية، بل حركة تجمع بين الصعود والهبوط، وتتخللها أفعال إلهية مباشرة تتجاوز قدرات الفعل الإنساني. وبهذه الكيفية يقترح منظِّرو الأسلمة وضع بعض الضوابط الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ، التي تستقي مفاهيمها المعرفية من المادة التاريخية الواردة في القرآن على سبيل العرض المباشر، والسرد القصصي لتجارب عدد من الجماعات البشرية، والإشارات التي تبرهن أن هناك قانوناً إلهياً يحكم حركة النواميس الكونية، ويوجه نشاط الوجود البشري.

    وفي هذا الإطار القرآني يحاول منظِّرو الأسلمة أن يشذبوا بعض فرضيات المدارس العلمانية (المثالية والمادية والحضارية)، ويضيفوا إليها بُعداً آخر يتجسد في إثبات دور العنصر الغيبـي في صياغة الحدث التاريخي، ودور الإنسان الريادي في توجيه مسار حركة التاريخ البشري، ويؤكدوا في الوقت نفسه فاعلية الإنسان وتأثيره في الظروف البيئية المحيطة به، وتفاعله مع مفرداتها تفاعلاً إيجابياً.

    إلا أن هذا الافتراض الذي يتزعمه خليل يواجه رفضاً صريحاً من بعض منظِّري الأسلمة التأصليين، الذين يرون أن تبني "قضية الصراع" باعتبارها قضية محورية، وقانوناً مجمعاً عليه في فهم القضايا التاريخية، أمر "يؤدي إلى اختلاط الفهم ويضطر صاحبه إلى إدخال معاني القرآن في الخلق والكون والحياة" في إطار ضيق، لا يتناسب مع استخدام المصطلحات القرآنية مثل "الجهاد، والفتنة، والابتلاء، والزوجية، ودفع الناس، والاختلاف"، باعتبارها صوراً من صور الصراع. ويتبلور اعتراض هؤلاء في قولهم إن الفرق شاسع بين "الاختلاف والتناقض، وبين الجهاد والصراع، وبين الزوجية للسكن، والرحمة ووحدة المتناقضات".

    ويمثل هذا المنحى الأستاذ يوسف كمال محمد، الذي ينقد أطروحة خليل، متعللاً بأن صاحبها قد "طبق الصراع الجدلي بالمفهوم الهيغلي على حركة التاريخ. ولم يخالف الجدلية إلا في أمرين:
    أحدهما يتمثل في اعتقاده بأن الصراع لا يقوم على حركة تاريخية تصاعدية، بل في الغالب يكون في حالة صعود وهبوط، وثانيها في زعمه أن الصراع يكون دائماً على نسق سرمدي، لا يتلاشى في أية مرحلة من مراحل التطور الحضاري البشري.

    ويبدو أن هذا النقد قد جعل بعض منظِّري الأسلمة يقلعون عن استخدام مصطلح "الصراع"، لأنه من وجهة نظرهم مصطلح مثقل بأدبيات التراث العلماني الغربي، بدليل أن أوغست كونت استخدامه في نظرية المراحل الثلاث، وهجيل وظفه في حركة الجدل الثنائي بين المادة والروح، وماركس بنى عليه مفردات العلاقة الجدلية القائمة بين عناصر المادة الثلاثة، ومن ثم فإنهم يحبذون مصطلح "التدافع"، وذلك استناداً إلى قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}(البقرة: 251)، وقوله: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج: 40).

    ومن وجهة نظرهم أن غاية التدافع تكمن في تحريك الحياة الإنسانية نحو الأفضل، وتحقيق التوازن المنشود لصالح قوى الخير التي تحكمها السنن الكونية والالتزام الواعي بمقاصد الشرع، مقابل الغرائز الدنيوية وهوى النفس اللذين يُعَّدان بمثابة القوى المحركة لقوى الباطل.

    إلا أننا نعتقد أن المفهوم العام للتدافع يجب أن يُوظف في إطار تراث الأنبياء، لأن الخطوط الفاصلة بين الحق والباطل في هذا الشأن خطوط واضحة. أما التعميم فيما عدا ذلك فلا يصلح، لأنه يؤدي إلى خلق صورة ضبابية في ذهن المؤرخ، الذي يعالج مفردات التاريخ البشري، وعلى وجه التحديد إذا كانت أطراف التدافع (أو الصراع) تمثل بعض شرائح المجتمع المسلم، التي تنطلق من خلفيات أيديولوجية متعاكسة، وأن كلا طرفي الصراع يعلنان أنهما على حق ويسيران وفق هدي الصراط المستقيم.

    وعليه فإننا نرى أن الاختلاف بين مصطلح "الصراع" الذي يستخدمه عماد الدين خليل، ومصطلح "التدافع" الذي يحبذه معارضوه هو اختلاف مقدار أكثر من أن يكون اختلاف معيار، وأن أوجه التوافق بين المصطلحين أكثر كثافة من القضايا الخلافية ذات النـزعة المفاهمية.ويتمثل المرتكز الفكري الثالث في إعادة تحقيب التاريخ العالمي العام، تعللاً بأن التحقيب الأوروبي الثلاثي لا يتسم بالشمولية، ولا يتوافق مع خصوصيات تواريخ شعوب العالم المختلفة، ولا يستمد شرعيته من أية إشارات نابعة من معارف الوحي (القرآن والسنة).

    وفي ضوء هذه الفرضية يقدم منظِّرو أسلمة علم التاريخ عدة أطروحات، يمكن أن تُصنَّف إلى ثلاثة مشروعات رئيسة.

    يتسم المشروع الأول، الذي يتبناه محمد قطب وعبد الحميد صديقي،
    بالثنائية في التقسيم،

    حيث يقسم تاريخ العالم ابتداءً إلى قسمين كبيرين: "تاريخ الأمم المؤمنة، وعلى رأسها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي ناط الله بها أداء تكاليف الرسالة الخاتمة بعد الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، وتاريخ الأمم غير المسلمة، أي تاريخ الجاهليات".

    وفي إطار هذا التقسم يحقب محمد قطب تاريخ الأمم المؤمنة أو المسلمة إلى ثلاث فترات رئيسة، هي: "فترة التطبيق الفائق وما صاحبها من تمكين فائق، وفترة التطبيق العادي وما صاحبها من التمكين العادي، وفترة الانحسار وتزايد البعد عن حقيقة الإسلام، وما صاحبها من زوال السلطان وغلبة الأعداء".
    وأما فيما يخص "تاريخ الجاهليات" فنجده يكتفي بالإقرار بصلاحية التقسيم الأوروبي الثلاثي (قديم ووسيط وحديث)، بحجة أنّه يتوافق مع تاريخ الشعوب غير المسلمة.
    إلا أن خالد بلانكنشب ينتقد هذا التقسيم الثنائي ذي السحنة الانعزالية التي تميل إلى فصل تاريخ الأمة الإسلامية عن المجرى الرئيس لتاريخ العالم.
    وهذا التقسيم من وجهة نظره يتسم بضيق الأفق، ولا يعدُّ بديلاً أفضل للتحقيب الثلاثي الأوروبي.
    ومن ثم فإن بلانكنشب يدعو إلى تحقيب يجمع بين دفتيه تاريخ الشعوب الإسلامية وغير الإسلامية، وذلك استناداً إلى النظرة القرآنية الشمولية لتاريخ الإنسانية، التي يمكن من خلالها تأسيس تحقيب إسلامي، يربو عن إسقاطات الموروثات العرقية، أو الدينية، أو الجهوية، ويضمن لنفسه المصداقية والصلاحية لكل زمان ومكان.

    أما المشروع الثنائي الثاني الذي يتباه خالد بلانكنشب وأحمد إلياس حسين،


    فيحاول أن يُحقِّب تاريخ العالم العام إلى حقبتين تاريخيتين: إحداهما قديمة والأخرى حديثة، ويفصل بينهما القرن السابع للميلاد، فصلاً مرناً، له خصوصيته ومدلولاته المعنوية.

    فنقطة الانطلاق بالنسبة لبلانكنشب هي فكرة التوحيد، التي يعتبرها محصلة وسطى تقع في صميم الوجود البشري، وسعيه الدؤوب في سبيل الوصول إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك بخلاف المفاهيم الغربية المتعلقة بالإنسانية والتقدم البشري.

    ويرى بلانكنشب أن لهذا التقسيم محاسنه، لأنه يجعل البعثة النبوية نقطة البدء في تاريخ المسلمين الحديث، ويحقّب أيضاً للمفاصل المهمة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية الشرقية، وتاريخ الفرس، والهنود والصينيين، واليابانيين، وحتى الأوروبيين الغربيين أنفسهم.

    وواضح من هذا العرض أن بلانكنشب يسعى جاهداً لتجاوز سلبيات حقبة العصور الوسطى، التي تبدأ بالقرن السادس وتنتهي بالقرن الخامس عشر للميلاد، بـحجة أنها حقبة ذات مركزية أوروبية لا تستوعب خصوصيات كثير من تواريخ شعوب العالم، ومن ثم يفضل أن يجعل القرن السابع للميلاد خطاً فاصلاً بين التاريخ القديم والتاريخ الحديث للعالم.

    إلا أن هذا التقسيم يخلق أيضاً مشكلة مماثلة بالنسبة للتاريخ الأوروبي، الذي تتوافق كلياته مع منظومة التحقيب الثلاثي. أما أحمد إلياس فيركِّز أيضاً على مفهوم التوحيد، الذي يتجسد في وحدة النوع الإنساني، ووحدة الحياة البشرية القائمة على مفهوم الخلافة ووسائطه النبوية، وبذلك يقر أن تاريخ البشرية هو تاريخ واحد. وفي هذا الإطار التوحيدي يقسم تاريخ العالم العام إلى "تاريخ الأمم الإسلامية قبل هجرة" النبي محمد صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة عام 622م، ويرمز إليه بـ "التاريخ القديم"، الذي يبدأ بهبوط آدم عليه السلام من السماء إلى الأرض، وينتهي بهجرة محمد صلى الله عليه وسلم، باعتباره خاتم الأنبياء والرسل. أما القسم الثاني فيطلق عليه "تاريخ الأمم الإسلامية بعد هجرة" الرسول صلى الله عليه وسلم، وتغطي هذه الحقبة الفترة الواقعة ما بين بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والعصر الحاضر، ويرمز إليها بحقبة "التاريخ الحديث".

    إلا أن إشكالية هذا التقسيم الثنائي تكمن في أن مبدأ التوحيد القائم على وحدة الجنس البشري لا يقدم تحقيباً موضوعياً لأحداث التاريخ، لأن أفعال الأفراد والشعوب والحضارات تقف عند مفترق طريقين، إما أن تكون منسجمة مع نواميس الكون وسنن الحياة، وبذلك تجسد مفهوم خلافة الإنسان في الأرض، وإما أن تكون في حالة صدام مع نواميس الكون وسنن الحياة الربانية، وبذلك تكون في وضع مخالفة لمقاصد الشرع الإسلامي.
    ومآل هذه الأفعال المتباينة يوضحه قوله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَليمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا} (النساء: 173).

    إذاً مما لا ريب فيه أن هذا الاختلاف النوعي بين أفعال المسلمين وغير المسلمين يخلق عائقاً موضوعياً أمام فرضية أحمد إلياس القاضية بتحقيب تاريخ العالم العام إلى حقبتين تاريخيتين، إحداهما تمثل تاريخ الأمم الإسلامية قبل الهجرة، والأخرى ترمز لتاريخ الأمم الإسلامية بعد الهجرة.
    إضافة إلى ذلك فإن وضع الفترة المكية (610-622م) داخل إطار التاريخ القديم يخلق نوعاً من الاضطراب في ذهنية المؤرخ المسلم، ويجعله يتساءل عن المبررات الكامنة وراء وضع هذه الفترة المكية من تاريخ المسلمين خارج إطار تاريخ الأمة الإسلامية بمعناه الضيق.

    أما المشروع الثالث فيشمل أطروحتي سيد علي أشرف ومحمد باقر الصدر.

    فالأطروحة الأولى تنطلق من فهم سيد علي أشرف القرآني للوجود وحركة التاريخ، حيث أنه يقسم تاريخ البشرية إلى ثلاث حقب رئيسة، تشمل الحقبة الأولى فترة تاريخ الأنبياء، الممتدة من آدم إلى محمد عليهما السلام، وتغطي الحقبة الثانية الفترة الواقعة بين تاريخ الخلفاء الراشدين وعودة المسيح عليه السلام، وتخص الحقبة الثالثة تاريخ الانحدار الخلقي الذي سيشهده العالم في الفترة الواقعة بين رفع المسيح للمرة الثانية وانطواء الأرض وما عليها.
    بالنسبة لأطروحة الصدر فهي أطروحة ثلاثية أيضاً، حيث أنها تقسم تاريخ العالم إلى ثلاثة حقب رئيسة، تتقدمها "مرحلة الحضانة" التي تبدأ بخلق آدم وحواء وتنتهي بهبوطهما من السماء إلى الأرض وبدء الحياة البشرية، وتليها "مرحلة الفطرة الواحدة" التي تسبق قيام المجتمعات المتصارعة مع بعضها بعضاً، وأخيراً تعقبها "مرحلة التشتت" التي تبدأ بعصر الصراعات الداخلية الطاحنة، وتنتهي بمجئ المهدي المنتظر، الذي يملأ الأرض عدلاً ومساواةً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً.
    وواضح من هذا العرض أن كلا المفكرين يستمدان إطارهما الفكري لتحقيب تاريخ العالم من خارج التراث التاريخي (أو العملية التاريخانية)، ويؤسسان فرضيتيهما على هدى بعض الموجهات التاريخية الواردة في القرآن، كما يزعمان.
    ومن ثم فإن تحقيبيهما يحملان بعض الإشارات المستقبلية، فمثلاً نلحظ أن سيد علي أشرف يرى في عودة المسيح عليه السلام حدثاً تاريخياً فاصلاً بين حقبة تاريخ الخلفاء الراشدين وما لحق بها، وحقبة التدهور والانحلال التي تعد من علامات يوم القيامة.
    وبينما يعتقد الصدر أن الحدث التاريخي الفاصل بين مرحلة الحضانة والوحدة الثانية هو ظهور المهدي المنتظر.
    وزبدة القول: إننا نتفق مع تريفة أحمد عثمان أنه لا توجد في القرآن إشارات واضحة وصريحة تؤكد ما ذهب إليه سيد علي أشرف أو ما تبناه السيد محمد الباقر الصدر فيما يخص الحقبة المستقبلية من تاريخ العالم العام، لكن هذا الاتفاق لا يمنعنا القول إنهما ربما أسسا هذه الفرضية على هدي تراث الشيعة الذي يحمل بين جنباته بعض الإشارات التي ارتكن إليها المفكران.

    ثالثاً: موقف الأسلمة من إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية

    يوجد داخل منظومة التفسير الإسلامي للتاريخ اهتمام خاص بإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية، وفق ضوابط معرفية تهدف إلى تنقية المدونات التاريخية من الشوائب والإسرائيليات العالقة بها، وتسعى في الوقت نفسه إلى تأسيس منهج تأصيلي لإعادة قراءة هذه المدونات في ضوء جملة من الموجهات القرآنية والسنن الكونية الفاعلة والمتفاعلة مع مفردات الفعل التاريخي البشري.

    فإعادة كتابة التاريخ الإسلامي بهذه الكيفية تستمد مشروعيتها من المسوِّغات التالية:

    أولاً: يجمع منظِّرو أسلمة علم التاريخ على أن مدوَّنات التاريخ الإسلامي العربية القديمة تعج بكثير من القضايا الخلافية، التي تتعارض في كلياتها مع بعض ثوابت الدين الإسلامي وتراث المسلمين الحضاري. فمثلاً سيد قطب يصف هذه المدونات التاريخية بأنها "نثار من الحوادث والوقائع والحكايات والأحاديث والنتف والمُلَح والخرافات والأساطير والروايات المتضاربة والأقوال المتعارضة على كل حال"، لذا فلا يجوز تسميتها تاريخاً.

    ويؤيد هذا الموقف محمد خليل رشاد، عندما يعضد نقده للمدونات التاريخية بقول أبي بكر بن العربي، الذي يصف المفسرين، والمؤرخين، وأهل الآداب، بأنهم:"أهل جهالة بحرمات الدين، أو على بدعة مصرِّين، فلا تبالوا بما رووا، ولا تقبلوا رواية إلا عن أئمة الحديث، ولا تسمعوا لمؤرخ كلاماً إلا للطبري، وغير ذلك هو الموت الأحمر، والداء الأكبر، فإنهم ينشئون أحاديث استحقار الصحابة والسلف، والاستخفاف بهم، واختراع الاسترسال في الأقوال والأفعال عنهم، وخروج مقاصدهم عن الدين إلى الدنيا، وعن الحق إلى الهوى، فإذا قاطعتم أهل الباطل واقتصرتم على رواية العدول، سلمتم من هذه الحبائل، ولم تطووا كشحاً عن هذه الغوائل.

    ومن أشد شيء على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع محتال. فأما الجاهل فهو ابن قتيبة [...] وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه بما يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روى من ذلك، وأما البدعة فلا شك فيه...".

    فإن هذا القصور حسب منطلقات أسلمة علم التاريخ يعزى إلى سببين رئيسيين: أحدهما يرتبط بالواقع السياسي الذي كُتبت فيه أهم المدونات التاريخية، أي بمعنى آخر أن معظم كُتَّاب هذه المدونات التاريخية قد تأثروا في كتاباتهم بهاجس الخوف من أو محاباة السلطة السياسية. ومن ثم فإن معظم رواياتهم التي نقلوها إلينا عن تاريخ خصوم السلطة السياسية قد اتسمت بنوع من فجور الرواة أو الإخباريين الذين نقل عنهم الرواة، وعلى سبيل المثال قد انعكست إسقاطات ذلك الواقع السياسي على تاريخ الأمويين، الذي دُوِّن في العهد العباسي، علماً بأن العباسيين كانوا في خصومة سياسية مع الأمويين، ألقت بظلالها السالبة على تاريخ الخصوم الذي دُوِّن في تلك الحقبة. وثانيهما يرتبط بطول الفترة الزمنية الفاصلة بين تأريخ حدوث كثير من الوقائع التاريخية وتأريخ تدوينها، فلا شك أن هذا الفاصل الزمني قد خلق نوعاً من الاضطراب والارتباك في كثير من الروايات التاريخية، التي تأثرت بالخلط والتحريف والنسيان. وبذلك يصبح لزاماً على الباحثين في مجال الدراسات التاريخية الإسلامية أن يناقشوا هذه الروايات ومثيلاتها، مناقشة منطقية جريئة قائمة على التمحيص والاستقراء، لكي يستبعدوا غثها ويستفيدوا من ثمينها في إعادة كتابة مفردات تاريخ الأمة الإسلامية. ثانياً: إن منظِّري الأسلمة قد شككوا أيضاً في مصداقية كثير من الأطروحات والدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ الأمة الإسلامية، وعلى سبيل الحصر ما كتبه المستشرقون وبعض المسلمين الذين تأثروا بمناهجهم الاستشراقية.

    وفي هذا الشأن يرى عماد الدين خليل أن معظم الذي كُتِبَ عن تاريخ الأمة الإسلامية:لا يعدو أن يكون غثاءً كمياً -إذا صح التعبير- لا يضيف جديداً، إن على مستوى المنهج أو على مستوى الموضوع، فضلاً عن أنه يكشف عن خواء محزن في القدرة على التحليل والتركيب، وفي الخلفية الثقافية وقوة الخيال، وفي الأسلوب وطرائق التعبير.

    ثم، وهو الأدهى والأمر، أن معظم الأطروحات هذه تجرى وفق ما تريده "السياسيات التعليمية" للمؤسسات الأكاديمية التي أُنجزت بها. ومن ثم فإن تاريخ الأمة الإسلامية يغدو "أمريكيا في جامعة برنستون.. ماركسياً في جامعة موسكو.. إنكليزياً في جامعة أكسفورد أو لندن أو سانت أندروز.. مع هوى بني إسرائيل في الجامعة العبرية. ثالثاً: إن هذه الانتقادات المرتبطة بموثوقية مدونات تاريخ الأمة الإسلامية ومناهج البحث الاستشراقية قد دفعت سيد قطب، بصفته واحد من رواد أسلمة علم التاريخ، إلى القول: بأن "تعاد كتابة التاريخ الإسلامي على أسس جديدة ومنهج آخر.[...] وأن يُنظر إلى الحياة الإسلامية من زاوية جديدة، وتحت أضواء جديدة لكي تعطي كل أسرارها وإشعاعاتها، وتنكشف بكل عناصرها ومقوماتها". وانطلاقاً من هذه الرؤية التجديدية لإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية يدعو منظِّرو الأسلمة إلى تبني الموجهات البحثية التالية:

    • تقويم مدونات تاريخ الأمة الإسلامية وفق موجهات منهج الجرح والتعديل، الذي يمثل المرحلة الأولى في فحص الوثيقة التاريخية من خلال النظر في شخصية الراوي أو الناقل قبل الالتفات إلى معنى النص التاريخي، الذي تحمله الوثيقة. ويقضي هذا المنهج أن يكون الراوي أو الناقل عدلاً ضابطاً لما يرويه، مع توفر شروط الإسلام، والبلوغ، والعقل، والتيقظ، والحفظ، والإدراك السليم.

    • التثبت من صحة المرويات الواردة في المدونات التاريخية، وذلك وفق منهج ثوثيقي يستأنس بموجهات القرآن والسنة، والسنن الكونية التي تكون في حالة تناغم مع الفعل التاريخي. • أن يتحلى المؤرخ الذي يتعامل مع مدونات تاريخ الأمة الإسلامية بنوع من الإخلاص والتجرد، والخبرة بفقه اللغة العربية، والعلم الصحيح بالإسلام وعلومه الضرورية، والإلمام الواسع بتاريخ العرب في الجاهلية، ومعرفة الحالة التي كانت عليها الأمم الأخرى قبل دخولها في دين الله أفواجاً. أما في ما يخص المنهج الذي يجب أن يُوظف في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية يقترح منظّرو الأسلمة الموجهات الفكرية التالية:

    • إقرار المرتكزات الفكرية العامة المتعلقة بأطروحات أسلمة علم التاريخ (انظر أعلاه)، واعتبارها موجهات كلية للمنهج البحثي الخاص بإعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية.

    • أن يوثق تاريخ الأمة الإسلامية باعتباره تاريخاً يهدف إلى تحقيق المشيئة الإلهية من خلال الفاعلية المتاحة للإنسان في هذا الكون بقدر من الله، وبحسب سنن معينة يجري الله بها قدره في الحياة الدنيا. علماً بأنه تاريخ تتجلى فيه مفردات تاريخ الفرد والجماعة المسلمة اللذان يتحركان في إطار تشكابهما المدني وتفاعلهما النسبي مع شرائع الذات الإلهية المطلقة والسنن الكونية المسخرة لخدمة البشرية.

    • يجب أن تُعاد كتابة تاريخ الأمة الإسلامية في إطار مفهوم خلافة الإنسان لله سبحانه وتعالى، وتتبلور الماهية الوظيفة لهذا المفهوم في "إقامة مجتمع إنساني سليم، وإشادة حضارة إنسانية شاملة ليكون الإنسان بذلك مظهراً لعدالة الله تعالى وحكمة في الأرض، ولكن لا بالقسر والإجبار، بل بالتعليم والاختبار". ولا شك أن تنفيذ هذا التكليف على مستوى الفرد والجماعة، حسب وجهة نظرهم، مرهون بمبدأي الثواب (الوعد) والعقاب (الوعيد) في الآخرة، اللذين يمثلان البُعد النفسي، القائم على جملة من المعانى القصدية الذاتية، التي تتكامل تكاملاً طردياً مع متطلبات البُعد الميتافيزيقي الخارجي.

    • يجب أيضاً وضع نظام تحقيب جديد لدراسة تاريخ الأمة الإسلامية، ويشترط في هذا التحقيب أن يتوافق في كلياته مع تحقيب التاريخ العالمي العام الذي أشرنا إليه أعلاه، وأن يحتفظ بخصوصياته في حالة مناقشة بعض القضايا الإسلامية ذات الصبغة المحلية أو الإقليمية.

    وانطلاقاً من هذه الخليفة اقترح منظِّرو الأسلمة التحقيب التالي:
    مالك بن نبي
    مرحلة الإسلام الأولى مرحلة المدنية الإسلامية حتى عهد الموحدين مرحلة الجمود والانحطاط
    سيد قطب
    عهد الرسول صلى الله عليه وسلم المد الإسلامي إعمار المد الإسلامي العالم الإسلامي اليوم
    محمد قطب
    البعثة وصدر الإسلام المد الإسلامي فترة الانحسار الصحوة الإسلامية خيوط المستقبل
    سيد على أشرف
    حقبة الأنبياء حتى محمد حقبة الخلفاء الراشدين حتى عودة النبي عيسى حقبة الانحدار الإنساني
    محمد باقر الصدر
    مرحلة الحضانة مرحلة الوحدة مرحلة التشتت إلى ظهور المهدي المنتظر
    أحمد إلياس
    العصر الجاهلي عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تاريخ الأمة الإسلامية
    الأمة الإسلامية المعاصرة

    ويتّضح من هذا الجدول التحقيبي أن منظِّري الأسلمة قد عمدوا إلى تجاوز النظرة الشعوبية الخاصة بتقسيم تاريخ الأمة الإسلامية إلى تاريخ أموي، وعباسي، وفاطمي، وأيوبي، ومملوكي، وعثماني، وإلى تجاوز الجهوية الخاصة بتحقيبه إلى تاريخ الأندلس، وتاريخ بلاد الشام، وتاريخ الحجاز، وتاريخ الهند.

    وحسب وجهة نظرهم أن مثل هذه التحقيبات التجزيئية ذات السحنة الشعوبية والجهوية ستؤدي إلى تفتت وحدة تاريخ الأمة الإسلامية، وعرضه في شكل قراءات ضبابية مهزوزة لا تتفق مع وحدة نسيجه الأممي، وطبيعة العوامل التي كانت تحكم مسار حركته خارج إطار المسألة "التاريخانية"، أي وفق ثوابت الشرع الإسلامي، وقيم المجتمع المسلم.

    إلا أن الإشكالية المنهجية التي تواجه هذا المقترح أن منظِّري الأسلمة أنفسهم فشلوا في التوصل إلى نظام تحقيب جامع مانع، يمكن أن يكون بمثابة أساس مرجعي، يعينهم في تنفيذ هدفهم المنشود الذي يتبلور في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية من خلال قراءة جديدة للمدونات التاريخية، وعرض تحليلي للمعلومات الموثقة في هذه المدونات، وفق منهج شمولي قادر على استيعاب منجزات الأمة الإسلامية.

    رابعاً: محاولة لتقويم أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ

    بعد هذا الاستعراض المفصل لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ ومرتكزاته الفكرية، يمكننا أن نضع هذه الأطروحات قيد النقد والتقويم، ونبين الإضافة المنهجية التي قدمتها لفلسفة التاريخ، ثم نستعرض الإشكالات المنهجية التي تواجهها، وكيفية إصلاحها ليستقيم الميسم ويثقف المنهج في جزئياته.

    1. على المستوي العام يمكننا التصريح بأن أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ قد أفلحت في تفنيد بعض فرضيات المدارس الليبرالية والماركسية الغربية الخاصة بتفسير الواقعة التاريخية تفسيراً تاريخانياً بحتاً، لا يعير أي اهتمام لدور العناصر الميتافيزيقية في صياغة الحدث التاريخي البشري؛ ووفقت أيضاً في تأصيل قضية الخلق من منظور قرآني يحجب أهلية التفسير المادي القائم على أدبيات النشوء والارتقاء، وأخيراً نجحت في كشف سَوْآت التحقيب الثلاثي الأوروبي لتاريخ العالم العام، وشككت في صلاحيته لتحقيب تاريخ الأمة الإسلامية وبعض الشعوب الأخرى.

    2. على المستوي التفصيلي المتعلق بقراءة تاريخ العالم العام نعتقد أن منظِّري الأسلمة لم يوفقوا في تقديم منهج متكاملٍ لقراءات مفردات أحداث التاريخ البشري الواقعة داخل منظومة الفعل الإلهي غير المباشر.

    وتداركاً لهذه الإخفاقات نقترح أن يُعاد تأهيل الهيكل المنهجي وفق القراءتين التاليتين. تستمد القراءة الأولى بعض مفرداتها من أدبيات مالك بن نبي، وتقترح ضرورة استبدال عناصر الفعل الإلهي غير المباشر (الله، والإنسان، والطبيعة) بمفردات منظومة مالك بن نبي القائمة على ثلاثية "عالم الأفكار"، و"عالم الأشخاص"، و"عالم الأشياء". ويُقصد بعالم الأفكار في هذا المضمار الحيز الذي يمثل الإطار الخارجي للفعل التاريخي، الذي يتكون من مجموعة من الأفكار الاستخلافية المستمدة من الذات الإلهية المطلقة عبر وسائط معينة، أو الأفكار الوضعية التي تتسم بنوع من القدسية في أوساط الأفراد والجماعات المنتمين إليها.

    وتظل هذه الأفكار مجرد محرك داخلي يقبع في ضمير الفرد والمجتمع.
    ثم بعد ذلك يتحول الفكر الخارجي المطلق إلى فعل تاريخي، تنفذه على محيط الواقع وسائط ذات قدرات نسبية تعيش في إطار عالم الأشخاص، الذي يقوم سداه ولحمته على الأفراد والجماعات البشرية. وهذه الوسائط البشرية لا تعمل منعزلة عن بعضها بعضاً، بل تباشر نشاطها في حيز عالم الأشياء الذي سخره الله سبحانه وتعالى لخدمة الإنسان، وذلك وفق علاقة متبادلة بينها وبين هذه الجزئيات المسخرة.
    إذاً مجموعة العلاقة الضرورية التي تنشأ بين هذه العوالم الثلاثة هي عبارة عن "شبكة علاقات اجتماعية"، كما ينعتها مالك بن نبي. ومصطلح العلاقات الاجتماعية المقصود في هذا المقام هو مصطلح مرن، يشمل كافة أشكال العلاقات الدينية والدنيوية في أي مجتمع بشري.
    وعليه فإن هذا الإطار المرن سيعطي مساحة أوسع لمناقشة كل القضايا التي تطرأ على ساحات المجتمع البشري المسلم وغير المسلم. وبهذه الرؤية المتواضعة نكون قد أسهمنا في إعادة هيكلة المنظومة الثلاثية للفعل الإلهي غير المباشر (الله، والإنسان، والطبيعة)، وحل بعض الإشكالية المنهجية التي تواجه أطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ في بعض جزئياته.أما القراءة الثانية فتتمثل في ضرورة الاستئناس بمناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى، التي ستساعد في التثبت والتحقق من صحة المرويات والوثائق التاريخية، وتعين في تحليل مفردات الواقعة التاريخية تحليلاً منطقياً داخل إطار الهيكل العام لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ. فلا نحسب أن مثل هذا الاستئناس العلمي الإيجابي سيقدح في أهلية فلسفة الأسلمة ويفرغها من محتواها الوظيفي، تعللاً بأن هذه العلوم الاجتماعية، كما ينعتها بعض منظِّري أسلمة علم التاريخ، هي علوم علمانية نشأت في أحضان الغرب، وإن التعامل معها ربما يؤثر في المرتكزات الفكرية للتفسير الإسلامي للتاريخ. فلا شك في أن هذه العلوم لها إيماءاتها العَلْمَانِيَّة ومنطلقاتها الأيديولوجية، لكن يجب أن تُحرر من هذا الإرث، قبل أن تُوظف في إطار الفلسفة الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ. وعلمية هذا التحرر كما يصفها إبراهيم محمد زين بـ "مربط الفرس" هي المحك الأساس الذي تواجهه عملية إسلامية المعرفة بصفة عامة.

    ولتجاوز هذه العقدة يجب أن يفقِّه منظِّرو الأسلمة أنفسهم قليلاً بأدبيات العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة، دون أن يحصروا أنفسهم في معروضات سوق الحداثة البالية (المدرسة المثالية، والمادية التاريخية، والمدرسة الحضارية) التي فقدت صلاحيتها في الغرب نفسه. فمثلاً نجد أن فشل هذه المدارس قد قاد إلي ظهور عدد من المدارس التاريخية الأخرى في الغرب، أذيعها شهرة مدرسة الحوليات التي استمدت منهجها من كتابات عدد من الباحثين الذين كانوا ينشرون إصدارتهم العلمية في مجلة الحوليات الفرنسية (Annals)، ونذكر منهم لوشن فيبر (Lucien Febvre)، مارك بلوش (Marc Bloch)، وفرناند برودل (Fernand Braudel).

    وقد تمثلت الأفكار الرئيسة لهذه المدرسة في استبدال المنهج التاريخ الأيديولوجي بمنهج يقوم على السرد التقليدي للأحداث، وينظر إلي التاريخ البشري باعتباره انعكاساً لتجلّيات الفعل السياسي، وللربط بين هاتين الفرضيتين حاول أنصار الحوليات أن يتبنوا منهجاً بحثياً يقوم على إزالة الحواجز المنهجية بين العلوم الاجتماعية (الاقتصاد، الاجتماع، علم النفس، الأنثربولوجيا، اللغويات، ...) وأن يدعوا إلى تبني منهج شمولي تكاملي يجعل من هذه العلوم الاجتماعية علوماً مساعدة لعلم التاريخ في تحليل الوقائع التاريخية وأحداث الماضي البشري. وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين حاول أنصار هذه المدرسة أن يعدلوا عن نظرتهم إلى التاريخ البشري باعتباره انعكاسات لتجلّيات الفعل السياسي ويتبنوا فرضية أخرى تقضي بأهمية التاريخ الثقافي-الاجتماعي في قراءة أحداث الماضي البشري، وبذلك حاولوا أن يتخلصوا من نقد خصومهم الذين وصفوهم بأنهم عبدة لآلة التاريخ السياسي وتاريخ التراجم والتاريخ السردي القصصي. ورغماً عن هذه الانتقادات فإننا نحسب أن أدبيات مدرسة الحوليات الفرنسية وغيرها من مدارس العلوم الاجتماعية يمكن أن توظف في إطار البنية الكلية للتفسير الإسلامي للتاريخ، وتعين في سد بعض الثغرات الموجودة في هيكل أطروحاته ومرتكزاته الفكرية.

    3. على مستوى إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية فإن النقد الذي تقدم به منظِّرو الأسلمة بشأن موثوقية المدونات التاريخية لم يكن بالأمر المستحدث، فقد سبقهم في هذا الشأن ابن خلدون صاحب المقدمة الشهيرة، لكن الشيء الذي يدعو للاستغراب هو أن الضوابط التي وضعها منظِّرو الأسلمة للتحقق من صحة المرويات الواردة في المدونات التاريخية أقصر قامة من الضوابط التي وضعها ابن خلدون.

    والعيب الأساس يكمن في أنهم قد حصروا أنفسهم في منهج الجرح والتعديل، دون أن يولوا اهتماماً موضوعياً للجوانب الأخرى التي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته تفصيلاً. ويبدو أن بعض منظِّري الأسلمة قد تأثروا بموقف بعض المحدثين من ابن خلدون ومقدمته التي وصفوها بأنها ترف فكري، "لا تمتاز بغير البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية… وأن محاسنها قليلة… غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يُرى حسناً ما ليس بحسن".

    وفي هذا المقام لا نود الخوض في الاختلافات الفكرية بين أهل الحديث ورجال الفقه حول آليات تقويم مدونات تاريخ الأمة الإسلامية، لكن الأجدر والأجدى هو التأكيد بأن الضوابط والقواعد التي وضعها ابن خلدون قد جبَّت أدبيات منهج الجرح والتعديل بين دفتيها، وأضافت عليها ضوابط وقواعد أخرى، مثل القاعدة التي تنادي بعدم الذهول عن المقاصد التي أدت إلى وقوع الفعل التاريخي، بمعني أن يكون الراوي أو الناقل ملماً بالأسباب التي أفضت إلى وقوع الفعل التاريخي، دون أن ينقل حيثيات الفعل التاريخي مجردة من طبيعة الظروف التاريخية التي حدثت فيها، والقاعدة الرحبة الأخرى هي تلك التي تنادي بضرورة الإلمام بطبائع العمران البشري لتقييم أي حدث تاريخي، سواء كان ذلك على مستوى التثبت من صحة المصادر التاريخية أو من أجل تحليل الدور الوظيفي للحدث التاريخي وذلك في إطار الواقع الذي تشكل حوله. إذاً القراءة الفاحصة لأدبيات ابن خلدون في هذا الجانب تصلح كأساس معرفي لتثقيف أطروحات أسلمة علم التاريخ المتعلقة بقضية تقويم المدونات التاريخية.

    خاتمة

    من خلال هذا العرض التحليلي لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ وإشكالاتها المنهجية يمكننا القول إن منظِّري أسلمة علم التاريخ يتفقون مع فلاسفة التاريخ الغربيين في ضرورة وجود تصور عامٍ مُسبقٍ لحركة التاريخ العام، تتشكل حوله رؤية المؤرخ للعلاقة الجدلية بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.

    إلا أن نقطة الاختلاف بين المدرستين تتبلور في أن فلاسفة التاريخ الغربيين ينطلقون من تصور وضعي، فمثلاً كارل ماركس يتصور أن الصراع الجدلي بين عناصر الإنتاج سيؤدي إلى قيام مجتمع إنساني مثالي خالٍ من معوقات النظام الطبقي في مرحلة الشيوعية الكبرى، وأوغست كُونت يرى أن نهاية حركة التاريخ المثلى ستتجلى في سيادة الفكر الوضعي، وفرانسيس فوكوياما ينظر إلى نهاية التاريخ في إطار سيادة الديمقراطية الليبرالية واقتصاديات السوق الحر.

    أما تصور منظِّري الأسلمة فيستمد شرعيته من مقررات ربانية مستقاة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، لفهم طبيعة العلاقة الجدلية القائمة بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. وتشكل كليات هذا التصور العام وفق قيم معرفية مستمدة من تواصل النسبي (عالم الأشخاص) مع المطلق (الله، عالم الأفكار)، وتفاعل النسبي مع المسخر (عالم الأشياء). فإن هذا التفاعل الثلاثي يؤكد أن حركة التاريخ حسب المنظور الإسلامي تستمد حيويّتَها ومعناها الحقيقي من خارج إطار النظرة التاريخانية أو النـزعة التاريخية، التي تعتقد جازمةً أن التاريخ يُفسر نفسه بنفسه، ولا يحتاج لأي موجهات ميتافيزيقية صريحة أو ضمنية، أي أنه يفسر كل الظواهر المرتبطة بالتاريخ الإنساني عن طريق شروطها التاريخية.

    وعلى هدي هذه المقارنة العامة التي شرحنا جزئياتها أثناء نقاشنا لأطروحات التفسير الإسلامي للتاريخ في الصفحات السابقة، يجوز لنا القول بأن التفسير الإسلامي للتاريخ القائم على مقررات القرآن والسنة يقف على قاعدة صلبة، أفضل من القاعدة الوضعية التي ترتكز عليها التفاسير العلمانية الأخرى، إلا أن إشكاليته الأساسية تكمن في عجزه عن توظيف النظريات والاجتهادات الفكرية السائدة في الحضارات الأخرى توظيفاً إيجابياً مشروعاً في إطار تصوره الإسلامي العام، فلا جدال أن مثل هذا التوظيف سيُسهم في تثقيف مستوياته التفصيلية الدنيا، وفي شحذ أدواته التحليلية الخاصة بفهم الواقعة التاريخية، وربطها بشبكة العلاقة الاجتماعية التي تجمع بين عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.

    المصدر: http://www.kantakji.com/media/6597/ihtaf.htm

    أدوات للباحثين على الشبكة: البحث في القرآن الكريم هنا تفاسيره هنا القرآن بعدة لغات هنا سماع القرآن هنا القراءات القرآنية هنا
    الإعجاز العلمي هنا بحث في حديث بإسناده هنا و هنا معاجم عربية هنا معاجم اللغات هنا
    كتب وورد
    هنا المكتبة الشاملة هنا كتب مصورة هنا و هنا وهنا وهنا وهنا وهنا و هنا وهنا وهناوهنا وهنا وهنا وهنا وهنا كتب مخطوطة هنا
    للتأكد من الأخبار العصرية موقع فتبينوا

مواضيع ذات صلة

تقليص

المواضيع إحصائيات آخر مشاركة
ابتدأ بواسطة Black pearl, 24 ماي, 2024, 03:24 م
ردود 3
115 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 19 فبر, 2023, 10:23 م
ردود 0
50 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله
ابتدأ بواسطة سيف الكلمة, 20 سبت, 2021, 07:32 م
ردود 3
98 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
ابتدأ بواسطة *اسلامي عزي*, 21 أبر, 2021, 03:16 ص
ردود 0
129 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة *اسلامي عزي*
بواسطة *اسلامي عزي*
ابتدأ بواسطة د.أمير عبدالله, 11 أبر, 2021, 12:20 م
ردود 0
86 مشاهدات
0 معجبون
آخر مشاركة د.أمير عبدالله
يعمل...