الدرس الثامن
زمن الإسراء
زمن الإسراء
نعود بعد ذلك إلى واقعة الإسراء.
يقول المؤرخون أنهاوقعت في أواخر الفترة المكية على أقوال منها:
إنها حدثت في السنة الثانية عشرة بعد البعثة أو ربيع من السنة الحادية عشرة أو في ربيع قبل الهجرة بسنة.
كما أن هناك شهادة السيدة أم هانئ بنت أبي طالب أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" كان يبيت عندها ليلة الإسراء وأنها أول من رَوَى له المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" رؤياه.
وقد رَوَى عدد من الصحابة ما يؤيد ذلك. لقد ذهب الرسول عند السيدة أم هانئ بعد وفاة عمه أبي طالب وزوجته أم المؤمنين السيدة خديجة.. وكل ذلك كانب عد السنة العاشرة من البعثة. أي أن الإسراء كان في السنة الحادية أو الثانيةعشرة.
فاصل زمني بين الإسراء والعروج
إذن هناك فاصل زمني بين المعراج والإسراء لا يقل عن خمس سنوات، وقد يصل إلى سبع سنوات.
وأن العروج هو الذي وقع أولاً وفيه فرضيةالصلاة، ورؤية الله تعالى، والوصول إلى سدرة المنتهى والجنة، وأنه ذكر في سورةالنجم التي لم يرد فيها أي ذكر للإسراء.
أما الإسراء فقد وقع قُبيل الهجرة، وقد وردفي سورة الإسراء التي لم يرد فيها أي ذكر للعروج.
ثم نظرةٌ إلى حديث أم هانئ الذي رواه محمد ابن إسحاق، والذيجاء في سيرة ابن هشام، وقد رواه عنها سبعة من المحدِّثين بمتون مختلفة تدور جميعها حول رحلة الإسراء، ويتبين أنه لم يرد فيه أي ذكر للمعراج. وإذا كانت السيدة أم هانئ هي أول من سمع الخبر من الرسول صلى الله عليه وسلم.. فهل يمكن أن يحكي لها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جزءا من رحلته ويغفل أو يخفي عنها الجزء الأكبر والأهم؟ قالت: ما أُسريَ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وهو في بيتي - نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا.
فلما كان قُبيل الفجر أهَبَّنارسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: "يا أم هانئ: لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيتِ بهذا الوادي، ثم جئتُ بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت الغداء معكم الآن كما ترين. ثم قام ليخرج، فأخذت بطرف ردائه فتكشف عن بطنه -كأنه قبطية مطوية- فقلت له: يا نبي الله، لا تحدث بهذا الناسَ فيكذبوك ويؤذوك. قال: (والله لأحدثنهم)... إلخ الحديث.
وهنا لم يرد أي ذكر على لسان المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا على لسان أم هانئ عن وقائع المعراج.
أليس هذا دليلا على أن العروج كان في مناسبة أخرى؟! وهل من المعقول أن ينسَى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تنسَى أم هانئ هذه الواقعة العظيمة؟ اللهم لا.. وإنما شتان ما بين الواقعتين.
وعندما سمع أهل مكة حكاية الإسراء من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،ماذا حدث؟.
تقول السيدة عائشة: لما عرف الناس خبر إسراء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذهبوا إلى أبي بكر فقالوا: هل لك يا أبا بكر في صاحبك يزعم أنه قد جاء هذه الليلة إلى بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر: إنكم تكذبون عليه؟ فقالوا: بلى! هاهو ذلك في المسجد يحدث به الناس. فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق. فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدّقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه! . سيرة ابن هشام.
أليس في هذا الحديث ما يدل على أن العروج إلى السماء لم يرد في تلك المناسبة على لسان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن القوم لم يتحدثوا عنه وهوالأعجب والأبعد حسب قول أبي بكر الصديق، وهو الأدعى إلى التكذيب والسخرية من جانب الكفار!، واستدلال أبي بكر كان عن الخبر يأتي من السماء. فإذن موضوع العروج النبوي إلى السماء لم يكن واردا عندئذ..
وإلا لكان استدلال أبي بكر غير مناسب للمقام.
أما وقد تبين بجلاء أن الإسراء شيء والعروج شيء آخر ولم يجتمعا في رحلة واحدة بل ولا في سنة واحدة، وإنما يفصلهما عدد من السنوات يبلغ ستا أو سبعا..
مما سبق يتضح لنا بجلاء أن حادثة العروج المذكورة في صحيح البخاري كانت رؤيا وأنها حدثت قبل الإسراء فلما أُسرِيَ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وعرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلا بالروح والجسد لم يستنكر عليه أحد ذلك..
وـ وخلاصة القول إن ما سقناه من شهادات وأدلة نقلية وعقلية من داخل الروايات وخارجها لفيه الكفاية للدلالة على أن العروج رحلة بعيدة في زمنها عن رحلة الإسراء، وكل منها مستقل وقائم بذاته وأنها كانت مناماً وتمت بالروح فقط ثم بعد أن تم الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المسجد الأقصى بالروح والجسد وصلى بالأنبياء والمرسلين إماماً بعدها عُرج به إلي السموات العلا بالروح والجسد وما رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناماً ورؤيا رآه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عياناً ورؤية.
تعليق